دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات تاريخية

قصة حليفين: بولندا وألمانيا والنظام الجديد عبر ضفتي الأطلسي

الفصل الثاني من كتاب: بولندا وألمانيا وقوة الدولة في أوروبا ما بعد الحرب الباردة:

حالة عدم التكافؤ، لستيفان شفيد[1]

ترجمه عن الانگليزية: د. محمد فوزي علي، كلية الآداب – جامعة عين شمس

تعتبر العلاقة عبر ضفتي الأطلسي مساحة تتسم بالتناقض في الحوار الاستراتيجي البولندي – الألماني. وعلى كل حال، لم تكن المصالحة بين البلدين ممكنة بدون وجود حلف الناتو والمنظومة الأمنية عبر الأطلسي. وقد كان دعم بولندا المطلق لإعادة توحيد ألمانيا الوشيك على النقيض مما يجري في كواليس استراتيجيات المماطلة التي اتبعتها القوى العظمى في القارة العجوز، لكنه كان مشروطًا باستمرار عضوية ألمانيا في الناتو، وهي منظمة لم تُرسِ فقط عملية إعادة تأهيل الجمهورية الاتحادية بعد الحرب بقوة في الغرب، ولكن بالمقام الأول، وازنت عدم تكافؤ القوة القارية مع الثقل الهائل للهيمنة الأمريكية، وبالتالي طامنت المخاوف من صعود العملاق غوليفر[2] ووضعه في النظام الأوروبي.[i] وفي حين أن اعتراف البولنديين بتطلع الألمان إلى إعادة التوحد منح شرعية إضافية للعملية برمتها، فإن نقل الحدود الشرقية للحلف إلى عتبة بولندا خطا بالأخيرة خطوة أوثق باتجاه الغرب. وكان تلاقي مصالحهم الاستراتيجية هذا هو الذي شكل الركيزة الثانية لعلاقة شراكة المصالح بين بولندا وألمانيا، التي طرح وزير خارجية بولندا كشيشتوف سكوبيشفسكي إقامتها في العام 1990.[ii] وقد ساعد أيضًا السياق عبر ضفتي الأطلسي و “المساعي الحميدة” للرئيس جورج دبليو بوش على نزع فتيل التوترات، ففي غياب التزام لا لبس فيه من بون، ضمنت واشنطن الإبقاء على حدود أودر- نايسه.[iii] وبحلول منتصف التسعينيات، كان تبني ألمانيا لعضوية بولندا في الناتو بمثابة حجر الزاوية الثالث لمبدأ شراكة المصالح.

   ولكن في حين أنه خلال العقد الأول بعد الحرب الباردة، كان التوافق الاستراتيجي بمثابة أساس لعملية التقارب البولندي – الألماني، فقد ظهر عشية انضمام بولندا إلى معاهدة واشنطن أن البلدين لم يكن ما بينهما شراكة خالصة تمامًا داخل الحلف. وطفت الخلافات على السطح في وقت مبكر في خريف العام 1998، عندما ألمحت الحكومة الائتلافية المنتخبة حديثًا من الحزب الديمقراطي الاشتراكي – الخضر في برلين إلى تحول في اللهجة بشأن التوفيق بين الولاء لأوروبا وأمريكا.[iv] وسرعان ما وجد القِرْنان نفسيهما في خلاف حول المهمة الجديدة للناتو. ولاحقًا، وعلى الرغم من حقيقة أن كلا الفاعليْن دعما في نهاية المطاف التدخل في كوسوفو في أوائل العام 1999، فقد كشفت النقاشات على المستوى الوطني عن فجوة كبيرة بين النخبتين البولندية والألمانية وفي التوجهات العامة تجاه استخدام القوة في الخارج. وقد تعمق الخلاف بشكل تدريجي جنبًا إلى جنب مع عملية تحول الحلف من منظمة ينصب تركيزها على الردع خلال فترة الحرب الباردة، إلى أداة لتحقيق الأمن المشترك لا تقتصر على الدفاع فحسب، بل تحقيق السلام خارج حدودها أيضًا – ثم بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، إلى أداة في الحرب على الإرهاب،[3] للدفاع عن “قيم ومصالح” الحلفاء خارج حدود الدول الأعضاء في الناتو.[v] وطوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اصطدم القِرْنان المرة تلو الأخرى حول التوسعات الفعلية والمقترحة لحلف الناتو، وتنازعا حول التوصل إلى اتفاق بشأن نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية الذي أزمع إقامته ثم تم تعليقه ثم أعيد تفعيله في نهاية المطاف. وعلى الرغم من وجود كوكبة سياسية وطنية أكثر توافقًا وتواؤمًا، إلا أنها تصادمت مرة أخرى أثناء المحادثات حول التصور الاستراتيجي لمستقبل الحلف في نهاية العقد.

   وفي جوهرها، تلخصت الخلافات بين بولندا وألمانيا في استجابات البلدين التي اتسمت بطابع التنافس تجاه حلف الناتو وتحولات العلاقة عبر ضفتي الأطلسي والتكيف مع الأحادية القطبية وما تلاها. وفي ضوء الشكوك التي كانت تلوح في الأفق حول مستقبل المنظمة وثبات التزام واشنطن بالأمن الأوروبي بعد زوال التهديد السوفيتي، سرعان ما اكتسبت بولندا العضو الجديد سمعة كحليف ملتزم بشكل كبير بالدفاع عن الدور التقليدي للحلف في الردع، وكدولة عضو شديدة الولاء لقضية الإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا. وفي غضون ذلك، كانت ألمانيا قد بدأت في اطِّراح صورة التلميذ المثالي عبر الأطلسي، وبدأت تتأرجح بين التحفظ وتبني السعي لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال الأوروبي في الأمن والدفاع. وعلى الرغم من أن سردية البَوْن المائز بين بولندا المتطرفة في “فرط أطلسيتها” وألمانيا “الديغولية الجديدة”[4] بشكل متزايد تستحق توصيفًا أكثر دقة بكثير، فإن الشقّة الآخذة في الاتساع بين سياساتهما الأمنية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تشير إلى وجود تضارب بين ضربين من السياسات التنظيمية: ففي حين ذللت وارسو الطريق أمام الهيمنة الأمريكية الدائمة، سعت برلين إلى إعادة التوازن إلى المقايضة عبر ضفتي الأطلسي وطالبت بفرص أكبر للحلفاء الأوروبيين للتعبير عن شواغلهم.[vi] وبالنظر إلى استمرار الخلافات بغض النظر عن تناوب الحكومات على السلطة في كلا العاصمتين، فإن ذلك يشير إلى أننا يجب أن ننظر إلى ما وراء المستوى الوطني والمتغيرات داخلية المنشأ لتحديد مصادرها. وما العوامل التي تفسر على أفضل وجه تضارب المواقف بين بولندا وألمانيا داخل الحلف وفي سياق العلاقة عبر ضفتي الأطلسي خلال العقد الذي أعقب انضمام بولندا؟

   يتشعّب الفصل أولاً إلى إجراء مسح تجريبي للمواقف والسياسات المتضاربة للبلدين تجاه الناتو، وعملية التحول التي مر بها عقب الحرب الباردة، وحالة العلاقات عبر ضفتي الأطلسي بشكل أكثر عمومًا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويستعرض الجزء الثاني ويوجّه النقد للأدبيات المهيمنة التي تشير إلى الخبرات التاريخية المتمايزة لكلا الفاعليْن التي قيل إنها ألهمت ثقافاتهما الاستراتيجية المتباينة والتي يُفترض أنها تضرب في جذور أولوياتهما واختياراتهما السياسية المتضاربة. وأخيرًا، يقترح الجزء الثالث تفسيرًا يستند إلى تحليل التباينات الهيكلية والطريقة التي تنبئ بها عن المصالح والخلافات السياسية بين بولندا وألمانيا كحليفين في الناتو.

من الشطر الآخر من العالم إلى سلاسل جبال الهندوكوش: التحدي الذي يواجه الناتو خارج فضائه

على الرغم من أن الناتو خلال العقود الأربعة الأولى من تأسيسه كان بالدرجة الأولى والأخيرة مؤسسة تهدف إلى تدعيم قدرات الدفاع الجماعي لأعضائه، إلا أن المنظمة دائمًا ما أوفت بشكل ثابت بهدف أوسع نطاقًا بكثير وهو: إضفاء الشرعية على الوجود الأمريكي في أوروبا؛ والتعاون الدفاعي المؤسسي؛ ووفرت الترتيبات المعيارية والعملية لتجنب الصراعات داخل الحلف؛ وكما جادل العديد من البنيويين، فقد ربط منظومة القيم الغربية – متمثلة في نادي الديمقراطيات الليبرالية واقتصاديات السوق – معًا. وبعد نهاية الحرب الباردة، استحدث حلف الناتو مهام إضافية ووسع النطاق الجغرافي لأنشطته خارج حدود منظومته الأمنية، هادفًا في المقام الأول إلى تحقيق الاستقرار في محيطه الخارجي. وقد سعى الحلفاء في قمة مجلس شمال الأطلسي (NAC)[5] التي انعقدت في روما في العام 1991، لإضفاء مغزى جديد على أهداف الحلف وإنشاء “نظام تعاوني” للأمن في أوروبا، جنبًا إلى جنب مع مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE)، والمجموعات الأوروبية (EC)، واتحاد أوروبا الغربية (WEU). ومن خلال إنشاء مجلس تعاون شمال الأطلسي (NACC)،[6] وبرنامج الشراكة من أجل السلام (PfP)،[7] واللذين تلاهما في وقت لاحق مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية (EAPC)،[8] وفَّر الناتو قاعدة مؤسسية لتولي حفظ الأمن على طول الحدود الخارجية لمنظومته الأمنية.[vii]

   ومهما يكن من أمر، فقد استلزم انتهاء الحرب الباردة إجراء مراجعة شاملة لمهام الحلف التي تجاوزت بكثير تعميم نموذجه المُجرَّب في إدارة الشئون الأمنية في الشرق. وكيما يظلوا وثيقي الصلة بالواقع ويحتفظوا باهتمام واشنطن الموصول بضمان الأمن – الأوروبي الأطلسي، سيتعين على الأوروبيين تحمل مسئولية أكبر للدفاع عن قيمهم ومصالحهم خارج أوروبا. وكانت ساحة الاختبار للصفقة الجديدة عبر ضفتي الأطلسي ودور الناتو المستجد – الذي تم تقديم التبريرات له في كثير من الأحيان بطرفة ساخرة مفادها أنه “إما العمل خارج حدود الحلف أو التوقف عن العمل” – عبارة عن سلسلة من العمليات العسكرية في البلقان خلال حقبة التسعينيات. وقد أعطت اتفاقية دايتون لحلف الناتو دورًا محددًا بوضوح في الحفاظ على السلام في البوسنة والهرسك من خلال قوة إنفاذ السلام (IFOR)، كما أكسب نجاحُه ومشاركتُه اللاحقة في قوة تحقيق الاستقرار (SFOR)، الولاياتِ المتحدة الثقةَ في قدرة الحلف على الاضطلاع بدور في التهدئة خارج حدوده. ونتيجة لذلك، دفعت إدارة كلينتون باتجاه إعطاء إدارة الأزمات دورًا بارزًا ضمن قائمة المهام المستجدة للناتو. وكان المفهوم الاستراتيجي الجديد، الذي تم الكشف عنه في القمة التي صادفت الذكرى السنوية الخمسين لتأسيس الحلف في أوائل العام 1999، هو مواكبة الوقائع التي تجري على الأرض بشكل فعال. وفي 24 مارس، أي قبل أقل من أسبوعين من بدء قمة واشنطن، انخرط “التحالف العسكري الأكثر نجاحًا في التاريخ”، والذي لم يطلق رصاصة واحدة في لحظة غضب منذ ما يقرب من خمسة عقود، في جهد طموح لتأمين السلام من خلال حملة هجومية من القصف الجوي لأهداف صربية لإجبار الجيش اليوغوسلافي على الانسحاب من كوسوفو.

   ولم تختلف استجابات البلدين الأولية للضغوط الناشئة عن الانتقال إلى الأحادية القطبية (وما تلاها)، وكذلك عملية التحول التي شهدها الحلف في أعقاب ذلك، اختلافًا جوهريًّا عندما انضمت بولندا إلى معاهدة واشنطن في مارس 1999. لكن التمايز الطفيف أصبح ملموسًا بالفعل وأنذر ببعض الخلافات الأكثر حدة التي ستشكل عبئًا متزايدًا على الحوار الاستراتيجي بين القِرْنيْن خلال العقد التالي.

نفس الوسائل ونهايات مختلفة

مثل معظم الأعضاء، دعمت ألمانيا في البداية عملية التحول التي شهدها الناتو وسعت جاهدة إلى إشراك المنظمة في تأمين حالة السلم ومن ثَمَّ صونه في جنوب شرق أوروبا. وكما تبين لبون / برلين والحكومات الأوروبية الأخرى خلال العقد الماضي، فإن الاتحاد الأوروبي وما أصبح في العام 1995 منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، لم يكونا قد نضجا بعد للتكفل بتحقيق الاستقرار في المنطقة بشكل فعال. وقد قاومت ألمانيا محاولة واشنطن جعل الناتو “قوة سلام من الشرق الأوسط إلى وسط إفريقيا”،[viii] وفضلت قصر نشره على المنطقة الأوروبية – الأطلسية، واستمرت في الإصرار على الحصول على تفويض من الأمم المتحدة لتنفيذ جميع العمليات.[ix] ولكن في نهاية المطاف، رحبت الطبقة السياسية الألمانية بعملية التحول البنيوي للمنظمة كفرصة لإفساح المجال الذي يمكن من خلاله منح السياسة الخارجية للجمهورية الاتحادية حرية في الحركة وتأكيد أهليتها للعمل في إطار تحالف متعدد الأطراف كحليف جدير بالثقة، وجزء لا يتجزأ من الجماعة الأوروبية – الأطلسية.[x]

   وبدافع من المطالبات الشعبية المتزايدة لوضع حد للأعمال الوحشية التي كانت ترتكب في البلقان وتحت ضغوط للقبول بتحمل حصة أكبر من عبء أمن الحلفاء، كانت ألمانيا تواجه عملية التوصل إلى تفاهم حول استخدام القوة بوصفه مجالاً لممارسة الحنكة السياسية. فبعد العام 1955، ساعدت عضوية الناتو في إعادة تأهيل الدولة الألمانية بعد الحرب كعضو حسن السمعة في المجتمع الدولي. وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة، ستعتمد ألمانيا التي أُعيد توحيدها بشكل لا مهرب منه على الحلف لتسهيل عملية إعادة التأقلم الصعبة مع امتلاك القوة العسكرية.[xi] وقد مهدت موافقةُ المحكمة الدستورية اﻻﺗﺤﺎدﻳﺔ في يوليو 1994 على صلاحيات الجيش الألماني خارج الحدود الطريقَ أمام مشاركة ألمانيا في قوة الآيفور (IFOR)، وهي قوة تنفيذ اتفاقات دايتون للسلام بقيادة حلف الناتو في البوسنة.[xii] بيد أنه على الرغم من أن الأغلبية الكبيرة في البوندستاغ المؤيدة لنشر القوات كانت تعني أن هذه العملية كانت مدعومة بإجماع وطني واسع،[xiii] كان من الواضح بنفس القدر، على حد تعبير وزير الخارجية الألماني كلاوس كينكل، أن “تطبيع السياسة الخارجية لا يعني التصرف كشرطي عالمي، ولا يعني أن [ألمانيا] ستجرِّد قوات إلى كل منطقة تشتعل فيها الصراعات”.[xiv]

   لم يكن “تطبيع” وضع ألمانيا أبدًا فكرة متماسكة فكريًّا، لأن البيئة الخارجية والوقائع الداخلية أفرزت وضعًا لم يكن له مثيل في تاريخ البلاد. فكما لم يحدث من قبل، كانت ألمانيا حرة وموحدة، وذات ديمقراطية ليبرالية ناجحة واقتصاد سوق – اجتماعي نموذجي. وقد ظلت الجمهورية الاتحادية بعد الحرب الباردة جزءًا لا يتجزأ من المؤسسات الدولية، ولكن خلافًا لما كان عليه الحال في السابق، أصبحت الآن محاطة بشركاء ودودين وحلفاء متشابهين في التفكير. ومع ذلك، لم يكن هناك من ينكر أن ألمانيا الجديدة كانت دولة أقوى بكثير من جيرانها، وبدا أن تحفظها الدولي بعد الحرب الذي اتخذته شعارًا يتعارض بشكل متزايد مع المتطلبات الأمنية لحقبة ما بعد الحرب الباردة. وقد قاد ذلك إلى ظهور مخاوف متزايدة بشأن الانتفاع المجاني وأدى إلى دعوات لمساهمة أمنية تتناسب أكثر مع وضعها. وبالتالي، فإن عملية “التطبيع” كانت تعني أن ألمانيا ستصبح أكثر شبهًا بالقوى الأوروبية الكبرى الأخرى – أي أنها ستتخلى عن بعض خجلها من قوتها – ولكن على الرغم من أن سلوكها سيعكس الآن المزيد من الاهتمام بالمصالح الذاتية، فإن البلاد لن تعود إلى تبني سلوك أحادي الجانب مثير للقلق تاريخيًّا.[xv]

   وقد تم اختبار “تطبيع” الجمهورية الاتحادية واستعدادها لتحمل مسئولية دولية أكبر خلال أزمة كوسوفو عندما أدى إصرار الحكومة الألمانية الجديدة على التوصل إلى حل دبلوماسي إلى عزلها بشكل متزايد عن الحلفاء الآخرين.[xvi] وفُسرت مشاركة القوات المسلحة الألمانية في نهاية المطاف في عملية القوة المتحالفة (OAF) على أنها لحظة حاسمة في السياسة الأمنية للبلاد بعد الحرب الباردة. فللمرة الأولى، أيدت النخبة السياسية الألمانية مساهمة الجيش الاتحادي الألماني (البوندسفير) في مهمة سعت إلى تحقيق السلام من خلال استخدام القوة. وفي غياب تفويض من الأمم المتحدة، أضفت الحكومةُ الشرعيةَ على العملية داخليًّا من خلال الدفوع الإنسانية حول المسئولية عن حماية السكان المدنيين من الأخطار، ولكن كما أظهر الجدل في البوندستاغ، فقد وافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر الأكثر تحفظًا تقليديًّا على استخدام القوة على ضرورة إظهار التزام الدولة تجاه اندماج ألمانيا في أوروبا والعالم الغربي ومبدأ تضامن الحلف. وجادل المستشار شرودر بأنه “مع أخذ تاريخ ألمانيا في الاعتبار، فإن المرء قد لا يشك في مصداقيتنا […] حول أن روابط ألمانيا بالعالم الغربي هي جزء من المصالح الوطنية الألمانية. ولا يمكن أن يكون هناك مسار تاريخي خاص بألمانيا وحدها.[9][xvii] وفي الواقع، فإن “الرفض” الألماني لن يوقف الخطط الأمريكية للتدخل في كوسوفو، وكما جادل سياسيون بارزون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي مثل كارستن فوغت وغيرنوت إيرلر، فإن رفض المشاركة كان سيعزل ألمانيا ويضر بمصداقيتها كحليف.

   وفي البداية، رحبت الطبقة السياسية في بولندا بالدور الجديد للحلف في تخوف. وقد أثار الإحساس بالتغيير شكوكًا في أن بحث وارسو عن الأمن ربما كان بمثابة ملحمة أوديسة محيرة. ولم يكن هناك مفر من العلاقة البنيوية المتبادلة بين انضمام بولندا وعملية التحول التي شهدها الناتو: إذ لم يرحب الحلف فقط بالدول الجديدة الضعيفة متدنية الاستعداد نسبيًّا، والتي هددت عضويتها بإضعاف الترابط العملياتي للمنظمة، بل أصبح الآن أيضًا يعيد تعريف هدفه بشكل أكثر وضوحًا. وقد شاركت بولندا في النقاشات حول المفهوم الجديد بقدر ما كان ممكنًا ومواتيًا قبل الانضمام الرسمي، وشددت على أهمية الحفاظ على تركيز الحلف على الدفاع المشترك وسياسة “الباب المفتوح” للوافدين المستقبليين – وهي الاهتمامات التي خلص خبير أمني بولندي بارز، إلى أنها نشأت من الموقع الجيوبوليتيكي للبلاد على “حافة منطقة يغلب عليها عدم الاستقرار وعدم القدرة على التنبؤ”.[xviii] وأعرب السفير المفوض لبولندا لدى الناتو فيتولد فاشيكوفسكي عن عدم ارتياح مواطنيه لتطور الحلف بشكل ملائم عندما جادل بأنهم “يفضلون التمتع بالعضوية في حلف ناتو “تقليدي”. فخلال نصف قرن، حُرمت بولندا من الاستقرار والأمن […]. و [هي] تتمنى لبضع سنوات على الأقل أن تنعم بالهدوء، وببساطة أن تشعر بالأمان تحت المظلة النووية.[xix] وبعبارة أخرى، أرادت بولندا أن تكون عضوًا في تحالف ذي حدود مرسَّمة بوضوح بما يضمن الدفاع التلقائي في حالة وقوع هجوم خارجي. وبدلاً من ذلك، وجدت نفسها تنضم إلى منظمة تم إعادة تشكيلها من قبل العضو الرئيس فيها، الولايات المتحدة، لتكون أداةَ تدخُّلٍ مهمتها إنشاء نظام دولي لم يتم تحديد شكله النهائي بالكامل بعد.

   وعلى الرغم من هذه الهواجس، فإن عملية التغيير فرضت الامتثال، مهددة بتجاوز المتخلفين وراءها. وبحسب تشيسواف بيلاتسكي، رئيس لجنة الشئون الخارجية بالبرلمان البولندي، خلال نقاشات حول التصديق على انضمام بولندا إلى الناتو: “فإن كنه الحلف هو العمل المشترك للدفاع عن القيم والمبادئ. وسيتعين على بولندا اتخاذ موقف بشأن القضايا التي لم يكن لها أي علاقة في الماضي بها أو بمواطنيها. ففي السياسة العالمية، قد يتعين الدفاع عن الحرية في “الشطر الآخر من العالم”.[xx] وبالتالي، فإن قرار الحكومة بالمشاركة في عملية القوة المتحالفة (OAF) بعد 12 يومًا من توقيع كبير الدبلوماسيين البولنديين على معاهدة واشنطن تم التعامل معه أولاً وقبل كل شيء على أنه إظهار للمصداقية كعضو جديد قمين بالعضوية: بقدرته على تحمل التزامات الحلف والوقوف مع الحلفاء في موقف لا يتعرض فيه أمنه لتهديد مباشر. وكما بيَّن برونيسواف كوموروفسكي، رئيس لجنة الدفاع الوطني بمجلس النواب فإنه: “لا ينبغي لنا أن نجرب وننساق لأفكار مختلفة من شأنها أن تتعارض مع تحركات الناتو. […] إن هذا من شأنه أن يعقد المعركة المهمة للغاية للحصول على دور لبولندا في الناتو. ما نواجهه اليوم هو أكثر من أي شيء آخر معركة من أجل مصداقيتنا.[xxi] وبعبارة أخرى، كان إظهار التبعية استثمارًا في أمن بولندا على المدى الطويل. وكما يبدو، كان المنطق التاريخي يذكر البولنديين بضعفهم ليس إلا.[xxii]

   وكانت مسألة المصداقية في قلب النقاش حول السياسة الخارجية في مجلس النواب في 8 أبريل. وأشار منتقدو الحجج الإنسانية لإضفاء الشرعية على التدخل – وكانوا سياسيين من تحالف اليسار الديمقراطي (SLD)، وحزب الشعب البولندي (PSL)، واليمين المتطرف – إلى انتقائية قضية كوسوفو بينما لم يتم التصدي للانتهاكات الأسوأ في أجزاء أخرى من العالم، وشككوا في جدوى استخدام القوة الجوية لتحقيق الأهداف الإنسانية للمهمة.[xxiii] وسلط زعيم تحالف اليسار الديمقراطي ليشيك ميلر الضوء على ضعف الأسس القانونية للعملية، ولكن بعد أن أكد أن “عضوية بولندا في الناتو أصبحت منذ البداية اختبارًا لمصداقيتها وقدرتها على فهم السياسة من منظور عالمي”. ورثى رئيس حزب الشعب البولندي، يانوش دوبروش، للاستخدام “الأداتي” للمقارنة بـ “الموت من أجل غدانسك” وأعرب عن أسفه لتجاهل الأمم المتحدة، لكنه لم يشكك في مبدأ التضامن وتساءل فقط ما إذا كان ينبغي تطبيقه في حالة وجود كيان لا يتمتع بعضوية الناتو. وخلال النقاش الحاسم، لم يتحدَّ أي سياسي مبدأ التضامن مع حلفاء بولندا: وبعبارة أخرى، تفوقت المصداقية على الشرعية.

   وخلافًا لما حدث في بولندا، كانت مسألة الشرعية في قلب النقاشات التي سبقت حملة كوسوفو في ألمانيا.[xxiv] وعلى صفحات صحيفة دي تاغس تسايتونغ البرلينية اليومية، جادل وزير الخارجية يوشكا فيشر بأن عملية القوة المتحالفة (OAF) كانت استثنائية في طبيعتها، ونفى أنها تشكل سابقة لحلف الناتو ليكون بمثابة “شرطي عالمي”.[xxv] لكن في نهاية المطاف ، مثلها في ذلك مثل بولندا، دعمت ألمانيا التدخل حتى في غياب قرار من الأمم المتحدة، وهو ما تعارض مع إصرار المستشار شرودر السابق على “تفويض لا لبس فيه بموجب القانون الدولي”.[xxvi] وقد بدا في هذه اللحظة أن دوافع الجارتين تتقارب وراء هدف إظهار مصداقية التزامات كل منهما تجاه الحلف. لكن الشيطان كان يكمن في التفاصيل: ففي حين أظهرت النقاشات في بولندا تركيزًا أكبر على مبدأ تبادلية المعاملة بالمثل،[10] ارتكز الخطاب الألماني على الحاجة إلى تحمل مسئولية دولية أكبر – وهو اختلاف حاسم سلط الضوء على التوقعات المتناقضة للقِرْنَين تجاه حلف الناتو.[xxvii]

   وبعد فترة وجيزة من الحرب، اتضح أنه على الرغم من التقارب الظاهري بينهما، فإن الدوافع المتباينة قادت البلدين إلى استخلاص عِبَر متناقضة تمامًا من حملة كوسوفو.[xxviii] فقد دفع الاعتمادُ الشامل على الولايات المتحدة للمساعدة في حل أزمات البلقان والتداعيات السلبية للاستراتيجيات العسكرية التي اتبعتها واشنطن، القوةَ الوسطى الألمانية الصاعدة إلى السعي لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال في مجال نشر الأمن، وأضاف زخمًا للجهود الرامية إلى خلق سياسة أوروبية للأمن والدفاع (ESDP) أكثر تماسكًا في اجتماعيْ المجلس الأوروبي المنعقدين في مدينتي كولونيا وهلسنكي في يونيو وديسمبر 1999. وبالنسبة للنخبة السياسية في بولندا الوافد الجديد إلى حلف الناتو، فإن عزم أمريكا على وقف انتهاكات حقوق الإنسان في كوسوفو يقارن من دون شك، بالمقابل، بالتردد المستمر على ما يبدو للقوى القارية، مما يؤكد رؤيتها المتشككة في قدرة أوروبا على إصلاح شئونها دون مساعدة من وسيط عبر الأطلسي.

نظام ما بعد الحرب الباردة يتقدّم بسرعة: الناتو بعد 11 سبتمبر

أدت الهجمات الإرهابية على أهداف مدنية في نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001 إلى تصعيد عدد من التوجهات الواضحة في الأمن الأوروبي – الأطلسي منذ نهاية الحرب الباردة. وبذلك، كشفت أيضًا عن بعض التوترات الكامنة بين المواقف البولندية والألمانية تجاه النظام الدولي الناشئ. فقد عكست استجابة الحلفاء الأولية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر شعورًا بتجدد التوحد عبر المحيط الأطلسي: فمثل حكومات الناتو الأخرى، أعلنت وارسو وبرلين تضامنهما مع الولايات المتحدة، ودعم كلاهما اللجوء إلى المادة الخامسة (بند الدفاع)[11] بحزم، في توافق في الآراء بين مختلف الأحزاب على تقديم العون لشريكهم عبر الأطلسي. لكن الأجواء تعكرت عندما بدا أن تردد واشنطن في المضي في تنفيذ عرض الحلفاء يؤكد توجهها الأحادي القائم على الانفراد في اتخاذ القرار دون اعتبار كبير لمصالح أو وجهات نظر حلفائها. إن خبرة خوض “حرب من قِبَل لجنة” في كوسوفو، والطبيعة غير المتكافئة للتهديدات الجديدة ووصول منظري المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض، كانت تعني أن الأمريكيين سيفضلون بشكل متزايد التحالفات الظرفية في السعي لتحقيق مصالحهم العالمية، بدلاً من السعي لاتفاقيات قائمة على العمل في إطار تحالفات متعددة الأطراف من خلال المؤسسات القائمة. وقد أنذر هذا التحول بالصعوبات المتزايدة التي سيواجهها الأوروبيون عند البحث عن استراتيجيات مشتركة للتصدي للتحديات المستقبلية. وآذَنَ شبح الترتيبات غير الرسمية التي أدت إلى تنحية التحالفات طويلة الأمد بمقاربة أغنى بالصفقات لتوفير الأمن عبر الأطلسي، اكتملت بمنافسة أكبر بين الحلفاء الذين يواجهون أجواء متنامية من عدم اليقين، ويتنافسون الآن على علاقات ثنائية خاصة مع القوة العظمى الأمريكية.

   وأوفت البلدان بالتزاماتهما السابقة، وتعهدتا بدعم عملية الحرية الدائمة (OEF)[12] التي تقودها الولايات المتحدة عندما طلب الرئيس بوش المساعدة في أكتوبر 2001. وبالنظر إلى تفعيل المادة الخامسة، فلم يكن ثمة مهرب من أن تركز النقاشات الداخلية في كلا البلدين على مبدأ تضامن الحلف المتفق عليه على نطاق واسع. لكن الطريقة التي تم بها تأطير نقاشاتهم أظهرت انقسامًا آخذًا في الاتساع بين تفسيرات النخب السياسية البولندية والألمانية لمصالحها الخاصة في الحفاظ على الحلف عبر الأطلسي. ففي بولندا، تم إضفاء الشرعية على نشر 300 جندي من القوات الخاصة وسفينة إمداد بالإحالة إلى التاريخ المأساوي للبلاد والحاجة إلى الاستثمار في مبدأ تبادلية المعاملة بالمثل من أجل تحقيق الأمن في المستقبل. وفي حديثه إلى مجلس النواب في 29 نوفمبر 2001، جادل رئيس الوزراء البولندي بأن “البولنديين يرفضون فلسفة “عدم الموت من أجل غدانسك”، لأننا عانينا من مرارة مثل هذا السلوك من قبل الآخرين. وقد لا تعتبر بولندا حاليًا هدفًا لهجوم إرهابي، لكن لا يمكننا استبعاد هذا الاحتمال في المستقبل. إن عدم القدرة على درء جميع التهديدات، يوجب علينا الارتباط بشكل وثيق بحلفائنا، والاعتماد على مساعدتهم في حالة وجود تهديد مباشر لبلدنا”.[xxix] وعلى الرغم من أن مساهمة بولندا في العملية كانت رمزية إلى حد كبير، إلا أن جميع القوى السياسية الممثلة في مجلس النواب اصطفت خلف الحكومة.[xxx]

   وقد واجهت الحكومة الألمانية عقبة داخلية أكبر بكثير للبرهنة على “تضامنها غير المحدود” مع الولايات المتحدة، واضطر المستشار شرودر إلى اللجوء إلى طرح الاقتراع على الثقة مع الاقتراع في 16 نوفمبر 2001 على تفويض لنشر 100 جندي من القوات الخاصة في أفغانستان.[xxxi] وجادل بأن استخدام الاقتراع على الثقة كان منطقيًّا نظرًا للأهمية البالغة لأول انتشار على الإطلاق للجيش الاتحادي الألماني خارج أوروبا، وبرر قرار الحكومة باعتباره امتنانًا من البلاد لحليفها الأمريكي: “لقد خبرنا التضامن لعقود. وهذا هو السبب في أن التضامن المتبادل هو التزام من جهتنا، من أجل الاحتفاظ باحترامنا لأنفسنا”.[xxxii] على أن السمة اللافتة في النقاشات الألمانية كانت هي غلبة خط أساسي يؤكد على مسئولية البلاد عن الأمن الأوروبي كقوة صاعدة. وفي حديثه إلى البوندستاغ في 11 أكتوبر، قال المستشار: “إن ألمانيا الموحدة وذات السيادة الكاملة تواجهها مهمةُ تحملِ المسئولية المتزايدة في السياق الدولي – وهي مسئولية تتناسب مع دورنا كشريك أوروبي وأطلسي مهم، وهي أيضًا تتوافق مع ديمقراطيتنا واقتصادنا القويين في قلب أوروبا”.[xxxiii]

   وعلى الرغم من إظهار وحدة الصف، لم يكن هناك من ينكر أن استجابة واشنطن انفرادية التوجه وتخطي الناتو في شن “الحرب على الإرهاب” كان بمثابة ضربة للنظام المؤسسي الذي كان ينظم العلاقات عبر ضفتي الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية. لقد وضعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها بلا شك عقبة على طريق ألمانيا نحو “التطبيع”، الذي يُفهم على أنه عملية اضطلاع بمسئولية أكبر وزيادة مساهمتها في أمن الحلفاء. وعلى الرغم من أن حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي – الخضر عززت وضعها، إلا أن الاقتراع على الثقة أبرز الصعوبات التي قد تواجهها برلين في مواءمة مصداقيتها القائمة على تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف مع النزعة الأحادية الأمريكية المتنامية. وقد أثار اللجوء بصورة أكثر تواترًا إلى استخدام القوة العسكرية والنأي المتوقع عن اتخاذ القرار داخل منتدى مؤسسيّ أصيل بالضرورة السؤالَ عما إذا كانت الحاجة إلى إظهار التضامن ستستمر في تنحية التحفظ النابع من حس ذاتي في السياسة الخارجية لألمانيا في المستقبل، كما حدث في حالة كوسوفو، ثم بتصميم أقل مجددًا في الاستجابة للحادي عشر من سبتمبر.

   كذلك فقد اتسعت الفجوة بين تطلعات بولندا وشكل الناتو الذي استجد. ومن منظور وارسو، فإن أكثر النتائج غير المرغوب فيها لأحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت تراجع اهتمام واشنطن بأوروبا والذي من شأنه أن يحد بالضرورة من فرص مشاركتها العسكرية بالغة الأهمية في الجناح الشرقي للحلف. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام البولندية وكبار السياسيين اتفقوا على أن الإرهاب يجب أن يؤخذ على محمل الجد، فقد كان من الواضح أن الطريقة التي كانت تعرِّف بها الولايات المتحدة في هذه اللحظة “التهديد” لا تتوافق مع مخاوف بولندا التقليدية بشأن حماية استقلالها وحماية مصالحها من مخاطر عدم الاستقرار عبر حدودها الشرقية. وفي مواجهة محاولات إدارة بوش توصيف الإرهاب بمصطلحات مماثلة للفاشية أو البلشفية، ظلت الطبقة السياسية البولندية تساورها الشكوك. وتحدث وزير الخارجية شيموشيفتش في مجلس النواب بشأن الحادي عشر من سبتمبر على أنه “هجوم واع ومخطط على الحضارة الديمقراطية الغربية”، لكنه تحفَّظ على وجهة النظر هذه برفض التعامل مع “صراع الحضارات” على أنه “التحدي الرئيس الجديد” للحلف. وبدلاً من ذلك، أصر على أن “الناتو يجب أن يحتفظ بمهامه الأساسية وواجباته المتعلقة بضمان الدفاع والأمن لأعضائه”.[xxxiv]

   وقد أدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيضًا إلى تواطؤ متزايد بين الحلف وروسيا، التي جعلها موقعها الجيوسياسي وتأثيرها على الحلفاء المحتملين في “الحرب على الإرهاب” شريكًا لا غنى عنه في حفظ الأمن والنظام في العديد من المناطق المضطربة عبر أوراسيا. وبالنسبة لمراقبيها البولنديين، أدى ذوبان الجليد في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا الذي أعقب ذلك إلى زيادة “عالمية” الناتو. وعندما اقترح الأمين العام روبرتسون ترقية الحوار مع موسكو إلى “مستوى أعلى نوعيًّا”، سارع رئيس الوزراء ليشيك ميلر إلى تذكير الحلفاء بأن العملية لا يمكن أن تؤدي إلى منح الأخيرة حق النقض ضد قرارات الحلف، أو عرقلة انضمام دول البلطيق، أو تهميش أوكرانيا.[xxxv] وعلى الرغم من أن بولندا وافقت في نهاية المطاف على إنشاء مجلس الناتو – روسيا في قمة مجلس شمال الأطلسي (NAC) التي انعقدت في ريكيافيك (عاصمة آيسلندا) في مايو 2002، فقد أصر السياسيون البولنديون من جميع الأطياف على أن التعاون في التصدي للتهديدات الجديدة يجب ألا يتعارض مع المهمة الأساسية للحلف.[xxxvi]

تجربة اقتراب (الحلف) من الموت إلا أنه لم ينته بعد:

الناتو والحرب الأوسع على الإرهاب[xxxvii]

كانت التوترات التي أطلقها التحول أحادي النزعة – القائم على الانفراد في اتخاذ القرار دون اعتبار كبير لمصالح أو وجهات نظر حلفائها – للولايات المتحدة من عقالها، والأضرار التي ألحقتها بتماسك حلف الناتو واضحة للعيان في قمة براغ في نوفمبر 2002، حيث سعت واشنطن إلى إطالة قائمة مهام الحلف لجعل مكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل (WMD) جزءًا من جدول أعمالها الأساسي. وخوفًا من تحول حلف الناتو إلى أداة للتدخل الأمريكي في شئون الدول الأخرى، رفض معظم الحلفاء فكرة تضمين البيان الختامي للقمة أي إشارة إلى إجراءات استباقية، ولكن كان من الواضح أن المنظمة ستواجه خطر الاندثار إذا لم تلتزم بالتصدي للتهديدات الجديدة.[xxxviii] ومن جانبها، بدلاً من القيام بالدفع غير العملي باتجاه إجراء إصلاح أكثر شمولاً لاستراتيجية الحلف، اتخذت واشنطن خطوة عملية لإنشاء قوة التدخل السريع التابعة للناتو (NRF) التي يمكن نشرها حول العالم في غضون فترة زمنية وجيزة – وهي خطوة أكدت على ما يبدو ما ذهب إليه وزير الدفاع شتروك[13] من أن “السؤال قديم العهد حول ما إذا كان مجال اختصاص الناتو مقصورًا على أراضي أعضائه قد تمت الإجابة عليه في الحادي عشر من سبتمبر 2001”.[xxxix] وعلى الرغم من أن قوة التدخل السريع التابعة للناتو (NRF) كانت للوهلة الأولى تهدف إلى معالجة مشكلة الإمكانات، نظرًا للسياق الذي تم إطلاقها فيه ، بدا دورها كعنصر في نظام جديد تدعمه واشنطن لا لبس فيه.[xl]

   وقد وصلت العلاقات بين ضفتي الأطلسي إلى أدنى مستوياتها بعد الحرب الباردة بين أواخر العام 2002 وأوائل العام 2003، عندما قررت إدارة بوش توسيع نطاق الحرب على الإرهاب إلى الشرق الأوسط، بهدف إسقاط نظام صدام حسين في العراق. وحسب ما يبدو فإن ثمن الضمانات الأمنية الأمريكية قد بلغ ذروته. لقد جرت دراسة الأزمة التي أثارتها حرب العراق داخل الحلف بشكل شامل في الأدبيات، ولكن من المهم استحضارها هنا في سياق الخلاف المتزايد بين الحلفاء حول مسألة دور الناتو ومهمته المستقبلية، فضلاً عن “طبيعة” العلاقات بين ضفتي الأطلسي بشكل أكثر عمومًا.[xli] وقد انضمت وارسو وبرلين إلى التحالفات المتنافسة التي سرعان ما تحولت إلى أكبر اختبار لمرونة الجماعة الأوروبية الأطلسية منذ نهاية الثنائية القطبية.

   وقد قبلت بولندا حجج واشنطن لشن الحرب منذ بداية الأزمة. وعلى الرغم من الشعارات الجوفاء عن عملية السعي للحصول على قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتفويض بالغزو، فإن بيان وزير الخارجية شيموشيفتش أمام مجلس النواب في يناير 2003 أوضح أن دعم الحكومة كان غير مشروط. وبحلول نهاية الشهر، وضع رئيس الوزراء ليشيك ميلر توقيعه على “رسالة الثمانية”[14] سيئة السمعة التي عبرت عن تضامنها مع خطة الولايات المتحدة لتغيير النظام في بغداد. وفي نهاية المطاف، أرسلت وارسو وحدة من القوات الخاصة الغروم (GROM) كجزء من تحالف أوسع، وقبلت لاحقًا اقتراح واشنطن بتولي مسئولية قوة استقرار متعددة الجنسيات في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد. وكما هو الحال في حالات التدخل في كوسوفو وأفغانستان، تم تبرير مشاركة بولندا في الحرب داخليًّا بالإشارة إلى مقتضيات التضامن، مع التركيز على مبدأ تبادلية المعاملة بالمثل، و “دروس غدانسك” والاحتياجات الأمنية الفريدة والدائمة للبلاد. وقد أصبح الاستخدام الأداتي للصدمات التاريخية التي مرت بها بولندا واضحًا في الطريقة التي تم بها إضفاء الشرعية على التدخل في النقاشات البولندية: فبدلاً من التركيز على المخاطر التي يفترض أن صدام حسين يمثلها للمجتمع الدولي، شدد السياسيون ووسائل الإعلام البولندية على الطبيعة الاستبدادية للنظام وسجله المروع في مجال حقوق الإنسان، وهكذا استجدَوْا ذاكرة البولنديين في نضالهم من أجل الحرية.

   إن اتساع نطاق الحرب على الإرهاب وفكرة الضربة “الاستباقية” قد وضعت برلين في موقف لا تحسد عليه. وردت حكومة شرودر في البداية على خطط واشنطن بمحاولة لزيادة نفوذ الأمم المتحدة وإعطاء المفتشين على الأسلحة مزيدًا من الوقت. وقبل الانتخابات الفيدرالية لعام 2002، رفض المستشار الألماني التدخل ووصفه بأنه “نوع من المغامرة” وصاغ شعار السياسة الخارجية : “الطريقة الألمانية” للتأكيد على استمرارية النفور الشعبي الذي يعزى إلى مبررات تاريخية من استخدام القوة، وكذلك أيضًا للإشارة إلى أن قرارات السياسة الخارجية لبرلين ستكون رهنًا لاعتبارات داخلية وليست خارجية. وبعد أن نجح في صرف انتباه الرأي العام بعيدًا عن الاقتصاد المتعثر للبلاد، فاز المستشار بفارق ضئيل بولاية ثانية بالاستناد إلى الخطاب المناهض للحرب ووعد بإبقاء ألمانيا بعيدًا عن الحرب حتى مع صدور قرار ثان من الأمم المتحدة.

   وقد أدى تبني مثل هذا الموقف الصارم إلى الحد من خيارات السياسة الخارجية لألمانيا في وقت أزمة غير مسبوقة. وتحدث المعلقون عن العلاقات “المسمومة” مع واشنطن وتقلص النفوذ على الحكومات الأوروبية الأخرى التي كانت تواجه الآن بالضرورة خيارًا قاسيًا: بالوقوف إما إلى جانب الولايات المتحدة أو إلى جانب “محور الرافضين” الذي، بصرف النظر عن الترادف الفرنسي – الألماني، ضم روسيا وعددًا من اللاعبين الأصغر حجمًا. وعلى هذه الخلفية، تزامن الاحتفال المُبهرَج بالوفاق الفرنسي – الألماني خلال الذكرى الأربعين لتوقيع معاهدة الإليزيه[15] مع مؤتمر حكومات الاتحاد الأوروبي (IGC) لصياغة الدستور الذي ركز، من بين أمور أخرى، على إصلاح نظام التصويت داخل الاتحاد الأوروبي. وقد ازدادت المواقف تشددًا مع اشتداد الصراع حول السلطة الرمزية لتقرير “من يتحدث باسم أوروبا”. ومن جانبه، سهل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الاختيار على حكومات الدول المرشحة في الشرق عندما وجه إليها توبيخًا علنيًّا “لتفويتها فرصة التزام الصمت”.[xlii]

   وقد أصبح النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف والمؤسسات الأوروبية – الأطلسية أكبر الضحايا البديهيين لهذا الصدع. وتصدت برلين لمحاولة واشنطن تضييق الخناق على معارضيها من خلال منع تصويت الناتو على المساعدات المتقدمة لتركيا، مما دق ناقوس الخطر في وارسو حيث تصاعدت المخاوف بشأن صمود ضمانات الحلف الدفاعية بصورة سريعة. وطمأنت الحكومة الألمانية أنقرة بأنها ستفي بالتزاماتها في حالة وجود خطر وشيك، وجادلت بأن الناتو لا ينبغي أن يقع أسيرًا “لمنطق الحرب” قبل اتخاذ أي قرار بشأن قرار ثان لمجلس الأمن الدولي. إن عدم القدرة على إيجاد أرضية مشتركة في مواجهة الخلافات التي بدت مستعصية على الحل بين ما أشار إليه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد على أنه أوروبا “الجديدة” و “القديمة” – في أفضل ما في تقليد فرِّق تسد – جعل السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CFSP) وآلياتها التشاورية الجديدة موضع سخرية.

   لقد أدت الأزمة إلى تقليص نفوذ برلين بشكل واضح داخل المؤسسات الأوروبية – الأطلسية. وتعهدت ألمانيا بلعب دور حليف مسئول. وصرَّح وزير الدفاع شتروك بأن “الأمن الألماني هو الذي يتم الدفاع عنه في جبال الهندوكوش”.[xliii] وجنبًا إلى جنب مع هولندا، تولت البلاد قيادة قوة الأمن الدولية في أفغانستان (إيساف/ ISAF)، وفي أبريل 2003 اقترحت وضع المهمة تحت رعاية الناتو. وأكدت المبادئ التوجيهية للسياسة الدفاعية (VPR)[16] التي تم تبنيها في مايو على أنه “في مطالع القرن الحادي والعشرين، يظل الناتو هو الضامن للاستقرار والأمن في أوروبا، وتحالفًا دفاعيًّا جماعيًّا، ومنتدى للتشاور عبر ضفتي الأطلسي”.[xliv] ووصفه شتروك بأنه جزء من “المصلحة الوطنية” الألمانية[xlv] واحتفظ غالبية الألمان بنظرة إيجابية للحلف باعتباره حارسًا للأمن الخارجي لبلادهم.[xlvi] لكن النظام الجديد الذي اتبعت فيه الولايات المتحدة ترتيبات أمنية خارج نطاق المنظمة سرعان ما دفع المستشار الألماني إلى استنتاج أن “الناتو لم يعد يحتل مركز الصدارة فيما يخص تشاور الشركاء عبر الأطلسي وتنسيق الرؤى الاستراتيجية فيما بينهم”.[xlvii] وقد اقترح شرودر إنشاء مجموعة رفيعة المستوى مكلفة بوضع استراتيجية جديدة للمنظمة، لكن اقتراحه لم يلق آذانًا صاغية. وفي سعي حثيث من أجل تفعيل حجر الزاوية الرئيس لمبدأ الارتباط بالعالم الغربي والاندماج فيه الذي اتبعته منذ العام 1949 – وهو مقاربة متوازنة للعلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا – استجابت برلين للمحن المتكاثرة عبر الأطلسي من خلال الضغط من أجل سياسة أمنية ودفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي (CSDP) أكثر طموحًا في الاتفاقية حول مستقبل أوروبا[17] ومؤتمرات حكومات الاتحاد الأوروبي (IGCs) اللاحقة.

   وعلى النقيض من ذلك، نأت بولندا بنفسها عن الأزمة وكانت أكثر استعدادًا لتعديل أولوياتها ومواكبة التطورات التي ضمنت استمرار ارتباط الناتو بواشنطن. وعلى عكس الحكومة الألمانية، التي تناقضَ موقفها المتشكك تجاه قوة التدخل السريع التابعة للناتو (NRF) بشكل حاد مع الحماسة التي شاركت بها في تبني أجندة أكثر طموحًا للسياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CSDP)، دعمت وارسو القوة الجديدة دون تحفظ ورحبت بما بشرت به من إحياء للحلف من خلال منحه وعيًا جديدًا برسالته.[xlviii] وقد استلهمت استراتيجية الأمن القومي للبلاد لعام 2003 قرارات قمة براغ[18]: ففي حين أن تهديد الإرهاب لم يظهر في الوثيقة السابقة التي تمت صياغتها في العام 2000، فقد تم إدراجه الآن بشكل بارز باعتباره “التهديد الرئيس الجديد” لأمن بولندا. على أن الأمر الأكثر بروزًا كان هو التشديد الواضح على علاقة ثنائية قوية مع واشنطن: “إن حلف الناتو وتعاوننا السياسي – العسكري الثنائي مع الولايات المتحدة الأمريكية […] يشكلان أهم ضمان للأمن الخارجي والتطور المستقر لبلادنا “.[xlix]

هل هو تحالف أوسع نطاقًا؟

بصرف النظر عن وجهات نظرهما المتباينة حول مستقبل النظام عبر الأطلسي، فمنذ انضمام بولندا إلى معاهدة واشنطن، اتخذت الدولتان بشكل دائم مواقف شديدة التمايز بشأن مسألة تزايد عدد الأعضاء في الناتو. وبالفعل فقد تبين أثناء النقاشات حول المفهوم الاستراتيجي الجديد في العام 1999، أن وارسو ستدافع عن سياسة “الباب المفتوح”، وتتعامل مع ضمها على أنه مجرد نقطة انطلاق لعملية ستشمل في السنوات القادمة العديد من جيرانها. وأوضحت ورقة أعدها الرئيس كفاشنيفسكي، نُشرت بعد وقت قصير من انضمام بولندا إلى حلف الناتو، أن النخب البولندية تنظر إلى المزيد من التوسعات ليس كمسألة “ما إذا كانت ممكنة أم لا”، ولكن بالأحرى “متى ومَن”.[l] وفي وقت لاحق، دعمت الحكومة البولندية بشكل فعّال طلبات دول البلطيق وسلوفاكيا للحصول على العضوية، وفي خطوة كانت انعكاسًا لدعم ألمانيا لطلب وارسو في أوائل التسعينيات، قدمت نفسها على أنها مدافعةٌ – حريصةٌ بشكل خاص – عن مستقبل ليتوانيا الأطلسي.

   وبعد انضمام الأعضاء الجدد في العام 1999، لم تر برلين حاجة ملحة للترويج لجولة أخرى من التوسع في المدى القريب، وبدلاً من ذلك فسرت سياسة الباب المفتوح التي تم التوافق عليها في مؤتمر القمة الذى عقد في الذكرى السنوية الخمسين لتأسيس الحلف على أنها التزام خطابي فضفاض لن يتحقق قبل استيفاء المرشحين لجميع المتطلبات. وفي الواقع، فقد أظهرت النخبة السياسية الألمانية قلقًا متزايدًا من دفع واشنطن القوي بشكل متزايد باتجاه التوسع السريع لحلف الناتو، والذي فهم كُثُر في برلين أنه يهدف بشكل أساسي إلى كسب الولاء السياسي بين الوافدين المحتملين من الشرق. وعلاوة على ذلك، حثت حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي – الخضر على توخي الحذر في تجاوز ما يسمى “الخط الأحمر” من خلال الترحيب بالأعضاء الجدد الذين كانوا جزءًا من الجمهوريات السوفيتية السابقة. لقد كانت على استعداد لعرض (الاشتراك في) خطط العمل المتعلقة بمنح العضوية (MAPs)[19] لدول غرب البلقان، ولكن مثلها في ذلك مثل حكومة كول من قبل، فقد شجعت شعوب دول البلطيق (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا) على اعتبار عضويتها القادمة في الاتحاد الأوروبي بمثابة حماية أكثر ملاءمة، وحاولت مرة أخرى توصيف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) كوسيلة أكثر ملاءمة لخدمة الاحتياجات الأمنية للمنطقة.[li] وفي نهاية المطاف، على الرغم من قبول برلين لعضوية دول البلطيق، إلا أنها جعلت المزيد من علاقات التعاون مع موسكو شرطًا مسبقًا واضحًا للتوسع.[lii]

   وبينما انطمرت الفجوة بين خياراتهما بشأن مسألة قبول الأعضاء الجدد تحت عدد لا يحصى من الخلافات الأخرى في براغ،[20] فقد تصادمت بولندا وألمانيا بشكل أكثر وضوحًا قبيل انعقاد قمة بوخارست في أبريل 2008. ومثلها في ذلك مثل الولايات المتحدة، دافعت الأولى عن فتح (الاشتراك في) عمليات خطط العمل المتعلقة بمنح العضوية (MAP) أمام أوكرانيا وجورجيا، بينما عرقلت الأخيرة هذه الخطوة (جنبًا إلى جنب مع فرنسا)، متعللة بعدم وجود دعم داخلي كافٍ للانضمام في أي من البلدين. وقد انتقد الرئيس ليخ كاتشينسكي القيادة الألمانية لـ “ضعف ذاكرتها التاريخية” وفي رسالة إلى حكومات الدول الأعضاء الخمسة والعشرين الآخرين ذكَّر بأنه في العام 1955 اتخذ الحلفاء “قرارًا شجاعًا” بالترحيب بألمانيا الغربية بين صفوفهم، على الرغم من حقيقة أنه “لم يتم الاعتراف بحدودها أمميًّا وأن الوضع في برلين كان يهدد بمواجهة مسلحة على نطاق لا يمكن تخيله”.[liii] وفي بوخارست، أشار الرئيس البولندي صاحب الرؤى الصقورية إلى النظر إلى عضوية أوكرانيا على أنه “القضية المركزية” لأمن بولندا، معتبرًا أن لها الأولوية على النقاشات حول الدفاع الصاروخي، والتي حظيت بتأييد الحلفاء بشكل مثير للجدل في القمة.[liv]

مظلة ليوم ممطر

يقودنا هذا إلى القضية الخلافية والتي لم تحظ بقدر كاف من الدراسة بصورة تدعو للدهشة، وهي عرضُ بولندا استضافةَ أجزاء من الدرع الصاروخي الأمريكي (NMD) على أراضيها. وعلى الرغم من أن سعي وارسو للتوصل إلى اتفاقية ثنائية مع الولايات المتحدة بشأن نشر صواريخ اعتراضية (GBI) في شمال بولندا قد أصبح شوكة في خاصرة العلاقات البولندية – الألمانية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فنظرًا لعلاقة المسألة على نطاق أوسع بمستقبل الناتو، كان من المثير للدهشة أنه لم يتطور إلى جدل أكثر سخونة. وبالنتيجة، من خلال دعم برنامج هدد بفك ارتباط الأمن الأطلسي وبالتالي تقويض مبدأ “عدم التجزئة” (لأمن الحلفاء)، بدت بولندا مستعدة للمخاطرة بإضعاف الحلف كركيزة للاستقرار الأوروبي، والمساعدة في بدء سباق تسلح جديد – على وجه الخصوص في الصواريخ قصيرة المدى – ومن ثم إحياء الاعتماد الأمني للقارة على الولايات المتحدة، وبالتالي المساعدة في إعادة هيمنة واشنطن العابرة للأطلسي بهذا النهج.

   وقد أعربت وارسو عن اهتمامها بالمشاركة في برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي (NMD) دون الكثير من النقاشات الداخلية في منتصف العام 2001، بعد وقت قصير من كشف إدارة بوش عن خططها ودعوة الحلفاء للتعاون في تطويره. وعلى الفور، أعلن رئيس الأركان البولندي، الجنرال تشيزلاف بياتاس، بشكل عشوائي عن استعداد البلاد لاستضافة أجزاء من النظام. وكرر وزير الدفاع برونيسواف كوموروفسكي هذه الدعوة في مايو 2001، مجادلاً – دون مسحة من التهكم، على الرغم من إمكانية تقويض المشروع للناتو – أنه نظرًا لأن بولندا لم تستضف أي منشآت عسكرية أو مقرات قيادة للحلف، فإن مشاركتها في البرنامج لن تؤدي فقط إلى توطيد الأمن من خلال ربطه بشكل أوثق بالولايات المتحدة، ولكنها تسهم أيضًا في تعزيز دفاعات الحلفاء بشكل عام.[lv]

   ولم تتمتع المشاركة في الدرع الصاروخي الأمريكي (NMD) مطلقًا بدعم داخلي قوي بشكل خاص في بولندا، وحتى العام 2005 عندما ضغط حزب القانون والعدالة بزعامة التوأم كاتشينسكي لمناقشة هذه المسألة، وقد تجنبت الحكومة النقاشات العامة حول هذه المسألة من أجل إتاحة أكبر مجال ممكن للتفاوض و لتجنب التوترات غير الضرورية مع حلفاء البلاد في الناتو وروسيا. ويمكن تصنيف مؤيدي مشاركة بولندا ضمن معسكرين. فقد كان هناك صقور، مثل حكومة حزب القانون والعدالة في السلطة، نظروا إلى تنصيب الصواريخ الأمريكية المقترح باعتباره رادعًا محتملاً وفرصة لتقليل مخاطر “التخلي عنها” من قبل الحليف الاستراتيجي الرئيس لبولندا. على أن الفصائل الأكثر اعتدالًا أشارت إلى مصلحة أمريكية قوية خاصة في الموقع البولندي ورأت أن الدرع يمثل تبعة محتملة من شأنها أن تزيد بشكل كبير من خطر “الوقوع في فخ”. وقد أكدت كلتا المدرستين على فوائد التعاون العسكري الصناعي الوثيق للاقتصاد البولندي وقطاع التسلح، وشددت على “المردود” من حيث العلاقات الأعمق مع الولايات المتحدة ورحبت على وجه الخصوص بآفاق التعاون الاستخباراتي الجديد الذي من شأنه أن يزيد من أهمية بولندا كحليف في الناتو.[lvi] لكن منطق حججهم كان متباينًا تمامًا. ونتيجة لذلك أنه حتى بعد قمة الناتو التي عقدت في مدينة ريغا (عاصمة لاتفيا) في نوفمبر 2006، حيث وافق الحلفاء على تطوير برنامج الدفاع النشط الميداني متعدد الطبقات ضد الصواريخ البالستية (ALTBMD)، واصلت المجموعة الأولى التعامل مع الدرع باعتباره قضية ثنائية، في حين تبنته الأخيرة كفرصة لبولندا لتقود مشروعًا للناتو.[lvii]

   وكان التوتر بين المدرستين واضحًا عندما طالب وزير الدفاع راديك شيكورسكي، خلال زيارة قصيرة للولايات المتحدة في سبتمبر 2006، بمزيد من التنازلات من واشنطن – وهي خطوة أفضت إلى صراع مع الرئيس البولندي ليخ ورئيس الوزراء ياروسلاف كاتشينسكي، وقادت إلى استقالة شيكورسكي المفاجئة في فبراير 2007. ولكن عندما افتتحت حكومة تاسك الجديدة في أوائل العام 2008 جولة من المفاوضات، استغلت بصورة متغطرسة مزايا بولندا – الموقع المواتي وضغط الوقت الذي كانت إدارة بوش تعمل تحت وطأته لاستكمال المحادثات قبل انتخابات نوفمبر – وأصرت على أن تلتزم واشنطن بتحديث القوات المسلحة البولندية وتطوير دفاعاتها الجوية.[lviii] وقد رفضت وارسو العرض الأمريكي المتواضع في أوائل شهر يوليو، فقط ليتم تقديمه مع اقتراح مطور – بما في ذلك وعد باتفاقية تعاون عسكري منفصلة وبطارية من صواريخ باتريوت يتم نقلها إلى بولندا دوريًّا بالتناوب مع قاعدتها في ألمانيا – بُعَيْدَ التوغل الروسي في جورجيا في أوائل أغسطس.[lix]

   وعلى الرغم من أنها أكثر سلبية بشكل عام، إلا أن المواقف الألمانية تجاه الدرع الصاروخي الأمريكي (NMD) كانت متفاوتة في البداية. فقد رفض الساسة في جناح اليسار الخطة الأمريكية ووصفوها بأنها باهظة التكاليف وحذروا من سباق تسلح قد يثير استعداء روسيا و “يفك ارتباط” الأمن الأوروبي – الأطلسي. وكانت معارضة يمين الوسط أكثر انفتاحًا على آفاق التعاون العسكري – الصناعي بين ضفتي الأطلسي، لكنها كافحت لإيجاد صيغة مشتركة تمامًا.[lx] وإدراكًا منهم للفوائد الاقتصادية المحتملة لمشروع لا تقل قيمته عن 10 مليارات دولار سنويًّا، لم يكن الديمقراطيون المسيحيون مستعدين لرفضه جملة وتفصيلاً. وقد أصبح الاتحاد الديمقراطي المسيحي أكثر انتقادًا للبرنامج فقط عندما تعهدت واشنطن بالسعي إلى تنفيذه على مستوى ثنائي مع حلفائها المقربين.[lxi] وبحلول مارس 2007، أشار وزير الدفاع فرانز جوزيف يونغ إلى أن برلين تفضل رؤية درع الدفاع النشط الميداني متعدد الطبقات ضد الصواريخ البالستية (ALTBMD) وقد توسع ليشمل جميع الأعضاء في الناتو.[lxii] وقد استمرت حالة عدم اليقين خلال اجتماع أبريل لمجلس الناتو- روسيا (NRC)، ومع ذلك ، فإن تهديد موسكو بالتخلي عن معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا (CFE)[21] قد دفع الحكومة الألمانية إلى المناشدة “بإيلاء مزيد من الاهتمام لعدم قابلية أمن الحلفاء للتجزؤ” عندما تم إدراج عضوين فقط في اقتراح واشنطن. وفي تقديم للمسوغات من أجل تحقيق مشاركة أوسع نطاقًا، حذر المتحدث باسم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لشئون السياسة الخارجية، إيكارت فون كلايدن، من أن الدرع في شكله الحالي سوف يخدم مصلحة روسيا في فصل أوروبا عن أمريكا. وحذر وزير الخارجية شتاينماير من أن حدوث مزيد من الانقسام داخل أوروبا وفي الناتو ستكون كلفته فادحة للغاية مقابل ما هو في نهاية المطاف ليس أكثر من مجرد مقامرة تكنولوجية.[lxiii]

   وقد كشفت مجادلات الساسة الألمان، التي انقلبت رأسًا على عقب، عن مقاربة انتقائية لمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة. وأصبح هذا واضحًا تمامًا عندما اقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يونيو 2007 أن تبني الولايات المتحدة وروسيا درعًا مشتركًا، وتموضع مكوناته ليس في بولندا أو جمهورية التشيك، بل في أذربيجان وتركيا.[lxiv] وقد أشادت الحكومة الألمانية بالعرض باعتباره “إشارة إيجابية وبناءة للحوار وتخفيف التوترات”،[lxv] وأعرب وزير الخارجية شتاينماير عن سعادته بأن “رغبته التي أعلنها قبل أشهر في أن يتم اتخاذ القرار بالإجماع، بدأت تؤتي ثمارها”.[lxvi] وخلص نائب رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد الديمقراطي المسيحي / الاتحاد الاجتماعي المسيحي في البوندستاغ أندرياس شوكنهوف إلى أن الخلافات لم تعد سياسية، بل “تقنية”،[lxvii] واقترح رئيس حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي إدموند شتويبر أن مشروع الناتو – روسيا المشترك من الممكن أن يستند إلى اتفاق على عدم موضعة أي من أجزائه على أراضي الدول الأعضاء سابقًا في حلف وارسو.[lxviii] وقد ساعد اغتباط برلين بمشهد التواطؤ الأمريكي – الروسي في تأكيد شكوك البولنديين في أن النخبة الألمانية لم تكن مستعدة لاتخاذ أي قرار أمني يخلِّف آثارًا على المنطقة دون موافقة موسكو.[lxix]

   وعلى الرغم من أن الحكومة البولندية تعرضت لهزيمة محرجة عندما ألغى الرئيس أوباما المشروع الأصلي في سبتمبر 2009، إلا أن البيت الأبيض أكد لوارسو أنه سيحترم التزام الإدارة السابقة بالمساعدة في تطوير دفاعاتها الجوية، وأشار إلى أن البلاد ستكون في وضع يسمح لها باستضافة أجزاء من برنامج التوجه القائم على التكيف المرحلي التدريجي في أوروبا (EPAA)[22] الذي سيشهد انتشارًا تدريجيًّا، أولاً كجزء من الدرع الوطني للولايات المتحدة، ثم بإدماجه لاحقًا في الناتو.[lxx] وخلافًا للنظام السابق، الذي لم يكن ليغطي أكثر من ثلاثة أرباع أراضي الحلف، فقد وعد المخطط الجديد بأن يشمل جميع الدول الأعضاء في الناتو والحماية من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى لمواءمة قدرات الدول المارقة[23] بشكل أفضل. ويتناقض مشهد الهزيمة ولعق الجراح في وارسو بشكل حاد مع الشعور بالارتياح الذي رحبت به برلين بهذه الأنباء، وهو ما سلط الضوء على اتساع الفجوة بين منظور الحليفين للأمن الأوروبي.[lxxi]

شبح هارمل[24] يعود من جديد: رؤية الناتو “المزدوجة” لعام 2020

استمر الخلاف حول المسائل الأمنية عبر ضفتي الأطلسي في العصف بالعلاقات البولندية – الألمانية حتى نهاية العقد (وما بعده)، حتى في ظل ظروف سياسية داخلية أكثر مواتاة. وقد ترك رحيل جورج دبليو بوش البيت الأبيض ووصول إدارة أوباما، التي تعهدت بتحسين العلاقات مع روسيا كمسألة ذات أولوية، ترك الحلفاء في شرق أوروبا الوسطى قلقين مما أصبح سريعًا بيئة دولية في غير صالح المنطقة.[lxxii] وتفاقمت المخاوف بشأن مستقبل الناتو بعد أن أصبح إحراز نصر في أفغانستان أمرًا مستبعدًا على نحو متزايد، وهي المهمة التي أشارت إليها المستشارة ميركل بأنها “أكبر اختبار على الإطلاق” للحلف.[lxxiii] نظرًا لأنها أرسلت قواتها في جزء أكثر خطورة من الدولة التي مزقتها الحرب، طالبت وارسو باعتراف أكبر بمساهمتها، خاصة في ضوء حقيقة أن الدول الأعضاء الأوروبيين “القدامى” مثل ألمانيا وفرنسا ظلوا مترددين في نقل جنودهم خارج الهدوء النسبي في شمال أفغانستان.

وفي ظل هذه الخلفية، اجتمع الحلفاء مجددًا خلال العام 2010 لمناقشة المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو مرة أخرى. ومثلها في ذلك مثل شركائها الإقليميين والأعضاء المهمشين الآخرين مثل النرويج وآيسلندا، واصلت بولندا مطالبة الحلف بإيلاء المزيد من الاهتمام للمخاوف الأمنية المتزايدة للجناح الشرقي. وفي غضون ذلك، أيدت القوى القارية القديمة تركيز إدارة أوباما على نزع السلاح وإعادة ترتيب العلاقات مع روسيا. وعلى الرغم من أن التوصيات التي صاغتها لجنة من الخبراء من الدول الأعضاء في الناتو أكدت في النهاية أن الاختيار بين الأمن وتحسين العلاقات مع روسيا “معضلة زائفة”، وأن “الناتو يجب أن يكون لديه استراتيجية مزدوجة تحقق كليهما”،[lxxiv] فلا سبيل لإنكار أن وارسو وبرلين قد وقفتا في معسكرين متعارضين عندما توصل الحلفاء أخيرًا إلى حل توفيقي بشأن نص المفهوم الاستراتيجي والذي اعتمدته قمة الناتو في لشبونة في نوفمبر 2010.[lxxv]

   وقد استمر أيضًا التباين في وجهات النظر بين القِرْنيْن حول تكوين الناتو المستقبلي. وأومأت وزارة الدفاع البولندية إلى أنها ستستمر في الضغط من أجل حفز سياسة “الباب المفتوح”، على الرغم من أن مرشحها المفضل، أوكرانيا، قد تخلى عن السعي للحصول على العضوية بعد انتخاب فيكتور يانوكوفيتش رئيسًا في أوائل العام 2010. فيما أبدت ألمانيا باستمرار القليل من الحماس للتوسع، ولكن في مارس من ذلك العام نشر عدد من كبار الشخصيات في المؤسسة الدفاعية والعسكرية الألمانية رسالة مفتوحة تحث الحلفاء على تمديد عرض العضوية على روسيا. وجادلوا بأن مساعدة موسكو لا غنى عنها إذا أراد الناتو أن يتصدى بنجاح للتهديدات المعقدة المتزايدة التي ظهرت منذ نهاية الحرب الباردة، والتي من المرجح أن تستمر في التزايد مع صيرورة النظام الدولي إلى التعددية القطبية. وقد رفض المسئولون البولنديون، بدورهم، الدخول في نقاشات حول انضمام روسيا إلى الحلف في المستقبل المنظور من حيث كونها “أكاديمية”،[lxxvi] على الرغم من أن وزير خارجية بولندا المتشدد راديك شيكورسكي، هو من كان قد قدم أثناء ترشحه في أبريل 2009 لمنصب الأمين العام لحلف الناتو، اقتراحًا لافتًا للنظر بأن يرحب الحلفاء بروسيا بين صفوفهم.[lxxvii]

   وكانت الخلافات الجوهرية واضحة أيضًا في اختيارات البلدين فيما يتعلق بالمسألة البارزة بشكل متزايد بشأن الوضع المستقبلي للترسانة النووية الأمريكية في أوروبا. وبعد وصولها إلى السلطة في أواخر العام 2009، دعت الحكومةُ الائتلافية التي تضم الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشقيقه حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري إضافة إلى الحزب الديمقراطي الحر، واشنطن إلى إزالة ما يقدر بنحو 200 رأس نووي توجد في أراضي الدول الأعضاء “القدامى” في الناتو. وعلى النقيض من ذلك، واصلت وارسو النظر إلى هذه الأنظمة على أنها عنصر مهم في التزام أمريكا تجاه أوروبا وكورقة مساومة محتملة في المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن خفض مخزوناتها من الأسلحة النووية التكتيكية. وبدلاً من الانخراط في نقاشات حول نزع السلاح، حثت الحكومة البولندية مرة أخرى على إعادة توزيع أكثر إنصافًا لمقدرات الحلف والمنشآت العسكرية الأمريكية عبر القارة.

   وخلاصة القول، أنه على الرغم من كونهما حليفين لأكثر من عقد من الزمان، فقد استمرت بولندا وألمانيا في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في الاختلاف حول الطريقة التي حددتا بها أولوياتهما الاستراتيجية، وتبنتا في كثير من الأحيان أهدافًا وسياسات متناقضة في سياق عضويتهما في الناتو. وعلى الرغم من أن تاريخ الحلف والعلاقات عبر الأطلسي منذ منتصف القرن العشرين مليء بحلقات من الخلافات المريرة أحيانًا بين الحلفاء، إلا أنه من الجدير بالملاحظة والذي يمثّل مفارقة أن دولتين، كان أمنهما في منعطفات مختلفة يعتمد على الضمانات الأمريكية إلى هذا الحد المذهل، وتم تذليل المصالحة بينهما من خلال وجود منظمة الناتو والجماعة الأوروبية – الأطلسية في حد ذاته، سوف تتباين مواقفهما بشكل مستمر حول طائفة عريضة من القضايا السياسية، بغض النظر عن الحكومات التي تتبوأ السلطة في أي من عاصمتيهما. إذن لماذا تناقضت المصالح والاختيارات السياسية لبولندا وألمانيا كحليفين في الناتو بشكل دائم خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟ قبل طرح تفسير، ننتقل أولاً إلى فحص ونقد الأدبيات القائمة، التي يهيمن عليها النموذج الثقافوي.

“الموت من أجل غدانسك” مقابل “لا حرب قط بعد الآن”: هل التاريخ دليل للحاضر؟

في رواية توماس مان المؤثرة “الموت في البندقية”، بطل الرواية، وهو كاتب ألماني بارز اسمه أشينباخ، هو رجل مقتنع بعصمة منطقه الأبولوني الخاص، إلا أنه – مع فشله في سعيه للتودد إلى صبي بولندي صغير، تاديو – قد تملكته رويدًا رويدًا البواعث الخفية لديونيسوس، إله الشغف.[25][26] إن الصراع بين قوى العقلانية والرغبة الذي ترتكز عليه رواية مان يحمل بعض التشابه مع النقاش المعرفي في العلوم الاجتماعية حول الأهمية النسبية للعوامل المادية مقابل العوامل الفكرية في تشكيل الواقع الاجتماعي. وفي كثير من الأدبيات التي تسعى إلى تحديد أصول سلوك السياسة الخارجية لبولندا، يتم التعامل مع النزعة المؤيدة لأميركا بتصميم في البلاد على أنها نتيجة ثانوية لهوية تشكلت عبر مراكمة الخبرة التاريخية وأذكتها تجارب الخذلان والخيانة. ووفقًا لذلك، فإن سمات “الغريزية الأطلسية” المفترضة في بولندا كعنصر أساسي غير عقلاني إلى حد كبير في ثقافتها الاستراتيجية يقال إنها تسترشد بشعور حاد بالضعف والاقتناع بأن حليفها عبر الأطلسي وحده لديه القوة والإرادة للدفاع عنها في مواجهة جميع ضروب الشرور الفعلية والمحتملة: أي باختصار، إعادة صياغة عبارة مارسيل دِيا، لتصبح الموت من أجل غدانسك (دانسك).

   وفي الأدبيات الثقافوية السائدة، لا يتناقض مفهوم “الأطلسية الغريزية” لدى بولندا فحسب مع “النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف ذي الطابع القائم على رد الفعل تجاه الخبرة التاريخية” لدى ألمانيا والوصايا الأكثر توازنًا لمبدأ الالتزام بالموقف الغربي – وهو النهج الرئيس في العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة – ولكنه أيضًا غالبًا ما يتم وضعه في مقابل الثقافة الاستراتيجية المستوحاة من طابع القوة المدنية لبرلين على نطاق أكثر اتساعًا.[lxxviii] وفي هذا السياق، كثيرًا ما تُصوَّر بولندا على أنها ليست فقط واحدة من أكثر الفاعلين تأييدًا لأمريكا في القارة، ولكن أيضًا باعتبارها غير متقبلة ومتشككة في جدوى العمل في إطار المؤسسات القائمة على التحالفات متعددة الأطراف، ومتحمسة – وإن كانت مقيدة ماديًّا – للتعاون الدولي، ولا تتوافق فكريًّا مع تحفظ ألمانيا النابع من حس ذاتي ذي الطابع القائم على رد الفعل تجاه الخبرة التاريخية إلى حد بعيد، وتحفظات ألمانيا العميقة الجذور بشأن استخدام القوة. وغالبًا ما يتم تقديم مبدأ حماية البلاد من الوقوع مرة أخرى ضحية لتواطؤ القوى العظمى الذي يقال إنه يهيمن على التفكير الأمني للنخب البولندية، على أنه “المقابل” لالتزام الطبقة السياسية الألمانية بمجموعة من المعايير يشار إليها عادة بسلامية: “لا حرب قط بعد الآن” والنزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف تحت شعار “لن نكون وحدنا ثانية”.[lxxix]

   وعلى الرغم من استمرار هيمنتهم على حقل الدراسات البولندية والألمانية، إلا أن التحليلات القائمة على افتراضات الثقافويين التي تركز على “الغرائز” و “ردود الأفعال” المتناقضة بشكل مفترض والتي تحكم السياسة الخارجية والأمنية للدولتين ذات طبيعة إشكالية من الوجهة النظرية والمنهجية والمصداقية التجريبية. فبالمقام الأول، لا تقدم الكثير من الأدبيات المهيمنة تصورًا بشكل واضح بما فيه الكفاية عن العلاقة بين الأحداث والخبرات التاريخية والسلوك السياسي للفاعلين. وبعبارة أخرى، فإنه على الرغم من أنه قد يوجد ارتباط، إلا أنه نادرًا ما يتم إثبات السببية. وفي الحالة البولندية، فإنه من غير الواضح لماذا يجب أن يُرَدّ النزوعُ إلى التشكك في جدوى الوحدة الأوروبية المزعومُ في البلاد إلى ذكرى خذلان بريطانيا وفرنسا لبولندا في العام 1939، بدلاً من لامبالاة روزفلت ولعب ترومان على الحبلين مع ستالين أثناء الحرب وبعدها.[27] فهل ساعد خطاب ريغان الأكثر حزمًا وموقفه الأقل مساومة تجاه السوفييت في الذاكرة الأقرب في إعفاء واشنطن من خطاياها الماضية التي ارتكبتها بإهمالها بولندا، في حين أن الانفراج الأناني لأوروبا الغربية في علاقاتها مع موسكو والمواءمات معها خلال حقبة الحرب الباردة هو وحده ما ذر الملح على الجراح التي لم تندمل؟[lxxx] والتاريخ لا تعوزه الأمثلة على خيانة حلفاء لبولندا ليس لهم من التحالف إلا الاسم. لكن استخدامهم بشكل انتقائي قد لا يعزز فهمنا للواقع الاجتماعي المعاصر. وكيف نعرف الأحداث والخبرات التي تشكل ردود أفعال وارسو الراهنة: أي كيف يصنع التاريخ الغريزة؟[lxxxi]

   وغالبًا ما تستمد التفسيرات الثقافوية استنتاجاتها حول الهويات البولندية والألمانية المفترضة المبنية على الخبرة التاريخية وتأثيرها على الاختيارات السياسية من تحليلات الخطاب. وفي حد ذاته، يمكن أن يكون فعل الكلام مصدرًا قيمًا للمعلومات حول العالم الاجتماعي. ومع ذلك، فإن دراسته على نحو غير دقيق وغير منهجي، وكذلك أخذ العينات الانتقائي، يمكن أن تشوه العلاقة بين السبب والمُسَبَّب وهي تشوهها بالفعل. ونظرًا لأن السياق يُوقِف على الدوافع وراء التصريحات، فمن الضروري النظر إلى ما وراء ما يقوله السياسيون لتحديد العوامل التي تحدد ما يفعلونه وتقييمها بدقة. وغالبًا ما يتم استخدام الحجج التاريخية بشكل أداتي: فهي تهدف إلى إضفاء الشرعية بقدر ما تهدف إلى التفسير. وهي، بحكم طبيعتها، موجهة نحو وعي جمهورها. وغالبًا ما يفرغها حجم “الاتساع” الخطابي والمبالغة في تفسير التناظرات التاريخية التي يشيع استخدامها في النقاشات العامة من هدفها الحقيقي. وتتحدى التحيزاتُ المتأصلةُ القوةَ التفسيرية للروايات التي تستند فقط إلى قراءة وثيقة للخطاب السياسي: فقد تؤدي بالباحثين إلى المبالغة في مضمون الخلافات السياسية في الحوار الاستراتيجي بين البلدين، على سبيل المثال، وليس فقط الفشل في تحديد مصدرها حيث توجد، غير أنه يحتمل أيضًا أن تعكس اتجاه العلة السببية.[lxxxii]

   وأخيرًا، لا يدعم السجل التجريبي التأكيد على أن الثقافة الاستراتيجية تمثّل هي وحدها الأساس للخلاف البولندي – الألماني. وبادئ ذي بدء، فإنه من الصعب تصديق أن الشيوعيين البولنديين السابقين الذين أعيد تسويقهم تحت اسم “الديمقراطيين الاجتماعيين” في الجمهورية الثالثة المستقلة[28] والذين كانوا في السلطة خلال المرحلة الحرجة بين عامي 2001 و 2005 يمكن وصفهم بأنهم “أصحاب نزعة أطلسية قائمة على رد الفعل تجاه الخبرة التاريخية السالفة”. وعلاوة على ذلك، فإن الدليل على دعم بولندا “الغريزي” للولايات المتحدة في المفاوضات الدولية الكبرى خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في أحسن الأحوال، غير قاطع. وعلى الرغم من تحذيرات واشنطن بأنها ستعلق التعاون العسكري مع الدول التي انحازت ضد موقفها، إلا أن وارسو تحدت شريكها عبر الأطلسي فيما يخص عملية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. ومثل شركائها في الاتحاد الأوروبي، وقّعت بولندا وصدّقت على بروتوكول كيوتو (الملحق باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ) بغض النظر عن مخاوف أمريكا. وفي العديد من الحالات، لم يتردد البولنديون في إظهار استيائهم من معاملة الولايات المتحدة لحلفائها في أفغانستان، أو تحدي “إعادة ترتيب” إدارة أوباما للعلاقات مع روسيا. فإذا كان نزوع بولندا المؤيد لأمريكا نتاج ردة فعل لخبرتها التاريخية كما يجادل العديد من الثقافويين، أمَا كان يجب أن نتوقع أن تحذو حذو واشنطن في جميع الحالات؟ عوضًا عن ذلك، لا يتحدى التنوعُ في اختيارات وارسو الافتراضَ حول “ردود أفعالها النابعة من خبراتها التاريخية” فحسب، بل يشير أيضًا إلى أن العوامل الفكرية وحدها لا تستطيع تفسير أولوياتها أو قراراتها السياسية بشكل كامل خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

   إن اتهام بولندا بلفظ التوجه إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف والمؤسسات بشكل جوهري هو ذو طبيعة إشكالية بنفس القدر. وباعتبارها فاعل متوسط الحجم ولكن ضعيف نسبيًّا، لا تستطيع بولندا الدفاع عن مصالحها بمفردها. إن التطلع إلى أن تصبح “بريطانيا صغيرة” من خلال علاقة أكثر حميمية مع واشنطن قد ظهر بشكل متقطع على الهامش الفولكلوري للخطاب الأمني البولندي، لكن فكرة “التوجه الخاص بتبني العمل في إطار تحالف ثنائي” لم تَحُل بالكامل أبدًا دون سعي البلاد لتحقيق تكامل أعمق في إطار متعدد الأطراف داخل الحلف الأطلسي. وظل التصور النَّزوِيّ لبولندا على أنها “إسرائيل شرق أوروبا الوسطى” محصورًا في جناح التطرف القومي – المحافظ. إن سجل الدعم الكبير من النخبة والشعب لنيل عضوية كل من الناتو والاتحاد الأوروبي، ومزيد الثقة التي أولاها البولنديون للبيروقراطيات الدولية مقارنة بممثليهم المنتخبين، تشير إلى أنه لا يمكن اعتبارهم متشككين في جدوى العمل في إطار مؤسسي كليةً.[lxxxiii]

   كما أن التصنيف الثقافوي “لردود الفعل” في السياسة الخارجية الألمانية معيب بالمثل. وقد أصبح التحفظ النابع من حس ذاتي كدالة على الهوية قابلاً للاختبار فقط مع نهاية الحرب الباردة، عندما استعادت ألمانيا سيادتها وتخلت عن اعتمادها الوجودي على الضمانات الأمنية الأمريكية. وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية والأمنية للجمهورية الاتحادية في فترة ما بعد الحرب الباردة ربما اتسمت بـ “الاستمرارية” خلال التسعينيات، فقد كان هناك إقرار على نطاق واسع بحدوث تحول دقيق ولكن لا لبس فيه – من قبل كثر في مجتمع الباحثين ومحللي السياسات – بحلول نهاية العقد.[lxxxiv] وفي حقبة ما بعد كوسوفو ثم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، بدأ البنيويون الذين رأوا آنفًا “المزيد من الشيء نفسه” في اكتشاف حالة الشد والجذب المتزايدة بين المبدأ الذي يلزم بالحلول السلمية للنزاعات من ناحية، والمتطلبات الأخرى للتوجه الذي يتبنى العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف.[lxxxv] وفي عصر “المسئولية عن الحماية”[29] و “الحرب على الإرهاب”، تعسكرت السياسة الخارجية لألمانيا بشكل واضح. وتم تكييف المبدأ القائم على نبذ اللجوء إلى العنف: “لا حرب قط بعد الآن” لاستيعاب الأجندة الأكوينية “للحرب العادلة”،[30] وبذلك أصبح “لا أوشفيتز قط بعد الآن”. وبحلول نهاية العقد الثاني بعد الحرب الباردة، بدا تابو استخدام القوة في البلاد بعد الحرب مقبولاً إلى حد كبير. وبحلول العام 2010، حدث ما لم يكن من الممكن تصوره بالأمس، حيث كان الرئيس الاتحادي ووزير الدفاع يدافعان بشكل علني عن نشر الجيش الألماني لحماية ممرات الشحن الدولية الحيوية للرفاه الاقتصادي لألمانيا.[lxxxvi]

   ويشير السجل التجريبي أيضًا إلى أنه في حين استمرت ألمانيا ما بعد الحرب الباردة الأكثر حزمًا في الالتزام بمنطق النزوع إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف رافعة شعار “لن نكون وحدنا ثانية”، لم تحجم برلين بالضرورة عن السعي وراء تحقيق مصالحها في المنتديات الأصغر حجمًا: سَمِّه التوجه إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف مع تطور قائم على توجه إلى تبنى العمل في مجموعات صغيرة.[lxxxvii] وفي الوقت نفسه، جرى تحجيم الأولوية المعيارية. ففي حين أنه تم اعتباره في السابق درسًا مبدئيًّا من دروس التاريخ، كما أوضح باومان، فقد تم في أغلب الأحيان تأطير التوجه إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف في الخطاب الجديد بطريقة عقلانية كمسار لتأمين مصالح ألمانيا.[lxxxviii] في هذا السياق ، كانت برلين أقل خجلاً فيما يتعلق بمواجهة الولايات المتحدة في الناتو: لقد أفسح الولاء الذي كان يومًا ما راسخًا المجال أمام مقاربة أكثر انتقائية.[lxxxix] وبالمثل ، أظهر السياسيون الألمان استعدادهم للتملص من السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CFSP) أو تجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي عندما يتلائم ذلك مع احتياجات البلاد.

   وخلاصة القول، إن الأطروحة الثقافوية التي تتعاطى مع “التوجه الأطلسي” لدى بولندا و “التوجه إلى تبني العمل في إطار التحالفات متعددة الأطراف” لدى ألمانيا على أنها “غرائز” وتضعهما في مواجهة بعضهما البعض باعتبارهما “نقيضين” غير مقنعة. ويتطلب فهم مواقف البلدين تجاه العلاقة عبر ضفتي الأطلسي وتحول الناتو تصنيفًا أكثر دقة لاختيارات كل منهما وفحصًا أكثر دقة للأسباب الكامنة وراءها. ويسلط التاريخ والثقافة بلا شك الضوء على فهم النخبة البولندية العميق لضعف بولندا، ولكن من الضروري النظر إلى ما وراء الماضي للوصول إلى فهم كامل لدوافع سلوك صناع القرار في وارسو. وبالمثل، تفسر خبرات منتصف القرن العشرين المحتوى المعياري لنقاشات السياسة الألمانية، لكنها لا توضح بشكل كافٍ سبب التضحية ببعض المبادئ في سبيل الآخرين، أو كيف يتغير جوهرها بمرور الوقت. وبالتالي ، فإن السؤال المطروح هو: ما العوامل التي تفسر على أفضل وجه الخلافات الاستراتيجية بين البلدين كحليفين في الناتو؟

هل هو تحالف من غير المتكافئين؟

استنادًا إلى المبدأ “الناظم” لعدم القابلية للتجزئة والمبدأ “المعمَّم” لتبادلية المعاملة بالمثل، كثيرًا ما يُنظر إلى حلف الناتو على أنه منظمة تجمع بين المتكافئين: فالواحد من أجل الكل، والكل من أجل الواحد.[31][xc] ويكمن مبدأ “الأمن غير القابل للتجزئة” أو “عدم تجزئة التهديدات” في صميم هذه الترتيبات الأمنية متعدد الأطراف. ويعني المبدأ العام أنه من المتوقع ألا يميز أعضاء المنظمة بين الاعتداءات على أساس كل حالة على حدة، ولكن أن يكون التعامل بشكل موحد مع الحالات التي تتفق في طبيعتها: أي أنه لن يتم التعامل مع الهجوم على أحد الأعضاء بشكل مختلف عن الهجوم على آخر. ويشير هذا إلى قبول الدول للكلفة التي قد تكون أعلى من مكاسبها المباشرة بشكل أو آخر، وبالتالي تحقُّق تبادلية المعاملة بالمثل. وينعكس منطق المساواة بين الحلفاء بشكل أكبر في التصميم المؤسسي لهيئة صنع القرار العليا في الناتو والتي تعمل بالإجماع: “دولة واحدة، صوت واحد”. ولكن مثلما يُنظر إلى آلية المادة الخامسة (بند الدفاع المشترك) بشكل خاطئ على أنها أمر مسلم به، فإن المبادئ التنظيمية لحلف الناتو ليست خالية من الإشكاليات تمامًا كما تبدو للوهلة الأولى. وفي الواقع، فإن أعضاء الحلف ليسوا متكافئين، والأهم من ذلك أنهم لا يتمتعون بنفس المستوى من الاستفادة من الميزة الرئيسة التي توفرها المنظمة: أي ضمانها الأمن.

   وخلال الحرب الباردة، جعلت الثنائية القطبية والقدرات الهجومية للاتحاد السوفيتي التوزيع غير المتكافئ للتهديدات بين البلدان الأعضاء في الحلف قابلاً للقياس بسهولة: فالأمر المهم هو البعد الجغرافي للرؤوس الحربية لحلف وارسو. وفي ظل ظروف الثنائية القطبية، كان الفاعلون “الهامشيون” مثل ألمانيا الغربية، بطريقة تبدو عليها المفارقة، في مركز الاهتمام الاستراتيجي لحلف الناتو، بسبب ضعفهم، وتم تعريفهم على أنهم قريبون من خطوط العدو. وأمكن لهذه “الدول الأمامية” الأكثر انكشافًا أن تخفف من مخاطر الخذلان من قبل حلفائها عن طريق استضافة منشآت الحلف العسكرية أو ربط أراضيها بأراضي القوى النووية من خلال الوجود المادي لـ “مشغلات” منظومات الأسلحة، حتى إذا كانت كلفة ذلك التعرض لمخاطر التورط بدرجة أعلى. تذكَّرْ، على سبيل المثال، كيف كانت الجمهورية الاتحادية تصطدم مع الولايات المتحدة فى فترات متقطعة خلال السبعينيات والثمانينيات حول مدى الأسلحة التي تم نشرها كجزء من استراتيجية الناتو في أوروبا، وهو ما انعكس في المزحة الشعبية: “كلما كان المدى أقصر، كان الالمان على وشك الموت”.[xci] وبالإضافة إلى “الاستضافة” و “الربط”، كان الأعضاء الأكثر اندماجًا على نحو وطيد مؤهلين تقليديًّا بشكل أفضل لممارسة التأثير على قرارات الحلف الرئيسة. ومجددًا، يعتبر النفوذ المتزايد تدريجيًّا لألمانيا الغربية على عقيدة وسياسات الناتو أثناء الحرب الباردة مثالاً على ذلك.[xcii]

   إن سقوط الشيوعية في شرق أوروبا الوسطى لم يسمح فقط لألمانيا باستعادة السيادة وإعادة التوحيد، ولكنه أدى إلى تغيير جوهري في البيئة الأمنية الخارجية للبلاد. ففي السابق كانت دولة على خط المواجهة مهددة بشكل مباشر من قبل الفرق المدرعة في النسق الأول لحلف وارسو والصواريخ قصيرة المدى السوفيتية، لكن بعد انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، لم تعد ألمانيا تواجه أي “أخطار واضحة أو راهنة”.[xciii] أولاً، دفعت الوحدة، وبعد ذلك توسع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، بالجمهورية الاتحادية من الأطراف إلى موقع المركز في قارة أوروبا، حيث لم تصبح فقط اللاعب الأقوى والأكثر تأثيرًا اقتصاديًّا في القارة، بل أصبحت أيضًا محاطة تمامًا بالأصدقاء، والجيران المستقرين والديمقراطيين إلى حد كبير الذين هم شركاؤها وحلفاؤها.[xciv] وكما استنتج كريستيان هاك، “فلأول مرة في التاريخ، حققت ألمانيا – من منظور عسكري – وضعية كونها آمنة تمامًا”.[xcv]

   لكن الشعور بـ “الأمن المطلق” لم ينبع من زوال الإمبراطورية السوفيتية وحده. فنتيجة لموقعها كدولة على خط المواجهة في النظام الثنائي القطبية، واصلت ألمانيا جني مكاسب وضعها السابق كعضو محوري في الناتو في فترة ما بعد الحرب الباردة. وقد استمرت البلاد في استضافة العديد من منشآت الحلف المهمة، ومنذ إعادة التوحيد، أصبحت المزود الأوروبي الرئيس بالقوات لعمليات انتشار الناتو.[xcvi] وعلى نحو مماثل، فنظرًا لموقعها الذي كان حساسًا في السابق وقدراتها الاقتصادية المستدامة (والمتنامية)، فقد حافظت الجمهورية الاتحادية على مسار تبنيها لنوع فريد من الاعتماد المتبادل مع الولايات المتحدة، والذي تضمن وجودًا مستمرًا للقوات المسلحة التابعة للأخيرة في أراضيها، ومجمع صناعي عسكري نشط، وحجم كبير بشكل فريد من التجارة والاستثمار المتبادلين، فضلاً عن شبكة كثيفة من الروابط المجتمعية والثقافية سبق وصفها في الفصل السابق. وقد سمحت هذه العوامل للدولة الألمانية بعد أن أُعيد توحيدها بأن تنعم بما يمكن وصفه من الناحية الأمنية بأنه الميزة المزدوجة لوقوعها في المركز: فلم تنتقل البلاد إلى موقع المركز من الجماعة الأوروبية فحسب، بل استمرت أيضًا في التمتع بـ “المردود” الأمني باعتباره إرثًا من التركيز الاستراتيجي لواشنطن عليها في سابق عهدها كدولة على خط المواجهة. إن غياب التهديد الوجودي من ناحية، والمستوى “العميق” بشكل خاص من “الشراكة” في حلف الناتو والاعتماد المتبادل المعقد مع الولايات المتحدة من ناحية أخرى، يمنح برلين درجة عالية بشكل خاص من الاستقلال الأمني في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

الموقع، الموقع …

كما شهدت بولندا تحسنًا ملحوظًا في “وضعها” الأمني. فبعد استعادتها لاستقلالها عن الاتحاد السوفيتي وإعادة توحيد جارتها الغربية الأقوى في سياق استمرارية عضويتها في حلف الناتو، لم تعد البلاد إلى وضعها التقليدي – كما صاغه ستيفان جرومسكي النيو رومانسي البولندي البارز ذات مرة – “بين شقي رحى”، ألمانيا وروسيا. وبدلاً من ذلك، وجدت نفسها على أعتاب مجتمع الأمن الأوروبي – الأطلسي. وبعد عقد من الزمان، انضمت إلى معاهدة واشنطن، وبذلك أصبحت جزءًا من منطقة الأمن غير القابل للتجزئة للناتو. في ذلك الوقت، ابتهج وزير الخارجية غيريميك بآفاق المستقبل المشرق لبولندا، بحجة أن العضوية في الحلف ستحقق “ترسيخ نتائج التغيرات المثالية في وضعها الجيوسياسي، والتي حدثت بعد العام 1989. ومن منظور تاريخي أوسع، فإنها تؤسس لإسقاط نظام يالطا.[xcvii]

   لكن لحظة تتويج الإنجاز الذي حققته بولندا كانت مليئة بالشكوك المتناقضة. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن التهديدات الإقليمية والوجودية “الخطيرة” في الشرق قد تبددت تمامًا، فإن بولندا هي التي احتلت في هذه اللحظة موقع “الدولة العضو في حلف الناتو الواقعة على خط المواجهة”. فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي، أصبحت تتاخم مباشرة جيران أقل استقرارًا داخليًّا وأشد استعصاء على التنبؤ بسلوكهم الخارجي، وحيث أدت رياح التغيير أيضًا إلى تفكك المنطقة، والفشل الدولاتي، وعدد لا يحصى من المخاطر الأخرى، المنخفضة والجسيمة. وقد شكلت هذه التهديدات التي لم تكن معروفة في السابق تحديات متفاوتة لأمن الدول الأعضاء في الجماعة. وأصبحت الهجرة والاتجار بالبشر والجريمة المنظمة والإرهاب الدولي من الاهتمامات الملحة للدول التي تشكل القلب الاقتصادي والسياسي للحلف باعتبارها شاغلها الشاغل. بل إنها مثلت أيضًا خطرًا جسيمًا على الدول الأطراف التي أصبحت قنوات لنقلها. وفي الواقع، فقد أثبتت البلدان الواقعة في الجناح الشرقي لحلف الناتو أنها عرضة إلى حد بعيد للتأثر بالعديد من العوامل الخارجية الناجمة عن عدم الاستقرار السياسي فيما وراء حدود الجماعة بسبب حالة الضعف الدولاتي التي ظلت تعانيها في مرحلة ما بعد الانتقال من الشيوعية وقربها الكبير من مصدرها.

   وبعد أكثر من عقد من انهيار الشيوعية في شرق أوروبا الوسطى، واصل الأعضاء الجدد في الحلف تأكيد استقلالهم عن سيدهم الإمبراطوري السابق. فقد انهار النظام السوفيتي القديم، لكن عملية تفكيك الشبكات الأقل رسمية التي كانت تسيطر عليها موسكو ذات يوم لم تكن تحدث بصورة تلقائية. وقد أعيد إرساء السيادة شكليًّا، والتي ثبت أنها متزعزعة، ولم تُعْفِ العضوية في الناتو الدول التي كانت تدور في فلك روسيا في السابق من التبعية الاقتصادية أو الاعتماد على الموارد بين عشية وضحاها. واستمر عدد لا يحصى من علل ما بعد الفترة الانتقالية، وغالبًا ما كانت أشكال التأثير أقل وضوحًا ولكنها مترابطة. وبينما اتفق الحلفاء جميعًا على أن تركيزهم المشترك سيتحول من ردع العدوان السوفيتي إلى مجابهة التحديات الأمنية الجديدة التي يفرضها صعود الاتجاهات القومية في جنوب شرق أوروبا، والذي شمل على نحو متزايد، مع مرور الوقت، الدفاع عن القيم والمصالح خارج القارة، كان التوصل إلى توافق في الآراء بشأن أفضل السبل للتعامل مع الأخطار الأقل بروزًا القادمة عبر الحدود الشرقية الجديدة للحلف أكثر صعوبة. وقد قوبلت مخاوف دول الأطراف بشأن التطلعات (ما بعد؟) الإمبريالية لروسيا بقليل من التفهم في الغرب: ففي الواقع، كثيرًا ما تم تجاهلها باعتبارها مجرد أحقاد تاريخية. ونتيجة لذلك، أصبحت التوترات الناشئة عن انعدام الأمن التي لمستها دول الجناح الشرقي والعجز المفاهيمي للحلفاء عن وضع استراتيجية مشتركة تجاه الفضاء عبر حدود الجماعةِ المعضلةَ المركزية لدبلوماسية الدولة حديثة العهد بعضوية الناتو. فعلى الرغم من أن بولندا لم تعد محصورة بين أعدائها ذوي الميول التوسعية تاريخيًّا، فقد استمر تعريف أمنها من خلال موقعها الجيوسياسي: فهي وإن كانت تنعم الآن بالأمن في داخل حدود الحلف، ولكنها مع ذلك على تخوم العالم الغربي و “المرتكز” الأقل استقرارًا.

   ونتيجة للاعتبارات الجيوسياسية وحساسيتها تجاه التهديدات الجديدة، أعطت بولندا، مثلها في ذلك مثل دول الأطراف الأخرى الأعضاء في حلف الناتو، الأولوية للدور التقليدي للحلف وسياسة “الباب المفتوح”.[xcviii] ومن المفارقات، أنه على الرغم من أن وارسو اصطدمت في هذه اللحظة مع برلين بشأن مسألة التوسع في ضم أعضاء جدد إلى الناتو، إلا أن موقفها عكس تطابقًا ملحوظًا مع موقف الأخيرة خلال العقد الماضي، عندما نجح وزير الدفاع رُوه[32] في وضع التوسع على أجندة المنظمة لما بعد الحرب الباردة. فقد تعاملت الدولة الألمانية، خلال التسعينيات، مع شرق وسط أوروبا على أنها منطقة ذات أولوية استراتيجية من الدرجة الأولى. وتم تهميش مبدأ “روسيا أولاً” المهيمن سابقًا في إطار السياسة الشرقية[33] للبلاد لصالح فرصة غير مسبوقة لتحقيق الاستقرار في الجوار الشرقي من خلال إقامة علاقات متعددة الأطراف بين الفاعلين الأساسيين في المنطقة وترسيخ عملية انتقالهم مع احتمال الانضمام لعضوية مؤسسات الجماعة الأوروبية – الأطلسية.[xcix] ولم تخدم التوسعات اللاحقة للحلف المصالح الأمنية لألمانيا بما يكفي لتبرير توتر العلاقات مع موسكو أو المخاطرة بمزيد من التخفف من التماسك العملياتي لحلف الناتو. ونتيجة لذلك، أدركت برلين أن انضمام المزيد من الأعضاء الجدد أمر قليل الغَناء من المنظور الجيوسياسي وركزت بشكل أكبر على مستوى استعداد المرشحين والدعم الداخلي في بلدانهم للعضوية.[c] وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية أعلنت رسميًّا أن الفيتو الروسي على العملية كان غير وارد، إلا أن المستشار شرودر كان أكثر تقبلاً لفكرة “مراعاة وجهة النظر الروسية” والتساؤل عما إذا كان “قبول دول جديدة يخدم أمن واستقرار أوروبا”.[ci]

   لقد رفضت جميع الحكومات البولندية في فترة ما بعد الحرب الباردة باستمرار وبشكل قاطع فكرة أن انضمام أعضاء جدد يمكن أن يكون مشروطًا بموافقة أطراف ثالثة. وكرر السياسيون من مختلف ألوان الطيف بلا كلل لأقرانهم الغربيين أن تأخير التوسع بسبب اعتراضات روسيا من شأنه أن يرقى إلى منح موسكو حق النقض على قرارات الناتو، وبالتالي، الإذعان لردود فعلها الإمبريالية. ومثل النخب السياسية الألمانية من قبل، أدرك صناع القرار البولنديون أن أمن بلادهم مرتبط عن غير قصد بأمن جيرانها، وسعوا إلى ضمهم إلى حظيرة الجماعة.[cii] وعلى الرغم من أن مثل هذا التحديد الصارم لأولويات التوسع يبدو من باب المفارقة من وجهة نظر الدراسات النظرية حول التحالفات – لأن انضمام الأعضاء الجدد والضعفاء أدى في النهاية إلى إجهاد تماسك المنظمة – إلا أن احتمالية تحقيق الاستقرار في جوارها الشرقي تفوقت على مخاوف وارسو بشأن إضعاف ضمانات الناتو الأمنية. وحقيقة أن التوسع كان موضوعًا للخلاف بين بولندا وألمانيا منذ العام 1999 بغض النظر عن الحكومة التي تتولى السلطة في أي من البلدين، تشير إلى أن العوامل البنيوية مثل موقعهما الجيوسياسي المتباين، بدلاً من الأفكار والهويات الوطنية، توفر نقطة انطلاق أفضل يمكن من خلالها البحث عن تفسير لأولوياتهما المتضاربة وخياراتهما السياسية في مجال الأمن عبر الأطلسي.

هل هي أطلسية “قائمة على رد الفعل” أم أطلسية “نسبية”؟

بصرف النظر عن الضعف الكلي والموقع ضمن الأطراف، فإن العديد من العوامل المؤسسية التي حددت “عمق” اندماج بولندا (و “مشاركتها”) في الناتو، قد عملت أيضًا على زيادة طلب البلاد لضمانات أمنية خارجية. فعلى سبيل المثال ، كشفت التنازلات التي قُدمت لروسيا كجزء من جهود الحلفاء لتهدئة معارضة موسكو للتوسع الشرقي عن الوضع غير المتكافئ للأعضاء الجدد في الحلف. وفي خطوة تذكر بالادعاء المتنازع عليه بشأن وعد المستشار كول المزعوم للزعيم السوفيتي ميكاييل غورباتشوف في صيف العام 1990 بأن انضواء أراضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة تحت مظلة الناتو سيشكل التوسع الشرقي الوحيد للمنظمة، أعلن مجلس حلف شمال الأطلسي (NAC) المنعقد في بروكسل ديسمبر 1996 أنه لن يتم نشر أسلحة نووية أو قوات أجنبية على أراضي الدول الثلاث المنضمة حديثًا إلى الحلف[34] في وقت السلم.[ciii] وليس من المستغرب أن الوثيقة التأسيسية لعام 1997،[35] التي عززت تقنين هذا الالتزام، أثارت الشكوك في أن المنطقة ظلت في الواقع ساحة لعب لقوى أكبر. ونظرًا لأن الأمر استغرق أكثر من عقد ليقوم الحلفاء بتطوير خطط دفاعية عن الجناح الشرقي ولم يتم نشر أي بنية تحتية مهمة للتحالف على أراضي الأعضاء الجدد، فلم يكن لهذه الهواجس فرصة كبيرة لتتبدد خلال العقد الذي أعقب انضمام بولندا.[civ] ونتيجة لذلك، استمرت رؤية الناتو كنادٍ يضم طبقتين في التفكير الأمني البولندي طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

   ويشير التباين بين مستويات اندماج بولندا وألمانيا في الناتو، و “مشاركة” كل منهما في المنظمة، إلى أن “التوجه الأطلسي” المذكور آنفًا لا يجب أن يكون بالضرورة “قائمًا على رد الفعل” كما يزعم العديد من الثقافويين. وقد يكون بدلاً من ذلك نسبيًّا: فنظرًا لانضمامها الأحدث والاعتماد المتبادل غير المتكافئ للغاية مع الولايات المتحدة، فإن الطابع المؤيد لحلف الناتو والموالي لأمريكا في السياسة الخارجية لوارسو يعكس هدف “اللحاق” بمستوى التكامل والتشابك عبر الأطلسي الذي تمتعت به بعض الأعضاء الأقدم مثل ألمانيا. وقد كانت آثار “اللحاق بالركب الأطلسي” تحمل مفارقة. فعلى سبيل المثال، خلال أزمة حرب العراق، أظهرت وارسو بتفاخر ولاءها السياسي لواشنطن، ولكن من حيث المساهمات الملموسة، وعلى عكس معظم التوقعات، فقد احتفظت برلين بمركزها. فبصرف النظر عن استضافة المنشآت العسكرية الأمريكية الرئيسة وكونها قاعدة لوجستية مهمة، أبقت ألمانيا مجالها الجوي مفتوحًا للعمليات المتعلقة بالحرب، ونشرت حوالي 3500 جندي لحماية المصالح الأمريكية على أراضيها، وزودت تركيا بصواريخ باتريوت عبر هولندا، وكما اتضح فيما بعد، فقد تبادلت مع الأمريكيين معلومات استخبارية حديثة، بما في ذلك خرائط تفصيلية للأهداف الاستراتيجية في بغداد.[cv] وبصفتها فاعلاً أضعف حيث تعتمد بشكل أكبر على الضمانات الأمنية الأمريكية، وامتلاكها اقتصادًا متناميًا – وإن كان صغيرًا نسبيًّا – يمكن أن تصبح بولندا شريكًا سياسيًّا ذا قيمة في شرق أوروبا الوسطى. ولكن على الرغم من ولائها الذي لا يتزعزع، لم يكن بإمكانها أن تأمل بشكل واقعي في الارتقاء إلى مرتبة ألمانيا كحليف لا غنى عنه لواشنطن.

   ونظرًا للتفاوتات البنيوية الموضحة أعلاه، كان للتحول الوظيفي لحلف الناتو من اتفاقية دفاعية إلى منظمة أمنية متعددة الأوجه تأثير متفاوت على الدولتين. فقد أدخلت العملية الجارية تغييرًا جذريًّا محتملاً على الطريقة التي عمل بها الحلف لعقود. وفي حين ظل النهوض بالتزامات الدفاع المشترك ملزمًا لجميع الدول، فقد طغت عليه مهام إدارة الأزمات – وبالتالي مساهماتُ الأعضاءِ الاختياريةُ بصورة أكبر – تدريجيًّا على مدار التسعينيات، باعتبارها النشاط الأساسي للمنظمة. وقد ألمح هذا النوع من النمط الاختياري للمشاركة إلى هيمنة مقاربة تتسم بقدر أكبر من المقايضة لتوفير الأمن، مما دعا للتساؤل: هل سيصبح المشاركون الأقل حماسًا لتقديم الخدمات الآن بالضرورة أقل أهلية لتبادلية المعاملة بالمثل في شئون الدفاع؟ وبالمقابل، هل يمكن للمزيد من المساهمات المقبلة في العمليات خارج المنطقة أن تقلل من خطر الخذلان من قبل القوة العظمى الأمريكية في المستقبل؟ في نظر بعض المراقبين، أن القواعد الجديدة للعبة قد شجعت على الالتزام بدرجة أكبر من جانب هؤلاء الحلفاء الذين يرغبون في الارتقاء إلى مرتبة الشركاء المميزين. وفي الوقت نفسه، واجه المتقاعسون خطر التهميش المتزايد.

   لقد أتاحت سانحة المخاطر المرتفعة عبر ضفتي الأطلسي والكلفة المتزايدة لضمانات الدفاع الأمريكية للبلدين بشكل فعال خيارات متباينة من بين خيارات السياسات الأمنية. وعلى الرغم من أنها ظلت تعتمد في نهاية المطاف على الولايات المتحدة في الدفاع عنها، إلا أنه كان من الأفضل لألمانيا أن تقاوم الضغوط التي نشأت عن النهج الأحادي القائم على الانفراد في اتخاذ القرار دون اعتبار كبير لمصالح أو وجهات نظر حلفائها الذي انتهجته واشنطن. كما تمتعت بمجموعة أكبر من البدائل الأمنية الخارجية – وإن كانت غير واقعية – وبناء على ذلك تبنت نهجًا يتسم باستقلالية محدودة من خلال سياسة الدفاع والأمن الأوروبية الناشئة (ESDP). وفي غضون ذلك، انتهزت بولندا الفرصة للتألق على نحو أكثر إشراقًا كحليف مخلص. وكان اتجاه مسار سياسة وارسو مثيرًا للدهشة. فمنذ نهاية الحرب الباردة، كانت جميع الحكومات البولندية تضع نصب عينيها هدف انضمام بولندا في جماعة تضم أعضاء متكافئين. بيد أنه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، دعمت وارسو في كثير من الأحيان التطورات التي أوهت مبدأ عدم القابلية لتجزئة (أمن الحلفاء) في حلف الناتو. ويجب فهم هذا الإذعان الضمني لمنطق التوجه إلى تبني العمل في إطار تحالف ثنائي على أنه نتيجة لتبعيتها الواضحة في الشأن الأمني – بسبب ضعفها النسبي وموقفها الجيوسياسي غير المواتي – والحاجة الملحة “للحاق بالركب” في إقامة علاقات ثنائية أقوى مع الولايات المتحدة. وفي غضون ذلك، لم تترك هذا الأخيرة لصناع القرار في وارسو أي إمكانية كبيرة للتأثير على شكل النظام الناشئ عبر ضفتي الأطلسي. وبهذه الطريقة، بدلاً من التصرف كـ “صاحبة توجه أطلسي غريزي”، سعت بولندا فقط إلى اغتنام الفرص لتعزيز وضعها الأمني وتجنب التبعات المتفاقمة لنهج الأحادية الأمريكية.

   وفي الأخير، ففي حين أن التوجه الأطلسي لوارسو لم يكن “قائمًا على رد الفعل” ولا “غريزيًّا”، إلا أنه لم يكن مدفوعًا بالاعتبارات الأمنية “الصعبة” وحدها. وعوضًا عن ذلك، كما أظهر النقاش أعلاه، فإنه يتعيَّن النظر إليه في سياق رغبة “القوة الوسطى” البولندية في تحقيق “ذاتية وحضور فاعل” ذي تعريف أكثر شمولاً في النظام الدولي.[cvi] وسواء من خلال التعاون العسكري أو التجارة أو الوسائل الأخرى، تشير الدلائل أنه منذ انهيار الإمبراطورية السوفيتية في شرق أوروبا الوسطى، سعت بولندا إلى تحقيق هدف تطوير علاقة وثيقة ومتعددة الأوجه مع الولايات المتحدة في تناغم لا تكبله قيود. وتميل الأدبيات الثقافوية إلى تفسير هذا النوع من التوجه المؤيد لأمريكا على أنه سلبي صفري المحصلة لعلاقته المتضاربة أحيانًا مع أوروبا. ولكن في نهاية المطاف، يمكن أيضًا فهم التوجه الأطلسي للبلاد على نحو أكثر بساطة كوسيلة لـ “التوازن الناعم” أو تعويض ضعفها في مواجهة شركائها الأوروبيين الأكثر قوة: فقد كان “الحلم الأمريكي” لبولندا بمثابة رد على كابوس ‘المسألة الألمانية’ وهيمنة ألمانيا التي كانت تثير الكثير من المخاوف في شرق أوروبا الوسطى والتي حذر منها الواقعيون الجدد المتشائمون مثل رايش وماركوفيتز في مستهل التسعينيات.[cvii]

خاتمة

على الرغم من أوراق الاعتماد الأطلسية التي تتشارك الدولتان في حيازتها، وضد التوقعات السابقة والمؤشرات الأولية، لم تصبح وارسو وبرلين حيلفين متلاحمين في الناتو بعد انضمام بولندا إلى معاهدة واشنطن. وعلى الرغم من أنه من اللافت للنظر أنه نظرًا لتاريخهما الدموي بشكل خاص، أصبحت الدولتان اليوم عضوين في نفس الحلف العسكري، إلا أن علاقتهما داخل المنظمة اتسمت بنسق موصول من الخلاف إلى حد ما حول العديد من القضايا الأمنية الرئيسة.

   إن أولويات البلدين المتباينة والمتضاربة في كثير من الأحيان في دائرة العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، لا سيما وجهات نظرهما المتعارضة حول عضوية الحلف وأهدافه المستقبلية، والتي طفت على السطح خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يمكن تفسيرها على أفضل نحو بالنظر إلى احتياجاتهما الأمنية المتفاوتة ووضعيهما غير المتكافئ كحلفاء. وبسبب الضعف النسبي لبولندا والمخاوف الأمنية الواضحة للعيان والتي هي نتاج موقعها الجيوسياسي في الأطراف الشرقية، ركزت الحكومات البولندية المتعاقبة في سياسة البلاد تجاه الناتو على صيانة مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، وضمان بقاء الباب مفتوحًا للوافدين المستقبليين من الشرق. ومن خلال العروض المتكررة لاستضافة مكونات من البنية التحتية العسكرية لحلف الناتو والقوات على أراضيها، بالإضافة إلى المطالبات المستمرة بأن يقوم الحلفاء بتسريع عملية صياغة خطط نزع السلاح في الجناح الشرقي، ظلت سياسة وارسو تجاه الناتو تركز بالأساس على تحقُّقها بـ “استيفاء مقومات” عضويتها، و “تعميق” مستوى “شراكتها” في الحلف.

   وبالنسبة لألمانيا، العملاق الصاعد في أوروبا بعد الحرب الباردة، والمُحاطة الآن في أمان من المخاطر بشركاء وحلفاء متشابهين في التفكير، فقد توقف الناتو عن خدمة الهدف الوجودي الذي كان لديه خلال السنوات الطويلة من المواجهة بين الشرق والغرب. ونتيجة لذلك، أنه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تعد سياسة ألمانيا في الحلف موجهة بشكل كبير نحو الردع ، بل كانت تهدف بدلاً من ذلك إلى إصلاح الحلف ليعكس بشكل أفضل المصالح الخاصة للبلاد ويكون بمثابة منتدى لحوار أكثر تكافؤًا عبر ضفتي الأطلسي. ونظرًا لأنها حققت بالفعل هدفها الاستراتيجي المتمثل في توسعة “منطقة السلام” باتجاه جيرانها الشرقيين من ناحية، وقامت على مر السنين بتطوير علاقة اقتصادية بالغة التكافلية وعلاقة سياسية أكثر استقرارًا نسبيًّا مع روسيا من ناحية أخرى، فقد أصبحت برلين المنتقد الرئيس لمزيد من التوسعات في الشرق. وبينما قبلت على مضض وجود دول البلطيق بين الحلفاء ووافقت لاحقًا على قبول أعضاء جدد من البلقان، فقد رفضت باستمرار أي حديث عن عضوية الجيران الشرقيين الجدد.

   كما تفسر أوجهُ عدم التكافؤ بين قوتهما الكلية، وموقعهما الجيوسياسي، ومستويات شراكتهما المؤسسية في حلف الناتو – وكذلك أوجه عدم التكافؤ في “الطابع المعقد” لحالة الاعتماد المتبادل بينهما وبين الولايات المتحدة – الأسبابَ الكامنة وراء استجابات الدولتين المتباينة إزاء التحول المطرد للحلف من مجرد معاهدة دفاعية إلى منظمة متعددة الوظائف، تضطلع أيضًا، ضمن مهام أخرى، بإدارة الأزمات خارج نطاقها الجغرافي. ونظرًا لاعتمادها الأكبر نسبيًّا على ضمانات الأمن الخارجية، فقد قاربت بولندا في البداية هذه العملية بتحفظات شديدة، وحذرت من التحركات التي يمكن أن تضعف وعد الردع في معاهدة واشنطن. لكن الموقف التفاوضي الضعيف لوارسو أجبرها في النهاية على مواءمة خياراتها السياسية بشكل أوثق مع خيارات الولايات المتحدة، في الوقت نفسه الذي واصلت فيه السعي وراء تعزيز علاقات ثنائية أقوى مع حليفها الرئيس عبر الأطلسي. وفي الآن نفسه، رحبت الطبقة السياسية الألمانية بالعمليات الخارجية التي يقوم بها حلف الناتو كفرصة لإثبات مصداقية البلاد كحليف، وكذلك أيضًا ليتأقلم شركاؤها مع قوة وسطى “تتمتع بقدر أكبر من السيادة”: ففي البيئة الأمنية التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر والتي شهدت ارتفاعًا حادًّا في كلفة توفير الأمن الأمريكي، لم يعد من الممكن اعتبار ولاء الجمهورية الاتحادية الأطلسي الذي لم يكن ليتزعزع في السابق أمرًا مفروغًا منه.

الحواشي

[1] Stefan Szwed, Poland, Germany and State Power in Post-Cold War Europe: Asymmetry Matters (London: Palgrave MacMillan, 2019).

[2] إشارة إلى شخصية لومويل غوليفر الطبيب الإنجليزي – في قصة رحلات غوليفر لجوناثان سويفت – الذي استقل سفينة تتجه إلى الشرق، إلا أن السفينة واجهت عاصفة، نجا منها غوليفر ليجد نفسه في أرض الأقزام.

[3] لا يخفى أن مفاهيم مثل مفاهيم الإرهاب والتطرف والأصوليّة هي مفاهيم إشكاليّة ومشوشة جدًّا، وذات طبيعة سياسيّة وأمنيّة دولتيّة للدرجة التي تجعلها، كمفاهيم تحليلية، عديمة النفع تقريبًا. وبالطبع، فإنه ليس لها تعريف واحد متفق عليه. ويزداد الأمر سوءًا عندما يتم وصفها بوصف أكثر إشكالية كـ”الديني”. عن إشكاليّات تعريف مفهوم الإرهاب انظر Anthony Richards, Conceptualizing Terrorism, Studies in Conflict & Terrorism, Volume 37, Issue 3, 2014. ولنقد التصورات السائدة عن المفهوم، ومحاولة إعادة تأهيله أكاديميًّا انظر Richard Jackson, In defence of ‘terrorism’: Finding a way through a forest of misconceptions, Behavioral Sciences of Terrorism and Political Aggression 3(2):116-130, May 2011. ولنقد مفهوم الإرهاب الديني انظر Richard Jackson et al., Terrorism: A Critical Introduction, Basingstoke, Palgrave Macmillan, 2011. وكذا انظر طارق عثمان، ما وراء الجهاد: نحو سيكولوجيا اجتماعيّة للمقاتلين الأجانب، بحث منشور على موقع معهد العالم للدراسات في 5 فبراير 2018.

[4] جرى استخدام مصطلح “الديغولية الجديدة” في الأدبيات الأكاديمية لوصف توجه سياسي ظهر بعد وفاة شارل ديغول (رئيس الجمهورية الخامسة من العام 1959 حتى استقالته في العام 1969) في العام 1970 كنوع من التبني لسياساته، وتسعى الديغولية الجديدة إلى تجنب الاعتماد على الولايات المتحدة، وتؤكد على مفاهيم السيادة الوطنية، ودعم التكامل الأوروبي.

[5] المنظمات والهيئات التي أضرب المترجم عن تقديم تعريف بها في فصول الكتاب، سبق أن عّرف بها في حواشيه في مستهل مقدمة الكتاب نظرًا لتكرار ذكرها في مواضع مختلفة من العمل.

[6] جاء إنشاء مجلس تعاون شمال الأطلسي في 20 ديسمبر 1991، كخطوة لإيجاد علاقة رسمية بين الحلف ودول شرق ووسط أوروبا، وبدأ هذا التوجه خلال قمة لندن في 6 يوليه عام 1990 بدعوة حكومات الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا، والمجر وبولندا وبلغاريا ورومانيا، لإقامة علاقات دبلوماسية منتظمة مع الحلف. وفي باريس، في 19 نوفمبر من نفس العام، وقع الحلفاء مع هذه الدول إعلانًا مشتركًا، أكد على أنهم لم يعودوا يعتبرون بعضهم البعض كأعداء. وبحث في اجتماع وزراء خارجية دول الحلف بكوبنهاجن (6 ـ 7 يونيه 1991)، قضايا تطوير العلاقات مع دول الشرق.

   وعندما اجتمع رؤساء دول وحكومات أعضاء الحلف بروما (7 ـ 8 نوفمبر 1991) “عرضوا إقامة روابط رسمية، مع دول شرق أوروبا، التي كانت أعضاء في حلف وارسو سابقًا. واقترحوا إقامة مجلس تعاون يضم في عضويته 25 دولة هي كل الدول الأعضاء في حلف الناتو (16 دولة)، إضافة إلى الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو (6 دول)، ودول جمهوريات البلطيق الثلاث، تحت مسمى “مجلس تعاون شمال الأطلسي”. واتفق على استمرار إجراء اجتماعات واتصالات دورية مع مجلس شمال الأطلسي، واللجنة العسكرية ضمن لجان أخرى في الحلف، حيث هدفت دول الحلف من ذلك إلى خلق شبكة من العلاقات، تمكنها من دعم جهود التحول في الشرق، وحفظ الأمن والاستقرار في أوروبا، عبر العمل تحت مظلة مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي.

   وكانت صيغة مجلس تعاون شمال الأطلسي هي الصيغة التي جرى استحداثها لتجرى تحت مظلتها هذه الاتصالات، وقد عقد المجلس اجتماعه التأسيسي في 20 ديسمبر عام 1991 بمشاركة 25 دولة. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، توسعت عضوية المجلس لتشمل: 8 دول من الاتحاد السوفيتي السابق. وكذلك انضمت جورجيا وألبانيا في اجتماع 5 يونيه 1992 بأوسلو، وشاركت فنلندا بصفة مراقب. كما اتفق على أن يعقد المجلس اجتماعاً سنويًّا دوريًّا، واجتماعات أخرى كلما دعت الحاجة، وقد تركز نشاط المجلس حول القضايا السياسية والأمنية التي رأت دول الحلف أنها ضرورية لحفظ الأمن والاستقرار في أوروبا، ودعم عمليات التحول في دول شرق ووسط أوروبا.

[7] طرحت فكرة إنشائه من جانب الولايات المتحدة في الاجتماع الوزاري لدول الحلف عام 1993. ثم طرح الموضوع في اجتماع مجلس شمال الأطلسي ببروكسل في يناير 1994، كمبادرة من الحلف، في إطار السعي إلى تنمية الثقة ودعم جهود التعاون مع دول شرق أوروبا، من أجل تحقيق الأمن الأوروبي، استكمالاً لقرارات قمتي دول الناتو في لندن (يوليو 1990) وروما (نوفمبر 1991) اللتين بحثتا التكيف مع التحولات المترتبة على انتهاء الحرب الباردة، والتي تم في إطارها إنشاء مجلس تعاون شمال الأطلسي، باعتباره منتدى للحوار والتعاون بين الحلف ودول شرق ووسط أوروبا، التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفيتي (السابق).

[8] لما لم تكن قضايا العضوية والسياسة الجديدة التي تعامل معها برنامج الشراكة من أجل السلام متوافقة تمامًا مع التوجهات المحدودة لمجلس تعاون شمالي الأطلسي، فقد جرى العمل في أواخر التسعينيات على تأسيس مجموعة خاصة، ترأسها نائب الأمين العام لحلف الناتو في ذلك الوقت، وذلك لتطوير إطار سياسي شامل يغطي كلاً من شروط العضوية الواسعة والأهداف العريضة لشراكة حلف الناتو مع أغلب دول أوروبا. وكان الهدف تطوير منتدى للاستشارات السياسية بين جميع الشركاء، يكون نشاطه متوافقًا مع التعاون العملي الذي تمليه الشراكة من أجل السلام. ولهذا فقد تم ربط العضوية في مجلس الشراكة الأوروبية ـ الأطلسية بالانخراط في الشراكة من أجل السلام، فغدت المؤسستان مكملتين بعضهما لبعض بصورة كاملة.

وتأسيسًا على ذلك، فقد  أعلنت دول الحلف والدول الشريكة تأسيس مجلس الشراكة الأوروبية ـ الأطلسية في مدينة سينترا بالبرتغال في الثلاثين من مايو 1997 ليحل محل مجلس تعاون شمال الأطلسي (NACC)، الذي تم إنشاؤه في العام 1991. ويجسد مجلس الشراكة أهدافاً مشتركة تتمحور حول التعاون العسكري العملياتي، وكذلك التوافق على أسس القيم الأساسية.

وفي إيجاز، فإن مجلس الشراكة الأوروبية ـ الأطلسية يقدم مساهمة مهمة لبناء ثقافة أمنية أوروبية ـ أطلسية مشتركة قائمة على تعزيز الحوار السياسي والتعاون العملي بين دول الحلف والدول الشريكة. ويضم مجلس الشراكة في عضويته 28 دولة عضوًا في الحلف و22 دولة شريكة، منها 12 دولة كانت جزءًا من الجمهوريات السوفيتية السابقة و4 جمهوريات كانت جزءًا من جمهورية يوغسلافيا السابقة، فيما يشكل مجموعه 50 دولة.

[9] يشير شرودر إلى نظرية المسار الخاص Sonderweg للتاريخ الألماني التي تقول إن ألمانيا أو المناطق الناطقة بالألمانية قد اتبعت مسارًا تاريخيًّا خاصًّا وفريدًا ومختلفًا عن المسار التاريخي الذي مرت به دول أوروبا الأخرى.

[10] في إطار مبدأ “تبادلية المعاملة بالمثل” “Diffuse Reciprocity” لا تبحث الدول عن الامتيازات الفورية أو التي تتحقق على المدى القصير، وإنما ينصب الاهتمام على بناء الثقة وصولاً إلى تطوير الالتزامات بعيدة المدى بين الدول التي تسعى إلى تحقيق التعاون فيما بينها.

[11] تعد المادة الخامسة في معاهدة الناتو هي البند الرئيس فيها. وبموجب المادة الخامسة، يعد أي هجوم ضد أي من الأعضاء هجومًا على جميع الأعضاء في الحلف.

[12] عملية الحرية الدائمة (OEF) هي الاسم الرسمي المستخدم من طرف حكومة الولايات المتحدة للحرب على أفغانستان، إلى جانب عمليات عسكرية أصغر تحت مظلة ما أطلق عليه مكافحة الإرهاب.

[13] بيتر شتروك: وزير الدفاع الألماني (2002 – 2005) في حكومة المستشار السابق غيرهارد شرودر.

[14] كانت “رسالة الثمانية” رسالة مفتوحة موقعة بشكل مشترك من قبل رؤساء وزراء خمسة من الأعضاء الخمسة عشر آنذاك في الاتحاد الأوروبي جنبًا إلى جنب مع ثلاثة ممثلين رفيعي المستوى لبلدان وسط أوروبا التي كان من المقرر أن تدخل الاتحاد في العام 2004، ونُشرت في صحيفة وول ستريت جورنال، والتايمز اللندنية، وصحف عالمية أخرى في 30 يناير 2003 تحت عنوان “أوروبا وأمريكا يجب أن تقف متحدة”، عبرت عن دعم غير مباشر لطموح الولايات المتحدة لتغيير النظام في العراق في الفترة التي سبقت غزو ​​العراق في العام 2003.

[15] معاهدة الإليزيه هي معاهدة صداقة بين فرنسا وألمانيا الغربية، وقعها الرئيس شارل ديغول والمستشار كونراد أديناور في 22 يناير 1963 في قصر الإليزيه في باريس. وبتوقيع هذه المعاهدة، أنشأت ألمانيا وفرنسا أساسًا جديدًا للعلاقات التي أنهت قرونًا من الصراع والتنافس بين البلدين.

[16] المبادئ التوجيهية للسياسة الدفاعية (VPR) هي وثيقة مؤسِّسة يصدرها وزير الدفاع الاتحادي كإطار مفاهيمي ملزم للسياسة الدفاعية الألمانية وللعمل في مجال مسئولياته. وتحدد المبادئ التوجيهية المهام الموكلة للجيش الاتحادي الألماني، وتضع التصورات حول تطوير قدرات الجيش المستقبلية. تم إصدار الوثيقة أربع مرات في الأعوام 1972 و 1979 و 1992 و 2003. وكان المخطط له في الأصل أن تصدر كل 10 إلى 15 عامًا، وجرى التأكيد في إصدار العام 2003 وفي العام 2011 على أن الوثيقة سوف تتم مراجعتها وتطويرها بانتظام في ضوء ديناميكية تطورات السياسة الأمنية.

[17] كانت اتفاقية مستقبل أوروبا (Convention on the Future of Europe)، المعروفة أيضًا باسم الاتفاقية الأوروبية، هيئة أنشأها المجلس الأوروبي في ديسمبر 2001 كنتيجة لإعلان لاكين (بلجيكا). مستوحاة من اتفاقية فيلادلفيا التي أدت إلى اعتماد الدستور الفيدرالي للولايات المتحدة، كان الغرض منها وضع مسودة دستور للاتحاد الأوروبي لتقديمها إلى المجلس الأوروبي لصياغتها في صورتها النهائية واعتمادها. وقد تم إنجاز العمل في صياغة الاتفاقية في يوليو 2003 بمسودة دستور للاتحاد الأوروبي.

[18] احتلت مسألة الإرهاب ودعوة سبع دول – كانت ضمن الكتلة الشيوعية المتفككة – لبدء محادثات الانضمام إلى الناتو، مكان الصدارة على أجندة قمة الناتو التي انعقدت في براغ (نوفمبر 2002)، والتي وضعت ضمن أولويات الحلف مهمة جديدة هي التصدي للإرهاب والتهديدات غير المتكافئة، كما تم فيها التصديق على المفهوم العسكري لمكافحة الإرهاب.

[19] جاءت أكبر خطوة لإضفاء الطابع الرسمي على عملية دعوة الأعضاء الجدد للانضمام لحلف الناتو في قمة الحلف في واشنطن في العام 1999 عندما تمت الموافقة على آلية خطة العمل المتعلقة بمنح العضوية (MAP) كمرحلة للمراجعة المنتظمة للطلبات الرسمية المقدمة من البلدان الطامحة في الانضمام للحلف. وهو ما يستلزم تقديم تقارير سنوية تتعلق بالتقدم المحرز حول مشاركة الدولة المرشحة في مجموعة من التدابير المختلفة. فيما يقدم الحلف الملاحظات والمشورة الفنية لكل دولة ويقيم تقدمها بشكل منفصل. وبمجرد التوافق على استيفاء دولة ما للمتطلبات، يمكن للحلف إصدار دعوة لتلك الدولة لبدء محادثات الانضمام.

[20] انعقدت قمة الناتو في براغ (نوفمبر 2002).

[21] اتفاقية القوات المسلحة التقليدية في أوروبا هي معاهدة جرى التفاوض بشأنها والتصديق عليها في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، وهدفت إلى وضع قيود شاملة على فئات رئيسة من المعدات العسكرية التقليدية في أوروبا (من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال) وألزمت بتدمير كميات الأسلحة الزائدة عن حدود المعاهدة. ودعت المعاهدة إلى التزامات متساوية لطرفيها، دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودول حلف وارسو. وقد عُدلت المعاهدة في 1999 لتشمل التغييرات التي طرأت بعد انتهاء فترة الحرب الباردة. وعلى خلفية توسع حلف الناتو وعزم الولايات المتحدة على نشر عناصر من نظامها للدفاع الصاروخي في دول أوروبية، قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلبًا لتعديل المعاهدة في الاجتماع الذي دعت له روسيا للدول الموقعة على المعاهدة في فيينا في يوليو 2007، وبعد رفض الطلب الروسي، وقع فلاديمير بوتين مرسومًا بتعليق مشاركة بلاده في المعاهدة. وفي 10 مارس 2015 أعلنت روسيا رسميًّا التوقف تمامًا عن الاشتراك في تطبيق المعاهدة ابتداءً من اليوم التالي، مشيرة إلى خرق حلف الناتو الفعلي للمعاهدة المذكورة.

[22] في العام 2009، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن تبنيه لمشروع التوجه القائم على التكيف المرحلي التدريجي في أوروبا (EPAA)، وهو نظام دفاع صاروخي باليستي من المفترض أن يحمي أوروبا وأمريكا من التهديدات الصاروخية التي قد تصدر عن إيران والمناطق الأخرى.

[23] مصطلح الدول المارقة هو مصطلح تطلقه الإمبريالية الأمريكية على كل دولة تتحدي الهيمنة والبلطجة الأمريكية الدولية.

[24] بعد أن شكل حلف الناتو لجنة برئاسة وزير خارجية بلجيكا بيار هارمل لتقييم أوضاع الحلف في ضوء المتغيرات الدولية، أعدت اللجنة تقريرًا رُفع إلى اجتماع مجلس حلف الناتو الذي انعقد بمدينة بروكسل في ديسمبر 1967، جاء في صورة وثيقة كان عنوانها “المهمات المستقبلية للحلف”. وخلصت إلى أنه يتعين على الحلف اتباع نهج مزدوج المسار يجمع بين الردع العسكري القوي والاستعداد للانفراج والحوار وخفض حدة التوتر مع الاتحاد السوفيتي. وقد أسهمت الفلسفة التي حملها التقرير في توجيه سياسة الحلف خلال الخمسين عامًا  التي تلت صدوره.

[25] في الأساطير اليونانية، أبولو وديونيسوس كلاهما أبناء زيوس. أبولو هو إله الشمس، والتفكير العقلاني والنظام، وهو يدعو إلى المنطق والحصافة والنقاء. وديونيسوس هو إله الخمر والرقص، واللاعقلانية والفوضى، وهو يثير الانفعالات والغرائز. وتدور رواية الألماني توماس مان حول روائي ألماني عجوز (أشينباخ) يسكن ميونيخ، يتوجه إلى مدينة البندقية لينال قسطًا من الراحة والهدوء حيث يلتقي فتى بولنديًّا يافعًا (تاديو)، إلا أن وباء الكوليرا القاتل يحل بالمدينة ويصر العجوز على عدم الرحيل حتى لا يفتقد الشاب البولندي الصغير، وينتهي الأمر بموته جراء إصابته بالكوليرا.

[26] يعتذر المترجم عن عدم حذف هذا الجزء – الصادم ثقافيًّا للقارئ العربي – من نص الكتاب، ولولا قيمته البالغة في توصيف صورة البولنديين في مخيال العقل الجمعي الألماني لما أبقينا عليه.

[27] يشير المؤلف إلى ما اعتبره البعض تخليًا من بريطانيا وفرنسا عن بولندا أمام الهجوم المزدوج الذي شنته القوات الألمانية والسوفيتية في العام 1939 على بولندا، وأسفر عن تقاسم البلدين الأراضي البولندية. وإقرار الولايات المتحدة بسيطرة الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين على بولندا أولاً في مؤتمر يالطا الذي عقد في الفترة من 4 إلى 11 فبراير في العام 1945 في عهد الرئيس الأمريكي روزفلت، ثم في مؤتمر بوتسدام الذي عقد في الفترة من 17 يوليو إلى 2 أغسطس 1945 في عهد خليفته ترومان.

[28] أُعلِنت الجمهورية البولندية الأولى في العام 1793 مع بداية انتفاضة تزعمها تادوش كوشتشوسكو في بولندا وروسيا البيضاء وليتوانيا، ضد الإمبراطورية الروسية ومملكة بروسيا (كانت تشكل ثلثي الإمبراطورية الألمانية حتى هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى 1918). أما الجمهورية البولندية الثانية، أو بولندا ما بين الحربين العالميتين فهو الاسم الذي يطلق على بولندا في الفترة ما بين الحربين العالميتين حيث قامت جمهورية بولندا كدولة أوروبية مستقلة.

[29] المسئولية عن الحماية هي التزام سياسي عالمي أيدته جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مؤتمر القمة العالمي لعام 2005 من أجل معالجة شواغلها الرئيسة الأربعة لمنع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.

ويستند مبدأ مسئولية الحماية إلى الفرضية الأساسية القائلة بأن السيادة تستلزم مسئولية حماية جميع السكان من الجرائم الوحشية الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان. ويستند المبدأ إلى احترام قواعد ومبادئ القانون الدولي، ولا سيما المبادئ الأساسية للقانون المتعلقة بالسيادة والسلام والأمن وحقوق الإنسان والصراعات المسلحة.

وتوفر مسئولية الحماية إطارًا لاستخدام التدابير القائمة بالفعل (مثل الوساطة، وآليات الإنذار المبكر، والعقوبات الاقتصادية، وسلطات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) لمنع الجرائم الفظيعة وحماية المدنيين من وقوعها. أما سلطة استخدام القوة في إطار مسئولية الحماية فتقع على عاتق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وحده، وتعتبر بمثابة الملاذ الأخير.

[30]  بلور الراهب واللاهوتي الايطالي توما الأكويني (1225 – 1274م) في القرن الثالث عشر تعليم الفيلسوف أوغسطينوس و “التوصية الإلهية” للبابا أوربانوس، التي أشعلت الحروب الصليبية عن فكرة “الحرب العادلة”.

[31] ترجمة للعبارة اللاتينية “Unus pro omnibus, omnes pro uno“.

[32] فولكر رُوه، شغل منصب وزير الدفاع الألماني من الأول من أبريل 1992 حتى 27 أكتوبر 1998.

[33] السياسة الشرقية (Ostpolitik) تعني عملية تطبيع العلاقات بين جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) وأوروبا الشرقية، ولا سيما جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية)، التي افتتحها فيلي برانت، المستشار الرابع لجمهورية ألمانيا الاتحادية في العام 1969. وقد تبنى برانت وجهة نظر ترى أن تعزيز الاحتكاك والعلاقات التجارية بين الألمانيتين من شأنه أن يقوِّض الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية على المدى الطويل.

[34] وهي التشيك والمجر وبولندا.

[35] الوثيقة التأسيسية، للعلاقات والتعاون والأمن المتبادل، بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية، الموقعة في 27 مايو 1997 في باريس، نصت بوضوح على عدم اعتبار أي من الطرفين الآخر بمثابة خصم له، وعلى أن يمتنع الجانبان عن تبادل التهديد بالقوة أو استخدامها، ومنحت روسيا دورًا استشاريًّا في مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك. كما نصت على أن تسعى الدول الأعضاء في حلف الناتو وروسيا لتحقيق مزيد من الشفافية، والقدرة على التنبؤ والثقة المتبادلة فيما يتعلق بقواتهم المسلحة، مع الالتزام بعدم نشر قوات قتالية كبيرة على أساس دائم. وبذلك تكون قد وضعت نهاية للحرب الباردة.

[i] See Garton Ash, Timothy (1990) “The Chequers Affair,” NYRB, 27 September, p. 65.

[ii] كانت الركيزة الأولى لعلاقة شراكة المصالح بين بولندا وألمانيا هي تلاقي الأهداف الاستراتيجية بشأن حرية بولندا (من الحكم السوفيتي) وإعادة توحيد ألمانيا.

[iii] See Zelikow, Philip and Condoleezza Rice (1998) Germany unified and Europe transformed: a study in statecraft, Cambridge, Mass: HUP, p. 213.

[iv] See Osica, Olaf and Marcin Zaborowski (2000) “Dylematy konia trojańskiego,” Tygodnik Powszechny 35, 27 August, p. 4.

[v] See Weiland, Severin (2002) “Bundeswehrreform: Struck bastelt an eigenen Schulterklappen,” Der Spiegel, 5 December.

[vi] See Jäger, Thomas and Daria W. Dylla (2008b) “Ballistic Missile Defence und polnische Sicherheitsinteressen. Eine Analyse der Diskussion über die Stationierung der US-Raketenbasis auf polnischem Territorium” in Jäger and Dylla (2008a) pp. 289–324.

[vii] See Wallander, Celeste A. (2000) “Institutional Assets and Adaptability: NATO After the Cold War,” International Organisation 54, pp. 705– 735; Gheciu, Alexandra (2005) NATO in the “new Europe:” the politics of international socialization after the Cold War. Stanford: SUP; Moore, Rebecca R. (2007) NATO’s new mission: projecting stability in a post-Cold War world. Greenwood Publishing Group.

[viii] الاقتباس من وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت ورد في

Drozdiak, William (1998) “European Allies Balk at Expanded Role for NATO,” Washington Post, 22 February, p. A27.

[ix] See NATO (1999) “The Alliance’s Strategic Concept.” Washington, 24 April.

[x] Hyde-Price (2000a) p. 148.

[xi] Ibid. See also Tewes, Henning (1999) “In der entscheidenden Phase: Deutschland und die NATO-Osterweiterung, 1993–1994,” Rocznik Polsko-Niemiecki 8, Warsaw: ISP-PAN.

[xii] أوضح حكم المحكمة الدستورية الاتحادية السند القانوني لنشر القوات في 12 يوليو 1994، بعد أن طعن الحزب الديمقراطي الاشتراكي على قرار الحكومة بالسماح للجيش الألماني بالمشاركة في مهمة خارج أراضي التحالف. حيث قضت المحكمة بجواز المشاركة في مهام خارج حدود التحالف طالما كانت القوات المسلحة الألمانية جزءًا من جهد أمني جماعي (أي تحت رعاية الأمم المتحدة أو الناتو أو اتحاد أوروبا الغربية (WEU) أيضًا).

[xiii] صوَّت لصالح نشر القوات 543 عضوًا مقابل 107 صوتوا بالرفض.

[xiv] Kinkel, Klaus (1994) “Peacekeeping Missions: Germany can now play its part,” NATO Review 42:5, pp. 3–7.

[xv] See McAdams, A. James (1997) “Germany after unification: Normal at last?” World Politics 49:2, pp. 282–308; Forsberg, Tuomas (2000) “The debate over German normality: A normal German debate?” in Howard Williams, Colin Wight and Norbert Kapferer (eds) Political Thought and German Unification: A New German Ideology. London: Macmillan, pp. 139–155.

[xvi] من أجل لمحة موجزة عن النقاش حول “التطبيع”، انظر

Hyde-Price (2000a) p.  122; Buras and Longhurst (2005); Hellmann, Gunther (1999) “Nationale Normalität als Zukunft: Zur Aussenpolitik der Berliner Republik,” Blätter Für Deutsche und Internationale Politik 44:7, pp. 837– 847; Pulzer, Peter (1994) “Unified Germany: A normal state?” German Politics 3:1; Garton Ash, Timothy (1996) “Germany’s Choice,” in Michael Mertes, Steven Muller and Heinrich August Winkler (eds) In Search of Germany, New Brunswick: Transaction, pp.  79–94; Meiers, Franz-Josef (1995) “Germany: The Reluctant Power,” Survival 37, pp. 82–103.                                                                             

[xvii] Deutscher Bundestag (1999) “Plenarprotokoll 14/32, Stenographischer Bericht, 32. Sitzung,” Bonn, 15 April.

[xviii] Kuźniar, Roman (2001) Polityka bezpieczeństwa w polskiej polityce zagranicznej 1989–2000. Warsaw: Scholar, p. 121.

[xix] Waszczykowski, Witold (1999) “NATO: nowe wezwania—dyskusja w stowarzyszeniu Atlantyckim,” Polska w Europie 29, p. 74.

[xx] Sejm Rzeczpospolitej Polskiej (1999c) “Sprawozdanie o rzadowym projek ̨ – cie ustawy o ratyfikacji Traktatu Północnoatlantyckiego.” Warsaw, 17 February.

[xxi] Sejm Rzeczpospolitej Polskiej (1999b) “Biuletyn nr 1541/III,” Komisji Spraw Zagranicznych (No. 57), Komisji Obrony Narodowej (No. 39). Warsaw, 5 May.

[xxii] في مقابلة مع صحيفة لا ستامبا اليومية التي تصدر في تورينو (بإيطاليا) في 27 أبريل 1999، استخدم الرئيس كفاشنيفسكي بمهارة مفهوم “الموت من أجل غدانسك” لتبرير دعم بولندا للتدخل: “هل يستحق الأمر “الموت من أجل غدانسك”؟ […] في ذلك الوقت، تقرر عدم الموت من أجل غدانسك، وبعد ذلك بوقت قصير اندلع القتال على جميع الجبهات وكان الناس يموتون لأسباب أقل أهمية بكثير من غدانسك. لهذا السبب نحن مقتنعون بأن مواجهة وإزالة سرطان البلقان اليوم، على الرغم من العملية المؤلمة، أفضل بكثير من المعاناة من عواقب أكثر خطورة غدًا”. وخلال الجلسة العامة للجمعية البرلمانية للناتو في مايو 1999 في وارسو، أوضح رئيس الوزراء البولندي جيرزي بوزيك أن: البولنديين يتذكرون مأساة الحرب الأخيرة التي بدأت هنا في هذه الأرض قبل ستين عامًا. نتذكر تقاعس أوروبا. كما نتذكر العواقب التي أفضت إليها الديكتاتوريات البنية (النازية) أو الحمراء (السوفيتية). هذا هو المكان الذي يأتي منه دعم مجتمعنا لمهمة التحالف الأطلسي والمجتمع الدولي”. كلا التصريحين ورد في

Osica (2003b) pp. 114–115.

يشير الرئيس البولندي الكسندر كفاشنيفسكي إلى مقال للسياسي الفرنسي مارسيل دِيا في العام 1939 جاء تحت عنوان “الموت من أجل دانسك”، عرض فيه لأحد الإنذارات الألمانية النازية إلى الجمهورية البولندية، تتعلق بمطلب نقل السيطرة على مدينة دانسك (الاسم الألماني لغدانسك) إلى ألمانيا. وخلص إلى أن فرنسا ليس لها مصلحة في الدفاع عن بولندا. وقد اختلف المؤرخون حول ما أحدثه المقال من صدى في فرنسا وبريطانيا وما كان له من تأثير على سقوط بولندا في أيدي النازيين لاحقًا. (المترجم)

[xxiii] See Sejm Rzeczpospolitej Polskiej (1999a) “Informacja rzadu o podsta ̨ – wowych kierunkach polityki zagranicznej przedstawiona w Sejmie.” Debate after Foreign Minister Geremek’s exposé to the Sejm, Warsaw, 8 April.

[xxiv] See Friedrich, Wolfgang-Uwe (2000) “The legacy of Kosovo: German politics and policy in the Balkans,” German Issues, 22 Washington: AICGS.

[xxv] Die Tageszeitung (1999) “Wir sind doch kein Weltpolizist,” 19 July

[xxvi] Schröder, Gerhard (1999) Speech delivered at the 41st Munich Security Conference, 12 February.

[xxvii] Baumann, Reiner (2002) “The Transformation of German Multilateralism. Changes in the Foreign Policy Discourse since Unification,” German Politics and Society 20: 4, pp.  1–26; Baumann, Reiner (2006) “Der Wandel des deutschen Multilateralismus. Eine diskursanalytische Untersuchung deutscher Außenpolitik,” Schriftenreihe Internationale Beziehungen 4, Baden-Baden: Nomos.

[xxviii] See Bachmann, Klaus (2003) “Das Ende der Interessengemeinschaft? Deutschland und Polen nach EU-Erweiterung und Irak-Krise. Versuch einer Klärung,” Reports and Analyses 1:5, Warsaw: CSM.

[xxix] Sejm Rzeczpospolitej Polskiej (2001) “Informacja prezesa Rady Ministrów, Leszka Millera, w zwiazku z decyzja ̨ o uz ̨ ̇yciu polskiego kontyngentu wojskowego w składzie sił sojuszniczych w operacji “Trwała wolność.” 4th Sejm, 6th session, Warsaw, 29 November.

[xxx] حزب تحالف اليسار الديمقراطي، وحزب الشعب البولندي الحاكميْن، وأحزاب المنصة المدنية، والقانون والعدالة، وعصبة العائلات البولندية المعارضة. انظر

Longhurst and Zaborowski (2007) p. 44.

[xxxi] Varwick, Johannes (2004) “Deutsche Sicherheits- und Verteidigungspolitik in der Nordatlantischen Allianz: Die Politik der rot-grünen Bundesregierung 1998–2003” in Sebastian Harnisch, Christos Katsioulis and Marco Overhaus (eds) Deutsche Sicherheitspolitik: Eine Bilanz der Regierung Schröder. Baden-Baden: Nomos, pp. 15–36, p. 22.

[xxxii] Deutscher Bundestag (2001b) “Plenarprotokoll 14/202, Stenographischer Bericht, 202. Sitzung,” Berlin, 16 November.

[xxxiii] Deutscher Bundestag (2001a) “Plenarprotokoll 14/192, Stenographischer Bericht, 192, Sitzung,” Berlin, 11 October.

[xxxiv] Cimoszewicz, Włodzimierz (2002) “Informacja Ministra Spraw Zagranicznych o podstawowych kierunkach polityki zagranicznej Polski,” 4th Sejm, 16th session, Warsaw, 14 March.

[xxxv] See Rzeczpospolita (2001) “Ostrożne poparcie Polski,” 6 December.

[xxxvi] In Rzeczpospolita, “Modernizacja albo marginalizacja,” 18 April, p. 4.

وفي خطاب سابق أمام مجلس النواب، قال وزير الخارجية شيموشيفتش إن الشراكة الجديدة بين الناتو وروسيا يجب ألا تعكس أكثر من “إمكانات واقعية للتعاون”.

Cimoszewicz, Włodzimierz (2002) “Informacja Ministra Spraw Zagranicznych o podstawowych kierunkach polityki zagranicznej Polski,” 4th Sejm, 16th session, Warsaw, 14 March.

[xxxvii] حول تجربة الاقتراب من الموت (Nahtoderlebnis) انظر

Kamp, Karl-Heinz (2003) “Die Zukunft der deutsch-amerikanischen Sicherheitspartnerschaft,” Aus Politik und Zeitgeschichte 46, pp. 16–22.

[xxxviii] في سبتمبر، تبنت واشنطن استراتيجية جديدة للأمن القومي تضمنت بندًا بشأن تدابير استباقية لمواجهة التهديدات من الدول المارقة.

[xxxix] Struck, Peter (2002) “Nicht jedes Land muss alles können,” Berliner Zeitung, 21 November, p. 6.

[xl] Varwick (2007) p. 775.

[xli] See Schuster and Maier (2006).

[xlii] Quatremer, Jean and Nathalie Dubois (2003) “Jacques Chirac jette un froid à l’Est”, Libération, 19 February.

[xliii] See Weiland, Severin (2002) “Bundeswehrreform: Struck bastelt an eigenen Schulterklappen,” Der Spiegel, 5 December

[xliv] See Ministry of Defence of the Federal Republic of Germany (2003) “VPR für ein verändertes sicherheitspolitisches Umfeld,” Verteidigungspolitische Richtlinien, Berlin, 21 May.

[xlv] Struck, Peter (2005) “Deutschland und die Zukunft der Nato.” Speech delivered at the NATO 2020 conference, Berlin, 11 May.

[xlvi] ظل التأييد للاستمرار في عضوية الناتو، في ألمانيا، أعلى بكثير من 50٪ حتى أثناء “تصاعد التباينات في وجهات النظر”. انظر

Transatlantic Trends (2006) “Key Findings,” GMFUS, http://trends.gmfus.org/doc/2006_english_key.pdf.

[xlvii] See Konrad Adenauer Stiftung. 2005. Current Issues in German Politics 23, KAS Germany Update, February.

[xlviii] See Wroński, Paweł (2002) “NATO jak nowe,” Gazeta Wyborcza, 29 November; Wypustek-Zuchowicz, Katarzyna (2002) “Drzwi do NATO pozostana otwarte: Komentarze,” ̨ Rzeczpospolita, 22 November; Wypustek-Zuchowicz, Katarzyna (2002) “Szczyt zgody i transformacji,” Rzeczpospolita, 22 November.

[xlix] Council of Ministers of the Republic of Poland (2003) “Strategia Bezpieczeństwa Narodowego Reczpospolitej Polskiej,” Rada Ministrów Rzeczpospolitej Polskiej, Warsaw, 22 July.

[l] See Atlantic Association of Poland (2000) “Stanowisko Prezydenta RP w kwestii poszerzenia,” in Rozszerzenie NATO. Warsaw: SA, pp. 81–84.

[li] Knapp, Manfred (2004) “Die Haltung Deutschlands zur zweiten Runde der Osterweiterung der Nato,” in August Pradetto (ed.) Die zweite Runde der Nato-Osterweiterung. Frankfurt/M.: Peter Lang, p. 153–177.

[lii] Varwick (2007) p. 774.

[liii] Rzeczpospolita (2008) “‘FAZ:’ Kaczyński krytykuje Niemcy w sprawie wejścia Ukrainy i Gruzji do NATO,” 2 April.

[liv] Rzeczpospolita (2008) “Rozpoczał sie ̨ szczyt w Bukar ̨ eszcie,” 2 April.

[lv] بدأت المحادثات غير الرسمية في العام 2002، وفي ديسمبر 2004، شكلت الحكومة فريق عمل مشترك بين الوزارات لصياغة موقف بولندا.

[lvi] See Stefan Batory Foundation (2006) “Amerykańska tarcza antyrakietowa a interes narodowy Polski—dyskusja,” 7 August, Warsaw. Also Dylla, Daria (2008b) “Polen und der US-Raketenabwehrschild—Eine Kommentarreihe, Teil VIII,” Kommentare zur Internationalen Politik und Außenpolitik (KIPA), Cologne.

[lvii] كانت حكومة حزب القانون والعدالة التي كانت في السلطة آنذاك واضحة فيما يتصل بالتعامل مع المسألة من حيث إنها مسألة ثنائية: إذ جادل الوزير غوشيفسكي في مارس 2007 بأن “بولندا ليس لديها مصلحة في إنجاز الدرع الصاروخي كمشروع للناتو”.

PAP (2007) “Polska nie chce tarczy w ramach NATO,” 23 March.

[lviii] Jäger and Dylla (2008b) p. 292.

[lix] Gabryel, Piotr (2008) “Brawo Lech Kaczyński! Brawo Donald Tusk,” Rzeczpospolita, 15 August; Lisicki, Paweł (2008) “Wygrał interes Polski,” Rzeczpospolita, 20 August.

[lx] See Lang, Kai-Olaf (2003) “The German-Polish security partnership within the Transatlantic context—convergence or divergence,” in David H. Dunn and Marcin Zaborowski (eds) (2003) Poland: A New Power in Transatlantic Security. Routledge.

[lxi] See Fischer, Joschka (2007) “Knapp am Totalschaden vorbei,” Süddeutsche Zeitung, 25 June; Frankfurter Rundschau (2007a) “Jung will Schutzschirm auch für Südeuropa,” 13 April.

[lxii] في مايو 2008، نشر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ورقة من 20 صفحة أعدها نائب رئيس الكتلة البرلمانية، أعرب فيها عن دعمه لبناء درع دفاع صاروخي لأوروبا. انظر

Der Spiegel (2008) “Union will Raketenschirm,” 5 May.

[lxiii] Deutscher Bundestag (2007) “Plenarprotokoll 16/87, Stenografischer Bericht, 87. Sitzung.” Berlin, 21 March.

[lxiv] The Associated Press (2007) “Putin suggests Iraq for missile shield,” 8 June.

[lxv] FAZ (2007) “Berlin begrüßt Putins Initiative,” 8 June.

[lxvi] Der Tagesspiegel (2007) “Entspannung durch Putins Angebot” 8 June.

[lxvii] FAZ (2007) “Berlin begrüßt Putins Initiative,” 8 June.

[lxviii] Handelsblatt (2007) “Offene Ohren für Putins Pläne,” 10 June.

[lxix] Rzeczpospolita (2007) “Putin próbuje przebić tarcze,” 8 June.

[lxx] Szczypiór, Janusz (2010) “Bateria rakiet Patriot jest już w Moragu,” ̨ Gazeta Wyborcza, 24 May

[lxxi] Rheinishe Post (2009) “Steinmeier begrüßt Stopp: USA ziehen Pläne für Raketenschild zurück,” 17 September; Focus (2009) “Raketenschild: Viel Applaus für Obamas Rückzieher,” 17 September; Der Spiegel (2009) “Abwehrsystem: Aus für US-Raketenschild frustriert Osteuropäer,” 17 September; Portal-Liberal (2009) “Westerwelle begrüßt Abrücken von den Raketenschild-Plänen,” 17 September.

[lxxii] See “An Open Letter to the Obama Administration from Central and Eastern Europe” (2009) 16 July.

[lxxiii] DW-Online (2009) “Merkel Calls Afghanistan NATO’s ‘Biggest Test,’” 26 March.

[lxxiv] Asmus, Ronald et al. (2010) “NATO, new allies and reassurance,” CER Policy Brief, May

[lxxv] لقد ظهر انقسامان في المحادثات: الأول كان بين الولايات المتحدة ودول وسط وشرق أوروبا من جهة، وأوروبا “المركزية” من جهة أخرى، في الاختلاف حول مسألة ما إذا كان ينبغي على الناتو التركيز على “التواصل” أو “الدفاع”؛ والثاني ، بين الولايات المتحدة وأوروبا “المركزية” من ناحية، ودول وسط وشرق أوروبا والحلفاء “المهمشين” الآخرين من ناحية أخرى، في الانقسام حول مسألة “إعادة ترتيب” العلاقات مع روسيا.

[lxxvi] Koziński, Agaton (2010) “NATO musi znaleść nowa formułe ̨ ,” ̨ Rzeczpospolita, 12 March; Godlewski, Andrzej (2003) “NATO jako nowy lepszy Układ Warszawski,” Rzeczpospolita, 12 March.

[lxxvii] See Gołota, Małgorzata and Paweł Wroński (2009) “Radosław Sikorski: Rosja w NATO? Czemu nie,” Gazeta Wyborcza, 31 March.

[lxxviii] Malinowski (2004); Longhurst and Zaborowski (2005); Frank (2008a).

[lxxix] انظر مراجعة الأدبيات في المقدمة.

[lxxx] تستشهد جميع الروايات الثقافوية تقريبًا بخيانة بريطانيا وفرنسا لبولندا باعتبارها خبرات أساسية ساهمت فـي تكوين الثقافة الاستراتيجية الراهنة للبلاد: أي انعدام  ثقتها المزعوم في أوروبا والنزعة الأطلسية “الغريزية” و “ذات الطابع القائم على رد الفعل تجاه الخبرة التاريخية”. إلا أن قلة قليلة تأملت لماذا لم تؤد تضحية الولايات المتحدة ببولندا في يالطا إلى اتخاذ موقف أكثر تحفظًا تجاه واشنطن. انظر

Malinowski, Krzysztof (2003b) “Kultura bezpieczeństwa narodowego: koncepcja i możliwości zastosowania,” in Krzysztof Malinowski (ed.) Kultura bezpieczeństwa narodowego w Polsce i Niemczech. Poznań: Instytut Zachodni, pp. 15–46, p. 36; Malinowski (2004) p. 118; Zaborowski (2003) p. 6; Osica (2002b); Osica (2003b) p. 101; Osica (2005) p.  117; Frank (2004) p.  8.

وبشكل استثنائي، عالج لونغهيرست وزابوروسكي المسألة بصورة مباشرة، مجادلين بأنه على الرغم من أن القوة العظمى الأمريكية قد تخلت عن بولندا في ساعة الشدة، فهي على النقيض من القوى الأوروبية، لا يمكن اتهامها بالمهادنة. انظر

Longhurst and Zaborowski (2007) p. 12.

وتكدر مشكلات مماثلة صفو تصوير بولندا كمتشكك في جدوى العمل في إطار تحالفات متعددة الأطراف. ويجادل العديد من الثقافويين بأن خبرات بولندا مع عصبة الأمم والأمم المتحدة قد تركت النخب في البلاد متشككة في المؤسسات الدولية. لكن هذا الادعاء لا يتوافق مع السجل التاريخي لإصرار وارسو الفائق على الانضمام إلى مؤسسات الجماعة (الناتو والاتحاد الأوروبي) خلال التسعينيات، ودعم الشعب البولندي الساحق لعضوية البلاد في المؤسسات الأوروبية – الأطلسية. انظر

Osica (2005) p. 118; Zaborowski (2003) p. 6; Longhurst and Zaborowski (2007) p. 20.

ومهما يكن من أمر، فإن أوسيكا يقرّ بالتوتر القائم بين انعدام ثقة بولندا المزعوم في الحلفاء، وشعورها الحاد بالضعف والاحتياج إلى تحالف متين مع الغرب. انظر

Osica (2005) p. 119.

[lxxxi] هل يمكن أن تكون الفجوة بين الاستجابات الأمريكية والأوروبية الغربية للأزمة البولندية في العام 1981 بمثابة نقطة انطلاق أفضل للبحث عن مصادر انعدام ثقة وارسو الراهنة بشركائها في الاتحاد الأوروبي؟ انظر

Sjursen, Helene (2003) The United States, Western Europe and the Polish Crisis. Basingstoke: Palgrave Macmillan.

تفجرت الأزمة البولندية في العام 1981 جراء تصاعد حركة الاحتجاجات ضد النظام الشيوعي الاستبدادي غير الكفء في بولندا وتأسيس حركة تضامن (نقابة عمالية غير حكومية أسسها ليخ فاونسا)، حيث حاولت الحكومة الشيوعية البولندية التصدي لهذه الحركة بإعلان الأحكام العرفية في العام 1981م، وتلت ذلك عدة سنوات من القمع السياسي. (المترجم)

[lxxxii] إن العديد من الدراسات حول الثقافة الاستراتيجية لبولندا والتي تستند إلى تحليلات للخطاب العام تنتقي البيانات حول المتغير المستقل (“التحيز في الاختيار”). وبدلاً من تسجيل حالات الاستدلالات التاريخية في النقاشات السياسية، فإنها تميل إلى الاستشهاد بأمثلة من التبريرات المبنية على الخبرة التاريخية للاختيارات السياسية لوارسو. انظر، على سبيل المثال

Malinowski (2003b); Malinowski (2004); Mazur (2003); Osica (2003b).

[lxxxiii] على سبيل المثال، في العام 2007 ، أعلن حوالي 68٪ من المستطلعين البولنديين “ثقتهم” في الاتحاد الأوروبي، بينما قال 18٪ و 15٪ فقط إنهم يثقون في الحكومة والبرلمان على التوالي. انظر

Eurobarometer (2007) “National Report Executive Summary: Poland,” Standard Eurobarometer 67, Brussels: European Commission.

[lxxxiv] See Kranz, Jerzy (2001) “Germany, Quo Vadis? A View from Poland,” German Politics, 10:1; Le Gloannec, Anne-Marie (2001) “Germany’s Power and the Weakening of States in a Globalised World: Deconstructing a Paradox,” German Politics 10:1; Harnisch, Sebastian (2001) “Change and Continuity in Post-Unification German Foreign Policy,” German Politics 10:1.

[lxxxv] See Buras and Longhurst (2005); Hyde-Price (2001); Hellmann, Gunther (2001) “Precarious Power: Germany at the Dawn of the Twenty-First Century,” in Wolf-Dieter Eberwein and Karl Kaiser (eds) Germany’s New Foreign Policy. New  York: Palgrave; Baumann, Rainer and Gunther Hellmann (2001) “Germany and the Use of Military Force: ‘Total War,’ the ‘Culture of Restraint’ and the Quest for Normality,’” German Politics 10:1, pp. 61–82.

[lxxxvi] Focus (2010) “Guttenberg stützt umstrittene Köhler-These,” 9 November.

[lxxxvii] على سبيل المثال مجموعة الثماني، ومجموعة الاتصال (بشأن البلقان)، ودول الثلاثي الأوروبي للتفاوض مع إيران، والرد على الحادي عشر من سبتمبر بعيدًا عن رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، إلخ.

[lxxxviii] See Baumann (2006).

[lxxxix] See Szabo, Stephen F. (2004) Parting Ways: The Crisis in German-American Relations. Washington D.C.: Brookings Institution Press.

[xc] See Sjursen, Helene (2004) “On the Identity of NATO,” International Affairs 80:4, pp. 687–703.

[xci] Risse-Kappen, Thomas (1988) “Odd German consensus against new missiles,” Bulletin of the Atomic Scientists 44:4, May.

[xcii] توضح خبرة الحرب الباردة في ألمانيا الغربية كيف يؤثر مستوى “الإسهام” على قدرة الدول على تشكيل نظام دولي. فعلى سبيل المثال، تبنى الحلفاء، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عقيدة “الدفاع المتقدم (الأمامي)” كنتيجة لانضمام ألمانيا الغربية إلى الناتو، كما يرجع الفضل في وضع استراتيجية “الاستجابة المرنة” في الستينيات، في جانب منه، إلى الضغط السياسي لبون. وقد مهد دخول الطائرات الألمانية ذات القدرة النووية إلى الخدمة الطريق لصوت ألماني مسموع في وضع العقيدة النووية لحلف الناتو، مما دفع كريستيان توشوف إلى استنتاج أنه “عندما زادت المساهمة الألمانية في الدفاع الجماعي، ازداد تأثيرها على صياغة الاستراتيجية بشكل كبير”. وبالأخير، تم تعزيز معايير التشاور وتبادل المعلومات من خلال الوجود المادي للضباط الأمريكيين، الذين تطورت تحيزاتهم “الأصلية” أثناء وجودهم في ألمانيا الغربية، مما سمح لبون بالاعتماد على التفهّم الضمني والدعم بين موظفي الولايات المتحدة عندما دعت، على سبيل المثال، إلى “نمط الكعكة متعددة الطبقات” للدفاع لضمان الأمن المتكافئ عبر أراضيها. انظر

Tuschhoff, Christian (1999) “Alliance Cohesion and Peaceful Change in Nato,” in Helga Haftendorn, Robert O. Keohane and Celeste A. Wallander (eds) In Imperfect Unions: Security Institutions over Time and Space. Oxford: OUP, pp. 140–161.

– نظرًا لأن القوات في الجبهات الخلفية لم تكن تمتلك القدرة على التقدم بسرعة كافية للدخول في المعارك العملاقة المتصورة، كان يجب وضع كل القوات بالقرب من الخطوط الأمامية قدر الإمكان. وكانت النتيجة تنظيمًا جديدًا في ساحة المعركة جعل الغالبية العظمى من القوات الأمريكية والقوات المتحالفة أقرب كثيرًا إلى الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية، وهو ما أصبح يُعرف باسم “الدفاع المتقدم (الأمامي)” “Forward Defense”.

– استراتيجية “الاستجابة المرنة” أو “الرد المرن” “Flexible Response”: ساهم في وضعها كل من الرئيس الأمريكي داويت ايزنهاور ورئيس الأركان ماكسويل تايلور، وشاع استعمال هذا المصطلح خلال فترة الحرب الباردة وقد اتخذ عدة مسميات: الرد تحت السيطرة، ونظرية التدرج في الهجوم الانتقامي. وبالمعنى الاستراتيجي نشأ الرد المرن من الحاجة الى التخلي عن الرد الانتقامي الشامل واستبداله بتعاطٍ مرن وأكثر قابلية للسيطرة وذلك أنه لا يجب الرد على العدوان بحرب عنيفة تستخدم فيها كل الوسائل حتى الذرية وإنما يجب الرد بطريقة مرنة و بقدرات تتناسب مع ما وقع من عدوان، حيث اقتنعت الإدارة الأمريكية أن أمريكا بحاجة إلى توسيع قدراتها التقليدية لمواجهة المزيد من الأوضاع الطارئة. وقد اقتنع كينيدي – خليفة ايزنهاور – بهذه الاستراتيجية ودافع عنها لأنها توفر المقدرة على التصرف إزاء أي نوع من أنواع الحرب سواء كانت عالمية أو محدودة، نووية أو تقليدية، كبيرة أو صغيرة ولأن الرد المرن ليس الرد المماثل فقد يكون الرد على الهجوم دفاعًا نوويًّا تكتيكيًّا أو عملاً نوويًّا محدودًا خشية تحول النزاع من محدود إلى شامل.

– تقوم استراتيجية “الكعكة متعددة الطبقات” “Layer Cake” على تمركز الحشود العسكرية تلو بعضها البعض بالقرب من الخطوط الأمامية على صورة أحزمة تشبه الكعكة متعددة الطبقات، ويتم تنظيمها في فرق عسكرية ينتمي كل منها إلى جيش وطني من جيوش دول الحلف. (المترجم)

[xciii] Hacke, Christian (1997) “Die neue Bedeutung des nationalen Interesses für die Außenpolitik der Bundesrepublik Deutschland,” Aus Politik und Zeitgeschichte 1/2, pp. 3–14, p. 6.

[xciv] Baumann, Rainer (2007a) “Deutschland als Europas Zentralmacht,” in Schmidt et al. (eds) pp. 62–72.

[xcv] Hacke (1997) p. 6.

[xcvi] من بين ما تشمله منشآت الناتو في ألمانيا ما يلي: قاعدة غايلنكيرشن الجوية، وقاعدة رامشتاين الجوية، ومقر القيادة الثابت في كاسلغيت، ومدرسة الناتو باوبرامرغو، وأجزاء من نظام الدفاع الجوي المتكامل التابع لحلف الناتو.

[xcvii] Geremek, Bronisław (1999) “Informacja rzadu o podstawowych kierunkach polityki zagranicznej przedstawiona w Sejmie,” 3rd Sejm, 47th session, 8 April.

[xcviii] اتخذت دول الأطراف الواقعة على خط المواجهة الأعضاء في الحلف، بما في ذلك دول شرق أوروبا الوسطى، وكذلك النرويج وأيسلندا، مواقف مماثلة في النقاشات حول تصور الناتو في العام 2020 (وهي وثيقة تحدد أهداف الناتو وطبيعته طويلة الأمد ومهامه الأمنية الأساسية).

[xcix] Rühe, Volker (1993) “Shaping Euro-Atlantic Policies: A Grand Strategy for a New Era,” Survival 35:2, p. 130; Baumann (2007a); Tewes (2002); Beckmann, Rasmus (2008) “Deutschland und Polen in der NATO: Gemeinsame Mitgliedschaft unterschiedliche Interessen,” in Jäger and Dylla (2008a) pp. 161–185.

[c] Ecker-Ehrhardt and Eberwein (2001) p. 71.

[ci] Financial Times Deutschland (2001) “Putin pokert bei Raketenabwehr,” 15 June.

[cii] See Gazeta Wyborcza (2001a) “Lobbujemy w NATO,” 21 April.

[ciii] See Asmus, Ronald (2002) Opening NATO’s door: how the alliance remade itself for a new era. New York: CUP, p. 196.

[civ] See Polska Times (2009) “Rozmowa z Aleksandrem Smolarem: USA oddały hołd interesom Rosji w Europie Ś rodkowej,” 25 September; Asmus, Ronald (2009) “Shattered confidence in Europe,” Washington Post, 19 September.

[cv] Goetz, John and Marcel Rosenbach, Holger Stark (2008) “‘Those Guys Are Heroes’: How German Agents Helped Pave the Way into Iraq”, Der Spiegel, 16 December.

[cvi] يعرَّف مصطلح “Podmiotowość” (الذاتية) في البولندية على أنه “الحضور الفاعل” أو كون الدولة أو الكيان “فاعلاً في” بدلاً من أن يكون “مفعولاً به” في النظام الدولي.

[cvii] Markovits and Reich (1991).

حول عودة “المسألة الألمانية” إلى الظهور وهيمنة ألمانيا الاقتصادية في شرق أوروبا الوسطى، انظر أيضًا

Kundnani, Hans (2014) The paradox of German power, London: Hurst.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى