دراسات سياسية

لماذا تنتشر ظاهرة التحليلات السياسية السطحية

بقلم : ريناس بنافي – باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي – لندن

  • المركز الديمقرارطي العربي

كثيرون ممن يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين لكن تحليلاتهم هي مجرد هدر للوقت والجهود وكلام سطحي لا يمت بصلة للتحليل السياسي لماذا؟

لأن تحليلاتهم وأحكامهم مجرد تكهنات لا تستند الى مناهج وطرق البحث العلمي، لكن المعضلة هي عندما صدق الناس كذبهم وألصقوا بهم صفة المحللين والمفكرين وغيرها من الأسماء الرنانة.

فالتحليل السياسي يجب ان يأخذ بعين الاعتبار وحدة تحليل الظاهرة السياسية على انها مركّبة وتستند لنظريات ومعادلات وتحتوي على أكثر من متغيٌر لتحليل الظاهرة.

فمثلاً عندما نريد تحليل ظاهرة الفساد او الاستبداد او اللاعقلانية السياسية المتمثلة بالشعبوية السياسية او صراع الاضداد او اي ممارسة سياسية تقوم بها الدولة او الاحزاب السياسية يجب ان نرجع الى النظريات السياسية فنجعلها قاعدة للتحليل السياسي. والمهم ان نعلم ان وراء كل ظاهرة معادلة أو علاقة بين المتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في محيطها الداخلي والخارجي.

فالتحليل السياسي بحاجة إلى خبرة فائقة في علم السياسة. وتأتي الخبرة السياسية عن طريق خلفية نظرية متينة، تؤهل المحلل السياسي، من مسك مفاتيح الفهم والوعي السياسي. والعمل داخل الأرشيفات والمستندات السياسية، من أجل دعم التحليل السياسي بالوثائق والبراهين الدامغة، وبيان تاريخية الحدث، لكي تكون النظرة السياسية عميقة ومستندة إلى معطيات تاريخية وواقعية.

وبعد عملية التحليل والتركيب يأتي دور المقارنة بين الآراء وتمحيصها، حتى يتمكن المحلل من معرفة الرأي الأصوب. فالمقارنة بين الآراء وتمحيصها، تمكن المحلل السياسي من التوصل إلى الرأي السديد، ويتعرف على الثغرات ونقاط الضعف لدى الآراء الأخرى.

ماهية التحليل السياسي:

يمكننا أن نعرف التحليل السياسي بأنه عملية بحث وتفسير حدث معين، ومعرفة أسبابه والاحتمالات الممكنة له. وغالباً ما يتعلق بفهم وشرح موقف اُتخذ من جانب جماعة أو حزب أو دولة تجاه موقف محدد وتفسير ذلك. والتحليل السياسي هو في النهاية وسيلة يتم من خلالها إيصال فكرة أو وجهة نظر معينة إلى المتلقي من خلال عرض جميع جوانب الحدث واستنتاج أسبابه ودوافعه، وتوقع ما سوف تؤول إليه الأحداث في المستقبل، ومعرفة تأثيراته على الواقع، وذلك بأفضل وأسهل أسلوب ممكن أن يستوعبه المتلقي محاولاً الإجابة عن الأسئلة المعلقة والمبهمة لديه، وكذلك محاولة التأثير عليه، وبالتالي يكون لدى المتلقي تصور ورأي تجاه حدث يشاهده ويسمع عنه.

او هو الادراك الفكري العميق بجذور السياسة ومخرجاتها والفكر الاستراتيجي وعناصره وطبيعة الاحداث ومساراتها وشكل الدوافع وعناصرها المسؤولة عن صنع الاحداث والأزمات والإلمام المتقن بالشواهد التاريخية المماثلة وهو الفهم الدقيق والعميق لمسار الأحداث السياسية وإدراك الدوافع المتعلقة بها والإلمام بجذور الاحداث ومخرجاتها والتنبؤ بالتطورات والنتائج المترتبة عليها ووضع التوصيات المعنية بالحدث.

او هو عملية البحث في الاحتمالات الممكنة لمسار التفاعلات بين القوى السياسية في المجتمع وتفسير لنوع العلاقات بين هذه القوى السياسية الداخلية والخارجية. او هي الطريقة التي نحكم بها على الظواهر والأحداث السياسية محلياً وإقليميا وعالميا، ولذلك فهو يحتاج إلى فهم الواقع السياسي للبلد، وعلاقة هذا الواقع السياسي بالسياسة الدولية.

والتحليل السياسيّ ليس شرحاً للأوضاع فقط، وإنما هو فهم وإدراك لما يحدث، ومعرفة الأسباب والدوافع لما حدث وسيحدث في المستقبل، للوصول الى رأي يساعد صانعي القرار في حلّ مشكلة أو ظاهرة لها شأن سياسيّ في المجتمع.

فالمعرفة والثقافة هي الأساس الذي يجب أن تتوفر في المحلل مثل التأهيل المناسب وقاعدة معلومات وبيانات وكذلك مواكبة الأحداث والمتغيرات على الساحة السياسية ومراعاة الظروف السياسية الراهنة.

فالثقافة العامة مطلوبة في كل شيء لاسيما في المحلل، ولكن يجب أن يكون المحلل شخصاً متخصصا في الموضوع المراد تحليله سواء كان سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً وغيرها من المجالات، فالخبرة والمعلومات التي يمتلكها المتخصص تكون ذات فائدة كبيرة.

وعلى المحلل دائماً تحري الدقة والابتعاد عن المعلومات الخاطئة والمضللة والبعيدة عن التهويل أو التهوين وإنما عرض الحقيقة المجردة حتى تكون لديه المصداقية في تحليله.

ويجب ان يكون عنده بعد النظر ونقصد بها أن يكون لدى المحلل الرؤية الثاقبة للموضوع وما قد تؤول إليه الأحداث وعدم الانخداع ببعض المؤشرات، بالإضافة إلى القدرة على ربط الأحداث واستخلاص النتائج، وكذلك على المحلل الابتعاد عن الأحكام المسبقة والقياس على أحداث مشابهة دون مراعاة اختلاف الظروف والمعطيات.

ويجب عليه ان يتجرد من العاطفة وهذه من الملاحظات المهمة التي يجب مراعاتها بحيث لا يخلط المحلل بين معتقداته وعواطفه، ففي الحقيقة كلما كان عرض الموضوع حيادي وموضوعي كان ذلك في صالح التحليل.

ويجب ان تكون له القدرة على الإقناع وهذه ملكة قل ما يتصف بها شخص معين، وهي تحتاج إلى صقل وتدريب واستخدام أساليب مشوقة لشد انتباه المتلقي، وكذلك التركيز على النقاط المهمة ومحاولة أبرازها بشكل واضح.

 يتضمن التحليل السياسي ثلاث مسارات أساسية يجيب كل واحد منها يجيب عن سؤال رئيسي لا يمكن تصور تحليل سياسيّ من دونها:

  • المسار الأول: هو فهم مسار الأحداث فهماً دقيقاً، وهو يجيب عن السؤال الأول: ماذا حدث؟
  • المسار الثاني: هو إدراك الأسباب الدافعة لهذا الحدث، ويجيب عن السؤال الثاني: لماذا حدث؟
  • المسار الثالث: هو الوقوف على المالات والنتائج المحتملة للأحداث.

فجوهر التحليل السياسيّ هو القدرة على رسم سيناريوهات محتملة لصانع القرار لاتخاذ التدابير اللازمة لمواجهتها.

وللتعامل مع الظاهرة السياسية يجب مراعات ثلاث مستويات هي:

1- مستوى الوصف أي تقديم صورة وتحليل معالم الظاهرة السياسية المراد تحليلها، فهي مستوى من مستويات الملاحظة. تستند على الإحصاء والارقام، والسرد التاريخي للأحداث، والوصف نقطة بداية في عملية التحليل السياسي، تسعي لإعطاء صورة لما هو قائم من حيث خصائصه الكمية والكيفية. والوصف باعتباره سرد للمعلومات المتعلقة بالظاهرة تعتمد على معارفنا المسبقة فمن لم يتبحر في معرفة شيء لا يمكن له وصف ذلك الشئ وبالتالي لا يمكن له تحليلها وان فعل يكون قد جنى على نفسه وعلى المعرفة لأنه حينها يكون كمن يشرح شيء وهو ليس ذلك الشيء فإغناء الوصف يعني أن يأخذ على عاتقه ضرورة البحث المعرفي لهذا الوصف وأن يكون بالضرورة مليئا يعني كاملا ويفترض في منطلق عملية الوصف اختيار مثال يصلح كخيط رابط ملائم لمراحل العملية تلك وتتناسب مع معيشنا اليومي. وان يحاول تفكيك المسبقات مما يفسر في نهاية الأمر الموقف النقدي الذي يتطلبه عمل وصفي واعي بذاته.

٢- مستوى التبويب بمعنى تنظيم الظاهرة السياسية تبعا لخصائصها الأساسية وهذه العملية تفرض درجة معينة من درجات العمق في تفسير الظاهرة على الاقل للتمييز بين المتغير الأصيل والمتغير التابع

٣- مستوى التفسير أي القيام بفهم الظاهرة

والظاهرة السياسية قد تكون بمعنى: (1)

اولا: السبب والنتيجة: هذا النوع من التحليل يعني أن أي ظاهرة، بما في ذلك الظاهرة السياسية، اما ان تكون سببا أو تكون نتيجة. فالسببية هي علاقة تبادلية بين ظاهرتين تؤثر كل منها بالأخر، دون تحديد أيهما السبب. او نتيجة بمعنى أنه لا يتم تحديد أي منها بدا قبل الأخر، أي يحدد ايهما المصدر للأخر، وايهما أثر على الاخر تحديد ايهما المبدأ وايهما الفرع.

ثانيا: التحليل الكلي والتحليل الجزئي ويتم اما على مستوى الفرد، أو على مستوى المجموعة، فتحليل الماكرو يتناول الظاهرة كحقيقة كلية دون أن يقف أمام مقوماتها أو جزئياتها المختلفة، في حين ان تحليل المايكرو يبحث في جزئيات الظاهرة فيبدأ بالتحليل على مستوى الفرد باعتباره وحدة التحليل. وهكذا فجميع كليات الوجود يمكن تصورها على مستوى الماكرو أي على المستوى الجماعي أو على مستوى المايكرو اي على مستوى الفرد والواقع أن مثل هذا التمييز الذي سيطر على التحليل، ليس بالجديد، فقد تمثل خلال القرن الماضي باتجاهين رئيسيين أحدهما عبر عنه مارشال (حين جعل وحدة تحليله الفرد والثاني عبر عنه لميذه كنز بشكل مغاير تماما. هذا التعارض في اللجوء الى مثل هذا النوع من التحليل لم ينعكس فقط في طريقة الاقتراب من الظاهرة، وانما كذلك في نفس المفاهيم، وهذا التحليل يوصف مرة بالجزئي (مایکرو) ومرة اخرى بالكلي (ماكرو) وكذالك الحال ينسحب، في إطار التحليل السياسي الذي سيأخذ نفس هذا المنحى ايضا.

وهذا النوع من التحليل قديم قدم الفكر السياسي، الجيل الأول من دعاة الفلسفة السياسية لم يستخدمه ولكنه طبقه وجعل منه اداته الدائمة في التحليل. هنا يمكن الاستشهاد بكل من افلاطون وارسطو. حين يحلل العدالة يجعل تحليله هذا تحليلا مزدوجا: فالعدالة هي اولا صفة للفرد، وهي ثانيا صفة للدولة، وهذا يعني العدالة على المستوى الجزئي (المايکرو) خاصة بالفرد، وحين تصبح على المستوى الكلى (الماكر) وهي صفة بالدولة. أما ارسطو جعل منهجيته مبنية على المنهج التحليلي بمعنى الغوص في أعماق الحقيقة السياسية لاكتشاف جزئياتها المكونة لها، وهو في ذلك يعكس مسلکا واضحا للتحليل المايكروكوزمي (الجزئي).

والتحليل من حيث الغاية لا يمكن أن يكون الا تحليلا كليا ماکروكوزميا لأنه أن تناول الفرد يصل، من خلاله الى الجماعة، ذلك لأن طبيعة الظاهرة مدار الثقافة المرتبطة بظاهرة السلطة لن تكون الفرد في ذاته.

والتحليل يقوم على مفهوم مختلف، فالتحليل السياسي يجعل التمييز بين المایکرو والماكرو (التحليل الكلي والتحليل الجزئي) قاعدة اساسية لكنه مع ذلك، يفترض الالتجاء الى كليهما في آن واحد. فالتحليل الكلي الماكرو) يمكن من خلاله اعادة الظاهرة الى اصولها التكوينية دون التمكن من فهم ديناميكية الظاهرة الكلية، أما التحليل الجزئي المايكرو) فيسمح بفهم خصائص الظاهرة ولكنه لا يسمح بتحليل مقوماتها، وعلى هذا فان التحليل السياسي رغم انه يأخذ هذا النوع من التحليل الكلي والجزئي، الا أنه لا يفرض تغليب أي من هذين الاصطلاحين على الآخر.

ثالثا: فكرة الدورة ويقصد بها أن التطور السياسي لا يعرف نقطة معينة يقف عندها، وانه في تنقلاته المتابعة من موقف الى اخر هو يستمر ويتنقل ليعود إلى نقطة البداية. فهناك تأثير متبادل لكل متغير من متغيرات الظاهرة السياسية على الاخر وينعكس في صورة رد فعل ليأخذ شكل المتغير الجديد. فكرة الدورة، تأخذ صورة من صور التفاعل الذي يعني أن هناك عملية تأثير وتأثر ينتج عنها شكلا جديدا.

ويمكن التأسيس على ما سبق أن فكرة الدورة يمكن أن تأخذ صورة من التنين:

1- نظرية لتفسير الوجود السياسي.

۲- نموذج لبناء اطار التحليل السياسي وهنا يمكن الاستشهاد بمسلك ديفيد ايستون عند قيامه بتقديم اطار التحليل النظام السياسي الذي رأي فيه دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي تبدا من المدخلات وتنتهي بالمخرجات مع قیام عملية التغذية الاسترجاعية، او العكسية بالربط بين المدخلات والمخرجات.

رابعا: التمييز بين ما هو كائن وما يجب أن يكون عند تحليل الظواهر السياسية يتم التمييز بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون

فالمفهوم الأول ما هو كائن يعني الوضعية التي تعني الحياد، الذي يقابل، في ابعاده، العلم.

أما المفهوم الثاني فينصرف الى المثالية بدلا من الواقعية وبالتالي يكون تجريديا ويصبح على علاقة بالفلسفة.

 السؤال المنهجي لظواهر العالم الاجتماعي (2)

ان السؤال المنهجي ومن وراءه الرؤية او من وراء دراسة اي ظاهرة اجتماعية هو الهاجس عن ماذا يعني حدوث هذه الظاهر او تلك؟ ما الذي يدعو على المستوى المعرفي والفكر السياسي لمعرفة سبب حدوث الظاهرة؟

إنه لمن المهم البحث عن السؤالين المنهجين كيف حدثت هذه الظاهرة الاجتماعية؟ ولماذا حدثت، وأي الشروط التي استدعت حدوث هذه الظاهرة؟

ويكشف لنا السؤال المنهجي لدراسة الظواهر الاجتماعية الحديث عن تقديم تفسير لمسار الظاهرة الاجتماعية. كذلك الكشف عن العلاقات الجدلية بين هذه الظاهرة وغيرها. ويبين الكيفية التي واجه المجتمع حدوث الظاهرة والتحديات اللاحقة لها. واعطانا صورة عن ماهية الطرق المثلى للتعامل مع تلك الظواهر وتكشف لنا المنهجية التحليلية، عن العلاقة بين هذه الظاهرة وغيرها. وكيف يمكن الوصول الى مضمون محدد المعالم لفهم الظاهرة؟

مقاربة العلوم الإنسانية المعاصرة لظواهر العالم الاجتماعي (3)

فعندما نواجه الظواهر في المجتمع نسأل لماذا حصلت هذه الظاهرة وكيف اصحبت ممكنة الحدوث؟ يشير السؤال لماذا الى الحافز: هل نحن نتاج غرائزنا، أو عبيد للنظام (السستم) القائم، أم نحن فاعل حر مستقل؟ بينما يشير السؤال عن الكيف إلى التنظيم (كيف يتم تعبئة الناس وتحريكهم، وكيف يتم أدارة الظاهرة أو تمويلها مثلا؟) عند التفكير في هذه الأسئلة لا مفر حينئذ من الدخول في النقاش الأساس الذي يتعلق بالوجود (الأنطولوجيا) والمعرفة (الأبستمولوجيا). تدرس الأنطولوجيا الوجود (وجود الظواهر) وتتعلق بالأسئلة مثل، من نحن او ماذا يحركنا ويحفزنا؟ أما الإبستيمولوجي فتشير الى المعرفة التي يتعلق بأفكار حول معرفة العالم الاجتماعي وظواهره. ما يكمن خلف السؤال عن كيف ولماذا هذه الظاهرة هي الأفكار التي تدور حول ما الذي يدفع البشر إلى هذا الفعل مدعومة بالأفكار عن المعرفة: أيً، كيف نعرف ما ندعي معرفته عن ظاهرة؟ وهنا لابد من الاشارة الى أن هناك نظريات عديدة في العلوم الأنسانية المعاصرة في تفسير الظواهر في المجتمع وتأتي في أغلب الأحوال طبقا لترجيح أحد الأسباب المنتجة لهذه الظواهر على حساب الأخرى، فقد تختلف هذه النظريات او تتكامل مع بعضها، وقد يمكن بناء مركب نظري أو أنموذج نظري لتفسير الظواهر في المجتمع. وقد تكون هناك ظواهر معقدة يمكن أن تُفهم وتُفسر فقط من خلال مقاربة تتداخل فيها فروع معرفية متعددة. ما أريد الأشارة اليه هنا هو ما يجمع بين المقاربات المختلفة أجمالا من ناحية الموقف والمنهج في تناولها للظواهر في المجتمع.

سأشير الى المواقف الأنطولوجية والإبستمولوجية والتي تنطلق من سؤالين هما: لماذا تحدث هذه الظواهر، وكيف تكون تلك الظواهر ممكن الحدوث، يتعلق الأول بالباعث أو الحافز، بينما يتصل الـثاني بالنظام والتنظيم.

وكما اسلفت هناك تقاليد نظرية عديدة في العلوم الاجتماعية عن مقاربة الظواهر يمكننا وضعها تحت مجموعتين: انطولوجية، وإبستمولوجية. تعبر النظريات التي تؤكد على الفرد أو النظريات الفردية والأخرى البنيوية عن الموقف الأنطولوجي بينما تعبر نظريات ” التفسير” و ” الفهم” عن الموقف الإبستمولوجي.

المجموعة الأولى، الأنطولوجية تُصاغ النظريات فيها من موقفين حول ما يعبئ الناس ابتداء، فهناك تقسيم أنطولوجي اساسي في العلوم الاجتماعية بين مقاربتين تحاولان تقديم وصفا واسبابا للفعل البشري من خلال الرجوع الى الحركة/ التعبئة التي تقوم بها البنية الاجتماعية. ومقاربة أخرى تأخذ الفعل الفردي كمادة محركة للتاريخ وتعتبر البنية نتيجة للأفعال الفردية.

لذا هل البنية هي التي تحدد أفعال الافراد أم أن افعال الأفراد هي التي تحدد البنية؟ أي هل نأخذ أفعال الأفراد نقطة البداية في التحليل أم نختار التأكيد على البنى التي تجبرهم على الكيفية التي يقومون بها في أفعالهم الاجتماعية؟ هل تبدأ الظواهر بسبب الضغط البنيوي أم هي نتاج تخطيط وتوافق الأفعال الفردية؟ وهل تعبر هذان المقاربتان عن موقفين مختلفين جذرياً أم يمكن أن يكون أحدهما مكمل للآخر للكشف عن طبيعة هذه الظواهر في المجتمع؟

ترى المقاربة الفردية أن مصدر ظاهرة معينة في المجتمع تعود في اسبابها الى الفعل الفردي، بينما ترى المقاربة البنيوية أن مصدر الظاهرة يتعلق بالنظام الاجتماعي، فتُفهم الظاهرة الاجتماعية بوصفها ناتجا عن التوتر والتناقض الذي يصدر بدوره عن الطريقة التي يـُبنى فيها النظام الاجتماعي. لنأخذ مثالا توضيحيا وهو انعدام الأمن، تهتم النظريات الفردية بالكيفية والأشكال التي يسلك فيها الناس في حالة انعدام الأمن (مثل الهوية، الاقتصاد، الأمن المادي وغيرها)، وكيف تترجم تلك السلوكيات والأفعال في الصراع؛ بينما تركز النظريات البنيوية على اسباب انعدام الأمن: كيف ينتج عن عدم توازن (مجاعة، ظلم، تهميش) مـعين بنيويا. واجمالاً يدافع الموقف الأنطولوجي الفردي عن فكرة هي أن الوحدة الأساسية في الحياة الاجتماعية هي الفرد. ولكي نفسر المؤسسات الاجتماعية والتغيرات الاجتماعية علينا أن نكشف كيف تنشأ هذه كنتيجة لفعل الأفراد وتفاعلهم. بالمقابل تركز الأنطولوجيا البنيوية على على قوة البنى التي تكمن في المؤسسات ذاتها، وهي أبعد من نطاق سيطرة الأفراد. فـتُبنى أفعال الناس من خلال قواعد تخبرهم أو تُحدد لهم غالباً كيف يمارسون حياتهم الاجتماعية. بالتأكيد يبقى الموقف الانطولوجي مجرد دوغما إذا لم يرتبط بالموقف الإبستيمولوجي. لذا لابد من الأشارة الى هذا الموقف.

ينقسم الموقف الإبستيمولوجي في العلوم الاجتماعية أساساً الى قسمين. قسم أول يرى أن أفضل طريقة فحص للعالم الاجتماعي تكون من الخارج، أيً: التفسير، بينما هناك موقف آخر يرى أن أفضل طريقة لدراسة العالم الاجتماعي هي من الداخل، أي: الفهم.

ينطلق الأول أي التفسري من فكرة أنه يمكن تحديد الفعل البشري والتنبؤ به. بالمقابل تزعم الإبستيمولوجيا التأويلية (الفهم) أنه بدلا من النظر في اسباب السلوك علينا البحث عن معنى الفعل، فالأفعال تستمد معناها من الأفكار المشتركة وقواعد الحياة الاجتماعية. وأن بنية المعنى تُحدد تاريخيا وثقافيا ويمكن دراستها من خلال سياقها، ومن خلال دمج منظورات الوعي الذاتي للناس والمعلومات التي يقدمونها عن أنفسهم. أنا مع وضع نسيج واحد يربط الموقفين الإبستمولوجيين مع الموقف الأنطولوجي مؤيدا هنا طريقة Martin Hollis (التي وضعها في كتابه: The philosophy of social science) في رسم خرائط الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية في النسج بين الموقفين حيث تسمح لنا بوضع نظريات الظواهر المختلفة في موقعها الأنطولوجي والابيستيمولوجي الصحيح.

الفهم ليس إعادة تركيب فقط بقدر ما هو تأمل يتضمن الماضي في الحاضر. وفي كل المحاولات الجادة التي تصبو لعناق الماضي بذاته وبمعزل عن كل ما سواه يبقي الفهم ابتداء حالة تأمل وترجمة لماضي الزمن في الحاضر. وهكذا ينظر غادامير الي التاريخ بوصفه الاستمرارية التي تستوعب الفعل الموضوعي والاشياء؛ ويكون الفهم ذلك الحدث وتلك الحركة التاريخية التي ما اعتبرت النص ولا المفسر أجزاءا قائمة بذاتها وتحكم نفسها. وعلى هذا الاساس لا يسعنا اعتبار الفهم بحد ذاته فعلا من نتاج الموضوعية، أنما هو ذلك المدخل للحدث التحولي والذي يجتمع فيه كلا من الماضي والحاضر تأمليا، وهذا -حسب غادامير- ما نجد له مصداقا في النظرية التأويلية.

وبعد تعيين الظاهرة السياسية المراد تحليلها، وتوفير المستلزمات النظرية والمعرفية لعملية التحليل.. تبدأ الخطوات العملية التي ينبغي أن يقوم بها المحلل السياسي. وهذه الخطوات كآتي:(4)

1 – الملاحظة الدقيقة للظاهرة والحدث السياسي المراد تحليله. لأن الظواهر السياسية سريعة التغير وشديدة التشابك ويرتبط بعضها بالبعض الآخر. ومن لا تتوفر لديه اليقظة التامة والمتابعة الدقيقة، لن يستطيع تحليل عناصر الظاهرة السياسية تحليلا سليما. والسبب يرجع إلى أن أغلب الأحداث السياسية، التي تجري في العالم، تمارس معها عمليات التضليل والإغواء وتحريف عقول الناس وتشويه تصوراتهم ونظراتهم إلى حركة الأحداث السياسية. لذلك فالمحلل المتميز هو الذي يلاحق الحدث، ويتعرف على تفصيلاته، ويتابع مسيرته بدقة ووعي تام.

2 – معرفة الظرف السياسي الذي وقع فيه الحدث. إذ ان من الضروري أن يلاحظ المحلل المحيط الذي وقع الحدث في أجوائه. ولذلك لأن لبنية المحيط ومشكلاته دور وتأثير كبير في حركة الحدث السياسي. ولا يمكن الحدوث برؤية صائبة عن الحدث، بدون ملاحظة الظروف السياسية والاقتصادية التي وقع فيها الحدث.

3 – التعرف على عناصر التأثير في الحدث «محليا – إقليميا – دوليا» فمثلا لا يمكن للمحلل أن يدرك حقيقة الأحداث المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط، من دون معرفة العناصر والقوى ذات التأثير في المعادلة السياسية في المنطقة. وقد تجد في الكثير من الأحداث السياسية، لا مصلحة حقيقية من ورائها بالنسبة إلى منفذها المباشر، ولكنها من مصلحة القوة الإقليمية أو الدولية المرتبطة بها. لذلك حين التحليل، لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال التأثير الإقليمي والدولي لمجمل الأحداث. لأنها تسير وفق توازنات محلية وإقليمية ودولية دقيقة. وكل قوة تريد التأثير في الأحداث بما يوافق مصالحها وتطلعاتها. والرابح في الأخير هو الذي يمتلك أوراق اللعبة أكثر وقادر على بلورتها وتفعيلها وتوظيفها في ميدان العمل والممارسة السياسية. ولكي تكتمل صورة عناصر التأثير في ذهن المحلل، لا بد له أيضا من التعرف على المصالح السياسية والاقتصادية للأطراف المرتبطة بالحدث. فإن معرفة المصالح يوفر جهد كبير للمحلل. لأن المصالح هي الدافع المباشر في كثير من الأحداث السياسية التي تجري في العالم.

4 – التعرف على منطقة الحدث: لا شك أن لجغرافية الحدث تأثير مباشر في حركة الظاهرة السياسية. والمحلل الذي يجهل الخريطة الجغرافية التي وقع فيها الحدث، لا يمكنه بأي شكل من الأشكال، أن يكون ذا تحليل علمي دقيق. فالتعرف على موقع الحدث وطبيعته، ونقاط القوة والضعف فيه، مدخل ضروري لفهم مغزى وطبيعة الحدث السياسي، وخطوة لا بد منها في عملية التحليل السياسي..

5 – الربط بين الأحداث والظواهر السياسية لإظهار ومعرفة مراحل تطور الحدث: حيث أن أغلب الأحداث السياسية ليست منفصلة عن نظائرها، وإنما هي امتداد لمجموعة أحداث أو رد فعل لظاهرة سياسية ما. لذلك فإن الربط بين الأحداث والظواهر السياسية، يكشف للمحلل خبايا الحدث ومغازيه وأهدافه. فالأحداث السياسية تكشف عن أحداث سياسية أخرى.

6 – طرح الأسئلة وعلامات الاستفهام: وهذه الخطوة هي عبارة عن أسلوب استقرائي يوصل المحلل السياسي، إلى الاحتمال الأقرب إلى الحقيقة والواقع. فلكي يصل المحلل إلى جوهر الحدث السياسي وغايته، لا بد أن يطرح على نفسه أو على أهل الخبرة والاختصاص مجموعة من الأسئلة والاستفسارات التي تقرب بدورها الحدث إلى عقل المحلل، وتعرفه بآراء الآخرين ونظراتهم المتنوعة عن الحدث السياسي. فطرح الأسئلة هو أسلوب منطقي، يوصل المرء إلى العلم والحقيقة. ومن المفيد في هذا الإطار أن المحلل السياسي، حينما يريد أن ينضج رأيه ونظراته السياسية عن طريق مساءلة أهل الخبرة والاختصاص، من الضروري أن يناقشهم وهو ذو رأي ونظرة. لا لكي يتوقف عندهم ويصر على رأيه، وإنما لكي تتوفر لديه القاعدة الضرورية لكل مناقشة موضوعية، ولكي يتعرف عن وجهات الآخرين ونظراتهم عن رأيه وتحليله. ويبقى السؤال وسيلة لا غنى عنها للحصول على العلم والحقيقة والمعرفة.

