دراسات أوروبية-أورومتوسطيةدراسات سياسية

ما الذي تكشفه تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة؟

اختار الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وزيرة العمل السابقة “إليزابيث بورن” رئيسةً لوزراء حكومته الجديدة؛ وذلك في خضمِّ استعداده للانتخابات التشريعية في يونيو القادم، وهي المرة الثانية فقط خلال 30 عاماً التي تتولى فيها امرأة هذا المنصب. هذا وقد جاء اختيار بورن رئيسةً للوزراء نوعاً من الاستجابة لإحباطات الناخبين، التي تم التعبير عنها باستمرار انخفاض نسبة دعم اليمين واليسار التقليدي، فضلاً عن محاولة استرضاء الناخبين ذوي الميول الاجتماعية اليسارية الذين منحوا أصواتهم لـ”جان لوك ميلونشون”؛ لذلك سعى “ماكرون” إلى اختيار رئيسة وزراء امرأة مناصرة للقضايا الاجتماعية وصاحبة مواقف معروفة في قضايا البيئة. وبالرغم من أن اختيار “بورن” يصطبغ بصبغة سياسية واضحة تتعلق بتوازنات القوى الانتخابية التي انعكست في الانتخابات الرئاسية، فإن تشكيل حكومتها يعكس غلَبة الاعتبارات التكنوقراطية على معايير الاختيار، وهو ما سينعكس – بلا شك – على الخطط الداخلية وملامح السياسة الخارجية لفترة ماكرون الرئاسية الثانية.

دلالات جوهرية

تستدعي تركيبة الحكومة الفرنسية الجديدة عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:

1– التنوُّع الفئوي والحزبي: تعتبر الحكومة الحالية واحدة من الحكومات المتوازنة من حيث المساواة بين الرجال والنساء؛ فقد شارك كل من الرجال والنساء بالمناصفة تقريباً الحقائب الوزارية بواقع 14حقيبة وزارية للرجال، و13 حقيبة للسيدات. وجمعت الحكومة أيضاً تركيبة متنوعة من حيث الانتماءات الحزبية، متمثلة في وزراء نالوا العضوية السابقة أو الحالية لحزب الجمهوريين أو الحزب الاشتراكي، ناهيك عن المنتمين إلى حزب الرئيس الوسطي ذوي الميول الأيديولوجية المرنة.

وبوجه عام، تولى عدد من الوزراء ذوي الخلفيات أو الصلات بأحزاب اليمين مجموعة من الوزارات الهامَّة – وعلى رأسها الوزارات السيادية – ولو لم يثبت انتماء بعضهم المباشر إلى حزب الجمهوريين أو غيره، وهم: “جيرال دارمانان” وزير الداخلية، و”برونو لومار” وزير الاقتصاد، و”داميان آباد” وزير التضامن وذوي القدرات الخاصة، و”سيباستيان لوكرنو” وزير الدفاع. ولا يعني هذا بأي حال أن الحكومة خلت من الوجوه ذات الميول اليسارية، بل جاء على رأسها “أوليفيه فيران” وزير الصلات بالبرلمان والعضو السابق بالحزب الاشتراكي، و”أوليفيه ديسوبت” وزير العمل والعضو السابق بالحزب الاشتراكي ومؤسس حزب أراضي التقدم، و”بريجين بورجينيون” وزيرة الصحة والعضوة السابقة بالحزب الاشتراكي.

2– ثنائية الثبات والتغير في المناصب: احتفظ ثلاثة وزراء فقط بمناصبهم السابقة في حكومة ولاية ماكرون الأولى (حكومة جان كاستاكس)، هم: “جيرال دارمانان” وزير الداخلية، و”برونو لومار” وزير الاقتصاد، و”إيريك ديبون موريتي” وزير العدل، في إشارة إلى اعتماد ماكرون الكبير عليهم، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية الحاليَّة الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، وفي ظل التطوُّرات الداخلية المتعلقة بقوانين العمل والإضرابات ذات الصلة.

بينما تولَّت مجموعة من الوجوه الحقائب الوزارية لأول مرة، وعلى رأسهم “كاترين كولونا” التي تولت وزارة الخارجية بدلاً من “جان إيف لودريان”، و”ريما عبد الملاك” التي تولت وزارة الثقافة بدلاً من “روزلين باشلو”، و”ستالنيسلاس جيريني” لحقيبة الوظائف العامة، و”باب نداي” لحقيبة التعليم الوطني، و”إيملي أودايا كاستيرا” لوزارة الرياضة والألعاب الأوليمبية، و”داميان آباد” لحقيبة التضامن وذوي القدرات الخاصة، و”سيلفي ريتايو” لحقيبة التعليم العالي والبحث العلمي، وكذلك “يائل بون بيفه” لحقيبة أعالي البحار. من جانب آخر، تم نقل بعض الوزراء السابقين إلى حقائب وزارية أخرى، مثل “مارك فيسنو” الذي نُقل من وزارة علاقات البرلمان إلى وزارة الزراعة، و”آنياس بانييه رونشار” الذي تولى وزارة تحول الطاقة بدلاً من وزارة الصناعة، وكذلك “سيباستيان لوكرنو” الذي انتقل من وزارة أعالي البحار إلى وزارة الدفاع والجيوش.

3– تعرُّض بعض الوزراء لانتقادات حادة: نالت بعض الترشيحات حظاً وافراً من الانتقادات مقارنةً بغيرها؛ فقد أثار ترشيح “باب إنداي” لوزارة التعليم سخرية “مارين لوبان” و”إيريك زمور” على اعتبار أن كونه أستاذاً للتاريخ لا يرشحه لمثل هذه الوزارة التي تتطلَّب خبرات طويلة في مجال العمل الميداني، فضلاً عن انتقاداتهم لكونه من أصول إفريقية؛ ما ينبئ بسعيه إلى تغيير مناهج تدريس التاريخ في المدارس، كما تعرَّضت “ريما عبد الملاك” لمثل هذه الانتقادات على اعتبار أن توليها حقيبة الثقافة جاء في الأساس نتيجة عملها مستشارةً ثقافيةً لماكرون في ولايته الأولى – ومن ثم قربها منه – دون تقديم شيء يُذكَر في هذا المجال.

أجندة متخمة

يكشف استقراء مواقف أعضاء الحكومة الفرنسية الجديدة عن عدد من الملاحظات الرئيسية بشأن الاتجاهات المحتملة للحكومة الجديدة، وهو ما يمكن تناوله فيما يأتي:

1– تغيُّر محدود في السياسات: من المُتوقَّع أن تكون الحكومة الحالية امتداداً، بشكل أو بآخر، لسياسات ماكرون على الصعيد الداخلي خلال فترة ولايته الأولى؛ حيث إنه لا يُرجَّح أن يُحدث تعيين “بورن” رئيسةً للوزراء تغييراً جذرياً في السياسات الأمنية والاقتصادية، وإن كان من المرتقب أن يضيف قدراً من الزخم على بعض القضايا الرئيسية التي تنعكس بالسلب على شرعية “ماكرون”؛ وذلك على غرار قضايا المناخ والعدالة الاجتماعية.

2– أهمية معالجة مشكلات الإرث السابق: لا تزال تبعات أزمات الولاية الأولى لماكرون تلاحق الحكومة الحالية، وعلى رأسها تبعات أزمة السترات الصفراء، ووباء كوفيد–19. كما أبرزت خريطة نتائج الانتخابات الرئاسية تحدي الاستقطاب السياسي والمجتمعي الموروث الذي ينقسم فيه المجتمع بين سكان المدن الكبيرة والطبقات الوسطى والعليا والمتقاعدين من جانب، والطبقات الأكثر شعبيةً والمُهمَّشين من جانب آخر. وفي مواجهة هذا الانقسام في فرنسا، تجد الحكومة الجديدة نفسها مسؤولة – وإن كانت ليست هي السبب – عن إعادة بناء التماسك الاجتماعي.

3– تقديم حلول لانخفاض القدرة الشرائية: من المحتمل أن تكون هذه المسألة هي مجال الاهتمام الرئيسي للمجموعة الاقتصادية في الحكومة الجديدة؛ حيث سيكون مطلوباً منها تحويل رؤية ماكرون بإعادة ضبط منظومة المرتبات وفقاً لمُعدَّلات التضخم إلى إجراءات عملية على أرض الواقع.

4– أولوية قضية المناخ: كما سبقت الإشارة، فإن الحكومة الحالية ستكون ذات توجهات أكثر نشاطاً فيما يتعلَّق بقضايا المناخ، وسيكون مطلوباً منها تحقيق تعهُّدات “ماكرون” في هذا المجال بتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 40% بحلول عام 2030. للقيام بذلك، وبالنظر إلى تركيبة الحكومة الحالية وميولها اليمينية النسبية، فقد يعتمد برنامجها بدرجة كبيرة على التحول أكثر نحو الطاقة النووية لتقليل نسبة انبعاثات الكربون في الجو؛ وذلك ببناء 6 مفاعلات إلى 14 مفاعلاً جديداً، وتنفيذ رؤية الرئيس بإنشاء 50 مزرعة رياح في البحر بحلول عام 2050 وزيادة الطاقة الشمسية عشرة أضعاف.

5– تعزيز التوجه الأوروبي في السياسة الخارجية: من المتوقع أن يعزز تعيين “كاترين كولونا” اتجاه فرنسا بقدر أكبر نحو القضايا الأوروبية؛ فهي معروف عنها إيمانها الشديد بمشروع الاندماج الأوروبي؛ (حيث تولت منصب وزير مفوض لدى الاتحاد الأوروبي أثناء حكم جاك شيراك خلال الفترة من 2005 إلى 2007)، وما يستتبع ذلك من اتباع نهج أكثر تشدداً مع روسيا خلال الفترة القادمة، من منطلق أن أمن دول أوروبا مرتبط ارتباطاً عضوياً باستمرارية مشروع الاتحاد الأوروبي نفسه.

6– إدارة العلاقات مع بريطانيا: يُعبر أيضاً اختيار كولونا عن رغبة متنامية لدى باريس في التركيز على العلاقة الشائكة مع بريطانيا – حيث كان آخر منصب لها قبل توليها الوزارة هو سفيرة فرنسا لدى بريطانيا – سواء نتيجة المواقف المعروفة للندن تجاه الاتحاد الأوروبي، أو انخراطها مع الولايات المتحدة وأستراليا في تحالف أوكوس الذي مثَّل صفعة لمبيعات الغواصات الفرنسية، أو حتى الصراع على حقوق الصيد في بحر المانش.

7– ثبات نسبي في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط: ليس من المُرجَّح أن يحدث تغير جذري في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط؛ نظراً إلى نجاح باريس في الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع الأطراف الرئيسية، سواء عن طريق صفقات التسليح أو انتهاج مواقف متوازنة إزاء أزمات الإقليم. وعليه، ستظل منطقة الشرق الأوسط ذات أهمية سياسية واقتصادية وأمنية، بالنسبة إلى فرنسا.

الاستقطاب الحاد

خلاصة القول: يتضح أن اختيارات “بورن” لأعضاء الحكومة جاء في حدود الخطوط العريضة التي رسمها “ماكرون”، وهو ما يتجلَّى في عدم تولي أي وزير محسوب على اليسار أي وزارة سيادية، واحتفاظ الرجال الأشد قرباً من “ماكرون” بحقائبهم الوزارية. مع ذلك، فإن التكهنات بشأن سياسات الحكومة الجديدة ومدى تأثير الوزراء على عملية صنع القرار السياسي – بل تحديد وجهته – تتسم بالتعقيد الشديد في الوقت الراهن؛ وذلك لاعتبارين رئيسيين: أولاً– مرور المجتمع الفرنسي بمفترق طرق تاريخي نتيجة الاستقطاب الحاد في المجتمع وذوبان الأيديولوجيات التقليدية المتمثلة في اليمين واليسار المعتدل، وهو ما يزيد مساحة الشك وعدم اليقين.

ومن جهة ثانية، قد تنجم الانتخابات التشريعية في يونيو القادم عن فقدان حزب الرئيس الأغلبية البرلمانية؛ وذلك في ظل نجاح “ميلونشون” في خلق تحالف يساري من أحزاب اليسار المتطرف والخضر، فضلاً عن نجاح “مارين لوبان” في حشد أحزاب اليمين المتطرف تحت رايتها، وهو ما قد يؤشر إلى وجود تغيير وزاري محتمل بعد شهر، قد يتم فيه الإطاحة برئيسة الوزراء نفسها، لتدخل فرنسا حقبة “تعايش Cohabitation” جديدة.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى