دراسات تاريخية

محمد بوضياف (سي الطيب الوطني).. بين الرئاسة الرابعة للجزائر والاغتيال في عنابة 1992

هو محمد بوضياف ولد في 23 يونيو 1919م مدينة المسيلة (ولاية المسيلة) واغتيل بمدينة عنابة في 29 يونيو 1992م. لقب بالسي الطيب الوطني وهو اللقب الذي أطلق عليه خلال الثورة الجزائرية، يعد أحد كبار رموز الثورة الجزائرية وقادتها والرئيس الرابع للدولة الجزائرية.

حياته

ما قبل الثورة

    درس محمد بوضياف تعليمه الابتدائي في مدرسة «شالون» بـ بوسعادة، ثم اشتغل بمصالح تحصيل الضرائب بمدينة جيجل، وخلال الحرب العالمية الثانية قاتل في صفوف القوات الفرنسية. انضم إلى صفوف حزب الشعب الجزائري وبعدها أصبح عضوا في المنظمة السرية، وفي أواخر عام 1947 كلف بتكوين خلية تابعة للمنظمة الخاصة في قسنطينة. وفي 1950 حوكم غيابيا مرتين وصدر عليه حكم بثماني سنوات سجنا، وتعرض للسجن في فرنسا مع عدد من رفاقه، وفي عام 1953 أصبح عضوا في حركة انتصار الحريات الديمقراطية.

خلال الثورة

    بعد عودته إلى الجزائر، ساهم محمد بوضياف في تنظيم اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي ترأسها وكانت تضم اثنين وعشرين عضوًا وهي التي قامت بتفجير ثورة التحرير الجزائرية. وفي 22 أكتوبر 1956، كان رفقة كل من حسين أيت أحمد أحمد بن بلة ومحمد خيضر والكاتب مصطفى الأشرف الذين كانوا على متن الطائرة المختطفة والتي كانت متوجهة من الرباط إلى تونس وقام أفراد أجهزة المخابرات الفرنسية بتغيير مسار الطائرة في الجو واختطافهم وقد عين عام 1961 نائب رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

بعد الاستقلال

     بعد حصول الجزائر على استقلالها في 5 يوليو 1962، انتخب في سبتمبر من نفس العام في انتخابات المجلس التأسيسي عن دائرة سطيف لكن ما لبثت أن حدثت خلافات بين القادة الجزائريين، وكان موقف بوضياف أن مهمة جبهة التحرير الوطني قد انتهت بالحصول على الاستقلال، وأنه يجب فتح المجال أمام التعددية السياسية، وفي سبتمبر 1962 أسس محمد بوضياف حزب الثورة الاشتراكية. وفي يونيو 1963 تم توقيفه وحكم عليه بالإعدام بتهمة التآمر على أمن الدولة، ولكن لم ينفذ فيه الحكم نظراً لتدخل عدد من الوسطاء ونظراً لسجله الوطني، فتم إطلاق سراحه بعد ثلاثة شهور قضاها في أحد السجون بجنوب الجزائر، انتقل بعد ذلك إلى باريس وسويسرا، ومنها إلى المغرب. ومن عام 1972 عاش متنقلًا بين فرنسا والمغرب في إطار نشاطه السياسي إضافة إلى تنشيط مجلة الجريدة. في عام 1979 وبعد وفاة الرئيس هواري بومدين، قام بحل حزب الثورة الاشتراكية وتفرغ لأعماله الصناعية، إذ كان يدير مصنعًا للآجر بمدينة القنيطرة في المغرب.

العودة ورئاسة الدولة

   بعد إيقاف المسار الانتخابي وإجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة في جانفي/ يناير 1992، استدعي إلى الجزائر من قبل الانقلابيين الذين لا يريدون أن يظهروا في مقدمة الركح وأرسل إليه صديقه علي هارون، واقتنع بالعرض، ليعود بعد 27 عامًا من الغياب عن الساحة الجزائرية، وعندما نزل بالجزائر صرح قائلًا: «جئتكم اليوم لإنقاذكم وإنقاذ الجزائر وأستعد بكل ما أوتيت من قوة وصلاحية أن ألغي الفساد وأحارب الرشوة والمحسوبية وأهلها وأحقق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدتكم ومساندتكم التي هي سرّ وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيّتها دائمًا». ثم وقع تنصيبه رئيسا للمجلس الأعلى للدولة في 16 يناير 1992 لمجابهة الأزمة التي دخلتها البلاد غداة إلغاء المسار الانتخابي الذي آذن بدخول الجزائر في حرب أهلية. وقد وجد نفسه محاصرًا من قبل كبار العسكريين.

اغتيال محمد بوضياف

    بينما كان يلقي خطابًا بدار الثقافة بمدينة عنابة يوم 29 يونيو من نفس العام رمي بالرصاص من قبل أحد حراسه المسمى مبارك بومعرافي، وهو برتبة ملازم. وظلّت ملابسات الاغتيال غامضة، ويتهم فيها البعض المؤسسة العسكرية في البلاد نظراً لنية بوضياف مكافحة الفساد. وبعد أقل من أسبوع على اغتياله، شكلت لجنة تحقيق في تلك الجريمة السياسية يوم 4 يوليو، لكنها لم تظهر إلا في مناسبة واحدة عندما عرضت شريطًا يصور ما حدث لحظة الاغتيال، ثم اختفت بعد ذلك. وتم اتهام بومعرافي رسميًا بالاغتيال واعتبر ذلك منه تصرفًا فرديًا معزولًا، وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام، لكنه لم ينفذ فيه.

    وعلى ذمة صديق العاهل المغربي الراحل ووزيره الأول عدة مرات فإن “زوجة بوضياف ترجّت الحسن الثاني مرارًا لمنع زوجها من العودة للجزائر”!. فسبق أن كشف أحمد عصمان، صديق الدراسة للعاهل المغربي الراحل الحسن الثاني وصهره، ووزيره الأول لثلاث مرات متتالية ورئيس البرلمان من 1984 إلى 1992، ما قال أنها حقائق تاريخية تروى للمرة الأولى عن علاقة الحسن الثاني مع الرؤساء السابقين في الجزائر، وتحديدًا هواري بومدين ومحمد بوضياف، وأيضًا عن علاقته بالعقيد الليبي المغتال معمر القذافي. وزعم أحمد عصمان في “مذكراته” التي نشرت أجزاء منها صحف مغربية أن زوجة الرئيس الراحل محمد بوضياف، “كانت تتصل به بشكل مستمر قبل عودته إلى الجزائر، وكانت تترجاه أن يطلب من الملك الحسن الثاني ثنيه عن العودة إلى بلاده، لأنها كانت متأكدة أنهم سيقتلونه بمجرد عودته وذلك ما حدث بالفعل” يضيف عصمان. محمد بوضياف الذي كانت تربطني به علاقة طيبة، وقد كانت زوجته تتصل بي بشكل مستمر قبل عودته إلى الجزائر، وكانت تترجاني أن أطلب من الملك الحسن الثاني إسداء النصح إلى زوجها بعدم العودة إلى الجزائر، وكانت تضيف أنها متأكدة من أنهم سيقتلونه بمجرد عودته، وذلك ما حدث بالفعل. للأسف، بوضياف لم يكن يقدّر أن الأمر سيكون بهذه الخطورة، وكان يعتبر أن من ينصحونه إنما يهولون من مسألة عودته إلى الجزائر، لكنه كان مخطئا. وأذكر أنه يوم كان عائدًا إلى الجزائر كنت حينها أترأس إحدى الجلسات في البرلمان، فجاءني المخازني يخبرني بأن بوضياف يرغب في رؤيتي.. لقد جاء أساسًا ليودعني، ولم يكن يعلم بأنه لن يغادر المغرب فقط وإنما سيغادر الدنيا بأسرها”.

دروس من الانقلاب على ديمقراطية الجزائر 1992 وبداية “العشرية السوداء”

   هي البدايات حضرت بعد تسلم الشاذلي بن جديد السلطة في الجزائر عام 1979، حيث بدأت محاولاته لتطبيق خطته الخمسية التي كانت تهدف إلى إنشاء قواعد للاقتصاد الحر في الجزائر والنهوض بالمستوى الاقتصادي المتعثر للجزائر ولكن سنوات حكمه شهدت نشاطًا معارضًا القبائل والمفرنسين في مجال معارضتهم لسياسة التعريب التي تنتهجها الحكومة وخاصة في مجال التعليم.