7 – التحليل والتركيب: بمعنى أن المحلل السياسي يقسم الظاهرة السياسية أو الحدث السياسي، إلى أقسام، ومن ثم يخطوا في التحليل خطوات منظمة بحيث تكون كل نقطة بالنسبة إلى التي تليها بمثابة المقدمة من النتيجة. ويقوم بتحليل الظاهرة السياسية «موضوع البحث والتحليل»، إلى أبسط عناصرها وأدق تفاصيلها. وهذه العملية تؤدي بالمحلل، بشكل طبيعي إلى تتبع نمو الظاهرة والحدث، والوقوف على تفرعاته، ومدى الصلات التي تربط هذه الظاهرة مع ما عداها. لأنها تعين المحلل السياسي على تحديد ما يتطلبه الحل والعلاج. ومن الأهمية بمكان أن تتماسك أجزاء التحليل. فلا يتناقض مع بعضه، أو يصل المحلل في تحليله إلى نتائج متضاربة مع بعضها البعض. ومن الضروري التأكيد في هذا السياق إلى أن الأحداث السياسية، لا تخضع لنظام آلي ميكانيكي، وإنما هي بالدرجة الأولى، خاضعة لإرادة الفعل والاستجابة لدى الإنسان الفرد أو الجماعة. وعلى ضوء هذا لا بد للمحلل السياسي أن يجمع بين دراستين في تحليل الظاهرة السياسية «الدراسة الاستاتيكية وهي دراسة تشريحية وظيفية تتعلق بالناحية الاستقرارية للأوضاع والنظم السياسية، والدراسة الديناميكية وهي دراسة هذه الأوضاع في حالة حركتها وتفاعلها وترابطها وتطورها» «راجع كتاب قضايا علم السياسة العام، الدكتور محمد فايز عبد اسعيد، ص34». حتى يستطيع المحلل السياسي، أن يعرف ثوابت الحدث ومتغيراته وتداعياته.

8 – بعد عملية التحليل والتركيب، يأتي دور المقارنة بين الآراء وتمحيصها، حتى يتمكن المحلل من معرفة الرأي الأصوب. فالمقارنة بين الآراء وتمحيصها، تمكن المحلل السياسي من التوصل إلى الرأي السديد، ويتعرف على الثغرات ونقاط الضعف لدى الآراء الأخرى.

ان جهل المحلل بالمعرفة السياسية يساهم بشكل أو بآخر في سيطرة افكار غير منسجمة مع تطلعات المجتمع وبعيدا عن النسق السياسي فالسياسة كوعي وممارسة ليست فعلا مدنسا حتى نبتعد عنها ونهرب من استحقاقاتها، وإنما هي من مكونات حياتنا، وتتدخل في كل كبيرة وصغيرة في مسيرتنا كأفراد ومجتمعات. لهذا فإن الحالة الطبيعية التي ينبغي أن تسود مجتمعاتنا، هي حالة الوعي السياسي والتنمية السياسية والانخراط في كل شؤونها ومقتضياتها.

————————————

(1)  محمد محفوظ منهج التحليل السياسي مقاربة نظرية جريدة الرياض

1- http://www.alriyadh.com/561469

2- http://www.alriyadh.com/563332

(2) السؤال المنهجي للنظر في الخطاب السياسي للإصـلاحية الاسلامية    د. علي رسول الربيعي

http://www.almothaqaf.com/ab/freepens-18-old/929472

(3) مقاربة العلوم الإنسانية المعاصرة لظواهر العالم الاجتماعي د. علي رسول الربيعي

http://www.almothaqaf.com/qadayaama/b1d/927942

(4)  محمد محفوظ منهج التحليل السياسي مقاربة نظرية جريدة الرياض

1- http://www.alriyadh.com/561469

2- http://www.alriyadh.com/563332

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى