مارك روبنسون
محمد السالمي
تتجه الدول المتقدمة إلى حقبة جديدة من الإنفاق الحكومي، حيث من المقرر أن يرتفع الإنفاق بشكل كبير خلال العقود الثلاثة القادمة. ستضطر الحكومات إلى إنفاق مبالغ كبيرة على إصلاح البنية التحتية المُتعثرة وضمان الوصول إلى الرعاية طويلة الأجل لكبار السن من السكان ومكافحة الاحتباس الحراري. كما كشفت جائحة كورونا أن النظام الصحي يحتاج أيضاً لإصلاح مواطن الضعف فيه، دون أن نتجاهل تكاليف الطب الحديث، وإدخال وتطوير التقنيات الجديدة.
في المقابل، تهدد الرؤية المشتركة للإنفاق العام بدفع عجز الميزانية والدين الحكومي إلى السقف (للحد الأقصى). وبالتالي، ستكون الزيادات الضريبية ضرورية، خاصة في الولايات المتحدة ذات الضرائب المنخفضة. في مواجهة هذا الواقع، يأتي مارك روبنسون ليقيم بشكل صادق وواضح المستقبل المالي الذي ينتظر البلدان المتقدمة في استجابتها للتغيرات في الرعاية الصحية ودعم الدخل وعجز البنية التحتية وغيرها من بنود الإنفاق العام. يشير الكتاب إلى أن الطريقة التي سيتم بها دفع الإنفاق الحكومي في جميع الدول المتقدمة إلى الارتفاع خلال العقود القادمة يتمثل في الصدمات الخارجية القوية والقوى المستقلة عن التوجهات الفلسفية للقادة السياسيين والأحزاب.
وللتعريف بالمؤلف، فمارك روبنسون هو خبير دولي في شؤون المالية العامة. وقد نشر روبنسون العديد من الكتب والدراسات والمقالات حول قضايا الميزانية الحكومية. تم تضمين هذا الكتاب “حكومة أكبر”، في قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكتب لهذا العام.
تطرق روبنسون لعدد من المواضيع في كتابه أبرزها الإنفاق على القطاع الصحي والذي خاض فيه بإسهاب. تواجه جميع البلدان المتقدمة احتمال حدوث زيادات كبيرة في الإنفاق الحكومي في هذا المجال. حيث تشير التوقعات إلى أن الإنفاق الصحي الحكومي سيرتفع بنسبة 4٪ على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتقدمة على أساس سنوي حتى منتصف هذا القرن، حسب وصف المؤلف. لا ريب أن هناك وعياً من الجميع بالحاجة إلى إنفاق إضافي لتعزيز الأنظمة الصحية الوطنية في ضوء مواطن الضعف التي كشفت عنها الاستجابة لجائحة كورونا؛ إلا أن هذا ليس السبب الرئيسي وراء التخطيط لزيادة الإنفاق الحكومي على الصحة بشكل كبير على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، لن يكون السبب الرئيسي هو في شيخوخة السكان، بل سيكون الدافع الحقيقي للإنفاق هو التوسع السريع في القدرات الطبية والمتمثلة في التكنولوجيا الطبية.
نحن الآن في المراحل الأولى من عصر التوسع السريع في القدرات التكنولوجية للطبية. ونقطة الانطلاق في ذلك هي ثورة العلوم الحيوية والتي تعمل بشكل تدريجي على تعميق فهمنا للأساس الجزيئي للمرض. وقد شهدت السنوات الأخيرة بالفعل وصول أعداد متزايدة من الأدوية الدقيقة والجديدة على الساحة. على سبيل المثال، سوف يستخدم في المستقبل تكنولوجيا الأعضاء والأنسجة البديلة المزروعة من خلايا المرضى. سوف يساعد ما يسمى بالزراعة الذاتية في التغلب على مشكلة رفض الأعضاء المانحة “الأجنبية”، وكذلك النقص المستمر في الأعضاء المانحة.
هذه التحولات في تقنيات العلاج ستقدم فوائد ضخمة للمرضى من حيث الدقة والعلاجات المخصصة. من جهة أخرى، هذا التوجه سيؤثر بشكل كبير على الإنفاق الصحي الحكومي. إن الطريقة الوحيدة الممكنة لتجنب زيادة الإنفاق، هي في تقليص نطاق وتغطية الخدمات الصحية التي تمولها الحكومة بشكل كبير. لكن هذا سيكون صعبًا للغاية من الناحية السياسية. فالسياسيون ومسؤولو الميزانية قلقون بشكل مفهوم بشأن كيفية تغطية زيادة الإنفاق الصحي، كما أن احتواء الإنفاق لا ينبغي أبدًا أن يكون المحور الأساسي للسياسة العامة. يجب أن يكون الشاغل الرئيسي هو ضمان وصول المواطن إلى الفوائد العظيمة التي تقدمها التطورات الطبية. إن القيام بذلك سيكلف الحكومات أكثر، ولن تكون قادرة على مقاومة ضغوط الإنفاق.
هناك فكرة واسعة الانتشار مفادها أن الشيخوخة الديموغرافية ستكون العامل الأبرز والأكثر أهمية في دفع الإنفاق الصحي على مدى العقود القادمة للارتفاع. وقد أبدت كثير من المؤسسات ذات الصيت هذا التوجه أبرزها صندوق النقد الدولي عندما حذر من أن البرامج المتعلقة بالعمر مثل “الصحة والإنفاق على المعاشات التقاعدية” ستكون المصادر الأكثر عرضة للضغط على الميزانيات الحكومية على المدى الطويل. كما أكد صندوق النقد الدولي منذ سنوات عديدة تأكيده على الدرجة العالية المفترضة من حساسية الإنفاق الصحي للشيخوخة الديموغرافية. يرى روبنسون عامل الشيخوخة ثانويا في رفع الإنفاق الصحي، ولا يتفق على ما يتم الترويج له.
يكمن القول في الارتباط الوثيق بين الأمراض المزمنة بالعمر، مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض الكلى المزمنة. يعاني كبار السن من هذه الحالات أكثر بكثير من الأشخاص الأصغر سنّا. ومن هنا، تم تفسير هذه الحقيقة المباشرة في بعض الأحيان على أنها تعني أن الدافع الرئيسي للزيادة السريعة في الإنفاق على علاج الحالات المزمنة يكمن في شيخوخة السكان. هذا يفتقد لنقطة حاسمة كما يرى روبنسون، حيث لعب التقدم في القدرات التكنولوجية للطب دورًا كبيرًا في زيادة متوسط الأعمار التي شهدتها الدول المتقدمة. إن ارتفاع متوسط الأعمار الذي حدث في البلدان المتقدمة خلال نصف القرن الماضي غير مسبوق على الإطلاق في تاريخ البشرية. يوضح الكتاب الدور الكبير الذي لعبه التقدم الطبي في هذا الأمر. علاوة على ذلك، لعب الطب الحديث في الحد بشكل كبير من الوفيات المبكرة الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية. ويؤكد المؤلف أنه من الخطأ تفسير الدرجة العالية من الارتباط بين زيادة متوسط الأعمار وانتشار الأمراض المزمنة كدليل على أن شيخوخة السكان هي السبب الحقيقي للمشكلة.
تطرق الكتاب أيضا لموضوع زيادة الإنفاق للحد من الفقر. يعتقد الكثيرون أن دعم الدخل والمتضمن في مزايا الرعاية الاجتماعية مثل إعانات البطالة، والإعفاءات الضريبية للعاملين محدودي الدخل، وإعانات الأطفال وغيرها، هي التي ستقود الحكومات إلى إنفاق المزيد خلال العقود القادمة. وهم يعتبرون أن التغييرات في الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد ستؤدي إلى زيادة الفقر مما سيؤدي بالضرورة إلى زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. من جهة أخرى يعترض المؤلف على هذا التفسير، حيث يزعم أنه لا يوجد سبب مقنع للاعتقاد بأن الفقر سيتجه نحو الأعلى في العقود القادمة. ويشير إلى أن التغييرات في السياسة ، وليس القوى الخارجية مثل التغيرات في الاقتصاد، هي التي تحدد ما إذا كان الإنفاق على دعم الدخل يزيد أو ينخفض في بلدان معينة على المدى الطويل.
يعطي المؤلف عددا من الأسباب لزعمه، أولاً، احتمالية البطالة الجماعية الناجمة عن التكنولوجيا ليست أكثر من مجرد بعبع، وينتقد من يتطرق لذلك ويرى وظيفة تلك الكتب والمنشورات في تصوير أن المستقبل سيكون بائساً ومخيفا من المفترض أن البشرية تواجهه. ثانيًا، الافتراض القائل بوجود عدد متزايد من العمال الذين يحتاجون إلى المزيد من دعم الدخل من الدولة هو مجرد أسطورة حسب وصف المؤلف. يرى روبنسون أن هذا التفسير لا يستند على أدلة إحصائية، وإنما هناك مجرد جيش صغير من النقاد وعلماء الاجتماع الذين يزعمون أن الهشاشة منتشرة في كل مكان وتنمو بسرعة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة.
لاريب أنَّ الاقتصاد العالمي يتجه نحو ركود هائج. وسيؤدي هذا حتماً إلى زيادة كبيرة في مستوى الفقر وعدم الاستقرار. لكن من الضروري التمييز بين التغيرات الدورية في سوق العمل والاتجاهات طويلة الأجل. ساءت الأمور في أعقاب الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان، ولكن الأسواق تعافت في النهاية. سيحدث نفس الشيء هذه المرة، حتى لو استغرق التعافي ما يصل إلى خمس سنوات. ويؤكد المؤلف أن تركيز الكتاب لا ينصب على الخيارات السياسية والفلسفية، بل على القوى الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي ستؤثر على الإنفاق الحكومي على مدى العقود الثلاثة القادمة.
في موضوع آخر، تطرق روبنسون للتقشف. تعرض العديد من المستشفيات العامة في عدد من الدول المتقدمة لضغوط شديدة حتى قبل انتشار الوباء، من حيث انتظار المرضى لساعات في الممرات، ومعاناة الطاقم الطبي من الإجهاد المستمر، ونقص الإمدادات. الرعاية الصحية ليست المجال الوحيد للإنفاق العام الذي تعرض لضغوط شديدة في السنوات الأخيرة؛ فالبنية التحتية والتعليم والدفاع هي أمثلة أخرى على المجالات التي كانت أيضاً تحت ضغط كبير. أدى انخفاض مستويات الإنفاق الحكومي والصيانة إلى عجز متزايد في البنية التحتية. كان الضغط على الإنفاق العام ملموسًا. لكن ما سبب ذلك؟ بالنسبة للكثيرين، الإجابة بسيطة: سياسة التقشف المطبقة في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2007-2008. يعتقد الكثيرون أن الحكومات قد خفضت على مدى العقد الماضي إجمالي الإنفاق بشكل كبير من أجل تقليل عجز ميزانياتها ، وأن هذا هو ما أدى إلى الضغط الشديد على المستشفيات العامة والخدمات الحيوية الأخرى.
إن النظر إلى إحصاءات الإنفاق العام بطريقة خاطئة يمكن أن يحجب هذه النقطة المهمة. إذا قمنا بمقارنة مستويات الإنفاق الحكومي في عام 2019 بمستويات 2010 أو 2012، فسوف نتوصل إلى انطباع بأن مستويات الإنفاق قد تم تخفيضها بشكل كبير بالفعل. لكن هذا سيكون مضللاً تمامًا. ارتفع الإنفاق الحكومي بشكل كبير استجابة للأزمة المالية العالمية، ولكن في شكل زيادات مؤقتة إلى حد كبير بنفس الطريقة التي حدثت بها زيادة كبيرة في الإنفاق المؤقت استجابة للوباء. وشمل ذلك زيادة النفقات على إعانات البطالة، والدعم المالي التقديري للشركات والإنفاق على مشاريع الاستثمار العام. استمر هذا الإنفاق المؤقت لعدة سنوات في أعقاب الأزمة المالية وكان في المجمل ضخمًا جدًا. ولكن إذا أردنا فهم اتجاهات الإنفاق الأساسية، فنحن بحاجة إلى وضع هذا في جانب واحد. وبالطبع، هناك نقطة منفصلة تمامًا وهي أن دولا تم إنقاذها مثل اليونان وأيرلندا قد شهدت بالفعل تخفيضات كبيرة جدًا في الإنفاق خلال العقد الماضي. لكن من السخف إجراء مقارنة بين التخفيضات المتأرجحة المطبقة في هذه البلدان وسياسة الميزانية في معظم البلدان المتقدمة.
إن التركيز غير المبرر على التقشف كمصدر للضغط على الميزانيات الحكومية في البلدان المتقدمة بشكل عام في السنوات الأخيرة أمر خطير لأنه يعزز الاعتقاد بأنه إذا توقفنا عن الهوس بالعجز الحكومي ومستويات الديون، فإنَّ الصعوبات في تمويل الرعاية الصحية والخدمات الحيوية الأخرى من شأنها أن تتبخر. لكن من أجل المزيد من الحوافز الاقتصادية ونظرة أكثر استرخاءً للعجز أثناء الأزمة الاقتصادية، نجادل أن الحكومات يمكنها وينبغي لها أن تعاني من عجز كبير في كل وقت، والقيام بذلك سيكون أمرا خطيرا وغير مسؤول، والحقيقة هي أنه بالنظر إلى حجم ضغوط الإنفاق على الميزانيات الحكومية في العقود القادمة، يجب اتخاذ خيارات صعبة وقد تفضي إلى ضرائب أعلى، أو تخفيضات كبيرة في الإنفاق. لا يوجد حل سحري سهل لهذه المعضلة.
يقدم هذا الكتاب الذي أعده مارك روبنسون في إدارة الإنفاق العام تحليلًا مقنعًا للدوافع الرئيسية الحديثة والمستقبلية للإنفاق الحكومي في الاقتصادات المتقدمة. ويمكن القول أن الكتاب هو جرس إنذار لصانعي السياسات، والذين يحتاجون إلى التفكير مبكرًا في كيفية احتواء هذه التكاليف المتصاعدة وتمويلها بشكل استباقي. إنه يقدم عددًا من الاقتراحات، ولكنه يدعو أيضًا إلى مزيد من التفكير والتحليل بشأن المقايضات السياسية الصعبة للغاية التي تطرحها هذه الاتجاهات.
—————————————————
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: حكومة أكبر: مستقبل الإنفاق الحكومي في الاقتصادات المتقدمة
المؤلف: Marc Robinson
الناشر: Arolla Press
سنة النشر: 2020
اللغة: الإنجليزية
عدد الصفحات: 392 صفحة