نظرية العلاقات الدولية

ما فرص نجاح مشروع التكامل الإقليمي اللاتيني؟

د. صدفة محمد محمود

تشهد الفترة الراهنة، انتعاش آمال كثير من مواطني بلدان أمريكا اللاتينية في إمكانية حدوث تقدم نوعي في منظومة التكامل الإقليمي في المنطقة. وتأتي هذه الآمال مدفوعة بالنجاحات الانتخابية الأخيرة لعدد كبير من السياسيين المحسوبين على تيارَي اليسار ويسار الوسط، وكان أحدثها تولي “جوستافو بيترو” رئاسة كولومبيا في 7 أغسطس 2022، ليكون أول يساري يتولى رئاسة البلاد في التاريخ الحديث. يعزز هذه التوقعات المتفائلة دعوة بعض قادة المنطقة مؤخراً إلى الوحدة والتعاون المشترك، وطرحهم مبادرات للتكامل الإقليمي، ومنها تشكيل اتحاد أو تجمع لليثيوم في محاولة لتبادل الخبرات والمعرفة حول الجوانب الجيولوجية والتنظيمية والعلمية وأفضل الممارسات لتطوير هذا المعدن الضروري لتحولات الطاقة، وتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية. وسيتشكل الاتحاد على الأغلب من المكسيك بالإضافة إلى الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا، وهي بلدان ما يُسمى “مثلث الليثيوم”، الذي يحتوي على نحو 65% من احتياطي الليثيوم في العالم. وذلك بالإضافة إلى اقتراح “لولا دا سيلفا” المرشح الرئاسي للانتخابات البرازيلية، تدشين عملة لاتينية موحدة؛ لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي. وقد لقي المقترح ترحيباً من بعض قادة المنطقة. ورغم أن هذه فكرة لا تزال بعيدة المنال، فإنها توضح المستوى الحالي من الحماس لدى قادة أمريكا اللاتينية الجدد. ويُضاف إلى ذلك، اتفاق بعض الرؤساء، على أهمية إعادة إحياء وتنشيط دور التجمعات الإقليمية القائمة، بما في ذلك تجمعا الأنديز وسيلاك.

فرص محتملة

هناك عدة عوامل يمكن أن تدفع قادة بلدان أمريكا اللاتينية إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز التكامل الإقليمي؛ وذلك على النحو الآتي:

1– التقارب السياسي والأيديولوجي بين القادة: كثيراً ما يُقال إن نجاح التكامل الإقليمي في أمريكا اللاتينية يعتمد على التوافق الأيديولوجي بين الحكومات. وخلال السنوات الأخيرة، كانت الخلافات السياسية والأيديولوجية، مع انقسام بلدان المنطقة بين حكومات يسارية وأخرى يمينية، عائقاً جوهرياً أمام التكامل الإقليمي اللاتيني؛ لذلك إذا فاز “لولا دا سيلفا” بالرئاسة في انتخابات أكتوبر المقبل، فستنضم البرازيل إلى ما يُعرف بـ”المد الوردي الثاني”، لصعود اليسار في المنطقة، وسيكون رؤساء أقوى خمس دول في أمريكا اللاتينية (البرازيل والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي)، بوجه عام، متحالفين أيديولوجياً ومنفتحين، من حيث المبدأ، على إقامة علاقات ثنائية بناءة، وتعميق مستوى التعاون المشترك.

2 احتمالات فوز لولا دا سيلفا برئاسة البرازيل: خلال السنوات الأخيرة، افتقرت أمريكا اللاتينية إلى الرؤساء القادرين على الاضطلاع بدور قيادي إقليمي أو لديهم النفوذ السياسي الضروري لتعزيز رؤية مشتركة للمستقبل. مع ذلك، يمكن أن تزداد فرص نجاح مشروع التكامل الإقليمي اللاتيني في حال فاز “لولا دا سيلفا” المرشح الأوفر حظاً في انتخابات الرئاسة البرازيلية.

وقد يؤدي فوز “دا سيلفا” إلى استئناف البرازيل أكبر دول المنطقة، مشروعها للقيادة الإقليمية، خاصةً أنه خلال فترة رئاسته للبلاد (2002–2010)، عكف على تعزيز القيادة الإقليمية لبلاده، وساهم في تدشين العديد من المبادرات التكاملية، مثل إنشاء اتحاد أمم أمريكا الجنوبية. في المقابل، إذا فاز الرئيس الحالي “جايير بولسونارو” بولاية ثانية، فستستمر البرازيل في مسارها الحالي للعزلة السياسية في المنطقة، في ظل إيلائه اهتماماً محدوداً بتقوية العلاقات مع قادة المنطقة الذين لا يعتبرهم متحالفين أيديولوجياً معه.

3 وجود رأي عام إقليمي داعم للتكامل: هناك رأي عام إقليمي يساند بقوة خطط التكامل الإقليمي، وهو ما قد يمثل عاملاً مشجعاً للقادة الإقليميين على المضي قدماً في تنفيذ مشروعات التعاون والتنسيق المشترك. ووفقاً لاستطلاع Latinobarometro الذي نُشرت نتائجه في مارس 2022، أيد %71 من مواطني 18 دولة في أمريكا اللاتينية شملها الاستطلاع، التكامل الإقليمي؛ ما يُشير إلى أن شعوب المنطقة تدرك أهمية معالجة التحديات المشتركة التي تتراوح بين الجريمة عبر الوطنية والهجرة وإزالة الغابات، عبر تبني آليات للتكامل والتعاون المشترك. وأظهر الاستطلاع أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و25 سنة، أكثر تأييدًا للاندماج الإقليمي (%75)، ولكن مع دعم أكبر للاندماج بين الرجال (%76) مقارنةً بالنساء (%67).

معوقات هيكلية

في مقابل الفرص التي يمكن أن تعزز احتمالات نجاح مشروع التكامل الإقليمي اللاتيني، هناك عدة معوقات ربما ستحول دون إحراز تقدم جوهري خلال المدى المنظور، منها:

1 التأثير المعاكس للعلاقات مع الأطراف الخارجية: من العوامل التي تعوق حدوث تكامل فعال في أمريكا اللاتينية، أن بلدان المنطقة معنية بإعطاء الأولوية لتقوية العلاقات مع القوى الاقتصادية من خارج المنطقة، بالتحديد الصين والولايات المتحدة، على حساب تشجيع التجارة الإقليمية. وفي الواقع، فإن التجارة البينية الإقليمية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، تتجاوز بالكاد – وفقاً لبيانات من بنك التنمية للبلدان الأمريكية (IDB) – 14% من إجمالي التجارة الخارجية لبلدان المنطقة، وهو أقل بكثير من آسيا (41%) والاتحاد الأوروبي (%59). ومما يؤكد هذا الاتجاه، إعلان أوروجواي في يوليو الماضي، أنها أكملت دراسة جدوى مشتركة مع الصين حول اتفاقية للتجارة الحرة الثنائية، وأن البلدين عازمان على بدء المفاوضات.

2 ضعف الأطر المؤسسية للتعاون المشترك: يُمثل الضعف المؤسسي للمنظمات الإقليمية القائمة أحد أهم العقبات التي تعيق عملية التكامل اللاتيني، يُضاف إلى ذلك ضعف الامتثال، مما تسبب في محدودية الانجازات التي حققتها المنظمات الإقليمية خلال السنوات الماضية، في ظل تعدد هذه المنظمات وتنوعها. ويتمثل جزء من مشكلة ضعف التكامل الاقتصادي في المنطقة في الافتقار إلى التنسيق في تيسير التجارة، ومواءمة قواعد المنشأ، وربما الأهم من ذلك، عدم وجود رؤية مشتركة لبنية تحتية مادية تربط بلدان المنطقة معاً.

3 تفاقم الأزمات الداخلية: في حين تفرض الأزمات الداخلية والتحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها بلدان أمريكا اللاتينية، حافزاً قوياً على تعميق أسس التنسيق والتعاون المشترك، فإنه في بعض الأحيان تعمل الأزمات الداخلية على تأجيج الانعزالية المتزايدة و”مناهضة العولمة”، ولا سيما في البرازيل والمكسيك. وفي الواقع، يواجه معظم القادة اللاتينيين مجموعة معقدة من المشكلات الداخلية، مع تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة معدل التفاوت الاجتماعي؛ لذلك من المرجح أن يتجه القادة اليساريون الجدد إلى الانكفاء على الداخل، وسيُكرسون مزيداً من الوقت لمعالجة الأزمات المحلية، وربما يأتي ذلك على حساب جهود التكامل الإقليمي.

من جملة ما سبق، يمكن القول إن الموجة الراهنة من صعود اليسار إلى السلطة في أمريكا اللاتينية توفر فرصة أكبر للحوار المشترك، لكن تظل هناك احتمالات محدودة لإحراز تقدم ذي مغزى على المدى القريب؛ فالتوافق الأيديولوجي بين القادة اللاتينيين، وإن كان شرطاً ضرورياً، غير كافٍ لتكامل إقليمي أقوى، في ظل كثرة العوائق الهيكلية. وفي الغالب الأعم، لن تستند التحالفات الجديدة بين بلدان المنطقة إلى الروابط الأيديولوجية فحسب، بل إلى أساس التعاون بين شعوبها أيضًا، في ظل الاتجاه نحو تقوية التعاون في مجالات وقطاعات اقتصادية محددة، مثل توحيد الشبكة الكهربائية في المنطقة، وابتكار آليات لتقاسم الموارد الطبيعية واعتماد تدابير إقليمية ضد الفقر. بجانب تعميق الحوار حول بعض القضايا الأمنية ذات الأولوية، كمكافحة الجريمة المنظمة ومعالجة الاتجار بالبشر والمخدرات وكذلك الهجرة.

 إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى