ليبيا المضطربة: الحلم الروسي  والانكسار على شواطئ الأرض العصية

حدث ما كنا نخشاه منذ زمن ، روسيا تقترب من ليبيا ليكون ذلك مؤشرا على  إرهاصات خطيرة تؤكد بان ليبيا سوف تصبح رهينة للعبة  الأمم الكبرى، وان حروب بالوكالة وتصفية حسابات بين دول كبرى وأخرى إقليمية سوف تتفجر على الأرض الليبية  ، ولتتجه الأزمة الليبية الى مزيد من التعقيد ، روسيا تهدد باستخدام حق الفيتو  في مجلس الأمن لمنع صدور قرار بإدانة هجوم حفتر على طرابلس ، أليس ما يحدث شبيها ببدايات التدخل الروسي في سوريا؟. من يريد أن يعرف ماذا ستفعل روسيا في ليبيا عليه بان يرى ماذا  فعلت في سوريا، يبدو بان  الحلم الروسي القديم بالوصول الى المياه الدافئة  قد تجدد في أذهان صانعي القرار السياسي في روسيا اليوم ،  ولكن ليس على شواطئ سوريا هذه المرة، بل في مكان أخر  وموقع استراتيجي هام  في شمال أفريقيا ، في  ليبيا الغنية بالنفط والغاز، صاحبة أطول ساحل على البحر المتوسط حوالي 1900 كم ،  ولعل بوتين يدرك حقيقة الأطماع الروسية القديمة في ليبيا، فهو يريد أن  يسلك نفس طريق أجداده القياصرة  للوصول للمياه الدافئة ، والاسواء بان يفكر في إعادة إنتاج سياسات الاتحاد السوفييتي تجاه ليبيا .  على خطى القياصرة سيد الكرملين يوجه أنظاره الى إحدى  أغنى دول شمال إفريقيا ، ليبيا التي يتقاتل أبناؤها بشراسة ، وقد لا يعلمون أنهم يدفعون ببلادهم الى مصير مجهول في زمن تسعى فيه الدول الاستعمارية الكبرى الى إعادة  إنتاج خرائط سايكس بيكو وفق رؤى جديدة ،  وحدود جديدة.

بوتين سيد الكرملين ليس غافلا عن حقائق  التاريخ ، وقد حقق حلم أجداده في الحصول على موطئ قدم في المشرق العربي ، ذلك الحلم بالتوسع والهيمنة الروسية  الذي وقفت أمامه الدولة العثمانية بقوة قبل حوالي 200 عام  ، إلا  أن  بوتن قد  نجح بقوة في سوريا وضمن لروسيا موطئ قدم ، ولا شئ يمنعه ألان في ظروف ليبيا الحالية من البحث عن مكاسب سياسية جديدة ، وتعزيز التواجد الروسي في مناطق أخرى على البحر المتوسط ذات أهمية إستراتيجية ، التاريخ يقول : ”  في عام 1793م  في عهد  الدولة القره مانلية  طالبت كاترين بقاعدة بحرية  في خليج بمبا ، كما  طالبت روسيا  أيضا بقاعدة   بحرية  في مدينة   ابوكماش غرب ليبيا ” ، انه التاريخ ،  يحدث كثيرا بان يعيد نفسه  عندما تكون هناك فراغات سياسية ،  ودول منهارة تمزقها الصراعات والحروب  كما يحدث في ليبيا ألان ،ومن الطبيعي أن تسعى الدول الكبرى الطامحة في تعزيز مواقعها ومكانتها على الساحة الدولية بان تسعى لملء هذه الفراغات والتمدد بحثا عن المكاسب السياسية والاقتصادية ،  نشرت  صحيفة العربي الجديد في نوفمبر عام 2016م  خبراً عن صول خبراء عسكريين روس إلى المنطقة الشرقية لدعم عملية  الكرامة  بوساطة مصرية إماراتية  ، وقالت  الصحيفة نقلاً  عن مصادر ليبية : ” إن الخبراء الروس الذين وصلوا إلى مناطق سيطرة قوات حفتر  ويقدرون بالعشرات في عدد من المجالات الحربية المختلفة ، يعدّون دفعة أولى  في إطار اتفاق بين حفتر والمسؤولين الروس ،  وان الاتفاق يهدف إلى إعادة بناء القوات الخاصة ، وتجديد منظومة التسليح وصيانة الأنظمة التي تستخدمها من دفاع جوي  وقوات جوية وبحرية “ ، تطورات المواقف الروسية تجاه ليبيا تؤكد بان  الروس قد استمعوا  لدعوات إخواننا في مجلس النواب  في طبرق  الذين لم تنتهي دعواتهم واستجدائهم لروسيا للتدخل في ليبيا ، وهم  لا يقدرون   حجم المخاطر التي ستنتج  عن التدخل الروسي  ، وكم  من كوارث سوف تحل على ليبيا من جراء ذلك  ، هم بلا شك لم يستوعبوا الفاتورة الإنسانية الباهظة التي دفعها الشعب السوري من دمائه  في حلب وكثير من المدن السورية التي تعرضت لقصف الطيران الروسي ، من لا يحسن قراءة التاريخ وفهم أحداثه  لن يكون قادرا على قيادة بلد في ظروف استثنائية صعبة  والعبور به الى بر الأمان.