   في الوسط من ذلك بدأ نشاط التيار الإسلامي السياسي بالازدياد تدريجيًا، متأثرًا بالثورة الإسلامية في إيران فمن خلال بعض العمليات التي كانت تستهدف محلات بيع المشروبات الروحية وممارسة الضغط على السيدات بارتداء الحجاب. وفي عام 1982 طالب ذلك التيار علنا بتشكيل حكومة إسلامية ومع ازدياد أعمال العنف وخاصة في الجامعات الدراسية، هنا تدخلت الحكومة وقامت بحملة اعتقالات واسعة حيث تم اعتقال أكثر من 400 ناشط من التيار المتبني لفكرة الإسلام السياسي، وكان من بينهم أسماء كبيرة مثل عبد اللطيف سلطاني ولكن الحكومة بدأت تدرك ضخامة وخطورة حجم هذا التيار، فقامت وكمحاولة منها لتهدئة الجو المشحون بافتتاح واحدة من أكبر الجامعات الإسلامية في العالم بولاية قسنطينة في عام 1984، وفي نفس السنة تم إجراء تعديلات على القوانين المدنية الجزائرية وخاصة في ما يخص قانون الأسرة حيث أصبحت تتماشى مع الشريعة الإسلامية.

    مرت سنوات حكم بن جديد، ونظرًا للأوضاع الاقتصادية، تصاعد الغضب في قطاعات واسعة من الشارع الجزائري وفي أكتوبر 1988 بدأت سلسلة من إضرابات طلابية وعمالية والتي أخذت طابعا عنيفا بصورة تدريجية وانتشرت أعمال تخريب للممتلكات الحكومية إلى مدينة عنابة والبليدة ومدن أخرى فقامت الحكومة بإعلان حالة الطوارئ وقامت باستعمال القوة وتمكنت من إعادة الهدوء في 10 أكتوبر بعد أحداث عنيفة أدت إلى قتل حوالي 500 شخص واعتقال حوالي 3500 شخص وسميت هذه الأحداث من قبل البعض “بأكتوبر الأسود” كما يصفها البعض الآخر بـ”انتفاضة أكتوبر”، كانت للطريقة العنيفة التي انتهجتها الحكومة في أحداث أكتوبر، وجاءت نتائج غير متوقعة حيث قامت مجاميع تنتهج الإسلام السياسي بإحكام سيطرتها على بعض المناطق، وطالبت منظمات عديدة في الجزائر بإجراء تعديلات وإصلاحات فقام الشاذلي بن جديد بإجراءات شجعت على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، فقام عباسي مدني وعلي بلحاج بتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مارس 1989 بعد التعديل الدستوري وإدخال التعددية الحزبية، وكان عباس مدني الأستاذ الجامعي، يمثل تيارًا دينيًا معتدلًا وكان لدوره السابق في حرب التحرير أثرًا رمزيًا في ربط الحركة الجديدة بتاريخ النضال القديم للجزائر.

   بدأت الجبهة تلعب دورًا بارزًا في السياسة الجزائرية وتغلبت بسهولة على الحزب الحاكم، جبهة التحرير الوطني الذي كان الحزب المنافس الرئيسي في انتخابات عام 1990 مما حدى بجبهة التحرير الوطني إلى إجراء تعديلات في قوانين الانتخابات وكانت هذه التعديلات في صالح الحزب الحاكم، فأدى هذا بالتالي إلى دعوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام وقام الشاذلي بن جديد بإعلان الأحكام العرفية في 5 يونيو 1991 وتم اعتقال عباسي مدني وعلي بلحاج الارهابيين. وبدأ الصراع في ديسمبر عام 1991.

    تطورت الأحداث بسرعة وصولًا لليلة 11 -12 يناير/ كانون الثاني 1992، كان الجزائريون متسمّرين أمام الشاشات بانتظار بيان قيل إنه مهم وحاسم، فيما كانت البلاد تمر من الدور الأول للانتخابات البرلمانية الذي كان قد تمّ في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991، على أن يجري الدور الثاني في 16 يناير 1992، وذلك بعد سنتين من انتخابات بلدية اكتسحت فيها “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” معظم البلديات والمحافظات. في هذا السياق، وفي الساعة الثامنة من مساء 11 يناير 1992، كانت الإعلامية صورية بوعمامة، تطلّ في مقدمة نشرة الأخبار، لتلاوة “البيان الأول للمجلس الأعلى للأمن”، الذي جاء فيه أن “المجلس قد قرر بأن الظروف التي تمرّ بها البلاد، أفضت إلى استحالة استمرار المسار الانتخابي وإلغاء نتائج الدور الأول للانتخابات وعدم إجراء الدور الثاني”، وذلك بسبب ما اعتبره “تهديداً للديمقراطية والنظام الجمهوري وأعمال العنف من قبل الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، التي كان قادتها علي بلحاج وعباسي مدني قد اعتُقلا منذ أحداث يونيو/حزيران 1991، وحكم عليهما بالسجن لمدة 12 عاماً.

   أعلن البيان عن سدّ حالة الشغور في المنصب الرئاسي، عبر إنشاء المجلس الأعلى للدولة، بعد أن دُفع الرئيس الشاذلي بن جديد، بعد مرحلة من الشد بينه وبين قادة المؤسسة العسكرية، إلى تقديم استقالته لرئيس المجلس الدستوري حينها عبد المالك بن حبيلس، رفضاً لوقف المسار الانتخابي وإلغاء الدور الثاني.

   نعم “عصبة قررت في 11 يناير 1992 ممارسة الوصاية على الشعب باستعمال القوة”، وتزامنت استقالة بن جديد مع قرار سابق له، يقضي بحلّ البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية مسبقة، ما يعني شغور منصب رئيس البرلمان الذي كان يمكن أن يحلّ دستورياً مكان الرئيس لفترة 60 يوماً. بالتالي، نجح مدبّرو الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي والانتخابي، في توفير كامل شروط الشغور التي تتيح لهم الاستيلاء على الحكم، لكنهم كانوا بحاجة إلى ظهير سياسي وجدوه في عدد من الأحزاب السياسية العلمانية وهيئات مدنية تدّعي الدفاع عن الديمقراطية. وقد أسست تلك الأحزاب ما عُرف حينها بـ”لجنة إنقاذ الجزائر”.

   كان الانقلابيون في حاجة إلى شخصية سياسية مرجعية وتاريخية لترؤس المجلس الأعلى للدولة، ووجدوه في الزعيم الثوري محمد بوضياف، الذي استقدمه الجيش من منفاه في المغرب، في 26 يناير 1992، قبل أن يُغتال على يد أحد حراسه في 26 يونيو 1992. لكن عدداً من الشخصيات السياسية الديمقراطية، رفضوا الاعتراف بالواقع السياسي الجديد، وحذّروا من التداعيات الوخيمة التي يقود إليها قادة المؤسسة العسكرية بقيادة وزير الدفاع حينها الجنرال خالد نزار، ورئيس الأركان الجنرال الراحل محمد العماري، وجهاز الاستخبارات بقيادة الفريق محمد مدين.

   في تلك الفترة تمرّد الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الأول للسلطة على سلطة الأمر الواقع، عبد الحميد مهري، رافضاً الاعتراف بالانقلاب العسكري، وانحاز إلى المسار الديمقراطي والمعارضة. وانخرط في مسارات المطالبة بالحوار السياسي والعودة إلى الشرعية. كما كان من موقّعي وثيقة عقد روما، التي انتهى إليها اجتماع أحزاب وقوى المعارضة عام 1995، ما دفع قيادة الجيش والاستخبارات إلى التخطيط للانقلاب عليه داخل الحزب، وهو ما تمّ في مؤتمر عام 1996.

  رفض القائد الثوري حسين آيت أحمد عرضاً من قادة الجيش لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، لكنه رفض الانخراط في لعبة العسكر، ووصف ما حدث بـ”الانقلاب”. كما رفض الرئيس الراحل أحمد بن بلة دعم انقلاب العسكر، منحازاً إلى المسار الديمقراطي وإلى ما وصفه “صف المعارضين لاغتصاب إرادة الشعب”.

   هنا يرى الإعلامي سليم صالحي، الذي كان يدير حينها صحيفة “العالم السياسي” اليومية، أن “عصبة قررت في 11 يناير 1992 ممارسة الوصاية على الشعب باستعمال القوة، فاتخذت قرارها المتهور لتوقيف المسار الديمقراطي في الجزائر والضغط على الرئيس الشرعي الشاذلي بن جديد، وإدخال البلاد في دوامة حرب دفع ثمنها الشعب وقواه الأمنية والعسكرية غالياً”. ويشير إلى أن “غرض العسكر حينها، خلاف ادّعائهم، لم يكن الحفاظ على الديمقراطية أو النظام الجمهوري، بل كان غرضهم من ذلك الاستيلاء على الحكم والبقاء فيه ليس إلا”. وينوّه صالحي إلى أن “هناك جملة من الأسئلة المعلقة بشأن تلك الفترة، بحكم الكلفة الدامية للانقلاب وعودة المسار الديمقراطي الصحيح إلى الجزائر بفعل ذلك، ما يتطلب مساءلة المسؤولين عن ذاك القرار الانقلابي بحكم حجم الخسائر التي لحقت بالجزائريين وبالبلاد جراء الانقلاب”.

   الحقيقة أن الكلفة الكبيرة التي تحملتها الجزائر خلال عقد التسعينات، بسبب قرار وقف المسار الانتخابي، ففضلاً عن العطب السياسي والديمقراطي وتخريب الاقتصاد الجزائري واغراق البلاد في الديون، وحجم التمزق المجتمعي والآثار النفسية التي أفرزتها الأزمة، فإن الكلفة البشرية كانت كبيرة جداً. فالأرقام عن إجمالي ضحايا الصراع، صادمة حيث تشير إلى سقوط ما بين 120 إلى 200 ألف قتيل، و7400 مفقود، وربع مليون جريح ومتأثر من الحرب، وأكثر من 20 ألف معتقل في محتشدات الصحراء لعناصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلّة. كما خسر نصف مليون عامل وموظف وظائفهم. وبلغت الخسائر المادية نحو 50 مليار دولار، وتمّ تخريب 40 ألف مؤسسة إنتاجية، وآلاف المدارس والمؤسسات التعليمية المعطلة وآلاف النازحين من القرى إلى المدن طلباً للأمن.

  نعم لم تمر بهدوء التصريحات التي أطلقها القائد السابق للجيش الجزائري، الجنرال خالد نزار، المهندس الرئيسي للانقلاب الذي أوقف المسار الانتخابي في 11 يناير/ كانون الثاني 1992، إذ تبعتها تصريحات مضادة أطلقها الجنرال محمد بتشين، وهو المسؤول الأسبق عن جهاز الأمن والاستعلام (الاستخبارات) في مرحلة حكم الرئيس السابق، اليمين زروال، والمسؤول الأول عن الملف الأمني قبيل انقلاب الجيش في يناير/ كانون الثاني 1992، وفاعل عسكري أساسي في تلك الفترة.

   إن كشف الحقائق المتصلة بالمفاوضات بين الجيش و”الجبهة الاسلامية للإنقاذ” المنحلة، والتي قال عنها الجنرال بتشين إن هناك أطرافاً أفسدت المفاوضات ودفعت بالبلاد نحو الهاوية، وهو ما نفاه الجنرال نزار. فمناسبة الحادي عشر من شهر يناير/كانون الثاني من كل عام، تعيد إحياء الجدل حول “انقلاب عسكري”، إلا أن هذا الجدل أخذ مؤخرًا بُعدًا آخر ومسارًا آخر ومنحى أكبر من حيث طبيعة التصريحات ونوعية المصرّحين. وأصبح الجديد في التلاسن الجديد القديم، وتمخّض عنه إخراج بعض الملفات المستترة إلى العلن، حيث دارت تصريحات نزار حول تكذيبه لأقوال الزعيم التاريخي الراحل حسين آيت أحمد حول عرض الرئاسة عليه، وكذلك ملف فض اعتصامات يونيو/حزيران 1991 وما ترتب عنه من قتلى، إضافة إلى ملف تعذيب المتظاهرين.

   اللافت للانتباه في هذا الصخب هو توجيه سهام الاتهام من قِبل الجنرال نزار إلى رئيس الحكومة الأسبق، مولود حمروش، في مقابل دفاع الجنرال بتشين عنه”، لافتاً إلى أن “بعض التحليلات تقول إن هناك محاولة لتشويه صورة حمروش، قد تكون لها صلة بالأخبار التي تحدثت عن احتمال اتفاق بعض الأطراف النافذة في النظام الجزائري حوله كمرشح إجماع يُمكن أن يُخرج البلد من الانسداد الحاصل بين معارضة تطالب بانتقال ديمقراطي، وسلطة تتعنت، وسط بحث عن طرق لتسيير المرحلة المقبلة.

 بالعودة للأرقام الحقيقية عن إجمالي ضحايا الصراع، تشير إلى سقوط ما بين 120 ألفاً إلى 200 ألف قتيل ” في عام 1997 وجد قادة الجيش أنفسهم في مواجهة العنف المسلح وتوسع نشاط الجماعات المسلّحة، فضلاً عن تراكم المشاكل الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتفاقم المشاكل الاجتماعية ووقوع البلاد رهينة في يد صندوق النقد الدولي والمديونية، كما أُخفقت محاولات الحوار مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة، الذين كان بعضهم في السجون.

  لقد فرض هذا الواقع على قادة الجيش والاستخبارات إطلاق مسار بديل والتوجه إلى الجبال لمقابلة قادة التنظيمات المسلحة، وكان الجنرال الراحل إسماعيل العماري، الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات، قد أطلق إشارات إيجابية باتجاه قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ، الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة، مدني مزراق، عبر وسطاء مقربين من الإسلاميين. وبعد مرحلة اكتساب الثقة وجد الجنرال العماري نفسه وجهاً لوجه مع مدني مزراق في معسكر لهذا الأخير. لم يضع مزراق السلاح من كتفه حتى في لحظة استقباله لضيفه، الذي جاءه أعزل من كل سلاح. تكررت اللقاءات بين الطرفين وأفضت إلى اتفاق بين الجيش وتنظيم الجيش الإسلامي للإنقاذ، انسحب أيضاً على مجموعات مسلّحة أخرى، بينها رابطة الدعوة والقتال بقيادة علي بن حجر، يقضي بوقف القتال وتجميع عناصر هذه التنظيمات في مخيمات محددة معروفة لدى قوات الجيش.

   أفضى كل ذلك إلى قانون الوئام المدني، الذي عُرض في استفتاء شعبي في سبتمبر/ أيلول 1999، سامحًا بإنهاء جزء كبير من الأزمة الأمنية وتحقيق استقرار أمني نسبي، لكن معضلات قانونية ظلّت معلقة، خصوصاً ما يتصل بالملفات القضائية للمسلحين التائبين وعائلات المفقودين والمسلحين المقتولين في المواجهات في التسعينات وغيرها. وهو ما دفع بالسلطة وبوتفليقة إلى تطوير هذا القانون إلى قانون المصالحة الوطنية، الذي أقرّ عفواً قضائياً ملغياً كل المتابعات القضائية في حق المسلحين العائدين من الجبل، وتسوية الوضعية القانونية في سجلات الوفاة، والحالة المدنية بالنسبة للمفقودين والمسلحين المقتولين، وتقديم تعويضات مادية لعائلاتهم.

   يرى متابعون أن بقاء بعض الملفات حول أزمة 1992 محجوزة في الأدراج لا يخدم مستقبل البلاد، ويرى متابعون للشأن السياسي في الجزائر أن تلك الفترة تشوبها ضبابية في الحقائق، وأن بقاء بعض الملفات محجوزة في الأدراج لا يخدم مستقبل البلاد، مشيرين إلى أن الكشف عن تفاصيل جديدة تتصل بالوضع والظروف التي شهدتها البلاد في التسعينيات يُعدّ خطوة إيجابية، لأنها تؤرخ لمرحلة شهدتها الجزائر على الرغم من مآسيها وضحاياها الذين تجاوز عددهم الـ200 ألف، وأُطلق عليها مرحلة “المأساة الوطنية” أو “العشرية السوداء”.

نجل بوضياف يحتج على رفض إعادة فتح قضية اغتيال والده

      سبق أن احتج نجل الرئيس الجزائري محمد بوضياف، الذي اغتيل عام 1992 على «طي قضية التآمر» بإصدار أحكام براءة لأربعة أشخاص، من بينهم رئيسي استخبارات سابقين، «في حين أن قضية التآمر الحقيقية، وهي اغتيال والدي، يرفض القضاء إعادة فتحها». وتم رسميًا اتهام ضابط عسكري باغتيال رجل الثورة، بينما تتهم عائلته مدير المخابرات ووزير الدفاع آنذاك بـ«تدبير الجريمة».

    سبق أن نشر ناصر بوضياف، بيانًا عبر فيه عن استيائه من تبرئة القضاء العسكري كلا من محمد مدين وبشير طرطاق مديري المخابرات سابقًا، وسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، ولويزة حنون رئيسة حزب يساري، التي كانت مقربة من بوتفليقة، من تهمتي «التآمر على الجيش»، و«التآمر على السلطة». وإن عاد مدين، الشهير بـ«توفيق» إلى بيته، فيما بقي طرطاق وسعيد في السجن لمتابعتهما في قضايا أخرى، أما حنون فقد استعادت حريتها منذ عام تقريبًا بعد تخفيض العقوبة. وقد أدانت المحكمة العسكرية الأربعة بالسجن 15 سنة، لكن بعد نقض الأحكام من طرف المحكمة العليا صدرت البراءة بحقهم في 2021. كما أدان القضاء في نفس الملف وزير الدفاع السابق، اللواء خالد نزار، غيابيا بـ20 سنة سجنًا، والذي عاد من منفاه الإسباني الاختياري 2021، وكان ذلك إيذانا بإسقاط التهمة عنه. وقد اتهمه نجل بوضياف بأنه من مدبري الجريمة، التي تظل لغزًا وحدثًا فارقًا في تاريخ البلاد الحديث.

   يواصل ناصر بوضياف «لقد علم الرأي العام الجزائري مؤخرا ببراءة أربعة متهمين بالتآمر على الجيش. ويُعتقد أن هؤلاء الأشخاص قد سُجنوا في الأشهر الأخيرة. لكن لمبارك بومعرفي، الذي نسب إليه الفعل المعزول (بمعنى أن الجريمة لم تكن مدبرة وأن مرتبكها يتحملها وحده) للاغتيال الجبان، الذي تعرض له أحد مطللقي ثورة 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، محمد بوضياف، يجب أيضاً إطلاق سراحه لسبب بسيط هو أنه يقبع منذ 28 عاماً خلف القضبان، لارتكابه جريمة لم يكتشف الشعب الأدلة، التي تدين هذا القاتل المزعوم بارتكابها».

     يظل ناصر متسائلًا «هل اغتيل محمد بوضياف لأنه أول رئيس دولة جزائري يندد من مكانته العالية بالمافيا السياسية المالية؟ هل اغتيل بسبب عدم كفاءة الأجهزة الأمنية المسؤولة عن حمايته؟ أم أنها هي الأخرى جزء من المؤامرة؟… إنني أرحب بالقضاء الجزائري إن أجابني عن أسئلتي». وأعرب ناصر عن استيائه من عدم تلقي أي رد من وزير العدل الحالي، بلقاسم زغماتي، الذي دعاه منذ سنة إلى «فتح تحقيق جاد» حول اغتيال والده. مشيرًا إلى أن اغتيال الرئيس الأسبق «ليس لغزًا غامضًا، وهو عمل مدبر». ومنذ سنين طويلة، ظل ناصر يوجه الاتهام بتدبير عملية اغتيال والده لوزير الدفاع آنذاك، خالد نزار، وإلى مدير المخابرات يومها محمد مدين.

تخليدًا لبوضياف

سميت عدة مؤسسات باسمه، من أبرزها:

جامعة محمد بوضياف بالمسيلة.

جامعة محمد بوضياف للعلوم والتكنولوجيا (وهران).

مطار محمد بوضياف الدولي بقسنطينة.

المركب الرياضي محمد بوضياف بالجزائر العاصمة.

عدة مستشفيات في كل من أم البواقي والبيض وقسنطينة والبويرة وورقلة والعين الصفراء وعين ولمان والخروب وغليزان والطارف.

دار الثقافة محمد بوضياف في برج بوعرريج

تكوين المهني محمد بوضياف في المشرية

عدة ساحات وأحياء وشوارع ومدارس

بلدية محمد بوضياف والتي كانت تسمى بلدية وادي الشعير سابقًا. سميت باسمه تخليدًا له عقب اغتياله.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى