دراسات شرق أوسطية

محاولة لتأصيل كلمة الأمير الفيصل في منتدى المنامة للحوار

بقلم العميد: أحمد عيسى

المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

شن الأمير تركي الفيصل رئيس الإستخبارات السعودية الأسبق، والسفير الأسبق للرياض في كل من واشنطن ولندن، والرئيس الحالي لمركز الملك فيصل للبحوت والدراسات الإسلامية، هجوماً على إسرائيل، وصفه البعض بأنه لم يبق ولم يذر، إذ إعتبرها إمتدادا للاستعمار الغربي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك خلال كلمته في الجلسة الختامية (التي كانت تحت عنوان الشراكات الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط، وضمت إضافة إليه كل من وزير الخارجية الإسرائيلي ووزير الخارجية البحريني) لمنتدى حوار المنامة في نسخته السادسة عشر الذي انعقد بتاريخ 4-6/12/2020، والذي ينظمه سنوياً المعهد البريطاني المعروف بالمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS).

وإكتسبت كلمة الأمير أهميتها من قربه من دوائر صنع القرار في المملكة، فضلاً عن  تزامن إلقائها مع وصول حالة التطبيع الإسرائيلي العربي، لا سيما الخليجي إلى ذروته، الأمر الذي يتجلى في مشاركة إسرائيل لأول مرة في هذا المنتدى بعد أن وقعت ما يعرف بإتفاقات (أبراهام إشارة لسيدنا إبراهيم عليه السلام) مع كل من أبوظبي والمنامة والخرطوم.

وعلى الرغم من تأكيد الأمير كعادته في مثل هذه المناسبات أنه يتحدث بصفته الشخصية، إذ أنه لا يشغل اي منصب رسمي في الدولة منذ إعفائه من مهامه كسفير للملكة في واشنطن العام 2007، إلا أنها لم تفقد أهميتها السياسية، الأمر الذي دفع البعض للإستنتاج أن الرياض ليس بواردها تطبيع علاقاتها مع إسرائيل كما فعلت بعض العواصم العربية مؤخراً، طالما تواصل إسرائيل إعتداءاتها على الفلسطينيين وتصادر حقهم في إقامة دولتهم المستقلة وتتنكر للشرعية الدولية ولمبادرة السلام العربية، فيما قال آخرون أن الطرفين قد قطعا شوطاً طويلاً في تنظيم العلاقات الأمنية فيما بينهم بعيداً عن الأضواء.

وفيما أشادت الأمتين العربية والإسلامية وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني بالكلمة وحسناً فعلوا لتطابق مضمونها مع الرؤية الفلسطينية لإسرائيل، الأمر الذي يمكن الإستدلال عليه من كتابات أصحاب الرأي من الشعب الفلسطيني على صدر صفحات صحفهم اليومية ومواقعهم الإلكترنية، وكذلك من خلال تغريداتهم على مواقع التواصل الإجتماعي، إلا أن الضرورة تقتضي قراءة مداخلة الأمير من منظور الأمن، لا سيما من خلال مقاربة النظام الأمني الضمني، Tacit Security Regime (TSR) وذلك للوقوف على حقيقة الإستنتاجات المشار اليها سابقاً.

وتظهر القراءة وفقاً لمحددات نظام (TSR) أن الإستنتاج صحيح في شقيه، فما هو النظام الأمني الضمني؟ وما مدى انطباقه على الحالة السعودية الإسرائيلية؟

في الواقع جرى تطوير النظام الأمني الضمني من قبل الدارسين المتخصصين في الدراسات الأمنية في حقل العلاقات الدولية، لا سيما في الحالة التي يهيمن فيها المأزق الأمني (Security dilemma) على العلاقات بين طرفين أو أكثر من أفراد المجتمع الدولي، في بدايات القرن الجاري، إذ يعتبر هذا النوع من الدراسات إمتداداً للدراسات النقدية للمدرسة السياسية الواقعية الكلاسيكية في تفسير العلاقات الدولية.

وتعتبر مساهمات (روبرت جيرفس) العام 1985 التي إستخلص فيها محددات ومعايير النظام الأمني الذي نشأ بين الدول الأوروبية في أعقاب الحروب النابليونية في القرنين الثامن والتاسع عشر، تلك المحددات التي نجحت في منع نشوب حروب جديدة بين الدول الأوروبية في تلك الفترة، بمثابة المرجع الذي يعود اليه دارسي العلاقات الدولية في أبحاثهم المتعلقة بالأنظمة الأمنية التي تحدد العلاقات بين الدول التي لا تجمعها تحالفات تعاقدية.

وتجدر الإشارة هنا أن الصراع في الشرق الأوسط، قد إحتل مساحة واسعة من إهتمامات الباحثين والدراسين في شأن الأنظمة الأمنية، حيت لا زال الصراع العربي الإسرائيلي فاعلاً في هذه المنطقة  ويستعصي على الحل، ويحسب للباحثة ستين جي (Stein, J. G) أنها الأولى التي تطرقت لهذا الموضوع العام 1985، إذ قاربته من خلال نظام أو نموذج إدارة الأزمة وفقاً لدراستها الموسومة بعنوان: Detection and defection: Security regimes and the management of international conflict، المنشور في مجلة international Journal العدد 40.

وفي نقدهم لأعمال ستين جي رأي الباحثان إنبار وساندلر (Inbar, E. & Sandler, S) العام 1995، أن نموذج عدم التدخل مع الإحتفاظ بتفوق قوة الردع (Laissez-Faire) هو الأكثر ملائمة لتنظيم علاقات الدول في الشرق الأوسط، وذلك وفقا لدراستهم الموسومة بعنوان: The Changing Israeli Strategic Equation: Toward Security Regime ، المنشورة في العدد 21 من مجلة Review of International Studies.

من جهته جادل الأكاديمي الأمريكي المعروف كليمان (Kleiman, A.) العام 1995 ضد مقاربة إنبار وساندلر مدللاً على صحة جدله بنجاح نموذج النظام الذي كان قائماً بين الأردن وإسرائيل قبل توقيع معاهدة السلام بينهما العام 1994، في المحافظة على الإستقرار الأمني بين الطرفين، وذلك في دراسته المعنونة بـــ The Israel-Jordan Tacit Security Regime ، المنشور في مجلة جامعة نيويورك.

ويظهر من خلال عنوان دراسة كليمان استخدامه لمصطلح الضمني أو غير المعلن (Tacit)، وهي المرة الأولى التي يبرز فيها هذا المصطلح في الدراسات الأكاديمية التي تناولت العلاقات الإسرائيلية العربية في ظل إستمرار الصراع، وفي معرض شرحه لهذا النظام ذكر كليمان أن هذا النموذج من العلاقات الأمنية لا يلغي أو يمنع التنافس والإختلاف بين طرفيه إذا ما توافقوا ضمناً على التعاون لمواجهة تهديدات أمنية مشتركة.

وفي الشأن ذاته عدد كليمان ملامح هذا النظام بأنه لا يعكس هيمنة أحد أطرافه على الطرف الآخر، كما أنه شكل من اشكال النظام الأمني الذي لم يطور في الغرب، وأنه غير تعاقدي، وغير مؤسسي ولا يحتاج لرعاية قوة عظمى.

وقد شكلت هذه الدراسة نقطة إنطلاق جديدة لدارسي العلاقات الدولية المتخصصين في دراسات الأمن القومي، لفحص مدى نجاعة تطبيق النظام الأمني الضمني في العلاقات بين إسرائيل وباقي الدول العربية، لا سيما وأن شروط الجغرافيا والثنائية المتوفرة في الحالة الأردنية لا تتوفر مع باقي الدول العربية.

ويكشف ما يرشح في الإعلام عن العلاقات السعودية الإسرائيلية أن الطرفين قد قطعا شوطاً طويلاً في ضبط علاقاتهم ضمن محددات النظام الأمني الضمني، إذ تتوفر في هذا النظام المحددات التي تساعد الطرفين على تطوير علاقاتهم الأمنية على الرغم من غياب محدد الجغرافيا الذي توفر في الحالة الأردنية الإسرائيلية.

حيث تدور باقي محددات النظام حول عدم التعاقد وعدم المأسسة وعدم الإعلان، علاوة على أنه فيما يقوم حول تصور مشترك للتهديد، إلا أنه يراعي القيم والعوامل الأيدلوجية التي يؤمن بها الرأي العام الداخلي ودور ذلك في إعاقة تطوير علاقات علنية بين أطرافه، والأهم أنه يقوم على الجمع بين المنافسة والتعاون بين أطرافه، الأمر الذي يخفف من حدة المنافسة والصراع في سبيل تحقيق هدف مواجهة التهديد المشترك، كما أنه يسمح بتطوير العلاقات الإقتصادية وتبادل المنفعة وتوسيع قائمة المصالح.

يوضح ما سبق أن الأمير الفيصل لم يتجاوز في كلمته المحددات التي يقوم عليها النظام الأمني الضمني، الذي يضبط العلاقة السعودية الإسرائيلية ويسمح بالإختلاف والتنافس في ظل التعاون، وتأسيساً على ذلك من المتوقع أن لا تتطور هذه العلاقة إلى حد التطبيع كحالة الإمارات والبحرين والسودان وغيرهم من الدول العربية والإسلامية المتوقع أن تنضم إلى قائمة الدول المطبعة قريباً، وذلك لأن المضار المترتبة على تطبيع السعودية علاقاتها مع إسرائيل طالما ظلت إسرائيل دولة إستعمار غربي، أكثر من فوائده، إذ سيجرح التطبيع في هذه الحالة مكانة السعودية في قيادة العالم الإسلامي كما أنه سيعطي شرعية للإستعمار الغربي في بلاد أولى القبلتين وثالت الحرمين، الأمر الذي يضع كلمة الأمير  في إطار رد الفعل الغاضب على خرق إسرائيل الخبيث (نتنياهو) لمحددات نظام (TSR) بتسريبها خبر لقاء نيوم بين ولي العهد محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأمريكي بومبيو ورئيس الوزراء نتنياهو في أواخر شهر نوفمبر الماضي.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى