دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

قراءة في هوية الدولة اليمنية

إن من لا تاريخ له لا مستقبل له، ومن لا يستفيد من عبر ماضيه لن يستطيع صناعة مستقبله. ولولا أخطاء السابقين لما عادت العجلة إلى ما نحن فيه اليوم، لنبحث مجددا عن هوية وثوابت.. وكأننا منزوعين من الجذور، بلا دين ولا ثقافة ولا حضارة. لذلك فإننا يجب أن نلم بشيء من تاريخنا لتقييم وتحليل واقع الدولة اليمنية بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م.

لكننا ابتداء يجب أن نشير إلى أن اليمن عاشت خلال قرون من الزمن بعد دخولها الإسلام -وحتى قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر- في ظل صراعات سياسية كثيرة، غذتها عقائد ورؤى فكرية منحرفة ومتطرفة بعيدة عن حقائق الإسلام، وكان من ظواهرها:

1- الغلو وادعاء العصمة في أفراد أو سلالة من البشر، واعتبارهم ميزانا للحق، وإرغام الأمة على أيديولوجيات دخيلة على الإسلام، وإعمال السيف لمن خالفها بأدنى شبهة أو تأويل، مما أذكى الطائفية على حساب الهوية الإسلامية الجامعة.

2- تبني نظريات سياسية مثالية تجعل من الخروج على الحكام بالسيف أصلا في كافة معالجات الانحراف أو الظلم، ما جعل عجلة الصراع مستمرة، وفي أحوال كثيرة كانت هذه الصراعات متطلعة للسلطة متسترة بالمظلوميات! ما أضعف مسيرة المجتمع وأوقف عجلة التطور والتنمية.
3- تقسيم المجتمع طبقيا وفق رؤى سلالية تعطي للنسب مكانة تفوق مكانة التقوى، وقد قال تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، وتأخذ به معيارا بديلا عن الكفاءة في التولية، وقد قال تعالى: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين))، و((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)).

4- الانغلاق تشريعيا على مذهب واحد، وإنكار الاجتهاد في صورته العملية، والجمود على أقوال الرجال، ما جعل حالة التشريع الفقهي غير متواكبة مع متغيرات الوقت والمجتمع؛ مما أوجد صراعا مذهبيا وانشغالا بفقه الردود عن فقه الإعمال والإعمار.

5- تعزيز روح العصبية القبلية أو الطائفية أو المذهبية، وتغليب منطق الصراع على منطق التعايش، وإدارة الخلافات من منطلق القوة المسلحة؛ وهذا بدوره عزز ثقافة الكراهية والعنف وانتشار السلاح والثأر.

6-الاستبداد في الحكم، وغياب الشورى، وضعف العدالة، وغلبة الأعراف والعادات الجاهلية؛ ما أحال منظومة الحكم إلى منظومة فساد تثقل كاهل المجتمع وتأكل خيراته.

7-الجمود في التطوير والتنمية التعليمية والاجتماعية والثقافية والعمرانية ما جعل المجتمع يعيش حالة من التخلف والفقر والجهل والمرض.

هذه المظاهر التي نشأت عن هذه الحالة السياسية التي كانت تتلبس بالإسلام، في حين أنها شوهته واتخذت منه شعارا أجوفا، بعيدا عن عقائده الحقة وقيمه الربانية ومبادئه الأصيلة ومفاهيمه العادلة، دفعت مع زيادة حالة الغليان في المجتمع فريقا من أبناء اليمن لتلمس مخرجٍ وحلٍّ لهذا الواقع المأساوي.

ونظرا لواقع الأمة المتردي عموما في تلك الحقبة بدأ بعض أبناء الإسلام يتطلعون للأفكار والحلول الوافدة على حضارة وثقافة الأمة باعتبار ما يسندها من التقدم المادي والتطور الصناعي وبهرج الشعارات التي تصنعها وسائل الإعلام هناك.

وعوضا أن يستفيد هؤلاء من تجارب الآخرين من خلال نقدها، وغربلتها، وانتقاء الأنسب منها، باعتبارها تجارب إنسانية غير مقدسة، وقابلة للخطأ والصواب، مع المحافظة على دينهم وهويتهم الإسلامية، إذ بهم ينقلون هذه التجارب وما وراءها من الأفكار بحذافيرها دون تمحيص، محاولين فرضها على الأمة بذات الصيغة، تارة بأدوات السياسة والدولة وتارة بأدوات الفكر والثقافة.

أما البعض الآخر فقد سعى للإصلاح والتغيير، لكنه لم يجدد رؤاه الفقهية وأدواته ووسائله إلا بالقدر اليسير، وظل متمسكا بأمور رأى فيها ثوابت.. في حين أنها كانت محلا للتجديد والاجتهاد.

وفي لحظة تاريخية اتفق الجميع –الداعين للإصلاح السياسي والاجتماعي وفق رؤية إسلامية وأولئك المخالفين لهم- على ضرورة الانقلاب على الواقع السياسي الذي كان سائدا، وتغيير النظام الذي بات منغلقا على نفسه، رافضا للنصح والإصلاح، وغير قادر على التجديد والتطور؛ فكانت ثورة 26 سبتمبر عام 1962م. وهي ثورة شاركت فيها كل التيارات الفكرية والسياسية، ومنها المدعوم من المنظومات الإقليمية في حينه.

أما الجنوب فقد كان في حالة من التفكك والارتهان للأجنبي، تحكمه سلطنات متناحرة، ويعيش على مفاهيم الخرافة السلبية، التي أحالت العقل إلى حالة من الجمود، والقدرة إلى عجز وتواكل، يرى في الكرامات حلا لإشكالاته بعيدا عن قانون السببية والعمل والإبداع والابتكار. فكان هذا (الدين المحرَّف) بحق أفيونا للشعب، جاعلا منه شعبا عاطِلاً مُقدِّساً للأموات ومنتظرا منهم المدد والخوارق! إلا قلة من العلماء الربانيين الذين كانوا يقومون بواجب الإصلاح والتجديد.

وهذا ما زهد بعض فئات من أبناء الجنوب في الدين، وأحالهم إلى أرضية خصبة قابلة للفكر المادي الملحد، بكل أطيافه القومية والاشتراكية واليسارية. وهذا ما أراد الاستعمار البريطاني توريثه للجنوب عندما رأى جذوة الثورة تشتعل وإرادة التغيير تتحرك بعد 14 أكتوبر 1963م، فأسلم الجنوب للقوى اليسارية من الثوار. وبذلك دخل الجنوب في حكم شمولي محارب للدين والهوية –كما هو معلوم لكل معايش لتلك الحقبة ومطلع على حقائقها.

هذا الواقع الجديد الذي تشكل في ظل صعود تيارين:

– تيار ثائر يتلمس المخارج والحلول بعيدا عن هويته الحضارية والدينية والثقافية مهما كانت، ومهما كلفت. وهو تيار كانت تأخذه الحماسة في ظل صدمة نفسية نشأت من المقارنة بين واقعين: واقع المسلمين، وواقع الغرب والشرق!

– وتيار مطالب بالعودة إلى الجذور لاستعادة الهوية الحضارية والدينية والثقافية أولا، مع الاستفادة ما أمكن بتجارب الآخرين، وتكييفها بما يلائم البيئة المحلية.

لم يخل من الصراع الفكري والسياسي والعسكري –أحيانا- بين هذه التيارات بمختلف أيديولوجياتها ومذاهبها الفكرية والسياسية. وهو صراع استمر منذ قيام ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر وحتى الوقت الراهن؛ وهو ما أعاق بناء الدولة اليمنية على النهج الصحيح الذي يقوم على اتحاد في الهوية والتوجه والمسار، ومكَّن المنتفعين من التيارات المختلفة للوصول إلى السلطة على حساب مصالح المجتمع –سواء في الشمال أو الجنوب. وتحولت السلطة بموجبه إلى مغانم ومكاسب فئوية يُتَنَاحَرُ عليها استنادا على أساس الولاء القبلي أو المناطقي. وباتت النخب الحاكمة ترهن أنفسها للقوى الخارجية –غربية أو شرقية- من أجل البقاء في السلطة، في ضوء فشلها السياسي والاقتصادي وسقوطها الأخلاقي.

ولو أردنا سرد التاريخ الدموي منذ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر وحتى اليوم لأثرنا كثيرا من الضغائن والمشاعر، لذا فالأفضل تجاوزها ولكن دون أن نقفز على هذه الحقائق الواقعية وما أدى إليها من الأسباب والعوامل. فهناك من يريد أن يصور أن صراعات الماضي كانت صراعات سياسية فقط، أو قبلية، أو مناطقية، وأنها لم تكن أبدا على الهوية الحقيقية للمجتمع. في حين أن التاريخ والشواهد والموروث الفكري المدون للأطراف المختلفة يستصحب الهوية والنزاع عليها، في صيغ (التقدمية) و(الرجعية)، و(الحداثة) و(الماضوية)، و(التقليدية) و(المدنية)، وغيرها من المصطلحات. فلم يكن الخلاف خلاف برامج كما يدعي البعض، وإلا فلماذا إهدار تلك الدماء والطاقات وثروات المجتمع؟!

وقد أشار الرئيس السابق علي عبدالله صالح –في مقابلة معه حول الوحدة في 19/3/1990م- إلى التنازلات التي قدمها كل طرف من أجل قيام دولة الوحدة، وهي تنازلات لم تكن في قضايا ثانوية وشكلية بل مست قضايا جوهرية تمس هوية الدولة فقد أشار صالح –حينها- إلى وجهتي نظر (!!)، وجهة ترى أن تكون الدولة علمانية[1] وأخرى ترى أن تكون الدولة إسلامية![2]

وبرغم سقوط المنظومة الفكرية والأيديولوجية اليسارية في مهدها، وانكشاف زيف الشعارات الليبرالية الغربية خلال حقبة الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة رائدة التبشير الديمقراطي.. إلا أن من أبناء اليمن من لا يزال يرفع شعارات عفى عليها الزمن لتعود حالة الصراع مع الدين، ومع الهوية، ومع الذات والتاريخ مجددا، مدخلا المجتمع في حالة من الانقسام والتشظي والتخندق بعيدا عن الوعي الذي يمكننا من اختيار الأحسن وتمحيص الأصلح لنا من الآراء والتجارب والأفكار التي أنتجتها البشرية في ضوء ديننا وهويتنا وثقافتنا وخصوصياتنا الاجتماعية والبيئية.

مفهوم الهوية:

الهَوِيَّةُ نسبة مصدرية للفظ (هُوَ)، وهي استعمال حادث. ومصطلح يراد منه حقيقة الشيء المطلقة، التي بها يكون ذاته، فإذا فقدت لم يكن، وفَقَدَ مُسمَاه الذي به يُعرف. وعليه فالهوية هي حقيقة الشيء وصفاته التي تميَّز بها عن غيره وأصبح بها ذاتا مستقلة. فيُعرَّفُ بها عند السؤال عنه: بما هو؟

وقد وضع هذا المصطلح في إطار الفلسفة وعلم النفس وعلم المجتمع وعلم الثقافة لمناقشة مسائل تتعلق بالشخصية والكينونة، للفرد أو للجماعة. فعلى الصعيد الجمعي تمثل الهوية وعاء الفكر والضمير المشترك لأي تجمع إنساني يتميز عن غيره.

فتقوم هوية كل أمة على ما تتميز به عن غيرها من الأمم كدينها ولغتها وقوميتها وتراثها[3]. بما يشمله هذا التراث من عادات وتقاليد وتاريخ قومي. وفي ضوء ذلك كله يتشكل وعي الأمة وحركتها في الحياة داخليا وخارجيا.

فهوية أي أمة هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والخصائص العامة، التي إليها ينتمون، ومنها يصدرون، وعليها لا يختلفون. وبذلك فلا يمكن تصور أمة بلا هوية، أو قيام حضارة لها منقطعة عن هويتها. وفي ضوء الهوية التي يمتلكها أي مجتمع يتشكل الفكر وتبنى النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

صحيح أن المعرفة والخبرة والتجربة الإنسانية تتسرب من مجتمع إلى مجتمع، ومن جيل إلى جيل، وتشكل هوية مشتركا أوسع، غير أن من ميزة الهوية الخاصة تكييف جميع هذه المدخلات وفق سماتها وخصائصها، وهو ما جعل التنوع البشري قائما حتى اليوم رغم كل محاولات العولمة الساعية إلى إيجاد نمط واحد للثقافة والفكر والسلوك.

وعندما تفقد أي أمة الهوية الجامعة، وتقع في أسر الاستلاب الحضاري، أو ينمو بداخلها صراع الهويات الضيقة، فإنها تدخل في حالة من الجمود أو التخلف. وهذا ما جرى في الأمة نتيجة الاستعمار وقيام الأفكار القومية والوطنية الضيقة. حيث أصبحت أمة مشلولة عاجزة عن القيام بدورها الحضاري، وغارقة في دوامة من الصراعات الداخلية البينية. فلا هي التي لحقت بركاب التقدم الغربي ولا هي التي بقيت محافظة على هويتها الإسلامية.

ولو أردنا أن نحدد أبرز ملامح هوية الأمة لكان الإسلام والعروبة في محورها. فإن الدين الإسلامي شمل كافة جوانب الحياة بتصوراته ورؤاه وأحكامه وتعاليمه، معتمدا على العربية كلغة، والعرب كمادة أساسية في حمل الرسالة بما كانوا يمتلكونه من أخلاق وقيم. ومن ثمَّ أعاد الإسلام تشكيل الثقافة والتقاليد والعادات تشكيلا صحيحا بعيدا عن الجمود والخرافة والتقليد الأعمى.

لذلك فإن من أهم ما ينبغي أن ينص عليه في هوية الدولة اليمنية الإسلام والعروبة، لا باعتبارهما موادا قابلة للتعديل والتبديل على خلفية الصراعات السياسية، بل باعتبارهما جوهر الدولة والمجتمع الذي يجب الاتفاق عليها وعدم الخروج عنها.

وإذا كان الدستور -في الغالب الأعم من الدول- يمثل المرجعية العليا لفلسفة الحكم، ويتضمن المبادئ والقواعد العامة الفكرية والسياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية التي يلتزم بها النظام الحاكم والمجتمع، فإنها جميعا تنطلق من الهوية الحضارية والثقافية لأي مجتمع، والتي يأتي المعتقد والتصور الديني في مركزها. ومن الضروري والحالة هذه أن ينص على هذه الهوية الدينية والحضارية في أسمى تجلياتها لتشكل موطن الاتفاق ومرجعية النزاع، وإخراجها من دائرة المناكفات السياسية.

لذلك يرى البعض أن الدساتير والأنظمة السياسية -مهما كانت- لا تخلو من بعد أيديولوجي، باعتبار أن مصطلح الأيديولوجية يشير إلى: (نسق من المعتقدات والمفاهيم والأفكار الواقعية والمعيارية على حد سواء، ويسعى في عمومه إلى تفسير الظواهر الاجتماعية المركبة من خلال منظور يوجه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات)[4].

فالأيديولوجية –باعتبارها نظاما مركبا من المعتقدات والقيم والرؤى والأفكار الخاصة بمجتمع ما- لا تنفك عن السياسة؛ كونها تصوغ علاقة هذا المجتمع بالآخر –إيجابا وسلبا، وتشكل وعي المجتمع بوجوده وماضيه وحاضره ومسيرته الحضارية ومستقبله. لذا نجد أن الدول غالبا لا تخالف المعتقدات والقيم السائدة في بيئتها الاجتماعية لأنها بذلك تفقد قابليتها وتصطدم بحركة المجتمع وإرادته.

كما أن للأيديولوجية دور مهم في حركة الأنظمة السياسية وفاعليتها وقدرتها التأثيرية (فلا توجد دولة دون أن يكون لها إطار أيديولوجي واضح وصريح، فالنظم السياسية لا تعمل بشكل عشوائي، وإنما تعمل في إطار من المعتقدات والتوجيهات السياسية التي تعرب عنها صراحة، كأن يقال: أن النظام اشتراكي، أو ليبرالي، أو ديمقراطي…، أو تتركها ضمنيا يكشف عنها شكل الفعل الاجتماعي الذي يصدر عن الدولة، وينسحب هذا القول إلى النظم السياسية كافه بصرف النظر عن بساطتها وتعقيدها)[5].

إذن ولكي يتوجه الجميع نحو مواقع البناء والعمل في ذات المسار الصحيح ينبغي عدم القفز على الهوية، والبعد عن الصراع الداخلي المفتعل في هذا الشأن. فكثيرا ما عطل صراع الهوية المشاريع العملاقة وأوجد الأرضية المناسبة للاختراق والعمالة للخارج.

تحليل هوية الدولة اليمنية منذ عام 1962م وحتى 2011م:

حيث أن الحوار الوطني يتيح لليمنيين اليوم إعادة صياغة هوية دولتهم الحضارية ونظامهم السياسي الأنسب، فإننا نضع تحليلنا الخاص بهوية الدولة اليمنية خلال المرحلة الماضية لكي لا نعيد الأخطاء ونكرس الفشل. وهو تحليل نسنده بالبيانات والمعلومات بعيدا عن اللغة الإنشائية. وهنا يمكن تحليل هوية الدولة اليمنية خلال المرحلة الماضية عل مستويين، هما: مستوى النظرية ومستوى التطبيق. فغالبا ما كان الواقع بعيدا عن الشعارات المرفوعة والنظريات المطروحة والدساتير والقوانين المسطرة.

على المستوى النظري:

أولا: الجمهورية العربية اليمنية:

لم تشهد اليمن (الشمالي) في ظل حكم الأئمة الزيديين حضور دستور (سياسي) بهذا المعنى، وقد كان من بين مطالب المعارضة اليمنية التي نشأت ونمت خلال العقود الأولى مطلع القرن العشرين -المنصرم- وضع دستور للبلاد ينظم شئون الدولة ويفسح المجال لتوسيع دائرة الشورى والمشاركة الشعبية؛ إلا أن انسداد الوضع وتصلب الإمام يحيى حميد الدين على رفض هذه المطالب وملاحقة أصحابها والتنكيل بهم دفع بالمعارضة اليمنية للقيام بثورة عام 1948م حيث اغتيل الإمام يحيى واختير عبدالله الوزير “إماما شرعيا شوريا دستوريا، على نحو ما تسير به أرقى الأمم اليوم في العالم المتحضر، فيما لا يخالف -أدنى مخالفة- التعاليم الإسلامية السمحة الصحيحة”[6]. غير أن هذه المحاولة الهادفة لإقامة نظام حكم دستوري إسلامي فشلت في مهدها وقضي عليها.

أعقب ثورة 1948م محاولة أخرى عام 1955م بزعامة المقدم أحمد يحيى الثلايا وكان مصيرها مصير سابقتها. وفي عام 1962م وعقب وفاة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين قامت ثورة جديدة وأسقطت حكم الأئمة معلنة قيام نظام جمهوري دستوري، بمساندة مصرية –هذه المرة. وكان من بين أبرز أهداف الثورة: “إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف”. إلا أن تباين التيارات المشاركة في الثورة أحدث ضبابية في هذا المنحى المهم الذي أريد له التغييب. فلم يكن مشروع ما بعد الثورة محل اتفاق بين قوى الثورة ما أدخلها في نزاع وصراع داخلي حول هوية الدولة، وهو ما انعكس بدوره على الدستور اليمني، ومسمى الدولة الجديد: “الجمهورية العربية اليمنية”.

وقد تميزت ظروف نشأة الجمهورية العربية اليمنية بالتغيرات الفكرية والسياسية التي كانت تجتاح العالم العربي والإسلامي وصعود الأفكار اليسارية والقومية والليبرالية؛ إلا أن اليمن ونتيجة عدة عوامل كانت لا تزال تحمل إرثا دينيا ومحافظا ما جعل الأفكار المخالفة للإسلام في حالة استنفار دائم واستعانة بالقوى الخارجية من أجل إحداث التغيير الذي ترغب به.

وعلى الرغم من تضمن الدستور اليمني لمصطلحات ومفاهيم جديدة على ثقافته الدينية والفكرية والسياسية إلا أنه أكد على مرجعية الشريعة الإسلامية وهيمنة الدين على النظام الحاكم والمجتمع؛ وهذا بدوره انعكس غالبا على القوانين التي كانت تصدر حينها.

فقد نص الدستور المؤقت –الذي صدر في 13/4/1963م[7]- في الباب الأول (دولة اليمن) على أن: “الإسلام دين الدولة الرسمي، والتشريع فيها يستند إلى مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء ولا يتعارض معها”[8]. وجاء في الباب الثاني (المقومات الأساسية للمجتمع اليمني) أن: “الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية”[9].

ونص الدستور الدائم -الذي صدر في 27/4/1964م[10] وجاء بعد مناقشته من قبل (القوى الوطنية) والاتفاق عليه بينهم- في الباب الأول منه على أن: “اليمن دولة إسلامية عربية مستقلة،…”[11]؛ وأن: “الإسلام دين الدولة….”[12]، وأن: “الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا”[13]. كما نص الدستور في الباب الثاني على أن: “الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية”[14].

وجاء في ديباجة الدستور المؤقت -الذي صدر في 8/5/1965م[15]- أنه يصدر في ضوء قرارات (المؤتمر الشعبي للسلام)، وهو مؤتمر عُقِد في مدينة خمر بين القوى السياسية والاجتماعية للخروج بحل للأزمة السياسية. وقد نص هذا الدستور في الباب الأول (نظام الدولة) على أن اليمن: “دولة عربية إسلامية مستقلة، ذات سيادة،…”[16]؛ وأن: “الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا”[17].

كما أن دستور 1970م[18] -الذي صدر في 28/12/1970م- أشار في ديباجته إلى أن صدوره جاء بعد مناقشة المشروع على مستوى المواطنين والنخب العلمية والفكرية والثقافية. وقد نص في الباب الأول (الدولة) على أن: “اليمن دولة عربية إسلامية، مستقلة ذات سيادة تامة،…”[19]؛ وأكد أن “الإسلام دين الدولة،..”[20]؛ وأن: “الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا”[21].

وفي الباب الثاني (المقومات الأساسية للمجتمع)، نص الدستور على أن: “الأسرة أساس المجتمع، وقوامها الدين والأخلاق والوطنية”[22].

ومن خلال هذه النصوص نجد أن دساتير الجمهورية العربية اليمنية نصت بما لا يدع مجالا للشك على محور هوية المجتمع اليمني، ألا وهو الدين الإسلامي وشريعته الغراء، والانتماء العربي. وبالرغم من ذلك فإن نصوص تلك الدساتير لم تخلُ من بعض المصطلحات والعبارات التي مثلت نوعا من الاختراق الثقافي والفكري في إطار الصراع الذي كان دائرا بين قوى الثورة على توجيه الهوية الحضارية للمجتمع اليمني.

ثانيا: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية:

كان استقلال الجنوب اليمني في 30 نوفمبر عام 1967م، حيث جرى الإعلان عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية؛ وذلك بعد قيام ثورة شعبية أجبرت الاحتلال البريطاني الذي دام أكثر من 120 عاما في الجنوب على الخروج.

إلا أن التيار اليساري الذي سعى إلى الإمساك بزمام السلطة منفردا عمل على تبني المنهج الاشتراكي في سياسة الدولة والفكر الماركسي كمرجعية فكرية للحكم والثقافة. منسلخا بذلك من هوية المجتمع الإسلامية والعربية بشقيها الديني والثقافي. وقد دخلت الدولة الناشئة في صراع مع المجتمع في محاولة منها لإخضاعه للأيديولوجيا الشيوعية؛ وقد ذهب ضحية هذا الصراع الكثير من أبناء المجتمع قتلا وتشريدا وتعذيبا.

وتأخر صدور أول دستور لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حتى عام 1970م، وذلك بعد ثلاث سنوات من تاريخ الاستقلال؛ ثُمَّ جرى تعديل هذا الدستور عام 1978م.

وقد نص دستور عام 1970م[23] في الباب الأول (أسس النظام الوطني الديمقراطي الاجتماعي ونظام الدولة)، في الفصل الأول منه (الأسس السياسية) على أن: “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة مستقلة…”[24]؛ كما نص على أن “الشعب العامل” يمارس “كل السلطة السياسية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”[25]؛ وأن “تنظيم الجبهة القومية” –وهو التنظيم الذي تولى مقاليد الحكم عقب الاستقلال- يقود على “أساس الاشتراكية العلمية، النشاط السياسي بين الجماهير وضمن المنظمات الجماهيرية، بغية تطوير المجتمع بطريقة تستكمل فيها الثورة الوطنية الديمقراطية المنتهجة الطريق غير الرأسمالية”.

ونظرا لأن من شأن هذا الانفصال عن الهوية الحضارية والدينية إحداث فراغ تشريعي في الوعي القانوني فإن الدستور نص على ما يلي: “تؤكد الدولة العمل بمبادئ الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة”[26]. ومن ثمَّ باتت التشريعات المستوردة والدخيلة على بيئة وثقافة المجتمع هي البديل عن الشريعة الإسلامية وما يتفق معها من عادات وتقاليد عربية حميدة.

ومن أجل ذر الرماد في العيون، وحتى تظل للنظام السياسي مسحة إسلامية تربطه بمجتمعه، نص الدستور في المادة (46) على أن: “الإسلام دين الدولة”، هذا مع كفالته لـ”حرية الاعتقاد”، وحماية الدولة لـ”حرية الأديان والمعتقدات طبقا للعادات المرعية، شريطة أن يتماشى ذلك مع مبادئ الدستور”!

أما الدستور المعدل -1978م- فنص في الباب الأول (أسس النظام الوطني الديمقراطي)، الفصل الأول الأسس السياسية، في المادة (1) على أن: “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة، وهي تعبر عن مصالح العمال والفلاحين والمثقفين والطبقة البرجوازية الصغيرة وكافة الشغيلة، وتسعى لتحقيق اليمن الديمقراطي الموحد، والإنجاز الكامل لمهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمهيدا للانتقال إلى بناء الاشتراكية”.

كما نص في المادة (3) على أن: “الحزب الاشتراكي اليمني المتسلح بنظرية الاشتراكية العلمية هو القائد والموجه للمجتمع والدولة؛ وهو الذي يحدد الأفق العام لتطور المجتمع وخط السياسة الداخلية والخارجية للدولة. ويقود الحزب الاشتراكي اليمني نضال الشعب ومنظماته الجماهيرية نحو الانتصار التام لإستراتيجية الثورة اليمنية، واستكمال مهام مرحلة الثورة الوطنية وصولا إلى بناء الاشتراكية”.

وفي المادة (10): “تؤكد الدولة العمل بميثاق جامعة الدول العربية ومبادئ الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة”.

وتظهر النظرية الاشتراكية الاقتصادية في الفصل الثاني من الباب الأول للدستور بشكل واضح؛ من خلال إلغاء الملكية الخاصة وتأميم كافة الممتلكات وإدارة كافة أوجه الإنتاج والتجارة وسياسة توزيع الموارد.

وفي الفصل الثالث المتعلق بالأسس الاجتماعية والاقتصادية نصت المادة (24) على تولي: “الدولة التربية العامة وفقا لمتطلبات الثورة الوطنية الديمقراطية. وتنفذ منهجا وطنيا يمنيا تقدميا في هذا المجال يستند على نظرية الاشتراكية العلمية”.

هذا كله يأتي في إطار نشر الدولة لـ”أفكار الاشتراكية العلمية بين الجماهير على نطاق واسع”[27]، و”تشجيع الثقافة الإنسانية”[28]، ومحافظة الدولة على “التراث العربي والإسلامي”[29].

ومع ذلك تشير المادة (47) إلى أن: “الإسلام دين الدولة”، لكنها تعود للقول: “وحرية الاعتقاد بأديان أخرى مكفولة”.

أما الباب الرابع (الشرعية الديمقراطية.. القضاء والادعاء العام)، فلا يشير في معرض حديثه عن القضاء والتحاكم إلى الشريعة الإسلامية بل إلى ما يصفه بالشرعية الديمقراطية المتمثلة في القوانين.

ومن خلال هذه النصوص نجد أن دساتير جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أسَّست لجملة قيم فكرية وثقافية بعيدة عن جذور المجتمع وهويته الدينية والحضارية. وفي ظلها توقفت عجلة التنمية وحركة البناء ودخل المجتمع اليمني –جنوبا وشمالا- في مرحلة صراع دموي لرسالة غير قيمية ولا إنسانية. ولهذا وعند أول سقوط للمعسكر الشرقي الشيوعي تهاوت كافة الأنظمة الاشتراكية في المنطقة بمن فيها اليمن الجنوبي.

ثالثا: الجمهورية اليمنية:

نشأت الجمهورية اليمنية على خلفية اتفاق قيادة شطري البلدين سابقا، جرى توقيعه في 22 أبريل 1990م. وفي ضوء هذا الاتفاق جرى صياغة دستور دولة الوحدة على أن يصادق عليه من قبل مجلسي الشورى والشعب ويوضع للاستفتاء الشعبي العام في 30 نوفمبر 1990م. إلا أن المعارضة التي لقيها دستور الوحدة أخر الاستفتاء عليه سنة كاملة، حيث جرى بتاريخ 15/5/1991م فحصل على نسبة 96.37% من إجمالي عدد الذين شاركوا في الاستفتاء، والذين بلغت نسبتهم 73.61% من عدد المسجلين في كشوفات القيد، والذين بلغت نسبتهم 30% من عدد من يحق لهم التصويت، والذين يمثلون 44.21% من إجمالي عدد المواطنين آنذاك!

وهي نسبة تشير إلى مدى المقاطعة والرفض الذي حظي به؛ خاصة وأن صياغة الدستور كانت وفق رؤية علمانية توافقية بين نظامي الشطرين. حيث وإن نصَّ الدستور، في الفصل الأول (الأسس السياسية) من الباب الأول (أسس الدولة)، على أن: “الإسلام دين الدولة،…”[30]؛ إلا أنه اعتبر: “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”[31]؛ وهو ما مثل أول تحول وتحدٍ في شأن سيادة الشريعة الإسلامية (نصا)!

كما نصَّ في المادة (5): “تؤكد الدولة العمل بميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق الجامعة العربية، وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة”.

كما جاء في الباب الثاني (حقوق وواجبات المواطنين الأساسية) النص على أن: “المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة. ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو المهنة أو المركز الاجتماعي أو العقيدة”[32].

وعقب الخلاف الذي نشب بين شريكي الوحدة- المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، ودخول البلاد في أتون صراع عسكري عام 1994م، وخسارة الحزب الاشتراكي اليمني، جرى تعديل الدستور نتيجة اختلاف ميزان القوى السياسية لصالح الهوية الإسلامية للمجتمع.

وبالرغم من ذلك فلم يكن دستور عام 1994م مغايرا لسابقه إلا في المادة التي سبق الخلاف عليها؛ حيث جرى تعديل المادة (3) في الفصل الأول (الأسس السياسية)، من الباب الأول (أسس الدولة)، لتكون صياغتها كما يلي: “الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات”. وفيما عدا ذلك فإن كثيرا من المواد السابقة ظلت محافظة على صياغتها مع تعديل في أرقامها!

وفي الفصل الثالث (الأسس الاجتماعية والثقافية) نصت المادة (26) على أن: “الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدِّين والأخلاق، وحب الوطن، يحافظ القانون على كيانها ويقوي أواصرها”؛ ونصت المادة (31) على أن: “النساء شقائق الرجال، ولهن من الحقوق وعليهن من الواجبات ما تكفله وتوجبه الشريعة وينص عليه القانون”[33]. وفي الباب الثاني (حقوق وواجبات المواطنين الأساسية)، عُدِّلت صياغة المادة (27) في الدستور السابق لتكون صياغتها برقم (40) على النحو التالي: “المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة”.

وفي عام 2001م جرى تعديل للدستور، لكنه لم يمس جوهر الأفكار والمبادئ التي وردت في دستور عام 1994م.

من خلال ما سبق، نجد أن الصراع الفكري والسياسي ظل قائما حول هوية المجتمع اليمني في محورها الأهم ألا وهو الدين الإسلامي وشريعته الغراء. وأن هذا الصراع تمثل في صياغة الأسس الفكرية والقيمية والأخلاقية للدولة باعتبارها دولة ديمقراطية تتعدد فيها الأحزاب والأفكار والآراء والمعتقدات على خلفية الحرية التي يكفلها القانون!

وعوضا أن تعالج الأحزاب السياسية المشكل الحقيقي للنظام الحاكم والمجتمع اليمني ذهبت لافتعال صراع على الهوية والمصطلحات التي كانت مجردة من مضامينها على أرض الواقع. بما فيها الديمقراطية التي اتخذتها كافة الأحزاب شعارا للتسويق والمغالبة في حين أنها تفتقدها في بنائها الفكري والتنظيمي داخل كياناتها السياسية.

ومن ثمَّ، ومن خلال الاستقراء السابق للدساتير التي جرى إصدارها أو الإعلان عنها في اليمن –قبل وبعد الوحدة- نجد أن هناك تحولات عدة طرأت على صياغة هذه الدساتير نتيجة تصارع القوى السياسية، وتسرب ثقافة وفكر أجنبي على مصطلحات المشرعين اليمنيين. فلم يحافظ الدستور اليمني على استقراره وثباته لأكثر من أربعة عقود. فقد شهدت اليمن –عموما- صدور أو إعلان (7) دساتير مؤقتة أو دائمة، و(18) تعديلا أو إعلانا دستوريا![34]

هذا بدوره انعكس على طبيعة القوانين التي صدرت في ظل هذه الدساتير. ففي حين كانت القوانين المتعلقة بأحكام الأحوال الشخصية –مثلا- في اليمن الشمالي قبل الوحدة تخضع للشريعة الإسلامية ومستقاة من الموروث الفقهي لعلماء الإسلام، كان قانون الأسرة أو الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية في الجنوب يجمع في مواده بين أحكام إسلامية وتشريعات مكتسبة من قوانين وضعية أخرى. أما قانون الأحوال الشخصية في دولة الوحدة فقد صيغ من مجموع قوانين كانت نافذة في اليمن الشمالي (سابقا) وصدر بقرار رئاسي سنة 1992م، ونتيجة لذلك وجد اعتراضا كبيرا ومستمرا من قوى التغريب ومناصري قضايا المرأة، وجرت المناداة بتعديله مرارا وتكرارا.

كما انعكس كذلك على مناهج التعليم، ومضامين الرسائل الإعلامية، وحالة التجاذبات الاجتماعية.. ومناحي الحياة الاقتصادية والتنموية.

التحليل على المستوى العملي التطبيقي:

برغم محاولات الإصلاح والتصحيح السياسي التي انطلقت في اليمن منذ مطلع القرن العشرين –ما كان منها إسلاميا أو غير إسلامي- إلا أنها جميعا أخفقت في الوصول باليمن إلى برِّ الأمان وإقامة دولة العدل والرخاء، وظلت الكثير من الأهداف والشعارات المرفوعة من القوى السياسية والأنظمة الحاكمة مجرد لافتات لا واقع لها، وخطابات لا رصيد لها، وقوانين لا يعمل بها!

وهذا في نظرنا جرى لعدة اعتبارات، منها:

الأول: هيمنة العصبية القبلية والمناطقية والمذهبية وتغلبها على مبدأ الاجتماع والتوحد، حيث لعبت هذه العصبيات دورا سيئا في استلاب الدولة ومقدراتها أو مقاومة أي جهد لقيام دولة القانون التي يتحقق سلطانها على كافة أراضي اليمن ومكوناتها الاجتماعية والمذهبية.

الثاني: تباين القوى السياسية في منطلقاتها الأيديولوجية والفكرية تباينا متطرفا، مع ارتهان أطراف منها للقوى الخارجية ودخولها في صراع مع الآخرين بالاستناد إلى هذا الارتهان. وهذا بدوره جعل الميدان السياسي موطنا للاستقطابات الحادة للمجتمع، وأدخل مكوناته بما تحمله من عصبيات قبلية ومناطقية ومذهبية في أتون الصراعات السياسية: كما في الجنوب وفي الشمال وفي عهد الوحدة!

الثالث: رغبة الأطراف السياسية وغير السياسية في الهيمنة على كافة مقاليد السلطة، مع اتباع سياسات الإقصاء والتهميش للآخر. حيث ساد منطق الحكم الشمولي الذي لا يعلو فيه صوت فوق صوت الحزب أو التنظيم. وعوضا عن التشارك والتشاور مع الجميع إذا بالتصفية والقضاء على المخالف هو منطق السياسة!

الرابع: النظر للسلطة بمنظور مركزي يجمع كافة الاختصاصات والمهام والوظائف. ما جعل الدولة مركزية ومهيمنة على نشاطات المجتمع وكافة الخدمات.

هذا الواقع الذي أغفلته القوى السياسية –زمن المراهقات- مكن الشخصيات الانتهازية من الوصول إلى مقاليد الحكم والنفوذ في مواقع السلطة على حين غفلة وكعقوبة إلهية لهذا البعد عن الهدى الرباني والأخلاق الإسلامية والعقل الذي منحنا الله إياه لنميز به الطيب من الخبيث، والنافع من الضار، والصالح من الفاسد، والأنسب حالا وزمانا.

وبذلك طغت فئة محدودة على الحكم، ومسكت بكل مقاليد السلطة والثروة، وأصبحت متحكمة بمصير البلاد والعباد، وأصبح الاستبداد والفساد سيدا المشهد على المستوى الحكومي والحزبي والشعبي.

ولو ذهبنا نتتبع أعمال القتل والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان قبل الوحدة وبعدها.. لما استطعنا إقصاء جزء منها. وكذلك لو تتبعنا أبعاد الفساد المالي ونهب الثروات والعبث بالمقدرات خلال ذات الحقبة لهالتنا الأرقام والإحصائيات. أما حالة التعليم والصحة والخدمات والبنى التحتية والزراعة والصناعة والتجارة.. فحدث ولا حرج. وهكذا كافة الجوانب التي تشير أغلب التقارير الدولية والمحلية إلى مستوى تراجع اليمن فيها.

إذن البون شاسع بين ما كان معلنا ومسطرا في الدساتير والبرامج السياسية وبين الواقع بكل تفاصيله وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فلم تتحقق شعارات الديمقراطية، ولا التمثيل الحقيقي للشعب، ولا التبادل السلمي للسلطة، ولا العدالة الاجتماعية، ولا المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ضمان الحريات العامة، ولا التنمية والرفاه الاقتصادي، ولا الأمن والاستقرار السياسي،.. لا في ظل الأحزاب الشمولية ولا التعددية الحزبية.

وفي كل دورة من العنف والتصفية السياسية يحمل الطرف الغالب الطرف الخاسر كل تبعات المرحلة الماضية متملصا من الحقائق ومترفعا عن الاعتراف بمشاركته في الأخطاء ومساهمته في تشكيل الأوضاع، ومستنكفا عن التوبة والرجوع إلى الرشد والصواب وإصلاح الذات والتصالح مع الآخر. وهو المدخل الضروري لأي عملية تصحيح نريد أن نطلقها من هذا المؤتمر لأوضاع اليمن، حتى وإن كانت كلفة هذا الاعتراف وتلك التوبة ثقيلة الآن، غير أنها ستكون محمودة الأثر لاحقا للجميع.

وإذا مثلت التحولات الدستورية في اليمن انعكاسا لموازين القوى السياسية المؤثرة على المشهد السياسي سابقا، فإن مما ينبغي علينا اليوم هو ألا نجعل دين المجتمع وهويته الإسلامية والعربية وقيم العدل والأمن والشورى محلا للعبث والمزايدات والتبديل والتوظيف. بل يجب أن نسمو بهذه الأمور عن قدرة أي طرف من أن يتمكن من إلغائها أو تقييدها أو استغلالها بأي صفة كانت. فهي يجب أن تكون محل إجماع لا خلاف معه ولا بعده. فهي بدورها تؤثر على نصوص الدستور والقواعد القانونية التي يبني عليها (المشرعون) في مجلس النواب (القوانين) التي تفسر الدستور والقواعد وتحيلها لأحكام إجرائية تنفيذية؛ سواء على صعيد القضاء والحكم أو على صعيد السياسات والبرامج الحكومية أو على صعيد المناهج الفكرية والثقافية لأجهزة الدولة ومؤسساتها التعليمية والتربوية والثقافية. لذا كان علي سالم البيض –أمين عام الحزب الاشتراكي- يعارض مسألة تعديل دستور الوحدة من منطلق أنه سيُعتَمَدُ على مواد الدستور: “في صياغة القوانين اللاحقة لدولة الوحدة”[35].

هوية الدولة اليمنية القادمة:

“شهدت اليمن تطورات دستورية متسارعة؛ كانت جلها نتيجة تغيرات سياسية عاصفة. فقد صدرت ما بين 1936م- 2002م أربع وأربعين وثيقة دستورية، منها الميثاق المقدس لعام 1948م، و11 دستورا، و11 إعلانا دستوريا، و6 قرارات دستورية، واتفاق إعلان الجمهورية اليمنية”.[36]

“وكانت السمة العامة للدساتير اليمنية تبايُن منشأها بما يمكن قوله مجازا بأسلوب المنحة لعدد منها؛ مثل قوانين مستعمرة عدن ودساتير السلطنة القعيطية لعام 1940م، وإمارة بيحان، واتحاد الجنوب العربي لعام 1959م، وولاية دثينة لعام 1961م، ومستعمرة عدن لعام 1962م، ولحج لعام 1952م، والجمهورية العربية اليمنية لعامي 1963م و1964م، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لعام 1970م. ونشأ عدد آخر بأسلوب العقد، مثل الميثاق الوطني المقدس لعام 1948م، ودستورا الجمهورية العربية اليمنية لعامي 1965م و1967م. ونشأ عدد ثالث بأسلوب الجمعية، مثل دستور الجمهورية العربية اليمنية لعام 1970م، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لعام 1978م. ونشأ دستور الجمهورية اليمنية لعام 1990م بأسلوب الاستفتاء الشعبي. وعليه فقد نشأت هذه الوثائق الدستورية بجميع أساليب نشأة الدساتير في العالم؛ وإن لم تكتمل شروط نشأتها وفقا لنشأة الدساتير العالمية”.[37]

ولم تشهد اليمن في ظل حكم الأئمة حضور دستور (سياسي). وقد كان من بين مطالب المعارضة اليمنية التي نشأت ونمت خلال العقود الأولى مطلع القرن العشرين -المنصرم- وضع دستور للبلاد ينظم شئون الدولة ويفسح المجال لتوسيع دائرة الشورى والمشاركة الشعبية؛ إلا أن انسداد الوضع وتصلب الإمام يحيى حميد الدين على رفض هذه المطالب وملاحقة أصحابها والتنكيل بهم دفع بالمعارضة اليمنية للقيام بثورة عام 1948م، حيث اغتيل الإمام يحيى واختير عبدالله الوزير “إماما شرعيا شوريا دستوريا، على نحو ما تسير به أرقى الأمم اليوم في العالم المتحضر، فيما لا يخالف -أدنى مخالفة- التعاليم الإسلامية السمحة الصحيحة”.[38]

هذه المحاولة في التحول لنظام حكم دستوري فشلت في مهدها وقضي عليها، وأعقبها محاولة أخرى عام 1955م بزعامة المقدم أحمد يحيى الثلايا وكان مصيرها مصير سابقتها.

وفي عام 1962م وعقب وفاة الإمام أحمد بن يحيى بن حميد الدين قامت ثورة جديدة وأسقطت حكم الأئمة معلنة قيام نظام جمهوري دستوري، بمساندة مصرية –هذه المرة. وكان من بين أبرز أهداف الثورة: “إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف”. إلا أن تباين التيارات المشاركة في الثورة أحدث ضبابية في هذا المنحى المهم الذي أريد له التغييب. فلم يكن مشروع ما بعد الثورة محل اتفاق بين قوى الثورة ما أدخلها في نزاع وصراع داخلي، وهو ما انعكس بدوره على الدستور اليمني.

ونتيجة لعدم التوافق والاستقرار وتصارع هذه القوى فيما بينها جرى إصدار إعلان دستوري: (1962م)، وثلاثة دساتير مؤقتة: (1963م/ 1965م/ 1967م)، ودستورين دائمين: (1964م/ 1970م)، وستة قرارات دستورية: (1968م/ 1970م). وكان الغالب في هذه الدساتير والإعلانات الدستورية عدم خضوعها للاستفتاء الشعبي، واقتصارها على القوى والنخب السياسية والسلطوية.

في الجنوب وعقب استقلال البلاد من الاستعمار البريطاني عام 1967م، أعلن أول دستور لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عام 1970م، ثُمَّ عُدِّل عام 1978م من مجلس الشعب الأعلى، وقد نصَّ على أن: “الحزب الاشتراكي اليمني –والذي أمسك بزمام الأمور في ذلك الحين- هو القائد والموجه للمجتمع والدولة”. وبدوره اتخذ الحزب من النظرية الاشتراكية العلمية الأساس النظري لبرامجه العملية ومشاريعه السياسية والاقتصادية والثقافية؛ وذلك بعد حسم الحزب صراعه مع بقية القوى القومية والوطنية في الجنوب لصالحه؛ حيث عمل على تصفية كافة القوى المخالفة بشكل دموي أو من خلال ممارسات (أمنية) بشعة.

في عام 1990م قامت وحدة سياسية بين شطري اليمن تمَّ بموجبها الإعلان عن كيان سياسي جديد هو (الجمهورية اليمنية)، على أساس مبدأ النظام الجمهوري الديمقراطي متعدد الأحزاب. وجاء دستور الوحدة انعكاسا لميزان القوى السياسية ومواكبا للتحولات التي طرأت عليها، وظل منذ ذلك التاريخ محلا للصراع بينها، وأداة للغنيمة السياسية على حساب المجتمع والدولة.

وإذا اتفقنا على أن هوية أي أمة هي القَدْرُ الثابت والجوهري والمشترك من السمات والخصائص العامة، التي إليها ينتمون، ومنها يصدرون، وعليها لا يختلفون، فإننا يجب أن نحدد هوية الدولة من خلال هذه الهوية، كي لا يظل الصراع قائما، وكي ننتقل إلى عجلة البناء والتنمية لا إلى الجدل السفسطائي الذي يتخذ من المصطلحات الفضفاضة والبراقة آلة لهدم الهوية وخلط التوجه والمسار.

وهنا عدة ثوابت ينبغي تضمينها في الدستور القادم في شأن هوية الدولة والمجتمع:

الأول: أن الشعب اليمني شعب مسلم، وأن الدولة اليمنية دولة مسلمة:

فالشعب اليمني مسلم، ونسبة أتباع الأديان السماوية الأخرى لا تذكر. لذلك فإن من الطبيعي أن يحكم اليمنيون أنفسهم بالدين والمعتقد والشريعة التي آمنوا بها جميعا، وأن يصاغ دستور الدولة وقوانينها وأنظمتها وبرامجها الحكومية ومناهجها التعليمية ومضامين رسائلها الإعلامية وكافة جوانب الحياة وفق منهج الإسلام وثوابته ورؤاه.

وقد نصت دساتير الجمهورية العربية اليمنية على أن: “اليمن دولة إسلامية عربية” أو “عربية إسلامية”، لعام 1964م المادة (1)، وعام 1967م المادة (1)، وعام 1970م المادة (1)، والإعلان الدستوري لعام 1974م المادة (1). ونصَّت دساتير جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على أن الإسلام: “دين الدولة” كما في المادة (46) من دستور عام 1970م، والمادة (47) من دستور عام 1978م؛ كما أكدت على أن: “تحافظ الدولة على التراث العربي والإسلامي”، المادة (31) دستور عام 1970م والمادة (30) دستور عام 1978م.

كما “نصت طائفة من الدساتير اليمنية على أن (دين الدولة الإسلام)، مثل دساتير لحج لعام 1952م، والجمهورية العربية اليمنية للأعوام 1963م، 1964م، 1965م، 1967م، 1970م[39]؛ وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لعامي 1970م و1978م؛ والجمهورية اليمنية لعام 1990م”؛ و”اعتبرت مجموعة من الدساتير اليمنية الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا؛ مثل دساتير الجمهورية العربية اليمنية لأعوام 1964م[40] و1965م و1967م و1970م[41]؛ وتعديل دستور الجمهورية اليمنية عام 1994م؛ و(الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع) في دستور الجمهورية اليمنية لعام 1990م”.[42]

وعليه فإنه يجب للمحافظة على إسلامية الدولة والمجتمع مراعاة ما يلي في صياغة الدستور:

– أن يكون الإسلام دين الدولة، وأن تكون الشريعة الإسلامية هي الحَكَم على كافة التشريعات والقوانين والأنظمة.

– أن ينص على عدم جواز خروج أي فرد أو جماعة عن ما أجمع عليه المسلمون في معتقد أو عبادة أو تشريع فقهي.

– أن تشكل محكمة دستورية مستقلة من أبرز علماء وقضاة اليمن المشهود لهم، ويكون ضمن مهامها المصادقة المبدأية على شرعية القوانين والأنظمة الصادرة من سلطات الدولة المختلفة، وعدم مخالفتها للإسلام، وفصل النزاع حولها.

– أن تتشكل هيئة مستقلة لعلماء اليمن، تضم خيرة علماء اليمن وفقهائها، لتمثل موجها مستقلا للحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع بعيدا عن التنازع الحزبي والسياسي، في مجالات التعليم والتربية والدعوة والفتوى والإرشاد والرقابة على ما ينشر في وسائل الإعلام المختلفة.

الثاني: أن الدولة اليمنية دولة مدنية مؤسسية تقوم على الشورى والفصل بين السلطات:

فليس في الإسلام سلالة أو طبقة حاكمة، ولا حكاما معصومين، بل الحكم هو تعاقد اجتماعي يقوم على الشورى واختيار الأمة لمن ينوبها في إدارة شئونها ورعاية مصالحها والدفاع عن حقوقها ومقدراتها. والناس في الدولة الإسلامية سواسية أمام قانون إلهي واحد (وهي الشريعة الإسلامية). ولا مجال فيها لهيمنة الفرد وطغيان الشخصانية واستبداد النخبة، بل هي دولة مؤسسية تقوم على العمل الجماعي المشترك، والأنظمة المتعاقد عليها، والشفافية والرقابة، والفصل بين السلطات بما يعزز التخصص. وهذا ما يجعل النظام السياسي أبعد عن النظام الملكي وأقرب للحكم الرشيد.

ومفهوم المدنية في ميراثنا الحضاري يدل على الاجتماع البشري والعمران القائم على سيادة القانون ورعاية المصالح. وإنما جاءت الشريعة لهذا المعنى: عمران الأرض وإشاعة العدل، فهي متكاملة وشاملة. فلا يمكن عمران الأرض بدون تصور صحيح للحياة والوجود والكون والإنسان.. أي بدون (عقيدة)؛ ولا يمكن إقامة مجتمع وسلطة بدون قانون عدلي لا يحابي طرفا على طرف، فلا يحابي الأغنياء ولا الأقوياء ولا الوجهاء لما يمتلكونه من مال أو سلطة أو أتباع.

أما المدنية الغربية فهي تحمل دلالة مختلفة تماما، كونها نتجت عن ظروف خاصة بأوروبا وفي ظل الانحراف الديني المطلق. فهي نظرة مادية تؤسس للعمران والعدل بعيدا عن الهدي الإلهي واستنادا للتجربة الإنسانية فقط! وتنادي بإقصاء الدين –وهي هنا تعني الدين النصراني الذي عانى الأوروبيون منه- عن الحياة العامة والشأن السياسي. لذلك فهي مدنية مبتورة عن الأخلاق وعن القيم وعن الروحانية الإيمانية، تسودها الشهوات والأهواء والفراغ الروحي.

ويصدق في المدنية الغربية ما يصدق في كافة الشعارات التي لهثت وراءها أطراف من الأمة تحسبه ماء فلما جاءته وجدته سرابا بقيعة! والتي أشغلت بها الأمة عقودا من الزمان، وأديرت المعارك حولها، كالاشتراكية والليبرالية والديمقراطية والقومية والوطنية… إلخ.

الثالث: اليمن دولة المساواة أمام الشريعة والقوانين النافذة والأنظمة:

فقد نصت دساتير الجمهورية العربية اليمنية على أن: “اليمنيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة” وأنه: “لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو العقيدة أو المذهب”، لعام 1963م المادة (17)، وعام 1964م المادة (22)، والدستور المؤقت لعام 1967م المادة (38)، والدستور الدائم لعام 1970م المادة (19)، والإعلان الدستوري لعام 1974م المادة (6). كما نصت على أنهم: “متساوون أمام القانون”، لعام 1963م المادة (17)، وعام 1964م المادة (22)، والدستور المؤقت لعام 1967م المادة (38).

وفي دساتير جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1970م، 1978م) النص على أن: “المواطنون جميعهم متساوون في حقوقهم وواجباتهم بصرف النظر عن جنسهم أو أصلهم..”، المادة (33).

وفي الجمهورية اليمنية نص دستور عام 1990م في المادة (27) على أن: “المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة. ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو اللون أو الأصل…”.

وهي مساواة يجب أن لا تكون مطلقة، بل هي مقيدة بالشريعة وما يتفق معها من العدل، لذلك فإن المشرع اليمني كان يراعي التمييز بين المفهوم الشرعي للمساواة منها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية. وكمثال على ذلك جاء في كتاب وثائق ديمقراطية في اليمن (ج6)، والصادر عن الأمانة العامة لمجلس الشعب التأسيسي –وهو الهيئة التشريعية في حينه، حول نظرة المجلس للاتفاقية الدولية رقم (156) بشأن تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة بين الجنسين أنه: “تبين للمجلس… أن أحكام هذه الاتفاقية لا تمس تعاليم عقيدتنا الإسلامية الغراء وعاداتنا وتقاليدنا…”[43]؛ وكما جاء في كتاب وثائق ومنجزات مجلس الشورى (للفترة من يوليو 1988م- حتى ديسمبر 1989م)، والصادر عن الأمانة العامة للمجلس، في شأن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري أنه: “وبعد الدراسة ومراجعة مواد الاتفاقية المذكورة ومناقشتها مناقشة مستفيضة من قبل المجلس على ضوء الثوابت التشريعية في بلادنا المستمدة من روح الإسلام الحنيف، اتضح -له من خلال ذلك- أن هذه الاتفاقية وأهدافها قد جاءت منسجمة مع ما ترمي إليه تشريعاتنا النابعة من الشريعة الإسلامية الغراء؛ إلا أن بعض فقرات وبنود المادة (5) من الاتفاقية قد جاءت مخالفة للضوابط والقيود التي يجب على المسلم أن يتقيد بها”؛ وعقب ذكر المواد التي تحفظ عليها المجلس ذكر المجلس أنه بنى تحفظه على نصوص واضحة من كتاب الله (القرآن الكريم) وسنة رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم: “ففيما يتعلق بالحقوق السياسية لا يجيز الإسلام تولية غير المسلم على المسلمين، لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) سورة النساء، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) سورة آل عمران. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) سورة المائدة، وغيرها من الأدلة المحرمة لذلك. وأما حق الزواج فقد حرم الإسلام زواج الكافر بالمسلمة، قال تعالى: (لا هُنَّ حل لهم ولا هم يحلون لهَنَّ) سورة الممتحنة. وأما حق الإرث فإنه لا توارث بين أهل ملتين، كما جاء في الحديث: (لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر). وأما ما يتعلق بحرية الفكر والعقيدة والدين فإن الإسلام حرم الخروج منه، وعاقب عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)، وحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)”[44].

وعلى هذا الأساس يجب إخضاع الجميع لسلطان الدولة والقضاء والقوانين، والوقوف بحزم إزاء كل من يقف ضد هذا التوجه قبيلة كانت أو قوة سياسية أو عسكرية. ولتحقيق ذلك يجب أن تكون الدولة عادلة في المقابل مع الجميع في القيام بواجباتها ومهامها وتقديم الفرص والخدمات، كما يجب أن يخضع كافة مسئولي الدولة ومنسوبي الأجهزة الحكومية لأحكام القوانين والقضاء ابتداء أسوة بكافة أبناء المجتمع، وإلغاء أي حصانة تهدف إلى إبطال القوانين وإجراءات العدالة وأحكام القضاء.

رابعا: اليمن دولة التنمية الاقتصادية والرخاء:

فأي دولة لا تقوم بواجبها المعني بتوفير العيش الكريم لمواطنيها، وإدارة الموارد بشكل صحيح بينهم، وتوزيع الثروة عليهم بالعدل، ورعاية مصالحهم الخاصة والعامة، تفقد جزءا من شرعيتها ومهمتها. لذلك تضمنت الشريعة الإسلامية على تصورات كثيرة تتعلق بالمال، وأحكام مختلفة تتعلق بالمعاملات المالية. كالزكاة والصدقة والنفقات والمواريث والبيوع والعقود المالية والأوقاف والغنائم والأنفال والركاز. وفصلت في كثير من الحقوق والواجبات.

—————–

[1] وأكثر من عبر عن وجهة النظر هذه رموز الحزب الاشتراكي اليمني، فقد صرح علي سالم البيض –أمين عام الحزب- لصحيفة 14 أكتوبر –عدد 7899 في 24/12/1989م بأن: “أفضل السبل وأنجحها للتسريع في تطبيق اتفاق عدن التاريخي والتعجيل ببزوغ فجر دولة الوحدة، الشروع في تطبيق برنامج واسع لإصلاحات شمولية تشمل مختلف جوانب شعبنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على طريق تأسيس دولة الوحدة العلمانية”؛ وفسر عمر الجاوي –أحد المشاركين في وضع دستور الوحدة- (الإسلام دين الدولة): “فالإسلام دين وليس أيديولوجيا، وليس كما يعتقد البعض، فهو دين الجميع بما في ذلك الشيوعيون”، مجلة الحكمة 13/12/1989م. انظر: معركة الدستور في اليمن، د. عبدالله المصري، ص30- 31.

[2] نص مقابلة تلفزيون أبو ظبي مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح على موقع الرئيس:www.presidentsaleh.gov.ye.

[3] انظر: العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، 1/1/2000م، ص146.

[4] أصول علم الاجتماع السياسي.. السياسة والمجتمع في العالم الثالث، محمد علي محمد، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، ط 1989م: ج3/175.

[5] الدولة في العالم الثالث، أحمد زايد، دار الثقافة، القاهرة، ط1- 1985م: ص157.

[6] المسألة الدستورية في اليمن التطور والآفاق، محمد أحمد الغابري، إصدار وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، ط 2004م، ص31.

[7] الدساتير في العالم العربي.. نصوص وتعديلات، إعداد وتحقيق د. يوسف قزماخوري، دار الحمراء، بيروت، ط1، 1989م، ص639- 660.

[8] مادة (3).

[9] مادة (5).

[10] الدساتير في العالم العربي.. نصوص وتعديلات، مرجع سابق، ص639- 660.

[11] مادة (1).

[12] مادة (3).

[13] مادة (4). وتنص المادة (141) على أن: القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون المستمد من الشريعة الإسلامية. ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة.

[14] مادة (6).

[15] الدساتير في العالم العربي.. نصوص وتعديلات، مرجع سابق، ص639- 660.

[16] مادة (1).

[17] مادة (3).

[18] الدساتير في العالم العربي.. نصوص وتعديلات، مرجع سابق، ص639- 660.

[19] مادة (1).

[20] مادة (2).

[21] مادة (3).

[22] مادة (7).

[23] الدساتير في العالم العربي.. نصوص وتعديلات، مرجع سابق، ص627.

[24] مادة (1).

[25] مادة (7).

[26] مادة (13).

[27] مادة (29).

[28] مادة (30).

[29] مادة (30).

[30] مادة (2).

[31] مادة (3).

[32] مادة (27).

[33] عالج دستور 1994م.. “التضارب القانوني بين الدستور السابق -1990م- والقوانين الأخرى، حيث أن الدستور السابق أطلق المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات العامة ولم يميز بينهما بسبب الجنس، وظل هذا الأمر محل خلاف، حيث أن هناك قوانين مثل قانون الأحوال الشخصية والإثبات والجنسية التي تضمنت بعض مواده عدم المساواة المطلقة بين الجنسين وفقا لما جاء في الشريعة الإسلامية السمحاء، لذا أورد الدستور في المادة (31): النساء شقائق الرجال… إلخ”؛ البعد القانوني وانعكاساته على أوضاع المرأة اليمنية وأدوارها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية- دراسة مقدمة في إطار مشروع أبعاد المرأة العربية، إعداد/ أ. د. نورية علي حُمَّد وأ. أسماء يحيى الباشا، جمعية رعاية الأسرة اليمنية، صنعاء، 1995م- 1996م، ص13.

[34] إن من أهم القواعد المتفق عليها بين علماء الفكر والسياسة هي أن ثبات الدستور في دولة ما يعكس مقدار الاستقرار الذي تتمتع به البنى الفكرية والقيمية والأخلاقية لدى التنظيمات والقوى السياسية الفاعلة في مجتمع ما؛ وأن إجماع المشرعين على تفسير نصوص هذا الدستور وتحويل قواعده إلى أحكام قانونية متفق عليها يمثل مؤشرا على وجود أرضية واسعة من المشترك الفكري والثقافي والمعرفي والغائي. والعكس صحيح، فكلما وقع الدستور تحت طائلة التبديل والتحويل والإضافة والحذف كان ذلك دليلا على اختلاف إرادة المشرعين وتباين وجهات نظرهم وضيق الأرضية المشتركة بينهم؛ ومن ثمَّ عدم الاستقرار السياسي إما على صعيد النظرية أو التطبيق.

[35] معركة الدستور في اليمن، عبدالله المصري، ص34.

[36] وثائق دستورية يمنية، أ. د. قائد محمد طربوش، مكتبة العروة الوثقى، تعز، ط3/ 2003م؛ ص8.

[37] المرجع السابق.

[38] المسألة الدستورية في اليمن التطور والآفاق، محمد أحمد الغابري، إصدار وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، ط 2004م، ص31.

[39] وكذلك الإعلان الدستوري رقم 22 لعام 1974م المادة (3).

[40] نص دستور عام 1963م على أن: “الإسلام دين الدولة الرسمي، والتشريع فيها يستند إلى مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء لا يتعارض معها”، مادة (3).

[41] وكذلك الإعلان الدستوري رقم 22 لعام 1974م المادة (4).

[42] المرجع السابق.

[43] ص255.

[44] ص336- 337

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى