أعلنت الحكومة الانتقالية في مالي، في 31 يناير 2022، طرد السفير الفرنسي لدى باماكو “جويل ميير”، وأمهلته 72 ساعة لمغادرة البلاد قبل أن تقوم باريس باستدعائه. وبررت باماكو هذه الخطوة بسبب التصريحات الفرنسية العدائية تجاه النظام الانتقالي الحاكم في مالي، وهو الأمر الذي يعكس حجم التوتر بين فرنسا والمجلس العسكري الحاكم، وما يمكن أن يصاحبه من تداعيات سلبية على مستقبل الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل وانعكاساته على استقرارها ومحيطها الاستراتيجي. وتدرك فرنسا تكلفة انسحابها من الساحل أو تراجعها على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، برغم تراجع شعبيتها في المنطقة، لا سيما مع تمدد موسكو اللافت في الإقليم لملء فراغ التوتر الحاصل بين باريس وعدد من النظم الحاكمة بمستعمراتها السابقة. لذلك، قد تقوم باريس بتغيير استراتيجيتها في الساحل بما لا يفقدها نفوذها العسكري في المنطقة من خلال إعادة انتشار قواتها العسكرية عقب الانسحاب من مالي، ومحاولة تعزيز علاقاتها مع دول الساحل بما في ذلك بوركينا فاسو، وربما تقريب وجهات النظر مع السلطات في مالي خلال الفترة المقبلة.
خلافات عميقة
1– تصاعد التوتر مع النخبة العسكرية بمالي: تزايدت الخلافات الفرنسية مع مالي ونخبتها العسكرية الحاكمة بصورة لافتة خلال الأعوام الماضية، خاصة بعد انقلابَي أغسطس 2020 ومايو 2021 اللذين رفضتهما باريس، وما صاحب ذلك من وصول العلاقات الفرنسية المالية إلى أدنى مستوياتها، إلى الدرجة التي دفعت باريس إلى الإعلان عن سحب قواتها العسكرية من شمال مالي وإغلاق ثلاث قواعد عسكرية هناك. ففي 26 يناير 2022 طالبت مالي بسحب القوات الدنماركية البالغ عددها 100 عسكري التي انضمت مؤخراً إلى قوة تاكوبا في البلاد؛ بحجة انضمامها دون موافقة السلطات المالية. وبرغم مطالبة باريس ببقائها في البلاد فإن السلطات المالية أصرت على قرارها قبل إعلان الدنمارك سحب قواتها من البلاد.
2– تراشق إعلامي ودبلوماسي متبادَل: وهو ما تسبب في تصعيد التوتر بين فرنسا ومالي؛ حيث بررت السلطة الانتقالية المالية طرد السفير الفرنسي بما اعتبرته تصريحات عدائية تُجاهها؛ فقد وصف جان إيف لورديان وزير الخارجية الفرنسي، المجلس العسكري الحاكم بعدم الشرعية، وبأنه خارج السيطرة، كما اتهمت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي، السلطة الانتقالية في مالي بتصعيد الاستفزازات ضد بلادها، كما أكدت أن بلادها لا يمكنها البقاء في مالي، لكنها سوف تستمر في منطقة الساحل لمحاربة الإرهاب. وفي المقابل، أكد وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب، تبنيَ فرنسا ردود فعل استعمارية، واتهمها بتوظيف المنظمات الإقليمية بهدف تقسيم الشعب المالي، في إشارة إلى الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وأكد أن بلاده على استعداد للتخلي عن اتفاق الدفاع الأمني المشترك مع فرنسا المُوقَّع بينهما في عام 2013 باعتباره غير متوازن؛ وذلك في حالة مخالفته الدستور المالي والسيادة الوطنية.
3– رفض باريس سياسات النخبة العسكرية بمالي: وذلك بسبب تراجع المجلس العسكري الحاكم عن وعوده بإجراء انتخابات رئاسية في مالي في فبراير 2022، وتأجيلها إلى عام 2026؛ ما يعني استمراره في إدارة المرحلة الانتقالية في البلاد، وهو ما ترفضه فرنسا. كما أن إعلان المجلس العسكري المالي، في العام 2021، نيته فتح الحوار وقنوات اتصال مع بعض التنظيمات الإرهابية من أجل تخفيف حدة العمليات الإرهابية التي تشهدها البلاد، من شأنه زيادة التوتر بين الطرفين في ظل رفض باريس الحوارَ مع التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل طوال السنوات الأخيرة.
4– العقوبات المفروضة من جانب إيكواس: وهي العقوبات التي ترى السلطة الانتقالية في مالي أنها فُرضَت بإيعاز من فرنسا للضغط على الحكومة الانتقالية في البلاد، والتي شملت الحظر التجاري، وإغلاق الحدود مع مالي، وهو ما يعزز التوتر بين دول الساحل والمنظمة الإقليمية التي تُتهم بالتبعية للقوى الدولية لا سيما فرنسا، ويُنذِر بتصاعد الانقسام داخل إيكواس، وهو ما قد يُقوِّض دورها في المرحلة المقبلة، مع احتمالية تعليق بعض دول الساحل عضويتَها، أو احتمالية انسحابها من المنظمة الإقليمية احتجاجاً على عدم استقلالية قراراتها، وتنامي نفوذ بعض القوى الدولية فيها، لا سيما فرنسا.
5– تدهُور علاقات مالي بالمجموعة الأوروبية: وذلك تضامناً مع فرنسا؛ الأمر الذي قد يدفع نحو فرض المزيد من العقوبات الأوروبية على السلطة الانتقالية في مالي، في محاولة للضغط عليها من أجل التراجع عن بعض قراراتها، لا سيما إعادة التفكير في الاستعانة بقوات فاجنر الروسية، وهو ما قد تستغله بعض القوى الدولية للانقضاض على المنطقة بهدف إيجاد موطئ قدم لها هناك؛ ما يعني تصاعد التنافس الدولي على المنطقة من أجل النفوذ والهيمنة والاستحواذ على مواردها وثرواتها الغنية؛ إذ تمثل كل من روسيا والصين خصمين عنيدين لفرنسا وأوروبا في الساحل، خاصةً مع تصاعد الدور الروسي خلال الفترة الأخيرة، والصعود الصيني الاقتصادي في معظم أنحاء إفريقيا، وما تمثلانه من ضغط على القوى التقليدية في الساحل.
6– ازدواجية المواقف الفرنسية إزاء أزمات المنطقة: حيث تتهم مالي فرنسا بالترحيب بالانقلابات العسكرية عندما تخدم مصالحها الاستراتيجية فقط؛ وذلك في إشارةٍ إلى تشاد، وهو ما قد يعزز تراجع شعبية فرنسا، ويُفاقِم صورتها السلبية لدى الرأي العام الإفريقي في منطقة الساحل، كما قد يدفع بعض دول الساحل إلى فك الارتباط مع فرنسا والتخلص من الهيمنة الفرنسية في المنطقة؛ وذلك بتوسيع دوائر تحالفاتها الدولية وعدم قصر اعتمادها على باريس فقط في مجال الحرب على الإرهاب، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة فرنسا نفوذها في المنطقة، وربما تجميد الاتفاقيات الثنائية تدريجياً مع دول الساحل، لا سيما اتفاقيات الدفاع والتعاون العسكري التي تصل إلى 20 اتفاقية. ومن المحتمل أن تشهد بعض الأنظمة الحاكمة في بعض دول الساحل اضطرابات ربما تصل إلى إسقاطها بعد تراجع الحليف الفرنسي عن المشهد الإقليمي في الساحل، وهو ما يعني حلقة جديدة من عدم الاستقرار في الساحل والصحراء ربما تكون لها تداعياتها السلبية على الأمن الإقليمي وأمن الجوار الإقليمي المباشر وغير المباشر، لا سيما فرنسا.
تداعيات محتملة
1– تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية في المنطقة: من المحتمل أن تمنح حالة التوتر التي تسود العلاقات بين فرنسا ومالي وقرارات باريس بالانسحاب العسكري، مساحة شاسعة للتنظيمات الإرهابية التي تنشط في شمال مالي وبلدان المنطقة، لا سيما تنظيما القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” للاستحواذ على مساحة جغرافية أكثر اتساعاً تحت سيطرتها؛ بهدف تعزيز نفوذها على مستوى خريطة الإرهاب في إفريقيا بوجه عام ومنطقة الساحل والصحراء بوجه خاص. وهو ما يجعلها ساحة مفتوحة للصراع بين التنظيمَيْن خلال الفترة المقبلة، وانعكاسات ذلك من تفاقم أزمات الساحل وتعقيد السياق الأمني المضطرب بدوره، واحتمالات تمدد تلك الصراعات إلى مناطق الجوار الجغرافي الاستراتيجي، فضلاً عن القيام بالمزيد من العمليات الإرهابية التي تستهدف القوات الفرنسية وتهديد المصالح الفرنسية والأوروبية الاستراتيجية في المنطقة، بهدف زيادة الضغط على الداخل الفرنسي الذي يضغط بدوره على الرئيس إيمانويل ماكرون للانسحاب من الساحل قبيل انتخابات الرئاسة الفرنسية.
2– تهديد مناطق الجوار الاستراتيجي لمنطقة الساحل: يؤثر تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في منطقة الساحل على أمن واستقرار مناطق الجوار الجغرافي المباشر وغير المباشر، مثل الشمال الإفريقي وغرب القارة وشرقها، بالإضافة إلى منطقة حوض البحر المتوسط، والجنوب الأوروبي؛ وذلك في ضوء تشابك العديد من الملفات الأمنية الشائكة التي تمثل تحدياً مشتركاً لتلك المناطق، مثل نشاط التنظيمات الإرهابية التي استطاعت نسج شبكة مُعقَّدة بين الفروع والعناصر المؤيدة لها في مناطق مختلفة، وهو ما يهدد الأمن الإقليمي، وملف الهجرة غير النظامية الذي يشكل تهديداً صريحاً للأمن الأوروبي، بالإضافة إلى ملف الجريمة المُنظَّمة في ظل السيولة الحدودية بين دول المنطقة وبين المناطق الجغرافية المجاورة، التي سهَّلت تحرك وانتقال التنظيمات الإرهابية وجماعات التهريب بين الدول دون أي مقاومة.
3– تنامي الدور الروسي بمنطقة الساحل والصحراء: حيث تدعم روسيا المجلس العسكري الحاكم في مالي منذ صعوده إلى السلطة في أغسطس 2020، وهو ما يثير القلق لدى باريس التي اتهمت موسكو بالضلوع بالانقلاب الذي شهدته البلاد. فقد أعلنت موسكو تأييدها قرارات المجلس العسكري الحاكم في مالي حول تأجيل الانتخابات الرئاسية في البلاد إلى عام 2026. كما اتهمت موسكو باريس بزيادة تعقيد الوضع الراهن في البلاد وفي المنطقة بسبب إعادة صياغة عملية برخان العسكرية، والتورط في تصعيد التوتر بين مالي وإيكواس. وأعلن الجيش المالي تحقيق انتصارات خلال الفترة الأخيرة ضد العناصر الإرهابية بفضل الأسلحة الروسية التي حصل عليها لصد هجمات التنظيمات الإرهابية التي تتمركز في شمال البلاد ووسطها؛ ما يعكس قوة العلاقات بين الجانبَيْن المالي والروسي خلال الفترة الأخيرة.
وفي هذا الإطار، أكد الجنرال ستيفن تاونسند رئيس القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، بجانب الأمم المتحدة، وجود عناصر قوات فاجنر الروسية في شمال مالي، لا سيما مدينة تمبكتو؛ بهدف مساندة القوات المالية في محاربة التنظيمات الإرهابية، بالرغم من نفي الحكومة المالية، وهو ما يسهم في تزايد المخاوف الفرنسية والأوروبية من تصاعد الدور الروسي في الساحل، وانخراط قوات فاجنر في عدد من دول المنطقة؛ ما يسمح بتوسع النفوذ الروسي على حساب القوى التقليدية في المنطقة، وهو ما يشكل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية هناك.
وإجمالاً، تشكل الأزمة مع مالي والانقلاب في بوركينا فاسو تهديداً واضحاً لمستقبل النفوذ الفرنسي في الساحل، في ضوء صعود نخبة عسكرية جديدة تؤمن بتوسيع تحالفاتها الدولية بعيداً عن الوصاية الفرنسية. وتدرك فرنسا تكلفة انسحابها من الساحل أو تراجعها على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، برغم تراجع شعبيتها في المنطقة؛ لذلك، فإن حماية مصالح باريس الاستراتيجية في الساحل، وعدم ترك مساحة لأي أدوار مناوئة لها تمثل ضغطاً عليها ومنافَسةً قويّةً لها على الموارد والثروات الطبيعية هناك، لا سيما من قِبَل روسيا، والتخوف من تنامي نشاط الإرهاب في المنطقة، ومخاطر تمدده إلى أبواب القارة الأوروبية وما يرتبط بذلك من تنامي موجات الهجرة غير النظامية واللاجئين؛ كل ذلك يفرض على فرنسا تغيير استراتيجيتها في الساحل، بما لا يفقدها نفوذها العسكري في المنطقة من خلال إعادة انتشار قواتها العسكرية عقب الانسحاب من مالي، ومحاولة تعزيز علاقاتها مع دول الساحل بما في ذلك بوركينا فاسو، وربما تقريب وجهات النظر مع السلطات في مالي خلال الفترة المقبلة.