دراسات تاريخية

محمد عبدالغني الجمسي: “ثعلب الصحراء المصري”

محمد عبدالرحمن عريف

  بعد انتهاء إحدى جلسات مفاوضات فض الاشتباك الأول (الكيلو 101) التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، خرج رئيس وفد المفاوضات المصري من خيمته للتفاوض دون أن يسلم على أي من أعضاء وفد المفاوضات الإسرائيلي أو تصدر عنه كلمة واحدة، وكانت هذه عادته طوال زمن المفاوضات، فأسرع وراءه قائد الوفد الإسرائيلي الجنرال “عيزرا وايزمان” الذي أصبح رئيسًا لإسرائيل فيما بعد، وقال له: “سيادة الجنرال، لقد بحثنا عن صورة لك وأنت تضحك فلم نجد، ألا تضحك أبدا؟!”. فنظر إليه المفاوض المصري ثم تركه ومضى.. وبعدها كتب وايزمان في مذكراته عنه “لقد هزني كرجل حكيم للغاية، إنه يمثل صورة تختلف عن تلك التي توجد في ملفاتنا، ولقد أخبرته بذلك”. أخبره كيسنجر بموافقة السادات على انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس، فرفض وسارع بالاتصال بالسادات الذي أكد موافقته؛ وكان صدام القرار الاستراتيجي والعسكري.. تم تصنيفه ضمن أبرع 50 قائدًا عسكريًا في التاريخ حسب أشهر الموسوعات العسكرية العالمية.. إنه (الجنرال النحيف) كما لقبته جولدا مائير (محمد عبدالغني الجمسي).

   نعم جِلسته المفضلة كانت بنادي هليوبوليس؛ حيث اعتاد الجلوس مع أصدقائه أمام ملعب الكروكية، ليس جنرال على المعاش من طائفة جنرالات المقاهي الذين يعيش الواحد منهم على ذكريات الماضي يجتر انتصاراته، ويفاخر بمعاركه والحروب التي خاضها، خاصة لو كانت حقيقية ولها تاريخ، لكن كل هذا تغير وانقلب تمامًا، لمن جلس معه وجده رجل بسيط متواضع قد لا تستطيع تمييزه عن غيره من الناس الذين تقابلهم في الشارع، وتزاملهم في العمل، وتجاورهم في الأوتوبيس. واحد من فلاحي ريف مصر البسطاء، نحيف الجسد دقيق الملامح، كأنما هي منحوتة نحتًا، هادئ بسيط وعادي، لا تتصور وهو يكلمك بعادية وتلقائية وهدوء أنه هو الجنرال الذي تمرس على الحياة بين طلقات الرصاص، واحترف العمل في ساعات الخطر. ولولا وقار الرجل وهيبته واسمه الذي تعرفه الدنيا كلها “أشهر من النار على العلم” لكانت جلستنا من التباسط والحميمية التي لم يتكلفها الجنرال أقرب إلى جلسات أهل الريف تحت أشجار الجميز التي تتخللها أكواب الشاي وأحاديث السمر. هكذا كتب عنه مراسل إحدى الصحف بعد اللقاء معه.

  بساطة الفلاح وعظمة الجنرال المنتصر هما وجهان لعملة واحدة لم يعرف المشير الجمسي غيرهما في حياته الطويلة التي لم يكن فيها سوى فلاح أو جنرال؛ ففي نهاية عام 1921 ولد الطفل محمد عبد الغني الجمسي لأسرة ريفية كبيرة العدد فقيرة الحال يعمل عائلها في زراعة الأرض في قرية البتانون بمحافظة المنوفية، ولفقر الأسرة المدقع كان الوحيد من بين أبنائها الذي حصل تعليمًا نظاميًا قبل أن تعرف مصر مجانية التعليم، ولعب القدر دوره في حياة الجمسي بعد أن أكمل تعليمه الثانوي، حينما سعت حكومة مصطفى النحاس باشا الوفدية لاحتواء مشاعر الوطنية المتأججة التي اجتاحت الشعب المصري في هذه الفترة؛ ففتحت -لأول مرة- أبواب الكليات العسكرية لأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة التي كانت محرومة منها، فالتحق الجمسي ولم يكن قد أكمل السابعة عشرة بالكلية الحربية مع عدد من أبناء جيله وطبقته الاجتماعية؛ حيث كان منهم جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيي الدين… وغيرهم، وتخرج فيها عام 1939 في سلاح المدرعات، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية ألقت به الأقدار في صحراء مصر الغربية؛ حيث دارت أعنف معارك المدرعات بين قوات الحلفاء بقيادة مونتجمري والمحور بقيادة روميل، وكانت تجربة مهمة ودرسًا مفيدًا استوعبه الجمسي واختزنه لأكثر من ثلاثين عامًا حين أتيح له الاستفادة منه في حرب رمضان.

    عقب انتهاء الحرب واصل الجمسي مسيرته العسكرية؛ فتلقى عددًا من الدورات التدريبية العسكرية في كثير من دول العالم، ثم عمل ضابطًا بالمخابرات الحربية، فمدرسًا بمدرسة المخابرات؛ حيث تخصص في تدريس التاريخ العسكري لإسرائيل الذي كان يضم كل ما يتعلق بها عسكريًا من التسليح إلى الإستراتيجية إلى المواجهة. فكان الصراع العربي الإسرائيلي هو المجال الذي برع فيه الجمسي، وقضى فيه عمره كله الذي ارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 1948 وحتى انتصار 1973، وحتى بعد اعتزاله للحياة العسكرية ظل مراقبًا ومحللًا للوضع المشتعل، مؤمنًا بأن أكتوبر ليست نهاية الحروب، وأن حربًا أخرى قادمة لا محالة؛ لأن مواجهة مصيرية لا بد أن تقع، وأن الانتفاضة الفلسطينية هي السلاح الأفضل والأنجع حاليًا لضرب العدو الصهيوني، ولا بد من تدعيمها بكل ما نملك.

كانت هزيمة يونيه 1967 بداية تصحيح المسار في مواجهة آلة الحرب الصهيونية؛ حيث أسندت القيادة المصرية للجمسي مهام الإشراف على تدريب الجيش المصري مع عدد من القيادات المشهود لها بالاستقامة والخبرة العسكرية استعدادًا للثأر من الهزيمة النكراء، وكان الجمسي من أكثر قيادات الجيش دراية بالعدو، فساعده ذلك على الصعود بقوة، فتولى هيئة التدريب بالجيش، ثم رئاسة هيئة العمليات، ورئاسة المخابرات الحربية، وهو الموقع الذي شغله عام 1972، ولم يتركه إلا أثناء الحرب لشغل منصب رئيس الأركان.

لم يضيع الجمسي يومًا واحدًا؛ فبدأ الاستعداد لساعة الحسم مع العدو الصهيوني، فكان لا يتوقف عن رصده وتحليله وجمع كل المعلومات عنه، وعندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ يستعين بكل مخزون معرفته، وبدأ تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الصهيوني، وتوقيتات الحرب المقترحة، وكيفية تحقيق المفاجأة. وللحفاظ على السرية التامة دوَّنَ كل هذه المعلومات السرية في الشيء الذي لا يمكن لأحد أن يتصوره؛ فقد كتب الجمسي كل هذه المعلومات في كشكول دراسي خاص بابنته الصغرى؛ فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا السادات وحافظ الأسد خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب!.

    اختار القائد المصري المحنك توقيت الحرب بعناية بالغة: الساعة الثانية ظهرًا من يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان 1393، وهو أنسب توقيت ممكن للحرب؛ نظرًا لوجود 8 أعياد يهودية وموافقته لشهر رمضان. ولأن التنسيق بين الجيشين المصري والسوري كان من أصعب مهام الحرب، ويحتاج إلى قائد من طراز فريد؛ لم يكن هناك أفضل من الجمسي.

   عاش رئيس هيئة العمليات المسئول الأول عن التحركات الميدانية للمقاتلين ساعات عصيبة حتى تحقق الانتصار، لكن أصعبها تلك التي تلت ما عرف بثغرة الدفرسوار التي نجحت القوات الصهيونية في اقتحامها، وأدت إلى خلاف بين السادات ورئيس أركانه وقتها الفريق سعد الدين الشاذلي الذي تمت إقالته على إثرها ليتولى الجمسي رئاسة الأركان، فأعد على الفور خطة لتصفية الثغرة وأسماها “شامل”، إلا أن السادات أجهضها بموافقته على فض الاشتباك الأول عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر للقاهرة!.

    بانتهاء المعركة وتكريم اللواء الجمسي، وترقيته إلى رتبة الفريق، ومنحه نجمة الشرف العسكرية.. لم تنته الساعات العصيبة في حياة الجمسي؛ فقد عاش ساعات أقسى وأصعب؛ هي ساعات المفاوضات مع عدو ظل يقاتله طيلة أكثر من ربع قرن. حيث اختاره السادات ليتولى مسئولية التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات (الكيلو 101)، وكقائد تجري دماء العسكرية في دمه نفذ الجمسي أوامر القيادة التي يختلف معها، وإن كان قد قرر ألا يبدأ بالتحية العسكرية للجنرال “ياريف” رئيس الوفد الإسرائيلي، وألا يصافحه، وهذا ما حدث فعلًا. وبدا الرجل مفاوضًا صلبًا مثلما كان عسكريًا صلبًا، حتى جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته -لأول مرة في حياته العسكرية- لأن يبكي! كان ذلك في كانون الثاني/ يناير 1974 عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليخبره بموافقة الرئيس “السادات على انسحاب أكثر من 1000 دبابة و70 ألف جندي مصري من الضفة الشرقية لقناة السويس!!. فرفض الجمسي ذلك بشدة، وسارع بالاتصال بالسادات الذي ما كان منه إلا أن أكد موافقته؛ ليعود الرجل إلى مائدة التفاوض يقاوم الدموع، ثم لم يتمالك نفسه فأدار وجهه ليداري دمعة انطلقت منه حارقة؛ حزنًا على نصر عسكري وأرواح آلاف الرجال تضيعها السياسة على موائد المفاوضات. وكانت مفاجأة لهنري كيسنجر أن يرى دموع الجنرال الذي كثيرًا ما أسرّ له القادة الإسرائيليون بأنهم يخشونه أكثر مما يخشون غيره من القادة العسكريين العرب. وكان القرار الذي ندم عليه في حياته، قائلًا بأسي: “اشتراكي في التفاوض مع اليهود”.

  في مذكراته يستعرض الموقف العسكري على المستوى الاستراتيجي في حرب أكتوبر 1973 التى هزت منطقة الشرق الأوسط هزًا عنيفًا وقلبت الموازين السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة وهو شهادة تصلح لتكون إمامًا للمتخصصين في كتابة التاريخ . واكد الجمسي على أن الصهيونية العالمية ”القوة المسلحة” قامت على إنشاء الدولة فقد أنشأت في وقت مبكرًا جداً في فلسطين أول منطقة عسكرية ولما كان إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين ليس هدفًا في حد ذاته، بل هو مرحلة للتوسع على حساب الأرض والسيطرة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. واشار إلى أن القوة العسكرية الإسرائيلية كانت صاحبة الدور الأقوى والأهم ومصدر الخطر الرئيسي على الدول العربية ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 لتقلب الموازين بصورة مختلفة تماماً عن الحروب السابقة في الصراع العسكري الدائم بين العرب وإسرائيل. حيث تم على إثرها فض الاشتباك الأول على الجبهتين المصرية والسورية ثم فض الاشتباك الثاني، وأعيد فتح قناة السويس للملاحة وألغيت معاهده الصداقة المصرية السوفيتية. واوضح أنه رغم أن الموقف الاستراتيجي في 1973 كان أصعب منه في حرب 1967 حيث عبرت القوات المسلحة المصرية الهزيمة وحققت النصر في ظروف سياسية معقدة. وفى أعقاب ذلك دخلت مصر مرحلة جديدة وحدث تغير شامل في مؤسسات وأجهزة الدولة.

     بعد الحرب مباشرة رُقي الفريق الجمسي إلى رتبة الفريق أول مع توليه منصب وزير الحربية عام 1974 وقائد عام للجبهات العربية الثلاث عام 1975، وواصل أثناء توليه للوزارة استكمال تدريبات الجيش المصري؛ استعدادًا للمعركة التي ظل طوال حياته يؤمن بها، وكان قرار السادات بألا يخرج كبار قادة حرب أكتوبر من الخدمة العسكرية طيلة حياتهم تكريمًا لهم، إلا أن السياسة أفسدت هذا التكريم؛ فقد تزايدت مساحة الخلاف بين الجمسي والسادات بعد مبادرة الأخير بالذهاب إلى إسرائيل عام 1977.

   تطورت الأحداث بما أدى لخروج الجمسي من وزارة الحربية عام 1978، واختلف الناس حول أسباب هذا الإبعاد، ولكن ظل السبب الأرجح هو رفض الجمسي نزول الجيش إلى شوارع مصر لقمع مظاهرات 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977 الشهيرة، فأسرّها السادات له، وكان قرار قبوله التقاعد بناء على طلب الجمسي، وتغير اسم وزارة الحربية إلى وزارة الدفاع. إلا أنه رقي عام 1979 إلى رتبة المشير، وحين خرج للحياة المدنية كان أول قرار له هو رفض العمل بالسياسة، وظل محافظًا على ذلك، وكان دائمًا ما يردد: إن الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي، وإن سبب هزيمتنا عام 1967 كان بسبب اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة؛ فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة.

  خرج المشير الجمسي من الحياة العسكرية، لكنه ظل محتفظًا بنفس التقاليد الصارمة من الالتزام والانضباط والتزام الصمت بعيدًا عن الأضواء، وحين بدأت موجة الكتابة عن حرب أكتوبر تنتشر في مختلف أنحاء العالم، كانت المعلومات تتكشف تدريجيًا عن دور الرجل في الحرب، وتعددت معها الألقاب التي أطلقت عليه؛ فجرت المقارنة بينه وبين الجنرال الألماني الأشهر روميل؛ فسمي “ثعلب الصحراء المصري”؛ نظرًا لبراعته في قيادة معارك الصحراء، ولُقب بأستاذ المدرعات التي احترف القتال في سلاحها منذ تخرجه في الكلية الحربية.. أما أحب الألقاب إلى قلبه فكان لقب “مهندس حرب أكتوبر”؛ نظرًا لاعتزازه بالحدث وفخره به.

إلا أن أغرب الألقاب التي أُطلقت على المشير الجمسي؛ فكان ذلك الذي أطلقته عليه جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر، حين وصفته بـ”الجنرال النحيف المخيف”.

في صمت رحل المشير الجمسي بعد معاناة مع المرض؛ العدو الوحيد الذي لم يستطع قهره، فرفع له الرايات البيضاء؛ استجابة لنداء القدر، وصعدت روحه إلى ربه في 7-6-2003 عن عمر يناهز 82 عامًا، عاش خلالها حياة حافلة بالانتصارات، وبمتابعة جملة النياشين والأوسمة التي تجاوز عددها 24 وسامًا من مختلف أنحاء العالم في الجنازة المهيبة التي حضرها كبار رموز الدولة والعسكرية المصرية تكريمًا ووفاء لذكرى الرجل.. نتذكر كلماته الأخيرة: “انتصار أكتوبر هو أهم وسام على صدري، وليتني أحيا لأقاتل في المعركة القادمة”!.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى