صدر في بداية شهر جويلية الماضي كتاب مهم ، عن دار النشر الألمانية العريقة المتخصصة في نشر الابحاث الجامعية De Gruyter،لمجموعة خبراء تحت إشراف الباحث الإيطالي في دراسات الذاكرة الثقافية غيدو بارتوليني Guido Bartolini بعنوان:
التوسط في المسؤولية التاريخية: ذكريات’الماضي الصعب’ في الثقافات الأوروبية
Mediating Historical Responsibility: Memories of ‘Difficult Pasts’ in European Cultures
يجمع هذا الكتاب بين باحثين بارزين وأصوات جديدة في مجالات متعددة التخصصات، لدراسات الذاكرة والتاريخ والدراسات الثقافية، لاستكشاف كيف أن الثقافة والتمثيلات الثقافية،هي في طليعة جلب ذاكرة الظلم الماضي إلى انتباه الجماهير بشكل مستمر.
فمن خلال التعامل مع صفحات الظلم في التاريخ الأوروبي في القرن العشرين، والتعامل مع إرث الاستعمار وجرائم الحرب والإبادات الجماعية والدكتاتوريات والعنصرية، يتناول مؤلفو الكتاب الماضي الظالم لأوروبا ،من خلال دراسة المنتجات الثقافية، وفحص السرديات التاريخية والنصوص الأدبية والأفلام والوثائقيات والمسرح والشعر والروايات المصورة، والأعمال الفنية البصرية والتراث المادي والاستقبال الثقافي والسياسي للتقارير الحكومية الرسمية.
ومن اهم فصول الكتاب:
-المسؤولية التاريخية ووساطة الماضي الصعب لجويدو بارتوليني وجوزيف فورد
-ما وراء الحياد: التأريخ والحكم الأخلاقي لدونالد بلوكهام
-الذاكرة الديمقراطية”، التاريخ العام والمسؤولية في إسبانيا لأليسون ريبيرو دي مينيزيس
-لماذا نهتم بعنف الماضي؟ معالجة المسؤولية الجماعية في المناقشات البريطانية حول العنف الاستعماري أثناء تمرد الماو ماو لإيتاي لوتيم
-الحطام المزعج: الإرث العابر للحدود الوطنية للماضي الاستعماري لإيطاليا في أديس أبابا لتشارلز بورديت وجيانماركو مانكوسو
-الذاكرة الخاصة، وما بعد الذاكرة، والذاكرة العامة في ساحة المعركة:معابر الحدود المتوسطية، والخطاب العام الإيطالي حول الغزو لجايا جولياني
ينطلق مؤلفو الكتاب من فرضية مفادها أن المنتجات الثقافية ــ النصوص الأدبية والأفلام الوثائقية، والروايات المصورة والأعمال الفنية البصرية، والروايات التاريخية والموارد الرقمية ،وأي قطع أثرية أخرى من صنع الإنسان ،تتمتع بمعنى رمزي ، تقدم موقعاً فريداً لتجربة اللقاءات المزعجة مع الماضي الصعب، وبالتالي فهي أرض مميزة لاستكشاف قضايا المسؤولية والتأمل فيها.
يتبنى الكتاب نهجًا وسيطًا لدراسة التاريخ الأوروبي، فهو يستكشف العلاقة بين الذاكرة والمسؤولية، ويبحث في معنى تحمل المسؤولية عن الماضي، ويظهر كيف تتشابك المنتجات الثقافية بشكل أساسي في هذه العملية.
لقد أصبحت المسؤولية مصدر قلق ملح في عالمنا المعولم، ففي أوروبا، أثبتت العديد من المناقشات العامة الأكثر أهمية في السنوات القليلة الماضية، مثل تلك التي دارت حول جائحة فيروس كورونا، والحرب في أوكرانيا، ونزوح المهاجرين وطالبي اللجوء، والأزمة البيئية الناجمة عن تغير المناخ بسبب أنشطة الإنسان، الأهمية المتزايدة التي ترتبط بمسائل المسؤولية في مجتمعاتنا وثقافاتنا.
يؤكد مؤلفو هذا الكتاب أن المسؤولية، ليست بأي حال من الأحوال مفهوماً يمكن استخدامه فقط فيما يتعلق بقضايا اليوم، ولكنها تنطوي أيضاً على آثار مهمة على كيفية تفكيرنا في الماضي ،ودور الذاكرة في التفاوض على علاقة معه.
إذا كانت الذاكرة تشير إلى مجموع السياق الذي تحدث فيه “عمليات ذات طبيعة بيولوجية أو وسطية أو اجتماعية تربط الماضي بالحاضر ، وإذا اتفقنا على أنها لا تتعلق أبداً بسلسلة من الأحداث المنفصلة – حيث إنها، تولد “نسخاً مخطوطة” لها تأثيرات “متعددة الاتجاهات” – فمن الواضح أن الذاكرة تشرك البشر في شبكة عالمية من التواريخ والقصص المترابطة.
وللنظر بشكل أعمق في شبكة العلاقات التي تتشابك من خلال الذاكرة بين الحاضر والماضي، فإن هذا المجلد يجلب فكرة المسؤولية إلى مركز الصدارة. على الرغم من أن المسؤولية كانت دائمًا مصدر قلق واسع النطاق لبحوث دراسات الذاكرة، إلا أن أهميتها كانت تميل إلى البقاء ضمنية وغير منظَّمة. يزعم المجلد أنه يجب إعطاء المزيد من الاهتمام النقدي لفهم مفهوم المسؤولية، والذي يمكن أن يوفر الأساس لتطوير علاقة سليمة بين الماضي والحاضر والمستقبل مبنية على التضامن الإنساني.
و في تحليل مفهوم الماضي الصعب، استخدم مؤلفو الكتاب مفهومًا شائعًا عن الصعوبة،لالتقاط الانزعاج الذي يعاني منه أعضاء المجتمعات التي لديها ذاكرة قوية ،عند الإشارة إلى أحداث عنيفة مزعجة معينة في الماضي.
وحسب فيريد فينيتزكي سيروسي أن “الماضي الصعب” [..] ليس بالضرورة أكثر مأساوية من أحداث الماضي الأخرى التي يتم الاحتفال بها؛ إن ما يشكل ماضياً صعباً هو الصدمة الأخلاقية المتأصلة والنزاعات والتوترات والصراعات” ، وعلى نحو مماثل، في مناقشاتها للتراث المعماري للماضي النازي، تؤكد شارون ماكدونالد على كيفية ارتباط “التراث الصعب” بـ “الماضي الذي يُعترف به باعتباره ذا مغزى في الحاضر، ولكنه أيضًا محل نزاع ومحرج للمصالحة العامة، مع هوية معاصرة إيجابية تؤكد على الذات”.
بالنسبة لماكدونالد، يُعتبر الماضي “صعبًا” بسبب الطريقة التي “يهدد بها بالاختراق إلى الحاضر بطرق مدمرة، مما يفتح الانقسامات الاجتماعية، ربما من خلال اللعب على مستقبل متخيل، بل وحتى كابوسي”.
إن المفهوم يشير إلى أحداث تاريخية ليست مجيدة، وتتطلب بالتالي مفاوضات جماعية معقدة ومؤلمة تؤدي إلى العديد من الخلافات .
كما تسعى فصول هذا الكتاب إلى استكشاف مفهوم الاضطراب والقلق اللذين يشكلان جزءاً من الماضي الصعب، بطريقة تأملية وتوليدية من خلال دراسة أمثلة للإنتاج الثقافي ،الذي يزعج الخطابات غير النقدية والأنانية للتاريخ والتراث.
ومؤلفو الكتاب ليسوا بالضرورة خبراء مباشرين في نظريات المسؤولية، لكنهم استخدموا خبراتهم في الأدب والأفلام والدراسات الثقافية ،ودراسات الذاكرة والتاريخ الأوروبي، لعرض والتفكير في الوظائف والقيم ،التي يمكن أن تكتسبها المسؤولية في الذاكرة الثقافية للماضي الصعب.
ونتيجة لهذا، فبدلاً من فرض تصور جامد ومحدد مسبقًا للمسؤولية، اتبع مؤلفو الكتاب نهجا استقرائيًا: فقد بدأ من دراسات الحالة المحددة التي اختارها المؤلفون ،لمناقشتها من أجل استخلاص اعتبارات أوسع وأكثر عمومية، حول العلاقة بين الذاكرة والمسؤولية التي تنبع من دراسة الإنتاج الثقافي للماضي الصعب.
ولم يمنح هذا قدرًا أكبر من الحرية للمؤلفين فحسب، بل سهّل أيضًا ظهور القيم المتعددة التي يمكن أن تتمتع بها المسؤولية.
يقدم الكتاب رؤى مهمة لدراسة الذاكرة والثقافات الأوروبية،تساعد في تفكيك الترابطات العنيفة المتراكمة بين الغرب والشرق وبين الشمال والجنوب.
ويركز الكتاب على الجرائم العديدة التي ارتكبها الأوروبيون في القرن الماضي، ويسلط الضوء على الممارسات النقدية الذاتية داخل الثقافات الأوروبية ، والتي تحاول التفاوض على ذكريات الأخطاء الماضية، وتشكيل خزان من المفاهيم التي يمكن أن تساعد المجتمعات الأوروبية ،على تطوير وتنمية ذاكرة نقدية للماضي.
إن السعي إلى مثل هذا الانخراط النقدي في الماضي، ليس بأي حال من الأحوال خاصًا بالثقافات الأوروبية – أي نظام ثقافي أدى إلى الظلم يمكن أن يولد سرديات ذاكرة من هذا النوع ،لكن ماضي أوروبا العنيف، وإبراز الممارسات الثقافية التي تقدم انخراطًا مثمرًا في تاريخ الظلم الذي بنيت عليه أوروبا،يساهم في تشريح الظلم الذي استشرى في توجهات القوى المهيمنة في القرن العشرين ضد المجتمعات و الشعوب.
والكتاب أيضا مسعى مهم في مسار تيارالوعي الذي يجتاح مختلف الدول الأوروبية التي مارست اشكالا مختلفة من الاستعمار وتاريخ آخر من الظلم الذي تورطت فيه. وهي دعوات عديدة يقدمها الباحثون في مجال الذاكرة والتواطؤ والمسؤولية حول الحاجة إلى الاعتراف بارتكاب الظلم.
والكتاب يدعو كذلك الى استكشاف الطرق، التي يتورط بها الباحثون أنفسهم في الماضي الذي يدرسونه، من خلال تفكيك السرديات السائدة والأشكال غير الأخلاقية لسرد القصص، ومن خلال المكان في الحاضر، وكيف تتشابك الأنظمة الثقافية التي هي جزء منها مع تاريخ الظلم.
لا يقترح هذا الكتاب نموذجًا توجيهيًا لتذكر الماضي الصعب، ولا يقدم اختصارات سهلة للتعامل مع الظلم الماضي. على العكس من ذلك، يُنظر إلى المواجهة الأكثر شمولاً مع فكرة المسؤولية كوسيلة للتفكير صراحةً في العديد من الجوانب الصعبة والمعقدة والمزعجة، التي تشكل جزءًا من عملية التعامل مع الماضي، والتي تظل ضمنية في كثير من الأحيان، في تعبيرات جاهزة مثل “التصالح مع” أو “مواجهة” الماضي.
وحسب مؤلفو الكتاب فإن التركيز على الوساطة الثقافية ،هو المفتاح لفتح وجهات نظر أقل منهجية وأكثر فوضوية، يمكنها إثراء فهمنا للذاكرة والمسؤولية وعملية التعامل مع الماضي، ومساعدتنا في تحديد الطرق التي يمكن بها للحاضر بناء علاقة أخلاقية مثمرة مع الظلم التاريخي.
Mohamed Khodja