روسيا هي وريثة الاتحاد السوفييتي وما يفعله بوتين اليوم  هو إحياء للإمبراطورية المنهارة في عام 1991م ، وفي حسابات الدول الكبرى لا قيمة للبشر ، لا قيمة للدماء ، لا قيمة لشعارات الديمقراطية ، والحرية ، وحقوق الإنسان ، لغة القوة والمصالح هي السائدة  فقط.   لا تعي النخبة الليبية التي تراهن  على روسيا في حل الأزمة الليبية بان  تدخل روسيا في الأزمة الليبية سيؤدي إلى تعقيدها أكثر ، وسنجد أنفسنا نحن الليبيين  الطرف الأضعف  في لعبة الأمم الكبرى، روسيا تريد أن تتدخل في ليبيا ليس فقط من اجل النفط والغاز فقط ، أو تصدير الأسلحة الى ليبيا ، بل أيضا   لكي تساؤم الغرب  وتتفاوض مع الدول الغربية باستخدام الورقة الليبية   في قضايا أخرى وجبهات مشتعلة في أوكرانيا وسوريا ، وهي تريد أن تضمن لنفسها موطئ قدم في ليبيا بما يحقق مصالحها الإستراتيجية ،  الرغبة في التواجد الروسي في ليبيا ذات أهداف عديدة ومتشعبة ، وقد يتكرر السيناريو السوري في ليبيا .

تاريخياً  روسيا لم تكن  دولة صديقة  لليبيا ، بل ناصبتنا العداء وكشرت عن أنيابها  ، بعد  انتهاء  الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء   عقد اجتماع لوزراء خارجية الدول الأربعة  المنتصرة في لندن في عام 1945م   لمناقشة  قضية تصفية تركة إيطاليا الاستعمارية في إفريقيا  وهي ليبيا وإريتريا والصومال ،  وفي ذلك  الاجتماع   طالب ستالين  بأن يكون  للاتحاد السوفييتي  حق  الولاية  على إقليم طرابلس ،  ولم تتفق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بخصوص ليبيا ،  فقرروا إحالة القضية الليبية  إلى الأمم المتحدة  لتتخذ القرار المناسب ، وعندما  تقدمت الحكومة الليبية برئاسة  محمود المنتصر  بطلب رسمي للانضمام  للأمم المتحدة في  3 يناير عام  1952م  أعلن  الاتحاد السوفييتي السابق  بأنه سيصوت  ضد انضمام ليبيا للأمم المتحدة  ، كما استخدم الاتحاد السوفييتي  حق النقض  الفيتو  ضد مشروع قرار باكستاني قدم إلى مجلس الأمن في  10 سبتمبر عام  1952م  يطالب بقبول عضوية ليبيا في الأمم المتحدة ، وكان هناك مشروع قرار يطالب  بضم 18  دولة من بينها ليبيا إلى عضوية الأمم المتحدة ، إلا أن المشروع قد فشل عندما استخدم الاتحاد السوفييتي الفيتو ضده ، كما إن الاتحاد السوفييتي صوت ضد القرار 289 القاضي باستقلال ليبيا الذي صدر  في  21 نوفمبر عام 1949م  والذي كان تتويجاً لنضال الأجداد، أنها حقائق التاريخ التي لم يفهمها شركائنا في الوطن الذين يراهنون على روسيا في حل الأزمة الليبية،  لا شئ يمنع روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي اليوم من أن تعيد إحياء سياساتها الاستعمارية القديمة  تجاه ليبيا.

لقد كنا نشعر بالقلق من تحركات روسية مريبة على مقربة من حدودنا الشرقية وفي مصر تحديدا، 30  نوفمبر  2017م نشرت الحكومة الروسية  مسودة اتفاق بين روسيا ومصر يسمح للطائرات العسكرية للدولتين بتبادل استخدام المجال الجوي والقواعد الجوية  ،  وهنا يطرح التساؤل .. ما حاجة مصر لاستخدام القواعد الروسية وهي تبعد عنها ألاف الكيلومترات ؟. مؤكد بأننا  لسنا في عصر محمد علي باشا والخديوي اسماعيل عندما توسعت مصر ومدت نفوذها الى أعماق إفريقيا جنوبا ،  والى الشام  وحدود الدولة العثمانية شمالا ، روسيا هي من تحتاج لتعزيز تواجدها العسكري في مصر ،   إن زيارة بوتن الى مصر  تؤكد مدى أهمية مصر في الإستراتيجية الروسية لإعادة فرض النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، وهذا ما يجعلنا  نشعر بالقلق  من نوايا روسيا غير المعلنة ، تسهيلات عسكرية لروسيا في مصر ، مع وجود أخبار تؤكد وجود قوات روسية في غرب مصر على مقربة من الحدود الليبية في قاعدة سيدي البراني  ، وتلك الزيارة الشهيرة لحاملة الطائرات  أدميرال كوزنيتسوف لميناء مدينة طبرق   في يناير 2017م  ، وذلك المشهد الاستعراضي الذي يذكرنا بدبلوماسية الأسطول الشهيرة في التاريخ  ، حين تلجأ بعض الدول لاستعراض قوتها في مكان ما لترسل رسائل قوية لمنافسيها وأعدائها.

تصريحات الساسة والمسؤولين الروس أيضا كانت مؤشرا على رغبة روسيا في التدخل في الأزمة الليبية ، وان كانت روسيا تنتهج إستراتيجية الاقتراب الحذر من ليبيا،   في ديسمبر 2017م  ليف دينغوف  رئيس مجموعة الاتصال الروسية الخاصة بالتسوية الليبية ، وفي أثناء انعقاد المؤتمر  الدولي الثالث للحوار الأوروبي المتوسطي في روما  أعلن   بأن  موسكو تعمل بفعالية بغية المضي قدما في مسار التسوية بين الفرقاء السياسيين  ،  وقال ليف دينغوف  أيضا  : ” إن موسكو تبذل مساع مع جميع الأطراف الليبية دون انحياز لطرف على حساب آخر ،  موسكو تمكنت من إجراء حوار إيجابي مع جميع الفرقاء الليبيين، وهم أعربوا عن ثقتهم بجهودها، مما قد يمكن روسيا من إنجاح مسار التسوية ، وأضاف دينغوف  :” نتقيد بمبدأ أساسي يضع مصلحة الشعب الليبي في المقام الأول ، في الطريق إلى صياغة دستور وتنظيم انتخابات حرة تتفق عليها الأغلبية، إنها  بلا شك تصريحات تبين الكذب والدجل الروسي والواقع يثبت ذلك ، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الموقف الروسي ألان في مجلس الأمن ، أين الاهتمام الروسي بمصلحة الشعب الليبي إذا كانت روسيا تبارك هجوم حفتر على طرابلس التي يسكنها حوالي 3 مليون نسمة؟.

وقد باركت البعثة الأممية الى ليبيا الجهود الروسية وعلى لسان  غسان سلامة وفي تصريحات صحفية أدلى بها  في  ديسمبر  2017م  وفي نفس المؤتمر المنعقد في روما . رحب غسان سلامة  بالمبادرة الروسية حيث قال : ”  أن الأمم المتحدة جاهزة للنظر في أي مبادرات روسية ” ، وفي أثناء زيارة وزير الخارجية الليبي محمد سيالة الى موسكو ولقائه بوزير الخارجية الروسي   سيرجي لافروف في ديسمبر عام 2017م  ،  قال لافروف : ” تحتاج ليبيا لعقد اجتماع لبدء حوار وطني حول الوضع في البلاد” ، واضاف لافروف  : ” أن موسكو على استعداد للمساهمة في التوصل إلى اتفاق واضح بشأن الأزمة في ليبيا، وروسيا مستعدة للمساهمة بكل الطرق للتوصل إلى اتفاق محدد، ومنذ بداية الأزمة الليبية أجرينا اتصالات مع جميع الأحزاب السياسية والقبائل ، واليوم نحتفظ بعلاقات وثيقة جدًا مع جميع الأطراف المعنية بالأزمة، يبدو واضحا من تصريحات لافروف بان روسيا تريد أن تدخل بقوة على خط الأزمة الليبية ، وتسعى لعقد مؤتمر دولي يجمع أطراف الصراع برعايتها ، إن النخبة السياسية في ليبيا يجب أن تكون حذرة في التعامل مع روسيا ، ويجب أن نأخذ العبر ونتعلم الدروس مما جرى  في سوريا ، لقد سفك الروس دماء أشقائنا في سوريا بدم بارد ، وسمحوا لإيران بان تتغلغل في سوريا لخدمة أجندتها المذهبية ، ناهيك عن اتفاقيات خفض التصعيد التي قد تؤدي الى تقسيم سوريا ،  من العبث أن نقبل بعقد مؤتمر للحوار بين الفرقاء السياسيين ترعاه روسيا ، ليس لليبيين مصلحة في ذلك ، أن القبول بعقد مؤتمر للحوار ترعاه روسيا يعني تدويل الأزمة الليبية ، وإعادة إنتاج  نسخ مكررة من مؤتمرات جنيف واستانا،  يجب أن نقول لروسيا وبصوت عالي بان  ملف الأزمة الليبية في يد الأمم المتحدة  ، وأننا ندعم مساعيها لحل الأزمة الليبية شرط عدم انحيازها الى حفتر ، وان تعترف روسيا  فعليا بشرعية حكومة الوفاق ،  ولسنا بحاجة الى مبادرات أخرى.

كثيرا  من التقارير تتحدث  عن وجود شركات أمنية روسية ومرتزقة روس لدعم حفتر ،  كلها مؤشرات كنا نراقبها بقلق  وننظر إليها على أنها  تؤكد  على رغبة روسيا في التدخل عسكريا في ليبيا  لدعم خليفة حفتر ومشروع الكرامة ، وألان تتضح الصورة أكثر وتبدو نوايا روسيا غير خافية ، ويكفي أنها ألان وعلنا  تمنع إدانة قوات حفتر التي تشن الحرب على طرابلس ، هنا ليس خافيا استهانة روسيا بدماء وأرواح الناس في مدينة يسكنها حوالي 3 ملايين نسمة ، وهي تساوي بين الطرف المهاجم لطرابلس والطرف المدافع عنها في ازدواجية معايير واضحة ، إن روسيا تريد أن تدخل إلى  منطقة  شمال أفريقيا لمنافسة النفوذ الأمريكي والغربي ، وزيارة لافروف لدول المنطقة دليل على ذلك ، روسيا المعادية لثورات الربيع العربي مؤكد أنها ستتحالف مع قوى الثورة المضادة  ، وما كنا نخشاه هو  أن تتجه روسيا بالتحالف  مع مصر والأمارات والسعودية وفرنسا   لدعم مجلس النواب  وأنصار  ألقذافي  ، وهو أمر يهدد امن ليبيا واستقرارها ، بل يهدد وحدتها الترابية  ،  كما  أن  روسيا اليوم عندما تتدخل  في ليبيا فهي لن تسعى للمساهمة في حل الأزمة الليبية ، أو  حث الإطراف المتصارعة على الحل السياسي كما تعلن ، بل إنها ستعمل على تحقيق مصالحها وعلى حساب دمائنا نحن الليبيين ، وما تفعله  في سوريا ألان  من قتل ودمار وجرائم بشعة  قد يتكرر في ليبيا إذا طال أمد الصراع وتدخلت روسيا  بشكل اكبر  ،   ونحن لا ندعو إلى  مقاطعة روسيا إذا انتهجت تجاهنا  سياسة غير عدوانية تقوم على الاحترام المتبادل  والتعاون الاقتصادي ،   فهي دولة عظمى لها مكانتها الدولية  وقوتها الاقتصادية ،  وتملك اكبر احتياطي للغاز في العالم ، وهي من اكبر الدول المنتجة للنفط ،  وهي قوة رئيسية في  مجموعة بريكس  ومنظمة شانغهاى،   ولا يمكن  الاستغناء عنها في إطار تحالفات دولية وإقليمية  لخلق توازنات جديدة في العالم والمنطقة العربية لمواجهة سياسات الغرب العدوانية ، إلا أن التعاون مع روسيا لن يكون مجدياً إلا عندما تكون الدولة الليبية موحدة ، أما في حالة الانقسام والصراعات ألان فان التوجه نحو روسيا وطلب مساعدتها يعتبر تهديد لأمننا القومي  ، وستزداد حدة الصراع الدولي على ليبيا ، ولنا في سوريا عبرة ،  ومن الحكمة أن ننأى ببلادنا عن لعبة الأمم الكبرى ، خاصة وان الوضع في ليبيا اصبح شبيها بالسيناريو السوري ، فقد امتنعت الولايات المتحدة الامريكية عن دعم مشروع بريطاني لادانة حفتر في مجلس الامن ، وهو تراجع امريكي قد تستغله روسيا لصالحها لتتدخل اكثر في ليبيا .

 

محمد عمران كشادة

صحفي وباحث من ليبيا

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button