مدخل إلى الفكر الإستراتيجي

العديد من العلوم المتعلقة بالإنسان لديها فرضية أو “مسلّمة” وهي ادعاء الفهم و الإدراك لظاهرة ما أكثر من هؤلاء الذين يعيشونها. و الإستراتيجية هي إحدى هذه العلوم الإنسانية التي تؤمن بهذه الفرضية. إنها تحاول أن تكون علما شاملا يقود جميع أنواع الصراعات،ولكن مهما كان تعريفها أو اختلفنا فيه مع الآخرين فهي عمل “نبيل” لا يمارسه إلا نخبة من الناس لهم مستوى عال من المسؤولية و أهمها العلمية و المعرفية. لقد طرأ على علم الإستراتيجية تحولات مختلفة وكثيرة،فقد تحدث ” هيربرت روزينسكي” في الماضي عن الإستراتيجية الفطرية “الغريزية”، أما في العصر الحديث فقد تحول علم الإستراتيجية إلى مادة تدرس في الأكاديميات العسكرية وبهذا تكون قد تحولت الإستراتيجية إلى “علم الإستراتيجية” أو “الإستراتيجية العلمية”.

هناك من يقارن الإستراتيجية بلعبة الشطرنج، حيث نكون أمام معسكرين متعارضين.هذان المعسكران لهما هدف واحد دفعهما إلى المنافسة وهو إرغام أو قسر الخصم،مع العلم أنهما قبلا بوجود قاعدة للسلوك أو التصرف، إنها “قاعدة اللعبة”. أما الذي يتصرف بسرعة أكبر وبتفكير على المدى البعيد سيكون له الحظ الأوفر بالنصر. ونذكر هنا أن الكثير من الدراسات الإستراتيجية قارنت نابليون بونابرت بلاعب شطرنج. فهل، بالفعل وبكل بساطة، الإستراتيجية هي لعبة شطرنج؟ وكيف نستطيع القول أنها كذلك،مع العلم أن لاعب الشطرنج يفكر دائما بشكل افتراضي،وليس مادي!

أيضا،هل يمكننا أن نختزل الإستراتيجية أو تطبيقاتها إلى منافسة بين إرادة فردين أو شخصين؟وهنا نقول أن الإستراتيجية لا توضع أو تطبق لوحدها،أما الزعماء و حتى مدراء الشركات فهم لا يمارسون الإستراتيجية بأنفسهم،بل يكتفون بتوجيه أو إعطاء الأوامر للآخرين. ولكن فيما بعد هؤلاء الذين يخضعون للأوامر سيجدون أنفسهم لوحدهم في أماكن تطبيق الإستراتيجية،بالتالي سيكون عليهم التصرف لوحدهم كما سيمتلكون مساحة اكبر للتصرف وحرية الحركة بعيد عن رؤسائهم أو مدرائهم. طبعا،هنا نجد الفصل بين من يخطط ومن ينفذ،وهذا ما سنجده في مراحل لاحقة في التمييز بين الإستراتيجية العملية و الإستراتيجية النظرية.

إن الدلالة الأولى التي ترافق مفهوم الفعل الإستراتيجي أو المفهوم الذي يرتبط به هو ” التوافق أو التلاؤم”. فالإستراتيجية ليست شكلا بسيطا أو سهلا نتحدث عنه أو ننظِّر له،بل يجب أن تترافق مع الممارسة من قبل أشخاص مسئولين و أكْفَاء. وفي اللغة الدارجة،عندما نقول عن شيء أنه إستراتيجي فهذا يعني انه مهم. أيضا بالنسبة لرجل السياسة،أو لمدراء الشركات ومن شابههم في المسؤولية ،الإستراتيجي يعني المهم. كما أننا نطلق هذه الصفة “إستراتيجي” على الأشياء التي لا تقدر بثمن أو بأهميتها.

أما الدلالة الثانية التي ترافق مفهوم الفعل الإستراتيجي فهي “المستقبل”. حيث أن الإستراتيجية تنقل نظرنا إلى أبعد من اللحظة التي نعيشها أو الحاضرة، إذا إنها،وكما يقول بعض الإستراتيجيين،كل ما يمنعنا من الخضوع إلى دكتاتورية اللحظة. ولكن الإستراتيجية لا تختزل إلى فعل أو مخطط للتطبيق،فالمخطط هو توقع أو عمل مسبق يجعل من الممكن القيام بالفعل مستقبلا، أما الإستراتيجية فهي شكل من أشكال تخيل المستقبل بأكمله. إذا وبعكس العمل الذي يقوم به الإداريون، فالإستراتيجي هو من يملك رؤية كاملة وبعيدة.

إننا في هذا الكتاب نعتمد على العديد من المصادر الفرنسية و الإنكليزية المترجمة إلى الفرنسية،ثم إلى المصادر الإنكليزية. طبعا لا ننسى القول بأنه وأثناء قراءتنا للكتاب سيمر معنا عدد كبير من أسماء الإستراتيجيين الألمان،الإيطاليين و الأنكلو ـ سكسون،حيث يشار إلى بعض نصوصهم الإستراتيجية والتي تم تحليلها من قبل مؤرخي الإستراتيجية الغربيين. أيضا يتناول هذا الكتاب بعض الأسماء الكبير في العلوم الإستراتيجية التي ظهرت في القارة الآسيوية،لاسيما في الصين.

تمت صياغة الكتاب بأقرب ما يمكن إلى المحاضرات التي تلقى في العادة على طلاب الجامعات،وبالتالي حاولنا الاختصار بطريقة لا يُرى فيه الكتاب على أنه همَّا أو مصدرا للقلق عند الطالب،وكما درجت العادة في إعداد الكتب الجامعية في العالم العربي. لذلك كان لدينا طموح منذ البداية وهو أن يكون للطالب الوقت والقدرة على الإطلاع على الكتاب بأكمله. ونأمل،كما سنعمل جاهدين على إعداد تكملة أو جزء ثان لهذا الكتاب يبدأ من حيث انتهى الجزء الأول وذلك لإيماننا العميق بأهمية معرفة العلوم الإستراتيجية من ألفها إلى يائها،وأيضا لأن هذا العلم لم يأخذ حقه في الجامعات العربية،لا بل هو شبه غائب ويعاني من ندرة كبيرة في المصادر المكتوبة باللغة العربية.

الفصل الأول : مفهوم الإستراتيجية
يمكن أن تكون الإستراتيجية “فن” كما هي علم وذلك أثناء تطبيقها وممارستها عمليا.في الاشتقاق الروسي،وبشكل دقيق ، هناك تمييز مثلا في المجال العسكري بين النظرية العسكرية و العمل العسكري:”كل قطاع،وكل مستوى في الحقل العسكري له هذين الجانبين،النظري والعملي”.إن كل نشاط أو فعل يكون مقادا من خلال القوانين،و المبادئ و الطرائق، وهذا الفعل أو النشاط يقام أولا من خلال النظرية. ثم يأتي الفعل والممارسة ليزيد من غنى النظرية.إذا في “التخطيط الإستراتيجي” لابد من معرفة الكثير نظريا من أجل الحصول على القليل عمليا.

إنها حقيقة أبدية،يقول الإستراتيجي الصيني الشهير” Sun Zi”:” إن الأكثر تميزا من القادة بيننا هم هؤلاء الأكثر حكمة و الأكثر استشرافا و رؤية”. بعد عشرين قرنا من مقولته يأتي القانون العسكري الياباني متأثرا بشكل عميق بهذه المقولة و ليفرض على العسكريين ” العسكر يجب أن يعرفوا في نفس الوقت الفنون و النظريات العسكرية”. ثم يأتي “فريدريك الثاني ” في أوربا ليؤكد أن “قراءة الأدب و الرسائل الجميلة هي ضرورية لهؤلاء الذين في الحياة العسكرية”.

هناك ضرورة قصوى لقراءة الإستراتيجية “كعلم” من أجل الحصول على تطبيق عملي في غاية الكمال و الحصول على الإستراتيجية “كفن” في أرقى أشكالها.هنا يرى بعض الإستراتيجيين الفرنسيين:” النظرية التي تريد دائما السير بشكل مزدوج مع التجربة فإنها ستسقط آنيا أو لاحقا و ستهمل”.إذا هنا نرى التركيز على المعرفة النظرية كسابقة على العمل التنفيذي وهذه من حقائق الفكر الإستراتيجي. و للإستراتيجية قواعدها كبقية العلوم والفنون،وهي متغيرة ولكنها ثابتة في بعضها،والجهل بقواعدها لابد أنه يقود إلى السقوط.هذا ما يؤكده أحد الإستراتيجيين الفرنسيين :” إن مراقبة المبادئ و معرفتها لا يكفي دائما للحصول على النصر،ولكنها تخفف من وقع الهزيمة”. (الجنرال Lewal). و يؤكد ” كلوزويتز” : “النظرية هامة جدا لتكوين المنفذين أو الذين سيطبقونها ،حتى تصبح لديهم محاكمة جيدة وتخدمهم وتساندهم في كل خطوة ضرورية لإكمال مهمتهم”. ( من كتاب له ظهر في عام 1814،باريس).

النظرية إذا تهدف لتوضيح المحاكمة و تسهل عملية اتخاذ القرار:” إنها تلقي الضوء على مجموعة المواضيع وتعطي القدرة على معرفة الطريق،إنها تساهم في اقتلاع الأعشاب الضارة،وتبين العلاقات المتبادلة بين الأشياء،وتفصل بين ما هو هام وما هو ثانوي”. ( من كتاب “الحرب” ،كلوزويتز،باريس،1955).

الإستراتيجية هي في آن واحد كيمياء تحدث تحول جذريا وكيمياء كلاسيكية قديمة. كيمياء “جديدة”جذرية يصل إليها الإنسان الشريف النبيل فقط و التي تتكون من التنظيم للمبادئ المستقرة الثابتة ومن منهج أو خطة أو معادلة من طرفين. كيمياء”قديمة” محصورة في قبضة مجموعة من الأتباع أو الأنصار حيث لديهم القدرة على تحقيق تحولات وتغيرات ليست في متناول الجميع في عمقها و إدراكها. ولدى العديد من الإستراتيجيين، الإستراتيجية المنهجية يمكن الحصول عليها ومعرفتها من خلال التجربة بالتأكيد،ولكن أيضا من خلال الدراسة وكما يعبر عن ذلك ” كارل بوبير” :” العلم ليس إلا معنى مشتركا واضحا”.

 أولا ـ الإستراتيجي العملي و الإستراتيجي النظري:

إنه أمر واقعي و حقيقي القول بأن الانصهار الكامل بين النظري و العملي هو أمر نادر. فالعديد من القواد العسكريين كتبوا عن ذلك.” تورين” ترك العديد من المذكرات،أيضا خصمه “مونتي توكلي” حرر العديد من المحاولات حول فن الحرب ونابليون، وخاصة في منفاه الطويل،فقد ألّف ملخصات عن الحروب و إجراءاتها الطويلة و المعقدة.ولكن هذه الأعمال من النادر أن يكون لها قيمة نظرية استثنائية . على العكس من هؤلاء المحاربين،المنظرون لم يكن له بريقا أو لمعانا في ميادين الصراع أو في كبرى قيادات المعارك.و الأعظم من بين هؤلاء Clausewitz ، كان له وفق ما يقول “ريمون أرون” : ” عملا ومهنة في غاية اللمعان و البريق” 1، ودوره في القيادة العسكرية البروسية خلال حملة عام 1815 كان متنازع عليه وخاضع للكثير من الجدل.
ويبقى هنا السؤال الأهم : هل من الواجب الحصول أو التمتع بمعرفة عملية من أجل الوصول إلى المعرفة النظرية؟ هذا السؤال أحدث جدالا واسعا من غير نهاية.فمنذ القرن الثامن عشر، المارشال Puységur دافع عن أن نظرية قيادة المعركة هي مستقلة وموجودة بشكل مستقل عن الشكل العملي حيث يقول:”ليس من الضروري أن تكون في قلب الجيوش حتى تكون في قلب هذا الفن”2 . وعلى العكس من هذا الطرح، الكاتب “المغمور” ـ ماركيز دو فوكييرـ يعتبر أن المؤرخ لا يستطيع أن يعلم “الفن العظيم للقيادة والنصر” حيث يفتقد في الغالب إلى “معرفة الحركة المفاجئة والخفيفة جدا،وإلى الاختلافات في الحالات داخل الميدان أو في المعركة أو حتى داخل الجيش. الجنرال البارع و القادر هو الذي يرى بنظرة واحدة كل الاختلافات في الميدان،ولكن في عملية وصف هذا الفن أو المادة،المؤرخ الذي لا يقاد أو يوجه من قبل هؤلاء الخبراء في ميادين المعركة لن يكون قادرا نهائيا وبنفسه يراقب هذه الاختلافات”3.

دون شك، الإستراتيجية كانت إحدى الميادين المنتخبة للتمييز عند Ernst Jünger بين إنسان المعرفة و إنسان القوة.الأجواء مختلفة، و أيضا نماذج التوظيف. الإستراتيجي ( ذلك الذي يفكر) يجب أن يفكر بكل شيء وشموليا،بينما الإستراتيجي (ذلك الذي يفعل و يتصرف) يجب أن يفكر بشكل موضعي محلي. الأول لا يعمل إلا وفق منطق البرهان أو الاستدلال ،يعمل بهدوء في مكتبه و لديه الوقت ليفكر،الثاني مجبر أن يتصرف في لحظة وفق قاعدة من المعطيات و المعلومات غير كافية و لا أكيدة، إنه خاضع لضغط كبير. أكد ذلك سابقا المارشال Schaumburg -Lippe :” الحرب هي نظرية ولكن لا تكون كذلك إلى في المكاتب.كل جوانبها خاضعة للبراهين ومعظم العمليات تعتمد على التأمل والتفكير والحسابات،ولكن عمليا، الصدفة هي التي تقرر وخاصة في الميدان،وهذا يعني التصرف مع هذا الجانب كما يكون في حقل المعركة حيث ما نريده نقرره حالا”4. هذا التفاوت و الاختلال لا يمكن تجنبه. علم الإستراتيجية ليس إلا مرحلة تحضيرية في خدمة فن الإستراتيجية. ووفق التعبير الجميل لصاحبه Julien Freund :” من أجل القرار،المعرفة عامل مساعد يجعل القرار أشد تأثيرا ،ولكن المعرفة ليست هي العنصر الأساسي التكويني و الجوهري”5 ،” إن النظرية أو المذهب الأفضل ليس ذلك المبني بشكل أفضل نظريا أو منهجيا ،بل ذلك الذي يؤدي إلى النصر”6.

 ثانياـ في أصل المصطلح أو الاشتقاق

إذا انطلقنا من التحليل الكلاسيكي للمصطلحات، نجد أن مفهوم أو مصطلح الإستراتيجية يوجد في مختلف اللغات الأوربية أو اللغات الإغريقية/اللاتينية. ففي الألمانية نجد strategie ،وفي الروسية strategija وفي الهنغارية strategi . وعندما نقول ( stratos agein)فهو مصطلح الإستراتيجية ذاته مقسم إلى جزئين ويعني ” الجيش الذي ندفع به إلى الأمام”. وبوصل طرفي المصطلح stratos و agein نحصل على strategos وهذا يعني ” الجنرال “، وفعل strategô يعني قاد أو أمر، أما الصفة منها strategikos و التي تجمع strategika فهي تعني وظائف و أعمال الجنرال بالمفهوم العسكري للكلمة،وتعني الصفات التي يمتلكها الجنرال1 . الإستراتيجية إذا هي فن القيادة للجيش أو بشكل أشمل هي فن القيادة.

هناك فرضية أخرى حول أصل الاشتقاق في جذوره الأولى. عندما نقول stratos فهذا لا يعني الجيش أو الجيوش بشكل عام، بل يعني الجيش الذي يعسكر في منطقة ما ويكون في حالة حرب.الإستراتيجية في الواقع لا تحدد في حالة صراع واحدة. فكلمة stratos تتعلق بكلمة أخرى وهي أكثر قوة في المعنى :
(gia) تعني الأرض، أما (agein) فهي تعني الدفع إلى الأمام .هذه الفرضية الأخيرة هي الأكثر واقعية عند الكثير من مؤرخي العلوم الإستراتيجية. ربما لأن هذا الاقتراح في التحليل يشير إلى أن الإستراتيجية ليست شيئا “ساكنا” بل هي مرتبطة ” بالحركة”.

كلمة strategia أيضا خرجت من نفس الجذر ككلمة strategema و التي خرجت منها كلمة stratagème. ولكن المارشال De Puységur ( القرن الثامن عشر) يرى أن :” هذه الكلمة الأخيرة كان لها معنى آخر في اللاتينية لم يكن في الفرنسية : حيث تعني في اللاتينية الحيلة أو الخديعة أو الوسيلة في الحرب”. ( انظر Hervé coutau Bégarie ، المرجع السابق). لكن stratagème ( الوسيلة أو الخديعة الحربية) ليست فقط خديعة أو حيلة ،بل هي فعل عقلي ذكي يتمتع به”الجنرال”. ففي عالم الحروب و الصراعات التي يسيطر عليها بالقوة، الإستراتيجية هي ترجمة حقيقية لهذا الفعل الذكي للعقل.

 ثالثاـ في الـتأسيس و التكوّن

لقد ظهرت في أثينا منذ القرن الخامس قبل الميلاد وظيفة ما يمكن أن نسميه المخطّط الإستراتيجي أو الحربي stratège . حيث “القبائل” تختار عشر ” استراتيجيين” أو مخططين. يؤسسون مدرسة يستطيع أحد من داخلها أن يفرض نفسه على الآخرين المتبقين. لكن جميع الأعضاء في هذه المدرسة ليدهم الإمكانية في قيادة الجيش أو جزءا منه، فاستراتيجي من بينهم يقود الجنود المسلحين في المناطق الريفية،وآخر مكلف بالدفاع عن الإقليم أو الدولة،واثنان آخران مهمتهما الدفاع عن الشواطئ،أما الخامس يهتم بتسليح الأسطول، والخمسة الآخرون يكون لديهم أعمال متعددة ومتغيرة. بعد الاسكندر الأكبر،مدرسة الإستراتيجيين ستتبدل وتتغير في المملكة الهيلينية،ولكن تبدل نحو التوسع على كافة أراضي المملكة مع ضعف في الأهمية لهذه المدرسة. ومع أن وظيفة الإستراتيجي يبدو أنها أصبحت مؤمنة ومضمونة،لكن فكرة الإستراتيجية بقيت غامضة.

إن كلمة strategema ستظهر في الربع الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، ولكنها ستوجد ولمرة واحد عند Xénophon ،أما تعريفها الحقيقي سيأتي فيما بعد على يد الحكيم المسيحي Clément Alexandrie في القرن الثاني قبل الميلاد. وتقريبا في نفس العصر ستظهر كلمة strategika على يد Demetrois de Phalère. المصطلحان مرادفان لكلمات أخرى، من غير أن يشير المعنى إلى الخداع و الحيلة،ولكن رغم ذلك يبقى المعنى الأكثر تداولا وقتها هو ما يشير إلى الحيلة و الوسيلة والخداع. لكن المصطلحين السابقين لا نجدهما لا عند “هيرودوت” و لا عند ” ثوسيدس”. ابتداء من مؤرخي القرن الأول قبل الميلاد كلمة strategema ترتبط بفكرة الحيلة والوسيلة والخداع في المعركة، بينما كلمة strategika سيكون معناها مرتبط بوظيفة ومكتب “الجنرال”. أما الفعل strategeo سيحصل على معنى أكثر دقة، فعند Onosander سيعني تماما ” ناور” من المناورة.

ضمن هذا الوضع سيلجأ الرومان إلى ” لتينة” المفهومين ( لتينة: أعطى كلمة غير لاتينية صيغة لاتينية). حيث سيتحدث ” شيشرون” عن strategema في رسالة مؤرخة في العار من أيار سنة الواحد والخمسين قبل الميلاد، أما هذا المصطلح سيحل تدريجيا مكان معناه اللاتيني المنافس له(dolus ,ars ,astutia, sollertia). ولكن حتى نحافظ على الجانب العلمي للدراسة لابد من القول أن الرومان تحدثوا عن العلوم العسكرية أو عن علم الأشياء العسكرية (scientia rie militaris) و الذي يتضمن الإستراتيجية.

المنظرون الإستراتيجيون البيزنطيون ،والذين سيبقون ناشطين حتى القرن الخامس بعد الميلاد ، يقدمون strategos أو stratège ليكون ” الاسم الذي نعطيه لمن يكون في المكان الأول في الجيش،والذي يكون رئيسه”. أما الكاتب Syrianos سيعرف أحد فصول دراسته في القرن السادس الميلادي تحت عنوانPeri strategikes أو الإستراتيجية . بعد سيعرف مصطلح الإستراتيجية الكثير من التراجع في العصر الهيليني، وسيصبح الإستراتيجي هو قائد ضمن الإقليم،قبل أن يترك المكان بمعنى آخر وهو ” الدوق”. مع ذلك مصطلح الإستراتيجية بقي له بعض الاهتمام، حيث مع مصطلح ” التكتيك” Taktika سيساعد لعودة بعض الروح للفن العسكري.

بعيدا عن العالم الروماني و اليوناني،لا نجد مفاهيم معادلة لمصطلح الإستراتيجية ،حتى في المجتمعات التي كان لها عمقا وتجربة كبيرة بالفن العسكري. الاستثناء الوحيد كان في الصين مع الاستراتيجي الصيني الشهير Zun zi ، و الذي وضع ( bing-fa )، وقد عمد المترجمون المعاصرون لترجمته بالإستراتيجية،وإن كان يعني هذا المصطلح مفهوما أوسعا من مفهوم الطرق العسكرية أو فن الحرب. تحليل هذا المفهوم يرتكز على “الطرائق”، ويوجه حديثه و تحليله إلى من سيقود جيشا أو حملة، إن ما يتحدث عنه Zun ziهو الإستراتيجية بعينها.

في نفس العصر،المشرعون يطرحون وبكل وضوح العلاقة ما بين الحرب والسياسة:” أن يصبح ملك محترما،لديه أرضا واسعة،وحاكما للعالم،أو أن يكون ضعيفا أرضه محتلة ويفقد سلطته،كل ذلك تقريره بالحرب.من القديم وحتى أيامنا هذه،ليس لدينا أي مثل أو نموذج على أحد أصبح قائدا للعالم من غير الانتصار بالحروب أو بالحصول على السلطة من غير منازع” . إذا كنا لا نستطيع أن نحصل على مفردة معادلة لكلمة الإستراتيجية في الصين القديمة،هذا يعود إلى أن طريقة التفكير الصينية تختلف عما هو عليه الحال في العالم الغربي أو غيره،ولكن ( فن الجنرال،تحضير الخطط،تحليل الحالات و الأزمات،الطرائق) هي موجودة بالفكر الصيني ولم توضع فقط بشكل عملي في الحروب وغيرها ولكن لها نظرياتها ومنظروها.
منذ القرن الثامن عشر،عودة و نهوض مفهوم الإستراتيجية وكل تحولاته يمكن رصدها وملاحظتها من خلال مراحل عدة. الأميرال Mathey يرى أن عودة المصطلح كانت من الإنكليز من خلال استخدام كلمة stratège في كتاب Oceana لمؤلفه Harrington عام 1656، ولكن بكل بساطة هذا يعني عودة الكلمة اللاتينية strategns. مصطلح strategy في الإنكليزية ظهر 1688 في كتاب Geography لمؤلفه Morden ، ولكن ضمن معنى إدارة مقاطعة أو إقليم،لم تأخذ أي معنى عسكريا حتى عام 1810 وذلك في الطبعة الثالثة للقاموس Military Dictionary لصاحبه James ،في نفس السنة الوقت ظهر الظرف strategically في الإنكليزية. على الجانب الآخر نجد أن هذه الكلمة لم تظهر في كتاب ميكيافلي،ولكنها ظهرت في كتاب Francesco Patrizi وهو ” Paralleli militari” وذلك في عام 1594 حيث يقول في كتابه:” العسكري يجب أن يتعلم مهنته في كتب عن التكتيك و الإستراتيجية و الميكانيك…”. على كل حال،هذا المصطلح أو المفهوم سيختفي فيما بعد من اللغة الإيطالية. ثم لن يحظى مصطلح الإستراتيجية بقدر كبير من النجاح في أوربا الشمالية،إلا عندما،وفي نفس العصر، Jean de Nassau يقترح تقسيم الآداب العسكرية الرومانية إلى ثلاثة أقسام رئيسة: strategetica,tactica,poliorcetica .

في الواقع إن اللغة الفرنسية ومن دون شك أعادت إدخال مفهوم الإستراتيجية في اللغة الحديثة.فالمفهوم أو كلمة إستراتيجية استعملت سابقا في القرن السادس عشر من أجل الإشارة إلى إدارة عسكرية في إقليم أو مقاطعة وذلك عند الرومان. في عام 1721 قاموس Trévoux يعيد كلمة الإستراتيجي للإشارة إلى” قيادة الكتائب والجماعات عند اليونانيين”. في كلتا الحالتين وكما هو الحال في الإنكليزية، لم يكن المفهوم أو المصطلح” الإستراتيجية” إلى مصطلحا قديما، لم تمسه أي تغيرات أو تحولات. في قاموس Trévoux يشرح كلمة stratagème :” حيلة أو وسيلة عسكرية تستخدم في الحروب من أجل مفاجأة أو خداع العدو”. القاموس اللاتيني لمؤلفه Du Cange يعد ويحصي أكثر من اشتقاق strategus, straticus, stratigus, stratigotus . أما قاموس Estienne يعرف كلمة strategus بأنها رئيس الجيش، وفي النهاية القاموس العالمي لمؤلفه Moreri لا يذكر شيئا عن الإستراتيجية.

الفصل الثاني الإستراتيجية كفئة من الصراع
1- فائدة التصنيف:
أصبحت الصلة الوثيقة بين الإستراتيجية والحرب في موضع تساؤل في العقود الأخيرة، مما أدى لظهور فئات وتقسيمات جديدة لمفهوم الإستراتيجية. للوصول إلى أفضل مقاربة لتلك الفئات تم اللجوء إلى علم التصنيف taxinomie ، بمعنى ترتيب كل المفاهيم المتقاربة من اجل وضع الإستراتيجية في البنية السياسية- العسكرية.

أ – الثلاثية trilogie الكلاسيكية
نشوء الثلاثية:
ظهرت الحاجة إلى ترتيب تسلسلي لمستويات فن الحرب منذ نشوء الفكر الاستراتيجي. اليونان مثلا فصلوا التكتيك taktika عن strategia . ميز Dietrich von Bulow بينهما كالآتي: الإستراتيجية هي الحركات التي تتم أثناء الحرب بين جيشين،لكن خارج دائرة المعارك المتبادلة، أي خارج الدائرة المرئية. مهارة الحركات التي تتم بوجود العدو ، بحيث تكون إمكانية رؤيته قائمة دون قدرة مدفعيته على بلوغ الأهداف، هذه المهارة تسمى التكتيك.
تم تبني مفهوم الثلاثية عالميا، بحيث نعرفها كما يلي: السياسة تحدد أهداف الحرب في إطار حكومة البلد، االاستراتيجية موقعها ضمن الحرب: إنها تضع في العمل الوسائل العسكرية من اجل تحقيق أهداف سياسية، أما التكتيك فانه يضع في العمل القوات لكن في إطار الفعل العنيف نفسه.

 السياسة تحدد أهداف الحرب:
لقد دافع Clausewitz بقوة عن هذه الفكرة في أطروحته: الهدف السياسي، كدافع أساسي للحرب، يقدم حجم الهدف المطلوب من خلال العمل العسكري. الفكرة الأساسية لهذه الصيغة هي أن : الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. الحرب ليست فقط عمل سياسي، لكن أداة سياسية حقيقية، متابعة للأهداف السياسية، تحقيق لها بوسائل أخرى.

لكن ، في المقابل، هذه الفكرة لم تلق تأييدا عند العسكريين ، ومنهم رئيس هيئة الأركان الألماني في عام 1866 Moltke ( في عهد بسمارك) . حسب الأخير: الحكومة المدنية لا تتدخل في قيادة العمليات العسكرية. إذن، الحرب لم تعد استمرار للسياسة، بل وكيل للسياسة. بمعنى آخر، السياسة تتدخل في مرحلة ما، لكن عند اندلاع الأعمال العسكرية على السياسة أن تخلي الساحة للإستراتيجية.

الجنرال Lewel كان واضحا في هذا الشأن، حيث يعتبر أن المهارة العسكرية ليس لها علاقة بالسياسة ولا يجب عليها أن تهتم بالأخيرة، مبادئ الحرب مستقلة تماما عن طبيعة الحرب أو عن الأسباب التي أدت إلى وقوعها. تجب الإشارة هنا إلى أن هذا النموذج paradigme بقي غالبا حتى الحرب العالمية الأولى. كأمثلة على هذا النموذج نذكر هنا الجنرال الفرنسي Joffre الذي لعب دورا مستقلا عن حكومته عندما قام بإصلاح البحرية ومن ثم إعلان العمليات الهجومية في عام 1915 . كذلك الجنرال الالماني Ludendorf الذي دعا إلى تغييب التبعية للسلطة السياسية ، بل إلى إلغاءها تماما ، حيث على السلطة السياسية عدم التدخل لا في قيادة العمليات ولا حتى في قيادة الحرب. هذه (الامبريالية) الإستراتيجية ، بمعنى السيطرة المطلقة للإستراتيجية، التي تنكر مقتضيات السياسة، ساهمت بشكل حاسم في هزيمة ألمانيا : حيث أن الأخيرة أطلقت ما سمي حرب الغواصات بدون الأخذ بعين الاعتبار الدول المحايدة مما أدى لدخول الولايات المتحدة في الحرب.

لكن نموذج (الأولوية للإستراتيجية) لم يستطع التفوق بشكل دائم على نموذج (الأولوية للسياسة). الجنرال Poirier اقترح ما أسماه الإستراتيجية الكاملة، حيث لم يرفض مبدأ تحديد الغايات من خلال السياسة. يعرف الإستراتيجية كسياسة في إطار الفعل أو التطبيق، إنها المهارة وفن المناورة الذي تتبعه القوات من أجل الوصول إلى غايات السياسة، الغايات المترجمة في أهداف إستراتيجية.

 الإستراتيجية تعرف وتضع في التطبيق الوسائل من أجل تحقيق النصر في الحرب:
وضعت تعاريف عدة للإستراتيجية في القرن التاسع عشر وتحديدا بين 1820 – 1830 ، تم اعتبارها كنتيجة للمناخ الفكري الذي ساد آنذاك، وللأثر الذي تركته المعارك الكبرى لنابليون. يمكننا ان نذكر مثلا التعريف الذي قدمه المارشال Marmont بانها التحركات التي تتم في منأى عن نظر العدو وقبل المعركة، هدفها تحقيق تفوق عددي في يوم المعركة. Clausewitz يقدم تعريفا أكثر شمولا حيث يعتبر الإستراتيجية استخدام القتال من أجل غايات الحرب. يجب عليها أن تحدد، من كل فعل الحرب،غاية تتعلق بالهدف من الحرب. بمعنى أن تضع خطة الحرب حسب الهدف المراد وأن يتم تنفيذ الخطة وفق سلسلة من الأفعال التي يجب أن تقود إلى تحقيق هذا الهدف.
لقد ظهرت نظرية بديلة تميز الاستراتيجية كمفهوم عن التكتيك كتنفيذ. من روادها الجنرال البروسي Ruhle Von Lilienstern – )وهو من المبشرين بقدوم (Clausewitz حيث قدم تعريفا شبه فلسفي : الإستراتيجية تنظر إلى الطريقة التي من خلالها يجب أن تقاد الأشياء، التكتيك بالمقابل هو السبب الذي يجعل شئ ما يحدث أو ينتج أو يتحقق بطريقة أو بأخرى. الأولى تسبق في الزمن التنفيذ الحقيقي، إنها بالنتيجة مختلفة تاريخيا عن الثانية، مختلفة في طبيعتها حتى في سلوكها ، بالنسبة للفعل action، كالكلام بالنسبة للتنفيذ acte.

تم الآخذ بهذه الأفكار فيما بعد ، خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث يعتبر الكولونيل الفرنسي Blume أن الإستراتيجية تحدد للجيش الهدف والاتجاه. أما التكتيك فيقع على عاتقه أمر بالتنفيذ. في فرنسا نجدها في دراسات الحرب للجنرال Lewel كذلك في محاضرات الجنرال Bonnal في المدرسة الحربية العليا: الإستراتيجية هي فن التصور، أما التكتيك فهو علم التنفيذ.

لكن يوجد من طعن بصحة هذه المقاربة كالقائد العسكري Grouard أو الأميرال Castex حيث يعتبر الأول أنه من عدم الدقة القول أن التكتيك ينفذ ما ترسمه الإستراتيجية: لأنهما ليسا التصور والتنفيذ للشئ نفسه. إنهما يعالجان مواضيع مختلفة والقواعد التي يتبعانها تنطبق على مراحل غير متزامنة، لكن تالية لعملية عسكرية…. التكتيك ، كما كل الأعمال الحياتية،يسلك التصور والتنفيذ. أما الثاني فيعتبر أن كل شخص، وفي كل مستويات القيادة يقوم بفعل استراتيجي وتكتيكي في آن معا. يخلص Castex إلى أن التكتيك هو القتال أما الإستراتيجية فهي كل الحرب قبل وبعد القتال. هنا نعود إلى نقطة البدء التي لا تحل مشكلة الدرجة التي منها تبدأ الإستراتيجية: إذا الإستراتيجية ليست إلا القيادة العامة للعمليات، الفن الأرقى الذي يمارسه القادة في مناصب عليا تسلسلية، يبقى القول أن قيادة العمليات ليست إلا القتال تحت هذه العتبة. عدد من الكتاب يعتبر أن قيادة العمليات من اختصاص اللوجستيك logistique أي فن أو علم نقل الجنود وإمدادهم.

 التكتيك يضع موضع العمل وسائل القتال ناظرا إلى تحقيق النصر في المعركة:
يشمل التكتيك بشكل أساسي قيادة المعركة، ما أن تصل هذه الأخيرة إلى درجة معينة من التمام، بمعنى أنه يجب ألا تقود إلى معارك أخرى منفردة. يأتي من النظام الإغريقي، من التنظيم ، الجاهزية. كذلك، كما تقول Joly de Maizeroy في كتابها نظرية الحرب، هذا المصطلح بمعناه العسكري يعني الوضع الخاص للرجال الذين يشكلون قواتا أيا تكن، وضع قوات مختلفة تشكل جيشا، وضع تحركاتها، عملها، والعلاقات فيما بينها. Jean de Vignay يقول في الترجمة الفرنسية للكلمة – التي ظهرت بين 1310 و 1320 أن التكتيك هو mestres d’armes . لكن تعتبر انكلترا أول من تكلم عن التكتيك: تمت الإشارة إلى هذه الكلمة -tactice – عام 1570 . في فرنسا ، ظهرت في السياسة العسكرية التي اتبعها Paul Hay du Châtelet عام 1968 . كما توجد الكلمة في قاموس Furetière لعام 1690. ظهرت في قاموس أكسفورد عام 1766 . أما الفرنسي Mesnil Durand فيكتب في العام 1770 : لم يكن لدينا أي عمل عن التكتيك قبل عشرين عاما.. حيث بالكاد كنا نعرف ما هو التكتيك، موضوعه وتعريفه، العسكريون ليسوا تماما متفقين فيما بينهم.

يعتبر Clausewitz أن التكتيك هو النظرية النسبية لاستخدام القوة المسلحة في المعركة. انه العملية التي تستخدم الذكاء، المعرفة والتنظيم كما يشير نابليون في أحد تعليقاته. يعتبر Antoine Grouard في كتابه للاستراتيجية : موضوع- ارشاد- عناصر والصادر عام 1895 أن التكتيك له ثلاثة أجزاء: التكتيك الأولي، أو التكتيك المفصل، يضم أساليب القتال للوحدات الصغيرة في كل جيش؛ تكتيك المجموع أو للجيوش الثلاثة (المشاة، الفرسان، المدفعية) يعمل لمعرفة دور كل جيش في المعركة؛ التكتيك الكبير أو تكتيك الوحدات الكبيرة، وهو مهارة قادة الجيش ، الفن الذي يتبعه قائد الجيش لتحديد دور كل من جيوشه في المعركة، للنصح باستخدام قوات الاحتياط، وجعلها تتدخل في الوقت المناسب وفي الشروط الملائمة.

 يجب تمييز التكتيك عن القتال:

يجب التمييز بين التكتيك و القتال البدائي الذي يدعو إلى القوة والشجاعة. في هذا الوسط يمكن أن تتحطم الحسابات العلمية كنتيجة لردود فعل أولية لا يمكن ضبطها. نذكر هنا حالات الهلع التي تسيطر على القوات مهما كانت قوتها كما حدث لقوات الحماية الفرنسية في Malplaquet عام 1709 . في بداية القرن العشرين، كرس الجنرال الفرنسي Jean Colin جزءا من كتابه – تحولات الحرب Transformations de la guerre- للحديث عن القتال الأولي أو البدائي، حيث يستنتج أن علم التكتيك لديه مبرر لوجوده؛ لكنه غير فعال في حال أن الجنود غير مشبعين بروح الشجاعة والحماس وإرادة النصر. بالطبع، لم يفقد هذا المعطى الأساسي من أهميته رغم تطور وسائل الحرب فيما يتعلق بقوة النيران أو القوة الكترونية. الأمثلة هنا موجودة من الحرب العالمية الثانية كمعارك Bir-Hakeim ، Stalingrad أو Budapest .

الشكل الآتي يوضح التيبولوجيا الكلاسيكية لتسلسل هرم القيادة، حيث تأتي السياسة في أعلى التسلسل ، أي أنها المسؤولة عن رسم الخطط الإستراتيجية:

 اللوجستيك Logistique كبعد ثانوي:

لم يعط الكتاب الكلاسيكيون أهمية كبيرة لأمور الإمداد بمستلزمات العيش، إذ برأيهم على الجيش أن يتدبر أمره. مثلا Guibert يقترح عدم الإكثار من التجهيزات اللازمة للمؤونة، وهذا ما وضعه نابليون موضع التطبيق.

عند اليونان كلمة logisteuo تعني الإدارة. أشارت الكلمة في القرن xviii إلى فرع من فروع الرياضيات ( علم الحساب الرمزي) حسب قاموس Trévoux. أما Jomini فقد أدخل الكلمة في المجال العسكري، حيث يعتبر أن اللوجستيك هو ما تقوم به هيئات الأركان في الجيوش، إذ تقوم بتوجيه الأوامر والتعليمات، تنظيم وسائل النقل، خدمة المعسكرات. برأيه، جزء الأساسي من اللوجستيك هو تقنية التحركات (فرع قريب من الإستراتيجية)، أي عندما يتحرك الجيش، (وفرع أخر قريب من التكتيك) أي عندما ينتقل الجيش من أمر السير إلى أوامر القتال. لا يعتبر أن اللوجستيك في أي من الأحوال كجزء من فن الحرب متعلق بالتزويد أو التموين.

تشير الكلمة في العالم الانكلوساكسوني إلى معنى مادي، حيث هو فرع من العلم العسكري مرتبط بحركة، بوقوف ، اصطفاف، وتموين الجيوش. يذكر James A. Huston في كتابه -مصدر قوة الحرب The sinews of war – أنه لن يتم الاعتراف باللوجستيك، كفرع هام من فن الحرب، إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما يقوم الأمريكيون بوضع طرق ومفهوم ما يسمى logistics : فن تخطيط وقيادة التحركات العسكرية، الإجلاء والتموين. يشار أنه في الترجمة العربية للكلمة تعني: السوقية- بفتح السين- وتعني فن أو علم نقل الجنود وإمدادهم بالطعام وإيوائهم.

 البعد التنظيمي:

لم يعط الكتاب الكلاسيكيون من أمثال Clausewitz أهمية كبيرة للعمليات أو لفن الحرب بمعناه الضيق، على العكس من Nockern de Schorn في القرن xviii والذي شدد على ضرورة تحديد ما أسماه (البنية العامة للوضع العسكري)، والتي تشكل جزءا من علم الحرب مثلها مثل الإستراتيجية أو التكتيك: يجب تعميق المبادئ التي تساعد على بناء الوضع العسكري بشكل عام، توفير ما يلزم لصيانته والقيام بكل التدابير من أجل استمراره بحالة جيدة؛ كل ذلك يشكل مدخلا الى علم الحرب و أول جزء منه هو بناء الفن العسكري.

تزايد الاهتمام بما يسمى – تنظيم القوات- في القرن التاسع عشر وخاصة بعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا عام 1870 ، حيث دافع الكولونيل الفرنسي Lewel عن فكرة التنظيم العقلاني Organisation rationnelle : التكوين العقلاني للجيوش الفعالة له أهمية لم تكن موجودة قبل 12 عاما فقط. لذلك من الإجباري البحث عن الشروط الضرورية من أجل الوصول إلى أفضل النتائج. تكلم عن الجزء التنظيمي Partie organique عند دراسة الحرب، والذي أخذ صدى واسعا في ايطاليا حيث عرفه Giovani Sechi بأنه الجزء من الفن العسكري المرتبط بالإعداد organisation وبتحضير العتاد والأشخاص. بالرغم من أهمية هذا الفرع من العلم العسكري إلا انه لم يتم الاعتراف به كفرع مستقل كالإستراتيجية مثلا.

ب ـ : تقسيم الإستراتيجية في القرن العشرين:

 ارتقاء الإستراتيجية:
أصبحت الثنائية إستراتيجية- تكتيك في موضع تساؤل خاصة بعد تزايد أعداد المقاتلين في الجيوش. إذ أنه اعتبارا من القرن التاسع عشر أصبح تعداد بعض الجيوش مئات الآلاف، مما جعل من الضروري تعدد مستويات القيادة، وهذا ما جربه نابليون فعلا عندما أوكل قيادة الجيوش إلى ماريشالاته أثناء الحملة ضد ألمانيا عام 1813. خلال سنوات العشرينيات من القرن المنصرم يشير الكولونيل Culmann إلى أن هدف الإستراتيجية هو إدارة مجموعات الجيوش وكذلك الجيوش المنفردة. أما مع الحرب العالمية الثانية فإننا نلاحظ ارتقاء مستوى العمليات، والتي من الآن فصاعدا في علاقات متبادلة ودائمة رغم توسع مسرح الحرب.

التطور الثاني تقني. إذ أنه في السابق، ونتيجة لبطء نقل المعلومات، كانت عملية القيادة المركزية للحرب مستحيلة. أما مع ظهور التلغراف، ومن ثم التلفون، سكة الحديد، الاتوموبيل، الطائرة، أصبح من الممكن للقيادة المركزية متابعة الحرب عن بعد أو التنقل شخصيا إذا اقتضت الضرورة. كذلك مع هذه التطورات فان تصور خطة الحرب وقيادة العمليات لم تعد منفصلة بالكامل كما في السابق حيث تمتع القادة الميدانيون بحرية تصرف كبيرة نتيجة صعوبة التواصل مع المركز.

التطور الثالث يتجلى في أن الحرب الحديثة تتطلب حشدا ضخما للوسائل ومن كل الأنواع. تتطلب الحرب تعديلا للنشاطات الصناعية من أجل إنتاج كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر، وأن تأخذ الدولة على عاتقها عملية التقنين وضبط التجارة الخارجية وتنظيم دعاية منظمة فيما يتعلق بسكان أكثر تعليما واطلاعا من الماضي، ولذلك فهم اقل إذعانا.

نمت درجة شمولية وتجرد الإستراتيجية مع تصنيع industrialisation الحرب، بحيث أنها توسعت وارتقت إلى درجة الفكاك عن التكتيك. مفهوم الإستراتيجية السائد ما بين الحربين أصبح متداولا فبما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا التوسع أدى إلى تقسيمها وظهور مستوى وسيط سمي: الفن العملياتي.

 إستراتيجية كبيرة، إستراتيجية عامة، إستراتيجية متعلقة بالعمليات العسكرية :
للإستراتيجية جناحان: سياسي وعسكري. تضمن الإدارة العامة للحرب وللازمات والقيادة العامة للعمليات أو للأعمال العسكرية. في هذا الإطار يعرفها Herbert Rosinski بأنها المفهوم المركزي الموجه الذي ينظم كل العناصر ويوجهها نحو غاية محددة سلفا.

1 – تتطابق الإستراتيجية، في القيادة العامة للحرب وفي إدارة الأزمات،مع السياسة في الفعل، لا بل تستحوذ على مجمل قيادة العمل حيث في هذه الحالة تندمج السياسة التقليدية في الإستراتيجية العامة، وهنا تتنوع المسميات حسب الدول.

الإستراتيجية الكبرى مفهوم أنكلوسكسوني، أصبح متداولا في منتصف القرن الماضي. يعرفها Liddell Hart في كتابه strategy على أنها سياسة الحرب؛ هدفها تنظيم وإدارة كل موارد الأمة أو تحالف ما من أجل الوصول إلى هدف سياسي للحرب. بهذا المعنى إن الحرب استمرار للسياسة لكن بوسائل أخرى . يفضل الأمريكيون الحديث عن إستراتيجية قومية ، والتي قسموها مؤخرا إلى إستراتيجية الأمن القومي وإستراتيجية الأمن العسكري، الأولي تتعلق بالإستراتيجية الكبرى.

فضل الفرنسيون في سنوات الخمسينيات مفهوم الإستراتيجية العامة. ورد تعريفها في برنامج التعليم حول استخدام القوات المسلحة لعام 1959 والذي تم استبداله ببرنامج عام 1984 على أنها الفن الذي يجمع كل الوسائل التي تستحوذها السلطة السياسية من اجل الوصول إلى الأهداف التي وضعتها.

ميز الروس بين السياسة العسكرية والإستراتيجية العسكرية. كما يشرح Jacques Laurent في عمله outil pour la pensée militaire soviétique أو أداة من أجل الفكر العسكري السوفييتي فان الأولى تتعلق بالتحضير وباستخدام وسائل القوة المسلحة من اجل الوصول إلى الأهداف السياسية؛ أما الثانية فهي جزء أساسي ومجال أعلى من الفن العسكري يشمل النظرية والتطبيق فيما يتعلق بتحضير القوات المسلحة أو بلد ما للحرب. يمكن أن نفسر رفض الروس للإستراتيجية الكبرى على أنه رفض من جانب الحزب الشيوعي لإخضاع الغايات السياسية للوسائل ، في إشارة واضحة إلى اقتسام سلطته المطلقة مع المتخصصين.

2 – في القيادة العامة للعمليات وللأعمال العسكرية، الإستراتيجية تمارس دورها التقليدي، خاصة العسكري، حيث تخضع لقيادة عليا في صلة وثيقة مع الحكومة. الأميركيون يسمونها الإستراتيجية العسكرية القومية. في فرنسا، ممارسة القيادة في أعلى مستوى عسكري يشمل تصور، تحضير وقيادة العمليات العسكرية .
القيادة العامة للعمليات تسير وفق اتجاهين: الإستراتيجية القديمة على الأرض من الآن فصاعدا تسمى الإستراتيجية العملياتية: تضعها موضع التطبيق القيادات العسكرية العملياتية، مجموعات الجيش، القوات البحرية أو قيادة مسرح العمليات، و إستراتيجية الوسائل التي تقوم، من خلال الموارد المتاحة، بالتنظيم والإمداد اللوجستي .

بالتدريج، الصلة بين الإستراتيجية والعمليات تتفكك:حيث أن الفن العملياتي سوف ينافس الإستراتيجية العملياتية، لا بل سيحل محلها.

هنا انتهتت المحاضرة الثانية

 الفن العملياتي opératique :
من المتداول أن المنظرين السوفييت هم أول من اوجد مفهوم الفن العملياتي art opératif في عشرينيات القرن الماضي. لكن الفكرة كانت موجودة في بدايات القرن حيث ميز الجنرال الاسباني Richardo Burguete القطيعة التكتيكية – الحاصلة على جبهة المعركة نتيجة لهجوم قوي جدا-، القطيعة العملياتية- الحاصلة على آلية التنظيم بمجملها وذلك عندما نصل من خلال المعركة إلى تدمير هذه الآلية. في القطيعة العملياتية يجب، ومن خلال ضربات سريعة كالبرق ، التغلب على المجموعات القريبة الواحدة بعد الأخرى. يفترض الجنرال أن الأولى مستحيلة وان الثانية لا يمكن تحقيقها بإتباع طرق نابليون، إذن : النتيجة لا تأتي إلا من تجمع قطيعات وسطى بين التكتيكية و العملياتية.

يشير المفهوم حسب المدرسة السوفييتية إلى أن توسع الجبهات يجعل من المستحيل من الآن فصاعدا تدمير العدو من خلال معركة واحدة، هذا لايمكن حصوله إلا من خلال سلسلة متعاقبة من العمليات المرتبطة فيما بينها. الفن العملياتي يقيم الصلة بين التكتيك والإستراتيجية ( انظر الشكل في نهاية الفقرة)، كما يشرح Alexandre Svechin مخترع المفهوم : المعركة هي وسيلة العملية، التكتيك هو أساس الفن العملياتي. العملية هي وسيلة الإستراتيجية والفن العملياتي هو أساس الإستراتيجية . في سنوات السبعينيات، عرفت الأنسكلوبيديا العسكرية الروسية الفن العملياتي على انه نظرية وتطبيق التحضير وقيادة العمليات فيما بين الجيوش المجتمعة أو المستقلة، هذه العمليات تقاد من خلال تشكيلات كبيرة لمختلف أنواع القوى (بحرية، مشاة، فيالق…). يضيف: في عدد من البلدان الأجنبية نستخدم في النظرية العسكرية بدلا من الفن العملياتي مصطلحات من قبيل التكتيك الكبير أو الإستراتيجية الصغيرة.

الجيش الأميركي تبنى هذا المفهوم عام 1982 ، البحرية الأمريكية أخذت به في الوثيقة العقائدية المعنونة 2020 vision : A Navy for the 21st Century : هدف الخيارات الإستراتيجية كسر إرادة العدو أو تعديل نواياه؛ الخيارات العملياتية تهاجم البنية التحتية للعدو، المكونات العسكرية والصناعات المدنية التي تسمح لقواته بالقتال بفعالية؛ هدف الخيارات التكتيكية هزيمة القوات العسكرية للعدو على ارض المعركة. يتبين لنا أن التمييز بين الخيارات الإستراتيجية العملياتية يبقى مصطنعا أو بكلمة أخرى سطحيا.

في فرنسا ميز الجنرال Beaufre في كتابه- مدخل إلى الإستراتيجية- بين العمليات والقتال. الأولى هي مجموع التدابير والمناورات المخصصة للدخول في القتال وبشروط مثالية، لكنه لم يضف مستوى عملياتي بين الإستراتيجية والتكتيك؛ ظهر وكأنه يضع الخطوط العريضة لتمييز ثلاثي في عمله المذكور، لكن فيما يتعلق بالسلاح النووي التكتيكي. فيما بعد الجنرال Poitier دافع في كتابه- الإستراتيجية النظرية – عن المفهوم العملياتي opératique . أما الكولونيل Francart فيشير في مجلة Objectif 21 المتخصصة (عدد 2 ، الفصل الأول 1996) إلى انه في المستوى العملياتي العملية مخططة، مدعومة ومقادة ، من اجل الوصول إلى هدف استراتيجي على مسرح العمليات. هذا هو مستوى توحيد أفعال مختلف الجيوش وتحت مسؤولية القائد العسكري في مسرح العمليات.

الاتحاد السوفييتي- المجال العسكري

الفن العملياتي متعلق بكل أنواع الجيوش، من الإجباري التنسيق بين القوات البرية والجوية، أو الجوية والبحرية… مع ذلك أعد السوفييت فنونا عملياتية خاصة بكل نوع من القوات، بما فيها فنا عملياتيا لحماية الخطوط الخلفية وللدفاع المدني.


ـ التكتيك.
التكتيك هو أقل شأنا أو درجة من الإستراتيجية،يهدف إلى تنفيذ الالتزامات التي تم وضعها ضمن نطاق الإستراتيجية العملياتية وبغرض الوصول إلى الأهداف المثبتة بواسطة الإستراتيجية العامة. لكن التكتيك ليس بالضرورة يهدف إلى قيادة العمليات أو الصراع،بل يمكن أن يستخدم في العمليات التحضيرية. بعد الجنرال Lewal، الجنرال Iung اقترح تعريفا بقي صالحا لزمن طويل :” التكتيك العسكري يشكل مجمل الأحكام أو التنظيمات القادرة على تنظيم توظيف مهارات الإنسان،الوسائل و الأماكن، بهدف تحقيق هدف فوري”.

وقد عرف السوفييت التكتيك في السابق ” هو النظرية والتطبيق للتحضير ولقيادة الصراع بواسطة الوحدات الصغيرة، والوحدات الكبيرة من مختلف أنواع القوى، المسلحة أو القوى التابعة للعمليات الخاصة”. في الواقع هذا التعريف يضم فكرتين قويتين :

ـ التكتيك،كما الإستراتيجية، لديه وجهين،نظري وعملي.
ـ التكتيك يظهر في المستوى الأساسي،بمعنى على مستوى الوحدات الصغيرة، ولكن يظهر أيضا في المستويات الأكثر ارتفاعا. حيث أن التكتيك السوفييتي تألف من :
ـ التكتيك العام.
ـ تكتيك القوى ( الإستراتيجية،المشاة،الدفاع الجوي، القوى الجوية، القوى البحرية).
ـ تكتيك الأسلحة ( كل نوع من القوة العسكرية ينقسم وفق الأسلحة المستخدمة).
ـ تكتيك الوحدات الخاصة ( كل سلاح يمتلك وحداته الخاصة).

إن نمو وتنوع الوسائل ساهم بشكل كبير بزيادة الاعتبار للجانب المتعلق بالتكتيك. الجنرال Poirier يعرف التكتيك بعد أن يشير إلى تعقيداته المتنامية :” فن التوفيق، أثناء العمليات، بين سلوك وأفعال جميع الوسائل العسكرية”.

ت ـ تنظيم أو فصل المستويات.

ـ سياسة و إستراتيجية.

إن الصلة أو العلاقة التي وضعت من قبل منظري الإستراتيجية في القرن التاسع عشر أو قبل وبعده،بين السياسة و الإستراتيجية و الحرب و الإستراتيجية ،ظلت قائمة لم تتغير حتى من قبل كبار منظري هذا العلم في القرن العشرين. ولكن الإشكاليات التي يمكن طرحها في إطار العلاقة بين السياسة و الإستراتيجية (بمعنى علم الحرب) هي إشكاليات تتعلق بالسلطة المدنية وعلاقتها بالسلطة العسكرية. فالمدنية وبشكل طبيعي لها نزعة تجاوز مناخها أو بيئتها من أجل التدخل في قيادة العمليات،بينما الثانية تطعن في محاولة تجاهلها.

نجد هذا الشكل من الصراع بين السلطتين في جميع المجتمعات.وقد طرحه مسبقا ” Sun Bin”، وهو من أهم مؤسسي العلوم الصينية الحربية،بطريقة ظلت تحتفظ بقيمتها حتى الآن : ” لا نتعدى على حقوق أو سلطات الجنرال. أوامر الملك يجب ألا تتجاوز أبواب المعسكرات،وهذا ما يضمن حالة أو وضع الجنرال. وإذا الأوامر تجاوزت أبواب المعسكر ،الجنرال لن يخدم طويلا و الجيش لا يمكن أن يحافظ على بقائه”.

ـ الإستراتيجية و التكتيك.

التمييز بين الإستراتيجية و التكتيك ليس سهلا كما تريد أن تقول الأدبيات الكلاسيكية حول هذا الموضوع.حتى المفهوم الغير منتشر كثيرا والذي يعرف الإستراتيجية “كمفهوم نظري” و التكتيك”كتنفيذ” لهذا المفهوم ليس دقيقا جدا، لأنه يعني بأن الإستراتيجية تأتي قبل التكتيك وثم تترك له المكان بعد وضع اللمسات الأخيرة على المخطط،ثم تتدخل من وقت لآخر لتوجيه التكتيك. هذا المفهوم لا يمكن مساندته كثيرا كما يقول Hervé Coutau Bégarie. ولكن إذا اقتربنا من المفهوم الذي يعتمده معظم الإستراتيجيين للتميز بين المفهومين،فأين يقع خط الفصل بينهما،بين الإستراتيجية والتكتيك ؟ مع Bülow و Jomini يمكن أن نفهم هذا، ومن خلال اقتراحهما معيارا سهلا هو المعركة. علما أنه ومن القرن التاسع عشر وجد من يتحدث عن ضبابية هذا المعيار. يقول Jomini:” يوجد عمليات مختلطة تشارك فيها الإستراتيجية من أجل القيادة والتكتيك من أجل التنفيذ،ويكون هذا مهما من أجل المفاجآت أو في الحروب الكبيرة..” .على الصعيد النظري، يمكننا أن نضع تمييزا وضاحا جدا في حالة أن الصراع يصل إلى ذروته أو أوجه paroxystique وهذه حالة نادرة: مثال على ذلك بعض الحروب النابليونية التي كانت تحسم بساعات أو بأيام فقط كما حصل في Leipzig.

بشكل عام، يمكن أن نقول بأن الإستراتيجية و التكتيك يتميزان من خلال توقعات أو رؤى مختلفة كما يشير على ذلك Antoine Grouard في عمله ” اختيار نقاط هجوم حاسمة”. حيث “الاعتبارات التكتيكية” تقود إلى مهاجمة النقاط الأكثر سهولة، و “الاعتبارات الإستراتيجية” تقود لوضع مواقف تعطي النتائج الكبرى والحاسمة. أما الجنرال Iung فقد شرح نفس الفكرة ولكن بمفردات أكثر شمولا:” التكتيك لا يختلف عن الإستراتجية إلا من خلال الهدف.وسائلهما متشابهة.فقط هدفها ليس واحد.في الإستراتيجية،لا يوجد نهائيا تصرف أو فعل فوري، بينما في التكتيك هو دائم فوري” .

ـ إستراتيجية ـ تخطيط عملياتي ـ تكتيك.
هذا الجدول الذي يبين التداخل في وضع وقيادة الخطط و الإستراتيجيات العسكرية وضعه الجنرال Foertsch قبل الحرب العالمية الثانية.

الفصل الثالث الإستراتيجية كعلم
أولاـ مجال علم الإستراتيجية
عندما نحدد الإستراتيجية من خلال إعطاء تعريف لها فإن هذا لا يعني بالضرورة تحديد أو حصر المجال للإستراتيجية كعلم. فالإستراتيجي كمنظر والإستراتيجي الذي يطبق المخططات الإستراتيجية كلاهما يستطيع استخدام جميع الوسائل. والإستراتيجية تختلف عن جميع العلوم،حيث بإمكانها الاستفادة من جميع العلوم: فهي بحاجة للعلوم التجريبية من أجل تطوير وتقييم قاعدتها التقنية،بحاجة للاقتصاد لتطوير إمكاناتها،للعلوم السياسية بسبب علاقتها الخاصة مع السياسة،لعلم الاجتماع من أجل وضع الصراع على أي مستوى في سياقه العام،للتاريخ للاستفادة من أمثلته والمعلومات التي يقدمها.

بشكل آخر،يمكننا أن نضع في المكتبة الإستراتيجية جميع الكتب. بداية مع التاريخ،وخاصة تاريخ الحروب. ثم مذكرات كبار القادة وكبار المؤرخين،فمن الصعب مثلا أن نقرأ الإستراتيجية القديمة من غير العودة إلى Thucydide ، César و Tacite. أما في العصر الحديث فإن مذكرات Turenne هي إجبارية لفهم الإستراتيجية.

تطور النظرية الإستراتيجية في الحياة المعاصرة لم يرفض هذا المصدر القديم: فمذكرات المارشال Von Manstein ( Verlorene Siege) الصادرة في عام 1955 بالإنكليزية،وعام 1958 بالفرنسية، و”دفاتر” المارشال Rommel هي جميعها تعتبر مصادر أساسية للإستراتيجية. ولكن معلوماتها تستخرج بصعوبة حيث على القارئ نفسه أن يبذل جهدا من أجل فهمها وفهم النظرية التي أراد الكاتب قولها. وأخيرا نريد القول أن علم الإستراتجية اليوم لا يمكنه استبعاد أي مجال من مجالات العلوم.

ـ علم عسكري وعلم إستراتيجي.
إذا الإستراتيجية ليس مجالا مستقلا. فهي فرع من مجال ضخم جدا،إنه قيادة الحرب، وبشكل أعم اليوم، قيادة الصراع، حيث كانت تدعي في الماضي “علم عسكري” (خاصة في العصر الروماني)، أو “فن الفروسية” (في العصر الوسيط)، ” فن الميليشيات أو الوحدات” (مع بداية العصر الحديث)، “فن الحرب”( تسمية بدأت تفرضها نفسها مع بداية القرن الثامن عشر). والسؤال: هل يمكننا فك ارتباط الإستراتيجية من كل هذا التاريخ الذي يعطيها اليوم معناها؟ في الواقع وحتى وقت متأخر،الإستراتيجية كانت دائما ضمن فن الحرب بمعنى أنها داخل الفكر العسكري،وهي اليوم تشغل المرحلة العليا في هذا الفكر.

إن علم الإستراتيجية يحتاج مساندة علم التكتيك من غير أن يتضمن الأول جميع ما يتعلق بالثاني. في القرن السابع عشر والثامن عشر تم تطوير فكر تكتيكي مستقل، ولكن معظم الكتاب العسكريين ركزوا بشكل كبير على جدلية السلام والحرب. بعد ذلك تم انتشار الإستراتجية من خلال اتساع التنظير للتكتيك،ولكن كان لديها في البداية مفهوما يربط الحرب بالسياسة. والمشكلة هنا أن جميع هذه الفئات أو التصنيفات المختلفة لم يتم تحديدها أو تظهر معالمها الخاصة إلا ببطء شديد، وهذا ما رأيناه عندما درسنا في البداية مفهوم الإستراتيجية وتطور مفهوم هذا المصطلح. إذا لا يمكننا الادعاء وكما يشير الكثير من منظر ي هذا العلم،أنه بالإمكان تحديد مجال أو حقل البحث في الإستراتيجية من خلال الاستناد فقط على مراجع أو مؤلفات إستراتجية “نقية أو خالصة”. فلا بد من تبني رؤية متطورة تنطلق من العلم العسكري من أجل الوصول، حاليا، إلى علم الإستراتيجية.

ـ هل هناك عالمية لعلم الإستراتيجية؟
الحرب هَمٌ و انشغال عالمي ونرى ذلك في معظم الأدبيات التي أنتجتها الحضارات المختلفة التي أُرخت بالكتابة، ولكن هذا لا يعني أن جميع الحضارات أنتجت أدبيات إستراتيجية تشير إلى الإستراتيجية كعلم. أشهر المؤلفات التي تتحدث عن عالمية علم الإستراتيجية هو ما قدمه Gérard Chaliand في مؤلفه “الانطولوجيا العالمية لعلم الإستراتيجية” ( l’Anthologie mondiale de la stratégie). فهو ينقلنا في هذا الكتاب من أيام العبريين إلى الإستراتيجية النووية مرورا ببلاد ما بين النهرين و الشرق الأقصى،ولكنه لا يصل إلى نتيجة إلا بعد أن يدرس العديد من النصوص التي لا يتفق معه العديد من المنظرين أنها نصوص تتعلق بعلم الإستراتيجية. طبعا يتحدث في كتابه عن التوراة و عصر غلغامش (بلاد ما بين النهرين قبل 2000 عام تقريبا من الميلاد)، ثم يصف الصراعات التي سادت آنذاك، ولكنها لا تشكل قاعدة لبناء علم للإستراتيجية ولو تضمن العديد من فنون الحرب.

ويعتقد Hervé Coutau :”أنه لا المصريين القدماء ولا الأشوريين،ولا حتى الفرس لم ينتجوا اتفاقيات عسكرية أو مفاهيم تقترب ولو من بعيد من مفهوم الإستراتيجية أو التكتيك”. فيما يتعلق بالشرق الأقصى،فقد تحدث الهنود عن مفاهيم اقرب للسياسة منها إلى الإستراتيجية. أما الحضارة اليونانية، تحدثت من خلال مؤرخيها عن وعي بالأبعاد العليا والراقية لفن الحرب وعن العلاقة بين الحرب والسياسة وهذا ما ندعوه اليوم “إستراتيجية”،ولكن هذا لا يعني صياغة علم أو نظرية للإستراتيجية. في الواقع،الفكر الاستراتيجي ليس عالمي،إلا إذا أردنا إضعاف محتواها بإدخال نصوص كثيرة عن فنون الحرب وبأي طريقة داخل “الإستراتيجية”. علم الإستراتيجية لديه تاريخ غير مستمر أو غير متصل. ومن بين الحضارات التي طورت فنا للحرب معقدا وعميقا حتى أننا يمكن أن نسميه إستراتيجية ،العديد منها لم تنتج أية أدبيات إستراتيجية يمكنها أن تحمل هذا الاسم.

ـ دور العوامل الاجتماعية في علم الإستراتيجية.
تحدثنا في الفقرة السابقة وقلنا أن علم الإستراتيجية لديه تاريخ متقطع، في الواقع هذا التقطع ليس من السهل حصر أسبابه وفهما بشكل كامل. ولكن مع ذلك هناك خمسة عوامل مشتركة بين معظم الذين أرخوا لهذا العلم وأكدوا في نفس الوقت أنها تحتاج إلى تعميق معرفي وتاريخي.

1ـ الفكر الاستراتيجي يجب أن يستجيب إلى حاجة معينة،كما يقول Hervé Coutau في كتابه عن علم الإستراتيجية (مرجع سابق،صفحة 146). أما المؤرخ الأمريكي Everett L. Wheeler قام بدراسة مقارنة ،للظهور المتزامن تقريبا،للنظرية العسكرية في اليونان القديم وفي الصين أثناء القرن الرابع قبل الميلاد. وصل المؤرخ الأمريكي إلى نتيجة أن: ” رغم الاختلافات الثقافية الكبيرة،إلا أنه وجدت عوامل متشابهة سهلت تطور النظرية العسكرية في قلب هاتين الحضارتين،وأدت في الواقع بين أولى النظريات في الغرب و أولى النظريات في الشرق إلى بناء مواضيع مشتركة”.

من بين العوامل المشتركة، أن الصين و اليونان لم تعرفا استقرارا سياسيا بل على العكس كان فيهما الكثير من الحروب، في الصين حروب Royaumes Combattants وفي اليونان حروب Péloponnèse.بمعنى آخر كان هناك طلب كبير على الخبرات العسكرية. ففي اليونان وجد ما يسمى الأساتذة أو Hoplomachoi وهم يعلمون فن القيادة،أما في الصين فقد أحاط الملك نفسه بمجموعة من المستشارين العسكريين مثل الاستراتيجي الشهير Sun Zi أو Sun Bin.

2 ـ الفكر الاستراتيجي يفترض انفتاحا، حيث يتوجب عليه الاستفادة من مختلف الخبرات مهما كانت وأينما كانت. مع ذلك عبر التاريخ، تحفظ القادة العسكريون والسياسيون على مخططاتهم، وخير مثال على ذلك ما كان يفعله الفينيقيون والقرطاجيون من إخفاء لسير رحلاتهم البحرية بغرض عدم كشفها أمام المنافسين لهم. ومن الصعوبات الأخرى التي كانت أمام انتقال مبادئ علم الإستراتيجية هي وجود مجتمعات لم تعرف الكتابة،وعملية تناقل الأفكار الإستراتيجية كانت شفهية وهذا ما أعاق عملية الانفتاح والمعرفة.

3 ـ الفكر الإستراتيجي يفترض،في نفس الوقت، خبرة عملية و نزوع أو ميل للتفكير والتأمل الذي لا يتكرر عادة عند نفس الشخص. فأكبر قادة الحروب كتبوا رؤيتهم النظرية بعد أن استطاعوا التفرغ لذلك وأصبح لديهم القدرة على المراقبة من خارج الحدث. ولكن التنظير الاستراتيجي يفترض كما يرى الكثير من المؤرخين،مستوى من التعليم و التكوين،كما يفترض أيضا الكثير من الابتعاد عن الذات أو النظرة الشخصية الضيقة.

4 ـ الفكر الاستراتيجي يفترض شكلا من أشكال العقلية القادرة على التجريد. فاليونان القدماء ومعهم البيزنطيون صاغوا أدبا إستراتيجيا لأنهم كانوا مفتونين و معجبين بالفلسفة وعلم اللاهوت. أما الرومان فلم يكتبوا شيئا في هذا الصدد لأنهم ابتعدوا عن التنظير الاستراتيجي و استندوا فقط على الممارسة العملية. في العصر الحديث،وبعد الانفتاح الذي حصل على العالم في القرن التاسع عشر، الأدب الاستراتيجي الياباني بقي فقيرا،مقارنة بالإنتاج الغني لهذا النوع من الدراسات في الصين،وقبل انتصار الإيديولوجية الكنفشيوسية.

5 ـ أخيرا، الفكر الاستراتيجي “ربما” يفترض شكلا من أشكال العقلية المحكومة بمبدأ الفعالية. فالفكر الاستراتيجي،كما الفكر الاقتصادي، يتطلب تصرفا عقلانيا لشخص يمركز عمله بالكامل حول هدف واحد. فمثلا الرجل الاستراتيجي لن يبحث سوى عن النصر على العدو. وكل ما يمكن أن يؤدي إلى النصر يمكن وضعه في خدمة الإستراتيجية من غير الانتباه إلى الاعتبارات الأخلاقية أو احترام العدو. والفكر الاستراتيجي المعاصر يشارك في “إزالة الأوهام” عن العالم، وقد حلله السيسيولوجيون منذ “ماكس فيبر” و أسس على الفصل بين النشاطات الإنسانية و محاولة عقلنتهاrationalisation .

ـ ندرة علم الإستراتيجية.
يمكننا القول أن علم الإستراتيجية بقي محصورا في المجتمعات المتطورة،والتي كانت في حالة مواجهة مع الحروب،فيها نقاشات مفتوحة ومحكومة بالبحث عن الفائدة و الأداة. وعمليا،كما يرى بعض منظري الإستراتيجية، هذه الشروط ليس متوفرة بشكل دائم. فالعصر الوسيط،على سبيل المثال،لم يكن قادرا على إنتاج المرحلة الجنينية لعلم الإستراتيجية،بينما أوصل الفكر اللاهوتي إلى القمة مع saint Bonaventure و saint Thomas d’Aquin وآخرين. مع ذلك يمكننا أن نجد كتابا معزولين هنا وهناك أو أعمال إستراتيجية بأشكال أخرى،ولكنها لم تكف لبناء فكر إستراتيجية مبني بشكل علمي. وأخيرا نستطيع القول أن الفكر الاستراتيجي تركز حول ثلاثة مدارس إذا صح التعبير: المدرسة الصينية،المدرسة اليونانية القديمة بامتداداتها الرومانية و البيزنطية، ثم أوربا الحديثة والتي صدر عنها الفكر الاستراتيجي المعاصر.( Hervé Coutau، المرجع السابق، صفحة 150).

ثانيا ـ نماذج من العلوم الإستراتيجية.

1 ـ الفكر الإستراتيجي الآسيوي القديم.
ـ نموذج الفكر الصيني.
كان للكتابة مكانة رفيعة في الصين،وقد كرس الكثير منها للأشياء العسكرية. ففي القرن الخامس والرابع قبل الميلاد بدأ تشكل الفكر الاستراتيجي الصيني،ولكن اليوم هناك الكثير من هذه الكتاب التي فقدت. ومن أهم أعلام الفكر الاستراتيجي الصيني نجد “المعلم Hsün”، ” المعلم Kuan”، Lao Zi, Mo Zi.
أما أشهر الاستراتيجيين الصينيين فكان Sun Zi، ويعتقد أنه عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. تجاهله الكثير من المؤرخين والبعض الآخر لم يعترف إلا بعد وقت متأخر. ولكن هناك كتابات جادة تشهد بقدم إنتاجه حول الفكر الإستراتيجي،أهمها : ثلاثة عشر مقالا حول”فن الحرب” استفاد منها معظم القادة في الجيش الصيني قديما.

بعد Sun Zi يأتي Sun Bin وهو حفيده. فقدت أعماله لفترة استمرت ألفي عام،والسبب أن أعماله لم توضع مع أو من بين “الأعمال السبع” الكلاسيكية التي جمعت في عصر Song. اعتقد المؤرخون أن الاثنين هما شخص واحد،ولكن عمل الثاني اكتشف في مقبرة صينية عام 1972وهو يدور حول “الاتفاقية العسكرية”. يغلب الطابع العملي على رؤيته الإستراتيجية أكثر من جده. أيضا تحدث عن الدعم اللوجستي و دوره في زيادة فعالية إطالة الحملات العسكرية. وأخيرا يمكن القول أنه كان أقل اهتماما بالتنظير الإستراتيجية من جده.

ـ تكون الثقافة الإستراتيجية.
أسس Sun Zi فكرا إستراتيجيا هاما.ثم بعد عقود عدة جاء إستراتيجيون آخرون مثل الجنرال Cao Cao وهو من أهم العسكريين في عصر أسرة Han، و Li Quan الذي عمل في ظل وجود الأسرة المالكة Tang في القرنين السابع و الثامن بعد الميلاد، ويأتي بعده He Yanshi و Zhang Yu في صر الأسرة المالكة Song. معظم هؤلاء وجد في عصر Royaumes Combattants، أي قبل توحيد الإمبراطورية، حيث عرف الفكر الإستراتيجي تيارين أساسيين: تحليلا عميقا للعلاقة بين الحرب والسياسة من قبل التيار الأول، أما التيار الثاني فقد كان لديه اتجاها ضد “العسكرة” وشارك بشكل متناقض في تطوير الفكر العسكري، فهو يرفض الحرب ويقبل حق الدفاع عن النفس.

في نهاية القرن الحادي عشر،الإمبراطور Shen Zong أوقف ما سمي قائمة “السبعة أعمال” وليتم التعامل مع قائمة جديدة من المؤلفات الإستراتيجية،وهي:( Hervé Coutau، مرجع سابق،صفحة 156)
ـ Wu Zi Bingfa، كتاب وضعه جنرال من القرن الرابع قبل الميلاد،يتألف من عشرة فصول تتركز جميعها على تحقيق المصالحة بين الأخلاق الكنفشيوسية و الشؤون العسكرية.

ـ Sima Fa، وهو نص مختصر ظهر في نفس العصر ويمكن أن يترجم عنوان كالتالي” كتاب معلم الفروسية”. يتحدث على إدارة الجيش،ضرورة أن تكون الحرب عادلة و يحلل قليلا المناورات العسكرية وقيادتها.
ـ Wei Liao Zi، كتاب أعده مشرع صيني في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد،ويتحدث فيه عن تنظيم الجيش.
ـ San lüe، أو “الإستراتيجيات الثلاث”لمؤلفه Huang Shegong ، يحلل في سيطرة الحكومة و الأبعاد السياسية للإستراتجية.
ـ Tai Gong Liutao، أو ” التعليمات السرية العشرة”، كتبها Taigong ،ويقيم هذا الكتاب بأنه الأكثر قوت وإنجازا للمدرسة الإستراتيجيين.
ـ Tang Li Wendui ،” سؤال و جواب بين Tang Taizong و Li Weigong”، ظهر في القرن السابع الميلادي،يركز على الأمور العسكرية بشكل كبير، ثم يدرس الإستراتيجية والتكتيك.

إن عملية انتشار الثقافة الإستراتيجية لم تتوقف على النخبة الإدارية،بل دخلت إلى الأدب والمسرح الشعبي لدرجة أنه من الصعب أن تجد مثلها في الدول الغربية.

ـ الفكر الإستراتيجي الصيني و الغرب.
وجد اتجاه دائم عند الغربيين يعتقد أن الفكر الصيني هو حكمة أكثر مما هو علم،بمعنى أن الصينيين يفضلوا أن يقترحوا أكثر مما يحددوا بدقة ما يريدون. في الواقع هذا الرأي يتناسى السياق الثقافي العام التي ظهرت فيه الكتابات الإستراتيجية الصينية.

مع بداية القرن الثامن عشر،أحد اليسوعيين الفرنسيين وهو الأب Amyot قدم الأفكار الصينية إلى أوربا، وذلك عبر كتابه “الفن العسكري عند الصينيين”،ويعود بكتابه إلى التحليلات حول الحرب في الصين والتي سبقت العصر المسيحي،والكتاب هو أيضا تقديم للعديد من الجنرالات الصينيين،وتمت ترجمة هذا الكتاب من الفرنسية إلى الألمانية في عام 1779. ولكن عمليا يمكن القول أن الروس وحدهم قدموا ترجمة كاملة للإستراتيجي الصيني الشهير Sun Zi في عامي 1860 و 1889. وعلينا أن ننتظر بداية القرن العشرين حتى نرى الاهتمام الأوربي الحقيقي بالفكر الاستراتيجي الصيني عبر الترجمة الإنكليزي التي قدمها الجنرال Calthorpe للكتاب الذي ذكرناه سابقا وترجمه الروس .ثم عاد الروس،الألمان و الإيطاليون بتقديم ترجمة جديدة لنفس الكتاب في أعوام 1950،1957 و 1950. أما بالنسبة للعرب فليس هناك أي اهتمام على الإطلاق بالفكر الإستراتيجي الصيني.

2 ـ الفكر الاستراتيجي الغربي القديم.
ـ التكتيكيون و الإستراتيجيون اليونان القدماء.
في الواقع لم يبق الكثير من التراث العسكري اليوناني القديم،وما نقل منه على اللغات الأوربية الأخرى مثل الإنكليزية والفرنسية لا يساعدنا في التعمق به، بل نحتاج لمعرفة اللغة اليونانية حتى نستطيع التوسع أكثر في هذا التراث. مع ذلك يمكن القول أن اليونان امتلك العديد من التحليلات التكتيكية والإستراتيجية في عصرها القديم. ووفق كتاب نشر في أحدى المدن الفرنسية ،فإن “الإسبارطيون” كانوا أول من كتب،بالاستناد إلى تجاربهم في الصراع والحرب، تحليلا لهذه الصراعات، وكانوا أول من علم هذه الأفكار لشبابهم من خلال معلمين عسكريين سموهم بالتكتيكيين. (الصفحة 57، من الكتاب الفرنسي المذكور أعلاه).

يعتبر Enée الأقدم والأكثر شهرة كما يعتقد المؤرخون من بين هؤلاء الإستراتيجيين و التكتيكيين. عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وليس هناك الكثير عن حياته. ألّف موسوعة عسكرية في عدة أجزاء. بعد Enée علينا أن نقفز من فوق ثلاثة قرون حتى نجد تحليلا تم الاحتفاظ به. يعود هذا التحليل للإستراتيجي اليوناني Asclépiodote الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. يقول Alphonse Dain في كتابه “الإستراتيجيون البيزنطيون”،وفي الصفحة 326 منه:” لم يكن Asclépiodote عسكريا في مهنته،بل اهتم بالتدوين وبمنطق إدارة الصراعات،لقد نظر لوحدات الجيش وتنظيم المعارك في مقدونيا”.

في نفس الفترة ظهر استراتيجي آخر وهو Onesandros لم يكتب كثيرا حول الحروب أو العلوم العسكرية بل ترك لنا كتابا حول وظائف ومهام الجنرال. جاء بعده Elien وهو أيضا عاش في القرن الأول قبل الميلاد، وقد ألف كتابا أهداه إلى “طروادة” وكان الهدف منه فهم الكتاب الذين عاشوا من قبله. نستنتج أن الفكر الإستراتيجي اليوناني القديم اعتمد بشكل كبير على الممارسات العملية أكثر من التنظير.مع ذلك يمكن متابعة التنظير للفكر الإستراتيجي مع Xénophon و Thucydide. فقد تحدث Thucydide عن “تاريخ حرب Péloponnèse” مبينا من دون أدنى شك أو غموض،أن البعد الإستراتيجي كان حاضرا ومفهوما من قبل اليونان القدماء. أيضا Xénophon كان أول كاتب عمق دراسته التاريخية من خلال التفكير النظري وخاصة حول التكتيك،وذلك في كتابه “تحليل الفروسية” والذي ينطلق من مفاهيم إستراتيجية.

ـ المقاربة البراغماتية عند الرومان.
يعتقد الكولونيل “رتبة عقيد” Reichel أن الرومان :”كان لديهم فكرا عسكريا أصيلا وجديدا،وصل إلى عمق الأشياء كما وصلنا في محتوى العديد من النصوص الرومانية” . أما التفوق التكتيكي والاستراتيجي الروماني خلال قرون متتالية لم يكن من غير هذه البنية التنظيمية الدقيقة للعقيدة العسكرية الرومانية. هذه البنية كانت ثمرة للممارسة والخبرة كما يقول Polybe:” المرشحون للوظائف العامة كان عليهم المشاركة في عشر حملات عسكرية قبل اختيارهم من قبل المواطنين” . رغم ذلك لم تحول الخبرات الروماني إلى مؤلفات استطاعت أن تشكل أدبا إستراتيجيا رومانيا في النهاية.

لكن يوجد بعض التحليلات للتكتيك و الإستراتيجية. ففي القرن الثاني قبل الميلاد كتب أحد أشهر الرومان في ذلك العصر وهو Caton مؤلفه ” De Re militari” ولم يبق منه شيئا. أما Polybe فكتب “Taktika” واليوم يعتبر من الكتب الرومانية المفقودة. والكاتب الأكثر شهرة في الإمبراطورية الرومانية كان Frontinus فقد قدم مؤلفا خصصه للتعليق على “تعليقات عسكرية عند هوميروس”. أما Arrien كان يعتبر من ورثة التكتيكيين اليونان، وقد قدم أيضا عمله الخاص به ” فن التكتيك” الذي قارن فيه بين التكتيك اليوناني و المقدوني القديم و التكتيك الروماني .

ظهرت بعض الانتقادات للفكر التكتيكي والإستراتيجي الروماني كان أهمها ما كتبه Brian Campbell:” الرومان لم يكن لديهم أكاديمية عسكرية،ولا يوجد عملية مؤسساتية للتكوين و التدريب فيما يتعلق بالإستراتيجية والتكتيك،ولم يكن لديهم وسائل منظمة ومنهجية لتقييم المرشحين للوظائف العليا” .
يعتبر القيصر الروماني من المعلمين النادرين لفن الحرب خاصة انه كان في نفس الوقت منظرا للإستراتيجية وممارسا لها.لقد حقق انتصارات عسكرية كبيرة وقدمها في مؤلفات تتحدث عنها،حيث لاقت هذه المؤلفات نجاحات واسعة في عصرها،ونذكر منها (حرب Alexandrine،حرب إسبانيا،حرب أفريقيا). ما يميز مؤلفاته أنها جمعت التحليل العسكري للحرب الأهلية و تحليل السياسات القائمة،بمعنى تحليل الإستراتجية من خلال ظروف سياسية أو سياق سياسي قائم.

بعد القيصر،جاء مؤرخو الإمبراطورية، ومن أهمهم Tacite.وهو كاتب عسكري،قدم مؤلفا يحتوي على معلومات كثيرة موضوعية ومتماسكة حول إستراتيجية الدولة العظمى أو الإمبريالية.

ـ الفكر البيزنطي.
ترك البيزنطيون العديد من المؤلفات التي تحدث عن المؤسسات العسكرية،ونجد فيها أدبا إستراتيجيا مزدهرا في الكثير من الأحوال،رغم تركيزهم الكبير على قيادة المعاركة أكثر من أي شيء آخر. ولكن التراث الإستراتيجي البيزنطي فقد في معظمه. من الأسماء الإستراتجية المعروفة عن تلك الحقبة اسم Syrianos القاضي والذي كان صلة وصل بين اليونان القدماء و بيزنطة، حتى أن الإمبراطور Constantin السابع طلب من ولده أن يحمل معه في حملاته العسكرية كتب كل من Polyen و Syrianos. يذكر هنا أن مجموعة من الدراسات المجهولة في الإستراتيجية يرجعها المؤرخون في بعض أجزائها إلى Syrianos.
اليوم تهدف مجمل الدراسات عن الفكر الإستراتيجي البيزنطي إلى إعادة ترميم و التعرف على النصوص المفقودة أو المجهولة.ومن هذه الدراسات “مجموعة الإستراتيجيين” التي تهدف للتعرف على التراث الإستراتيجي البيزنطي.

3ـ الفكر الإستراتيجي العربي/الإسلامي.
تأثر العرب و الفرس كثيرا بالكتاب البيزنطيين.لكن العلوم الدينية التي لها طابع الإجبار في القرآن أعاقت ظهور فكر إستراتيجي حقيقي عند العرب. في كل الأحوال وبعد مراجعاتنا للعديد من الكتب الغربية حول هذا الموضوع (حيث لم يتوفر لدينا مراجع عربية)،وجدنا إجماعا على أن أهم المخطوطات أو التراث الفكري الإستراتيجي العربي فقد في بغداد بعد أن سقطت بيد المغول. وفي القرن الرابع عشر،كتب المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون عن الحروب والطرق المستخدمة في المعارك من قبل مختلف الشعوب، ويقول ابن خلدون في هذا الصدد:”ليس من المؤكد وجود نصر في الحرب،حتى ولو وجد تفوق في التسليح والفعالية.النصر و التفوق في الحرب يعودان للحظ و الصدفة”.( نص مقتبس من كتاب Gérard Chaliand، بعنوان “الانطولوجيا العالمية للإستراتيجية”،الصفحة 499).

في مصر العهد المملوكي،القرن الثالث عشر و السادس عشر،وضعت العديد من المؤلفات التي تقترب من التكتيك والإستراتيجية من بينها كتاب “تعليمات رسمية للتعبئة العسكرية” لصاحبه “ابن منقولي”(لدينا شك في صحة الاسم أو طريقة كتابته). هذا الكتاب يعالج الحملات البرية ويتحدث باختصار عن المعارك البحرية . في إمارة غرناطة وضعت العديد من الآداب العسكرية والتي حاولت فهم آليات فن الحرب عن المسيحيين، وفي القرن الثامن عشر تم الكشف عند العديد من المخطوطات كان أهمها مخطوطة بعنوان”الفن العسكري” كتبها محمد بن عبد الله، و “الفن العسكري والفروسية” كتبها علي بن عبد الشامان بن هزيل،أيضا “تحليل ومعالجة الصراع” مؤلفه مجهول حتى اليوم. أما ابن هديل الأندلسي فقد ألّف في القرن الرابع عشر مجموعة حول فن الحرب تضمنت مبادئ لقيادة المعارك و الحروب.(وردت هذه المعلومات في كتاب ” الانطولوجيا العالمية للإستراتيجية”، مرجع سابق، الصفحة 484 ـ486، و الصفحات 519 ـ 522).

ثالثا ـ الفكر الإستراتيجي الأوربي الحديث.
يعتبر الفكر الإستراتيجي في العصر الوسيط فقيرا جدا.ولم يتطور هذا الفكر بشكل حقيقي إلا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر.الفكر الإستراتيجي العسكري بدأ الإعلان عن نفسه بشكل واضح في إسبانيا،مع كتاب “Libro de la Guerra” (كتاب الحرب) حوالي عام 1420،وقد كتبه الماركيز Vellena،أيضا كتاب”le Tratado de la PERFECCIÓN del triunfo militar” ( تحليل الانتصار العسكري) حوالي عام 1459،وكتبه Alfonso Hernandez.

في فرنسا،نجد العديد من الكتاب مثل Robert de Balsac وكتابه ” مبادئ الصراعات النبيلة” في عام 1502،وفي إنكلترا في نفس الفترة الزمنية نجد كتاب “تحليل لفن الحرب” وضعه Béraud Stuart،وفي ألمانيا كتاب “Kriegsbuch” (كتاب الحرب) لمؤلفه Philippe von Seldeneck نحو نهاية القرن الخمس عشر. في إيطاليا بعد كتاب ” Semideus liber tertius de re militari” عام 1438 لمؤلفه Catone Secco، نجد كتاب “De Re militari” لمؤلفه Roberto Valturio،وكان أول كتاب يتحدث عن التحليل العسكري ويتم طبعه.

ـ ميكيافلي: التكتيكي و الإستراتيجي.
المؤلف الأكثر شهرة في القرن السادس عشر هو مؤلف ميكيافلي الذي يحمل عنوان ” L’arte della Guerra” (فن الحرب)وفي الواقع هو كتابه الوحيد الذي نشر أثناء حياته. كما في كتاب “الأمير”،الكتابات العسكرية عند ميكيافلي “هي بشكل أساسي كتابات سلبية،أو نقد للمؤسسات العسكرية التي كانت سائدة في عصره” . إن تأثير “فن الحرب” سيكون كبيرا وسيستمر طويلا:” لقد أصبح من الأركان الأساسية للآداب العسكرية.وتمت إعادة طباعته سبع مرات في القرن السادس عشر،ثم ترجم إلى معظم اللغات الأوربية،في فرنسا عام 1546،في إسبانيا عام 1536،في إنكلترا عام 1560،في ألمانيا عام 1623،في اللاتينية عام 1610″ . بعد ذلك سيعاد طبعه باللغة الروسية في عام 1839. في هذا الكتاب تحدث ميكيافلي عن العديد من المحاور الهامة ونوجزها بما يلي:الكتاب الأول،في عدم أهمية ووهم حماية الممرات،الكتاب الثاني:حول المصلحة من قيام حرب ما،الفصل العاشر من الكتاب الثاني :حول العلاقة بين المال والحرب، الكتاب الثالث: حول المعلومات وأهميتها في الحرب.أخيرا إذا وضعنا كتابي “الأمير” و “فن الحرب” جنبا إلى جنب نستطيع القول أن ميكيافلي أعلن ولادة و تسريع ظهور فكر إستراتيجي منظم ومؤسس.

ـ المفكرون الإنكليز و الفرنسيون.
عرف الفكر الإستراتيجي الإنكليزي تأخر كبيرا بعد حرب”المائة عام” وحدوث القطيعة بعد نهاية هذه العرب مع القارة الأوربية. بشكل عام لم يستطيع هذا الفكر تحقيق أي تطور بل تمسك بالإنتاج الفكري القديم أو الماضي مثل “النظرية العسكرية الإنكليزية في القرن السادس عشر”والتي ستصبح مسيطرة على التفكير العسكري الوطني. كما أن العديد من الكتاب سيلجؤون على الماضي وخاصة على “الانتصارات الشهيرة للملوك التي حملت اسم إدوارد وهنري في التاريخ الإنكليزي” . وكان الكاتب الإنكليزي الأكثر أهمية والمثال على هذه الحالة هو John Smythe في كتابه “خطابات عسكرية” عام 1590، أيضا Roger Ascham و Matthew Sutcliffe في كتاب ” The Practice, Proceedings and Laws of Arms” عام 1593.

ويمكننا أيضا أن نذكر بعض المفكرين و مؤلفاتهم بشكل متسلسل كالتالي:
ـ Roger William (A Briefe Discourse of Warre, 1590).
ـ Humphrey Barwick (A Briefe Discours, concerning the force and Effect of all manual Weapons of Fire, 1594).
ـThomas Smith ( The Art of Gunnery, 1600).
ـRobert Barret ( The Theorike and Practike of Moderne Warres, 1598).

يشار هنا إلى أن الحرب الأهلية أثرت بشكل كبير على إنتاج الفكر العسكري في إنكلترا، خاصة أنها استمرت لوقت طويل جدا.

أما الفرنسيون فقد استفادوا كثيرا من الحروب الإيطالية مما فتح أمامهم مجالا واسعا للخبرة،وكانت البداية مع كتاب ” أشجار ورد الحروب” في عام 1502،وقد كتب بناءا على طلب الملك لويس الحادي عشر من أجل تربية وتعليم ولي عهده،وقد استخدم ميكيافلي عنوانا مشابها لهذا العنوان في عام 1510 في كتابه “شجرة الصراعات”. بعد ذلك وضعت كتب كثيرة في فرنسا تتناول فن الحرب وكان أهمها ” معلومات أو معرفة حول تأثير الحرب” لمؤلفه Rémy Rousseau نشر عام 1548، ثم ترجم إلى معظم اللغات الأوربية.

ـ المفكرون الألمان.
أنتج الألمان العديد من المؤلفات الإستراتيجية العسكرية،خاصة أنها عرفت حروبا بين مقاطعاتها أو مع الإمبراطور نفسه. الكاتب “فيليب” وهو دوق Clèves ،في مقاطعة Flammand وكان تحت حكم Habsbourg ، أعطى ما بين عامي 1508 و 1516 “معرفة حول كل أشكال الحرب البحرية والبرية”. جاء بعده Reinhard وهو كونت Solm،وقد ألف مجموعة من ثمانية كتب من غير أن يعطي لها عنوانا،مابين عامي 1544 و 1549؛ ثم L. Fronsberger وقد قدم خمسة كتب بعنوان ” Fünff Bücher von Kriegsregiment und Ordnung” ( خمسة كتب في الحرب و نظام الأفواج أو الحشود)، ما بين عامي 1554 و 1556 وقد كانت لهذه الكتب نجاح كبير وواسع.

أما الكاتب الأكثر شهرة فكان Lazarus von Schwendi، وكان قائدا للأركان أو للجيوش في عهد الجيش الإمبراطوري،وقد تأثرا كثيرا بميكيافلي لاسيما عندما كتب Kriegsdiskurs (خطابات الحرب) بين عامي 1571 و 1577،داعيا إلى جيش دائم و منظم. بعد ذلك جاءت حرب السنوات الثلاثين لتستخدم أدوات تكتيكية جديدة وستستمر هذه الأدوات طويلا ولتؤثر على التكوين الفكري الإستراتيجي الألماني الذي استفاد منها كثيرا، ويجب الاعتراف هنا بأن السويسريين كانون من أهم أذا لم نقل أنهم مخترعو التكتيك الحديث.

ـ ملاحظات حول الإستراتيجية في القرن السادس عشر.
يمكن القول بان الجوانب غير العسكرية،السياسية و الاقتصادية، لعبت دورا وكان لها حضورا مميزا في الفكر الاستراتيجي . إنه العصر الذي فرضت فيه “الميركنتيلية” mercantilisme (نظرية اقتصادية نشأن على أنقاض النظام الإقطاعي وتفسخه وتدعو إلى تنظيم الاقتصاد)،العديد من المشاكل في العلاقات بين الحرب والاقتصاد،خاصة عندما ألحت على أهمية التجارة الخارجية والمواجهات التي يمكن أن تنشأ عنها . فالحرب كانت وسيلة لإدخال المال إلى صندوق الدولة، والاقتصادي و الفيلسوف الكبير “جان بودان” لم يتردد في طلب ذلك وفي وصفه أيضا في كتابه “الجمهورية” عام 1576. أما Mendoza فقد أطلق جملة شهيرة جدا عرفت ازدهارا كبيرا وتقول :” النصر سيذهب للذي سيمتلك آخر écu” وهو عملة فرنسية قديمة”.مع ذلك،ورغم الصعوبات الكثيرة أمام ولادة علم للإستراتيجية،فإنه لن يمضي وقت طويل حتى يظهر فكر إستراتيجي حقيقي.

رابعا ـ الإستراتيجية و القرن السابع عشر.
يتميز القرن السابع عشر بإنتاجه الفكري حول التكتيك،والمشكلة الأساسية التي كانت أمام الإستراتيجية هي التخصص أو الحقل،فقد كان هناك حاجة لآليات جديدة ضرورية وتتوافق مع نظام جديد للمعارك. قدم Maurice Nassau،ضن هذا المجال،تجديدا و ودعما كبيرا للإنتاج النظري حول التكتيك. لكن هذا الإنتاج وغيره تأثرا سلبا وبشكل كبير بظهور أفكار جديدة استطاعت تغييبه وأهمها أفكار عصر الأنوار. ومن جهة أخرى كان للصراعات داخل القارة الأوربية تأثير من حيث ان الممارسة سبقت النظرية،علما أن بعض المؤرخين مثل Antonio Espino Lopez يعتبر أنه في القرن السادس عشر:”تم إنتاج أعمال نبيلة كان لها أهميتها مقارنة بالكلاسيكيات في نهاية القرن السادس عشر” .

ـ صعود أوربا الشمالية.
يعتبر الكثيرون أن “النموذج الهولندي” أحدث توازنا في الآداب العسكرية لصالح أوربا الشمالية،بعد أن كانت خاضعة للمدرسة الإسبانية/الإيطالية في القرن السابق . فالهولنديون هم من أهم من أسس مقاربة أكثر علمية لفن الحرب وللتنظيم العسكري. Johan Jakob von Wallhause مدير أول أكاديمية عسكرية والتي أسسها Jean Nassau ،ترك كتابا غنيا حول توظيف مختلف الأسلحة في عام 1615 وقد ترجم إلى معظم اللغات الأوربية، وهو الكاتب الأكثر قراءة في ذلك العصر.( Hervé BEGARIE،المرجع السابق).
في إنكلترا،وقبل الحرب الأهلية،ظهرت العديد من الدراسات العسكرية التي مهدت الطريق أمام “نموذج جديد للجيش في عهد كرومويل”،مستفيدة من أعمال خارجية مثل ” The principales of the art Militarie” الذي يتحدث عن الجيش الهولندي.

ـ انحطاط أوربا الجنوبية ؟
يرى مؤرخو الإستراتيجية أن بلدان أوربا الجنوبية أصابها تراجع فيما يتعلق بالفكر الإستراتيجي،وذلك لصالح توازن جديد عاد إلى البلدان الأنكلو ـ سكسونية. ولكن رأيا آخرا يرى أنه رغم التراجع النسبي لهذا الحقل الفكري في أوربا الجنوبية إلا أن إنتاجا غزيرا وجد في ذلك العصر لكنه بقي غير معروف. والأمثلة على ذلك كثيرة كما يرى هؤلاء: منها الفهرسة التي وضعها Francisco Barado، و الفرضيات الجديدة لصاحبها Antonio Espino Lopez واليت تغطي جميع حقول فن الحرب.أما التكتيك فتمت دراسته من قبل Fernando Alvia Castro و Cristobal de Rojas ثم Luis méndez de Vasconcellos.
ونجد أيضا بعض الكتاب الذي عالجوا تنظيم الجيوش والعديد منهم وصل إلى مرحلة الحديث عن الإستراتيجية،كما كان مع Francisco Melo في عام 1638 وكتابه ” Politica militar y avisos de generales” ( آراء عامة في السياسة العسكرية).

الإنتاج الإيطالي كان أقل غزارة من القرن السابق،ويظهر أن هذا منطقيا ،حيث أن إيطاليا لم تعد مسرحا للحروب الأوربية . أما الكاتب الاكثر أهمية في هذه المرحلة الإيطالية فقد كان Giorgio Basta وهو من أصول ألبانية،وخاصة في كتابه ” Il maestro di campo general” الصادر في عام 1606، ثم كتاب ” Del governo dell’artigliera”و صادر عام 1610.

ـ الفكر العسكري الفرنسي.
في فرنسا قام Louis de Montgomery بتحليل إصلاحات Maurice de Nassau وقدر ذكرناه في السابق، أيضا Jérémie de Billon تحدث عن الأنظمة المختلفة للمعركة في كتابه “مبادئ فن الحرب” الصادر في أعوام 1612،1622،1636،1641 . أما دوق Rohan وهو من زعماء الحزب البروتستانتي فقد نشر كتابه “القائد الكامل” في عام 1636 وقد كان مثله الأعلى في هذا الكتاب هو “القيصر”. وفي عام 1663 صدرت مخطوطة “كتاب الحرب” لمؤلفه Aurignac ويصف فيه ( المبادئ الخمس للعمل العسكري والتي هي : العسكرة، السير،القتال،الهجوم،الدفاع عن الأماكن). وأخيرا عمد الفرنسيون إلى ترجمة الكثير من الكتب الصادرة في الدول الأوربية الأخرى على لغتهم.

ـ Montecucculi الإستراتيجي الأول.
عرف النصف الثاني من القرن السابع عشر سيطرة المفكر الإيطالي Montecucculi ، فقد كتب عن قيادة الجيوش بشكل وصل إلى الدراسات الإستراتيجية،مع تصنيف للحروب(أهلية أو خارجية،دفاعية أو هجومية، بحرية أو برية)،ثم قارن بين الحرب بلعبة الشطرنج. لكن جميع كتاباته لن تنشر بشكل حقيقي وواسع إلا بعد موته،وأهمها “الفن العسكري” الذي هر باللغة الإيطالية في عام 1653،والإسبانية 1693،أما الكتابات المتبقية لم تنشر حتى القرن الثامن عشر. كتب مذاكراته بالفرنسية وطبعت تسع مرات بين عامي 1712 و 1760. اعتبر كتابه ” Della Guerra col Turco in Ungheria” هو الأكثر شهرة وتأثيرا،حيث أنه طبع سبع مرات بالإيطالية،ست في الفرنسية،اثنتان في اللاتينية،اثنتان في الإسبانية،اثنتان في الألمانية وواحدة في الروسية.

خامسا ـ الإستراتيجية في القرن الثامن عشر.
ـ حوار التكتيك في فرنسا.
بدأ الفكر العسكري بالتفتح أكثر في القرن الثامن عشر.ويعود تطوره إلى التعقيدات المتنامية لفن الحرب،قوة الدولة وإلى حالة السلام الطويلة في القارة الأوربية. أيضا يعود هذا التطور إلى جانب فكري متطور من خلال تطور عمليات الطباعة والنشر،ازدهار الكتابات العسكرية و اهتمام العامة بالقضايا العسكرية . عرفت هذه الفترة الحديث عن التكتيك أكثر من الاهتمام بالفكر الاستراتيجي بشكل عام.

من أهم الدراسات التي ظهرت في هذه الفترة ” اكتشافات جديدة حول فن الحرب” في عام 1724،ثم جاء بعده “تاريخ Polybe” ونشر منه ستة أجزاء بين عامي 1727 و 1730،وأعيد طبعه في عامي 1753 و 1774،أما مؤلف الدراستين فكان ” Folard”. في منتصف القرن،ألّف المارشال Maurice Saxe دراسات ستنشر بعد موته في عام 1756 والتي تركز على ” روح قوانين التكتيك”. وقد افتتح دراساته أو مؤلفاته بجملة شهيرة سنجدها في مقدمة الكثير من الكتب التي جاءت بعده:” الحرب هي علم مغطى بالظلام،في داخلها لا نخطي خطوة واحدة مؤكدة؛تقييماتنا المسبقة هي الأساس والقاعدة.كل العلوم لديها مبادئها،بينما الحرب فقط لا تملكها حتى الآن”.

في أعوام 1770ـ1780، الحوار حول التكتيك سيبقى مكثفا في فرنسا إن كان في مجال العلوم العسكرية البحرية أو العلوم العسكرية البرية. واستمر هذا حتى بدايات تبلور الأفكار الإستراتيجية في فرنسا.

ـ ظهور البعد الإستراتيجي في فرنسا.
هذا الفكر الإستراتيجي،الذي كان مؤسسات على الكثير من التكتيك،بدأ بالتدريج الانتقال إلى الإستراتيجية. حيث أن النمو في الفعاليات العسكرية وفعاليات الجيوش سمحت باتساع ميدان المعركة وبالتالي الحاجة إلى تخطيط إستراتيجي شامل. النصف الأول من القرن الثامن عشر هيمنت عليه ثلاثة أسماء هي Folard, Feuquière , Puységur ولكنها كانت مختلفة في وجهات النظر. مع Feuquière كان هناك تطلع إلى الإستراتيجية، ومع Folard على التكتيك،أما مع Puységur فكان اللوجستيك Logistique . وكلمة اللوجستيك هنا تأتي بمعنى”علم رئاسة أركان الجيوش”.

في عام 1736 نشرت ولأول مرة مذكرات الجنرال Antoine de Pas ثم أعيد طبعها بعد ذلك خمس مرات. يحاول فيها هذا الجنرال التنظير لفن المناورة عبر التاريخ الذي سبقه أو في الأنظمة القديمة.وفي عام 1748 نشر كتاب المارشال Jacques-François de Chastent “فن الحرب من خلال المبادئ والقواعد. وصف كتابه بأنه عقلاني يعتمد تنظيم المعارك وخطواتها وكيفية تطبيقها.

الموجة الثانية من تطور الفكر الإستراتيجي في فرنسا ضمت العديد من الكتاب ومن أهمهم Roy de Bosroger والذي وضع كتاب “مبادئ فن الحرب” عام 1770، وكتاب “عناصر الحرب” عام 1773. ثم يأتي كتاب ” دراسة نظرية حول الصراعات” وضعه كونت منطقة Grimorad في عام 1775، ومن بعده Paul –Gédéon والذي أدخل في المفردات العسكرية مفهوم الإستراتيجية. (Hervé BEGARIE،المرجع السابق، الصفحة 195). هذا الأخير تقوم نظريته على ” من غير نظرية مؤسسة على قواعد ثابتة،لن نتقدم نهائيا في علوم الجيش والتسلح” . وفي الجزء الثالث من كتابه يتحدث عن الإستراتيجية أو جدل عمليات الحرب. إنه يبين أن “علم الحوار أو الجدل يستند دائما على حسابات الزمن والمسافة”.

ـ الكتّاب الألمان.
في رأي الكثير من الكتاب الأوربيين،يعتبر “فريدريك الثاني” أفضل محلل لنظامه. حيث وضع مؤلفا شهيرا بالفرنسية هو ” الوصية العسكرية” في عام 1768، وكان من قبل قد كتب دراستين أيضا وهما” المبادئ العامة للحرب” في عام 1746، و “تعليمات من أجل ضباطي” في عام 1747، أما في عام 1771 فقد وضع كتابه “عناصر التكتيك”. الكاتب الألماني الأكثر شهرة في حقل الفكر الإستراتيجي هو Wilhelm Schaumbourg-Lippe ترك ألمانيا ووضع نفسه في خدمة ملك البرتغال الذي عينه مارشالا. كتب بالفرنسية العديد من المذكرات. ومن وجهة نظر إستراتيجية يمكن الحديث عن تنظيره لعمليات الدفاع ثم إعطاءه دورا كبيرا لعلم النفس في الحروب.

ـ الإنتاج البريطاني.
ترك Henry Lloyd كتابا غنيا وغزيرا بالمعرفة تحت عنوان “A Political and Military Rhapsody on the Invasion and Defence of Great Britain and Ireland” وذلك في عام 1790،وقد تمت طباعته سبع مرات بمختلف اللغات الأوربية. ومن كتبه الأخرى ” The History of the late War between the King og Prussia and the Empress of Germany and her Allies” صدر في عام 1763.
ويمكن أن نذكر أيضا من بريطانيا، Humphrey Bland في كتابه “A Treatise of Military Discipline” وقد طبع تسع مرات ابتداء من عام 1727 وحتى عام 1762. وقد تحدث العديد من الكتّاب البريطانيين عن “الإستراتيجية الكبرى” في مختلف إنتاجهم المعرفي في هذا المجال.

سادسا ـ الفكر الإستراتيجي المعاصر.
ما بين عامي 1789 و 1815،عرفت أوربا حروبا مستمرة تخللها بعض الاستراحات هنا وهناك. في هذه الفترة أصاب فن الحرب تحولات عميقة. بدأ التحول مع Lazare Carnot الذي أخذ بوضع إستراتيجية جديدة لم يوضحها إلا بملاحظات و كتابة مختصرة جدا. أما مؤلفه الأكبر فقد عالج موضوعا أكثر تحديدا: “الدفاع عن المراكز القوية” وكتبه في عام 1809،ترجم إلى العديد من اللغات الأوربية.

في هذه الفترة عرف الإنتاج الفرنسي قوة اكبر: مع كتاب “مدخل إلى دراسة فن الحرب” وضعه Roche-Aymon بين عامي 1802ـ1804 وتحدث فيه عن التكتيك فقط؛ ثم كتاب “المعالجة الأساسية للفن العسكري” كتبه Simon-François Gay في عام 1805 وترجم لمختلف اللغات العالمية. بعد ذلك جاء كتاب Reveroni de Saint-Cyr وهو كتاب غني جاء تحت عنوان”دراسات حول آلية الحرب”كتبه في عام 1808 وقد نشر فيما بعد بعنوان جديد هو “سكونية الحرب أو مبادئ الإستراتيجية والتكتيك” وذلك في عام 1826.

المقاربة الهندسية للفكر الإستراتيجي وصلت إلى ذروتها مع كتاب Prussien Dietrich الذي نشر في مدينة هامبورغ الألمانية كتابه ” Geist des neuern Kriegs Systms” (روح نظام الحرب الحديثة) في عام 1799، ويتحدث فيه عن طرح مسلمات أو بديهيات معينة يمكن الحصول عليها بالمنطق و الاستدلال ثم توضيحها فيما بعد بواسطة التجربة.وفي كتابه الثاني يتحدث الأسبقية الفكرية عند نابليون بونابرت زجاء الكتاب تحت عنوان” Lehrsätze des neuen Krieges oder reine und angewandte Strategie” (نظريات الحرب الحديثة أو الإستراتيجية الخالصة والمطبقة) ووضع الكتاب في عام 1805.

أيضا في ألمانيا، كتب الأرشيدوق Charles العديد من المؤلفات : ” Grundsätze der grosse Kriege” (مبادئ الحرب الكبيرة) في عام 1808، ” Grundsätze der Strategie erläutert durch die darstellung des Feldzugs von 1796 in deutschland” (مبادئ الإستراتيجية المطورة من خلال حملة 1796 في ألمانيا) في عام 1813.

ـ الآباء المؤسسون للفكر الإستراتيجي المعاصر.
أولا ـ Jomini
وهو Henri-Antoine Jomini الذي سيعمل على الموافقة بين إرث كتاب القرن الثامن عشر وتعليمات المأخوذة من نموذج نابليون. ومعه بدأ بشكل حقيقي يتأسس علم الإستراتيجية المعاصر . ولد في سويسرا عام 1779 خدم في الجيش الفرنسي وأصبح رئيس أركان المارشال Ney في عام 1805. وفي هذا العام نشر كتابه الأول “معالجة التكتيك الكبير أو علاقة حرب السنوات السبعة”،وهو في الواقع تطوير لعمل سابق كان قد كتبه الجنرال Tempelhof من بروسيا في عام 1783، والذي كان بدوره تطويرا لعمل سابق هو للجنرال Lloyd وكان يحمل العنوان “تاريخ حرب السنوات السبعة”.

الفرق بين هذه المؤلفات هو أن Jomini أدخل تعديلات مبنية على مقارنات مع العمليات التي حضرها او شارك فيها. في السنوات التالية نشر العديد من المؤلفات التي تحلل الحروب النمساوية ثم حروب “ثورة الإمبراطورية”،وفي النهاية وصل مؤلفه إلى ثمانية أجزاء كان آخرها في عام 1816، وقد عاد ليعيش في فرنسا،ثم توفي في عام 1869 عن عمر 90 عاما. ( من كتاب تاريخ الإستراتيجية، Hervé Bégarie الصفحة 200 إلى 210).

في الشكل النهائي لمؤلفه يمكننا ملاحظة جزأين رئيسيين : ” تحليل العمليات العسكرية الكبرى” وقد كرّسه لحروب فريدريك الثاني؛ ثم ” تاريخ النقدي والعسكري لحروب الثورة” ويتألف من 15 مجلدا. ربما يكون هذا المؤلف الكبير منسيا إلا أنه من أهم الآباء المؤسسين للفكر الإستراتيجي المعاصر . لقد كان له تأثير كبير على جميع منظري الفكر الإستراتيجي من روسيا إلى الولايات المتحدة ومرورا بالقارة الأوربية،وقلما تجد لغة لم يظهر فيها كتاب عنه أو ترجمة لأعماله. وبشكل خاص كان له تأثير واضح على الكتاب الأوائل للفكر الإستراتيجي الأمريكي الممثل بكل من William Duane و John Armstrong ،ثم Dennis Hart Mahan أستاذ التكتيك في West Point ، و Alfred Thayer Mahan ( ابن Dennis)، و المعروف بتحليله للقوة البحرية والذي ستتحول تعليماته و أفكاره إلى إستراتيجية بحرية. ولم يعرف تاريخ الثقافة الإستراتيجية الأمريكية تأثرا بكاتب آخر كما عرف تأثره بالكاتب Jomini .

ثانيا ـ Clausewitz.
يعتبر اليوم الأشهر من بين جميع المفكرين العسكريين. وضع كتابا شهيرا تحت عنوان Vom Kriege وهو يقابل كتاب “الأمير” عند ميكيافلي،ولقد أصبح مرجعا لمعظم المفكرين الإستراتيجيين،وقلما نجد كتابا إستراتيجيا لم يأخذ منه. ولد Clausewitz في عام 1780 . لديه خبرة عسكرية طويلة وتجارب من خلال مشاركته في الحروب. أول كتابة إستراتيجية له كانت بعنوان ” نقد عميق لنظام الحرب عند von Bülow. في عام 1806 بدا بالإعداد لأكبر مؤلف له ثم بدأ كتابته بعد عام 1815، عندما وصلت حياته العسكرية إلى طريق مسدود.

كتب العديد من المؤلفات التاريخية حول الحملات العسكرية لكل من Turenne, Frédéric II و ثورة الإمبراطورية. ومن خلال القاعدة التاريخية التي يمتلكها استطاع وضع كتابه opus magnum ويضم ثلاثة كتب هي: تحليل للحرب الكبرى أو الإستراتيجية، تحليل للحرب الصغرى، وأخيرا تحليل للتكتيك. بسبب موته المفاجئ، لم يستطع Clausewitz إكمال هذا المشروع الضخم حول الفكر الإستراتيجي.فمن كتاب “تحليل التكتيك”، لم يبق إلا بعض الصفحات التي لم تشد انتباه أحدا .إما كتاب “الحرب الصغرى” فد فقد بكامله، ولم يبقى منه سوى المحاضرات التي ألقيت عنه في Kriegsakademie في عام 1810. وأخيرا كتاب “تحليل الحرب الكبرى” فقد استطاع إكماله، ولكنه يشير في أعلى المخطوطة وبوضوح: إلا أن الفصل الأول من الكتاب هو وحده كامل أو منجز من الناحية الفكرية.

ووفق ملاحظة تمت كتابتها في 10 تموز عام 1827، Clausewitz حقق مرحلة جديدة في تفكيره الاستراتيجي،حيث تركز على الحرب كاستمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى وعلى قاعدة التمييز بين الشكلين أو وجهي الحرب. وأخيرا نقول بان القراءات الدوغمائية للفكر الإستراتيجي عند Clausewitz أدت إلى تعليقات و تحليلات مختلفة ومتغايرة ومن ثم إلى نتائج مختلفة زادت من تعقيد نظريته. و نضيف أخيرا أن كتابه السابع كان حول “الهجوم”، وكتابه الثامن حول “مخطط الحرب”، وهما غير مكتملين.

ثالثا ـ New- clausewitziens.
إن Clausewitz لم ينشر شيئا من دراساته وهو على قيد الحياة، لأنه كان يعتقد بأنها لم تصل بعد إلى مرحلة الإتمام والكمال. وبعد وفاته عمدت زوجته إلى نشر مخطوطاته في عشر أجزاء ما بين عامي 1832 و 1837. ردة الفعل حول فكره الإستراتيجي كانت متغايرة كما أشرنا سابقا، وهذا لم يساعد في نفاذ 1500 نسخة من كتاباته كانت قد طبعت خلال 15 عاما. في فرنسا مثلا لم يكن معروفا بشكل جيد إلا بين قلة من الأفراد. وفي عام 1880 نشر بحث عنه في دورية فرنسية شهيرة le Spectateur militaire من قبل ضابط من أصول بولونية وهو Louis de Bystrzonowski .

وسننتظر حتى عام 1870 حتى نرى انطلاقة Clausewitz وانتشار سمعته كمفكر إستراتيجي،ويعود هذا لأسباب قومية أكثر منها أسباب فكرية. فالإمبراطورية البروسية المنتصرة في Sadowa عام 1866 وفي Sedan عام 1870،كانت تبحث عن شرعية نظرية لتفوقها الميداني ودراسات Jomini التي تحدثنا عنها سابقا لم تكف هذه الإمبراطورية أو ترضيها، خاصة لأنه سويسري وكان في نفس القوت منظرا للاستخبارات و المعلومات عند نابليون، ونضيف أنه كان ينتقد فريدريك الثاني من وقت لآخر. Clausewitz كان بروسيا حقيقيا ورأى فيه فريدريك الثاني نموذجا له، كما كان مرضيا للقراء الألمان.

إذا بعد الانتصارات الألمانية، حاولت الكثير من البلدان تقليد النموذج الألماني والمعلم الجديد للنظرية الإستراتيجية. من هنا تمت ترجمة Clausewitz للكثير من اللغات. وفي ألمانيا نفسها أصبح Clausewitz مرجعا قانونيا لهذا الفكر، أما كتابه Vom Kriege فقد قام أكبر القادة آنذاك Schlieffen بكتابة مقدمة له،وذلك في عام 1905. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن تركيز Clausewitz على السياسة كحل ومن ثم ثانيا على الدفاع تم رفضه من قبل الكثيرين أو تم تجاهله. فالمعجبين بكتاباته بحثوا فيها عن الحجج التي تدعم أفكارهم في الهجوم أثناء المعارك الفاصلة.

في فرنسا التي كانت ضحية لألمانيا وخصما مصنفا في أي حرب جديدة، أظهرت الكثير من المصلحة في قراءة Clausewitz وخاصة بعد هزيمة عامي 1870/1871. ومنذ عام 1880 إلى 1905، ستظهر فيها موجة عارمة من أنصار مدرسة Clausewitz. وكانت البداية مع قائد الجيوش Cardot في”المدرسة الحربية العليا” حيث حاضر عن Clausewitzمنذ عام 1884، وبعد ذلك من خلال دراسة للكابتن Georges Gilbert في عام 1887. وقامت المدرسة الحربية فيما بعد بترجمة معظم الحملات العسكرية التي كتبها Clausewitz. أما الكتاب الألمان والفرنسيون فقد اختلفوا حول شرح حروب نابليون من قبل Clausewitz، فالفرنسيون يقولون أن الإستراتيجي الألماني لم يحلل نابليون بشكل كاف أو صحيح،والألمان يباركون هذا الشرح والتحليل.

بالنسبة للعالم الأنكلو ـ سكسوني فقد بدا أنه أكثر تحفظا وتكتما تجاه كتابات Clausewitz.ففي عام 1834 ترجمت وفي مرجع إنكليزي وآخر أمريكي بعض الصفحات التي لم تتجاوز العشرين والتي أخذت من كتاب Vom Kriege. أما الأعمال الكاملة فلن تترجم إلا مع العقيد Graham في عام 1873 وسوف يتخلل الترجمة الكثير من الأخطاء والتي ستصحح على يد F.N Maude في عام 1908. لكن هذه الأعمال أصابها فشكل كبير في العالم الأنكلو ـ سكسوني، حيث لم يطبع منها سوى 69 نسخة خلال 12 عاما.

فالشكل الفلسفي لأعمال Clausewitz اصطدم بالبراغماتية البريطانية. فبالنسبة للإستراتيجي Corbett الذي أيد المقاربة التي وضعها Clausewitz حول الإستراتيجية البحرية،فقد بقي حالة استثنائية. أما Fuller و Liddell Hart،وبعد قراءة Clausewitz لم يجدا العناصر التي تتوافق مع نظريتهما . في الولايات المتحدة كان هناك ازدراء عام لكتابات الإستراتيجي Jomini وبقي هذا الوضع قائما حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وقد كتب “ريمون آرون” في عام 1976 عن هذه الوضع قائلا:” من بين الأسماء الكبيرة التي تعمل في الحقل الإستراتيجي في الولايات المتحدة، فقط Bernard Brodie هو الذي قرأ Clausewitz بشكل عميق” .

في إيطاليا، لم يقرأ Clausewitz إلا بشكل قليل في القرن التاسع عشر. واكتشافه بشكل حقيق كان على يد الكاتب الإستراتيجي Emilio Canevari،عندما كتب عنه مؤلفه ” Clausewitz e la guerra odierna” (Clausewitz و الحرب اليوم) . وفي إسبانيا، كان العقيد Banus Comas في كتابه “Estrategia” الصادر في عام 1887 واحدا من النادرين الذين قرؤوا Clausewitz. وسوف ننتظر حتى عام 1908 لنرى ظهور أول ترجمة لأعماله في الإسبانية.أما الترجمة الكاملة فلم تظهر ألا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم يصبح Clausewitz معروفا في هذا البلد بشكل جيد حتى عام 1970. وبعد هذا العام انتشرت ترجمته إلى معظم اللغات الأوربية،وحتى الصينية،العبرية،الاندونيسية،والعربية بشكل بسيط أو جزئي. أما الروس فقد أولوا اهتماما خاصا لكتاباته وكان له تأثير كبير على المكتبة الإستراتيجية الروسية .

سابعا ـ الإستراتيجية في القرن التاسع عشر.
أولا ـ المدرسة الألمانية.
يشير Jomini في كتاباته و ينقل عن Bavarois Xylander, Wurtembergeois Theobald, Müller, Valentini, Decker, Hoyer وهؤلاء كلهم من الجنرالات، ونسي أن يضيف عليهم الماجور جنرال Hôheren Kriegskunst. وفي نفس الوقت يرى الكثير من مؤرخي الإستراتيجية أنه أيضا نسي أن يذكر أكبر استراتيجيين سبقا Clausewitz وهما الجنرالان Von Lossau و Rühle von Lilienstern . ولكن لا بد من القول هنا أن Clausewitz هو الذي أنقذ المدرسة الألمانية من جمودها.

ثانيا ـ المدرسة الإيطالية.
عرفت إيطاليا إنتاجا إستراتيجيا غزيرا في هذا القرن. تركز هذا الإنتاج بشكل كبير عند Joseph Pougni-Guillet وخاصة في عمله ” عناصر للإستراتيجية والتكتيك” كتبه في عام 1832، و Paul Racchia في مؤلفه ” تحليل دقيق لفن الحرب” كتبه في عام 1832. ثم جاء Enrico Giustiniani في “دراسة حول تكتيك الأسلحة الثلاثة بشكل منعزل ومجتمع” في عام 1848.أما الكاتب الإستراتيجي الأكثر شهرة في إيطاليا النصف الأول من القرن التاسع عشر كان Luigi Blanch ،ويعتقد أنه كان فيلسوفا للحرب أكثر مما هو إستراتيجي. إلى جانب هؤلاء ظهر تصنيف آخر للإستراتيجيين الإيطاليين،الأول سمي Scolastiques أو المقرّب من الأوساط الرسمية، والثاني Laïc وهم مجموعة من المفكرين المستقلين كان صوت النقد “نقد الحرب” لديهم مرتفعا بشكل أكبر.

ثالثا ـ المدرسة الروسية.
تابعت المدرسة الروسية تقلباتها بين طريق وطني حصرا، وطريق فيه بصمات أجنبية . الجنرال Nicolas Medem في كتابه ” Obozrenie isvestnjchich pravil i sistem strategii” (دراسة حول القواعد والأنظمة المعروفة للإستراتيجية) صادر في عام 1836،يحلل كتابات كل من Lloyd, Bülow, Jomini, Clausewitz ؛ ثم في كتابه Taktika في عام 1837، يعلن العودة إلى Souvorov الذي سينتشر في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. أما العقيد M .I Bogdanovich فقد كرّس كتابه Zapiski strategii (دراسة الإستراتيجية) 1847،من أجل دراسة نابليون.

ثم يأتي الجنرال Astafev ليحلل “فن الحرب الحديثة”،في كتاب تم وصفه بأنه من التيار الإصلاحي الذي ظهر بعد الهزيمة،وقد صدر الكتاب تحت إشراف Dimitri Milioutine ،وهو مؤرخ عسكري معروف في روسيا ووزيرا للحرب في عام 1861 وحتى 1881. وأيضا سنقرأ مع الجنرال Okounieff كتابه “مذكرات حول مبادئ الإستراتيجية” 1831،وتعليقاته الإستراتيجية حول حملة عام 1812،هذه التعليقات التي ترجمت إلى الفرنسية في عام 1841،وإلى الألمانية في عام 1876.

رابعا ـ المدرسة الفرنسية.
يلاحظ أن الإنتاج الاستراتيجي الفرنسي كان تحت هيمنة كتاب ألفه المارشال Marmont تحت عنوان “روح المؤسسات العسكرية” وظهر في عام 1845 ثم أعيد نشره في عام 1865. ذهب اليوم ضحية للنسيان،ولكن عمله يتركز في الواقع حول النظرية العامة للفن العسكري،تنظيم الجيوش،العمليات المختلفة للحرب،وأخيرا فلسفة الحرب . عمليا، السنوات الممتدة من 1815 على 1870، عرفت استقرارا سياسيا في فرنسا . فالنقاش حول الجيش لم يكن على مستوى عميق أو واسع.مع بدايات القرن العشرين ستعرف فرنسا إنتاجا آخرا للعلوم الإستراتيجية،سوف نتطرق إليه في الفقرات القادمة.

ثامنا ـ القرن التاسع عشر و مأسسة العلم العسكري.
بدأت التغيرات تظهر على التفكير الإستراتيجي وفي كل أبعاده بعد عام 1870. فبعد أن كان هذا التفكير مقتصرا على أقلية من الضباط والجنرالات “باستثناء ألمانيا”،أصبح عنصرا أسياسيا من عناصر تكوين الضباط الكبار في الجيش. لهذا السبب انتشرت المدارس العسكرية في معظم الدول والتي شجعت على ما يسمى التفكير الاستراتيجي. أيضا بعد عام 1870 ازداد عدد المطبوعات و الكتب الإستراتيجية في معظم أنحاء أوربا بالإضافة للمخطوطات و المراجع الكبيرة . ولكن علينا القول هنا،أن معظم المطبوعات أعطت مساحات كبير للحديث عن الجغرافية العسكرية والتكتيك،لكن التقدم نحو العلوم الإستراتيجية كان بطيئا.

ـ إعادة اكتشاف الإستراتيجية.
بعد تراكم الدراسات حول التكتيك، بدأت وفي عام 1880 تظهر دراسات أخرى تعطي الفكر الإستراتيجي أبعادا أخرى أعمق و اشمل. ففي ألمانيا أخذ الفكر الإستراتيجي هذه الأبعاد الجديدة مع المارشال Colmar von der Goltz وهو من أشهر الكتاب في تلك المرحلة لاسيما في كتابه ” Das Volk in Waffen” ( الشعب في الجيش) والذي صدر عام 1883،ثم ترجم إلى الفرنسية ام 1884،الإنكليزية 1887،الإسبانية ،التركية،السويدية 1887. أيضا كتاب العقيد Wilhelm von Blume ” Die Strategie” 1882،وترجم إلى الفرنسية في عام 1884،السويدية عام 1887،الروسية عام 1899.

لكن الحوار حول الإستراتيجية بعد ذلك أخذ طابع الجدل وأحيانا الصراع الفكري مع كتاب ” تصارع الإستراتيجيات” الذي وضعه المؤرخ Hans Delbrück والذي يفسر فيه الحروب التي قام بها فريدريك الثاني. ومع بداية عام 1910 سنعود بسرعة مع الجنرال Friedrich von Bernhardi إلى التأليف حول الأفكار الإستراتيجية في كتابه ” Vom heutigen Kriege” (الحروب الحالية) والصادر في عام 1912، ترجم إلى الروسية عام 1912،الإنكليزية عام 1912،الفرنسية عام 1913،اليابانية 1914. عمليا،الكتابات الإستراتيجية سوف تنتشر في معظم القارة الأوربية و الولايات المتحدة : في بريطانيا مع W.H. james وكتابه ” Modern Strategy” صادر عام 1904؛ H. Tovey وكتابه ” Elements of Strategy”؛ ثم F.N Maude وكتابه ” The Evolution of Moderne Strategy from the XVIII Century” صادر في عام 1905. وفي الولايات المتحدة مع John Bigelow في كتابه” Principles of Strategy” الصادر في عام 1891؛ ثم Arthur Wagner في كتابه ” Strategy” الصدر عام 1903.

تاسعا ـ الإستراتيجية في القرن العشرين.
بدأ في عام 1914 نقاش حاد حول التغيرات الجذرية للفن العسكري،مع هيمنة مسبقة للجانب العملي على النظري. والعديد من الملفات عن هذه الفترة تشهد بالأفكار التي فرضتها الأحداث ،خاصة أن معظم العسكريين لم يكن لديهم الوقت للكتابة،فإما كانوا على الجبهات أو في قيادة الأركان الخاصة بالعمليات العسكرية. وهذا عمليا ما يفسر الغياب شبه الكلي للمنشورات و المطبوعات العسكرية في تلك الفترة. ومع بدء الحرب العالمية الأولى كانت العلوم الإستراتيجية قد أصبحت طيّ النسيان،ولكن هل يعني أنها اختفت تماما ؟

في الواقع، الكثير من المفكرين والكتاب تحدثوا عن العلوم الإستراتيجية ولكن ليس في كتب أو مراجع،بل في مقالات صحفية ظهرت هنا وهناك،وفي بعض الكتب غير العسكرية أو غير المتخصصة. من بين هؤلاء كان البريطاني Charles الذي كتب في صحيفة Times وقد قدم فكرا إستراتيجيا حقيقيا في بريطانيا والولايات المتحدة. أيضا Spenser Wilkinson الذي ترك العمل الصحفي في عام 1909 ليصبح أستاذ “التاريخ العسكري” في جامعة أكسفورد،وقد كتب أثناء الحرب “First lessons in War 1914″، ثم ” Gouvernment and the War 1918″.

في ألمانيا، قام Lucia Frost بإدخال بعض التعليقات حول أعمال Clausewitz في مرجع يهتم بالأدب بشكل عام. وفي فرنسا، يمكننا متابعة دراسات عسكرية منتظمة في المرجع ” La Revue des deux-mondes، La Revue de Paris ، La Revue universelle… . في سويسرا، كتب العقيد Ferdinand Feyler مجموعة من التعليقات حول الحرب العالمية الأولى منها ( مدخل إستراتيجي عام 1915؛ و مشاكل إستراتيجية مستفادة من الحرب الأوربية عام 1918). ولا بد من الإشارة هنا إلى “المرجع العسكري السويسري” الذي بقي له تأثير مهم، كما هي مجموعة “المراجع العسكرية الأمريكية”.

مع انتهاء عام 1918،كانت المفاهيم الإستراتيجية النظرية قد أعيد بناؤها. فكل القناعات و التأكيدات السابقة تعرضت للانهيار مع نهاية الحرب الأولى. أما سيتركز من هذا التاريخ بين الذين يأخذون بالمذهب العسكري الجديد حول الجبهة المستمرة وتفوق العمل الدفاعي ،و المجددين الذي يريدون استثمار الإمكانيات الجديدة المفتوحة بواسطة الأسلحة الجديدة التي استخدمت أثناء الحرب،وأهمها الدبابة والطائرة .

ـ الفكر الإستراتيجي في الثلاثينات: بين التجديد و الجمود.
في الثلاثينات من القرن الماضي بدا وكأنه هناك نزعة للتشدد فيما يتعلق بهذا الفكر.ففي إيطاليا كتب الجنرال Visconti-Prasca كتابا أخذ شهرة كبيرة تحت عنوان ” La Guerra decisiva” (الحرب الحاسمة) في عام 1934،ترجم للألمانية والفرنسية في عام 1935. يدعو الجنرال في هذا الكتاب إلى العودة لعقيدة الهجوم. وفي فرنسا أيضا لم يتوقف التيار المتشدد في الفكر الإستراتيجي عن الظهور كما يتبين ذلك مع كتاب الجنرال Chauvineau بعنوان “هل الاقتحام مازال ممكنا؟” وقد صدر في عام 1939، وهو مثال جيد على عودة المحافظين إلى داخل هذا الفكر.

أيضا في ألمانيا، فقد أخذ هذا الاتجاه توسعا كبيرا مع العديد من منظريه وأهمهم: Wilhelm Reinhardt, Alfred Krauss, Waldemar von Erfurth, Herman Foertsch. وفيما يتعلق بعقيدة الهجوم،فقد أحدث الألمان تطورا كبيرا بعد تصنيعهم وامتلاكهم بشكل كبير لكل من الطائرة و الدبابة. ونذكر هنا أن الإستراتيجيين الألمان تأثروا كثيرا بالمنظرين الإستراتيجيين البريطانيين مثل Azar Gat . أما في روسيا فقد حاول السوفييت تطوير نظرية أصيلة وخاصة بهم. والكاتب الأكثر شهرة في هذا المجال كان الجنرال Alexandre Svechin في كتابه ” Strategija” الصادر عام 1926. ويصنف اليوم كمؤلَّف كلاسيكي. ساهم كتابه بتأسيس ما يسمى بالمذهب”الواقعي”، وقد دعم الماركسي الشهير “تروتسكي” هذا المذهب قائلا :” لا يمكننا بناء قاعدة للحرب مع الماركسية”.

عمليا اصطدم هذا المذهب ومعه تروتسكي بكتابات Mihail Frounze المدعوم من قبل المارشال Toukhatchevski الذي يدعو إلى “مذهب عسكري واحد لا يتغير”، والذي يجب أن يكون ” التعبير عن الإرادة الواحدة للطبقة الاجتماعية في السلطة”. هاجم Toukhatchevski خصومه من الجانب الإيديولوجي مما أدى فيما بعد لتصفيته ومعه أيضا Svechin. في عام 1939،وصل الفكر الإستراتيجي إلى حالة مختلفة تماما عما كان عليه في عام 1914، حيث لم يعد هناك إجماع عقيدي،بل على العكس أصيب بفجوة كبيرة وقعت بين المحافظين و المحدثين.

ـ الفكر الإستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية.
الحرب التي اندلعت في سبتمبر 1939 أحدثت انقلابات جذرية في المذاهب الإستراتيجية التي كانت سائدة بين الحربين. فالخطط الإستراتيجية لم تعد على مستوى حرب صغيرة أو كبيرة بل أصبحت على مستوى العالم ككل،ومن أهم أسباب هذا التغير هو التطور الحاصل في جميع صنوف الأسلحة المستخدمة. إذا أصبحت الأسلحة تفرض قوانينها ،أما الإستراتيجيات فتجرب جميعها في ميادين المعارك. مع ذلك،التفكير و التنظير الإستراتيجي لم يختف من البلدان الأوربية،حيث استمرت العديد من المراجع والمطبوعات الإستراتيجية النظرية بالظهور خلال الحرب.

إن الحدث الأهم الذي عرفته الحرب الثانية هو الصعود القوي للولايات المتحدة الأمريكية.وهذا ما ترافق أيضا في ميدان التفكير الإستراتيجي النظري. ومن المعروف أن هذا البلد لم يكن بعد قد أنتج تلك المراجع الكبرى في العلوم الإستراتيجية،طبعا إذا استثنينا Mahan. خروج الولايات المتحدة منتصرة في الحرب الثانية جعلها تهتم كثيرا بالميدان النظري للعلوم الإستراتيجية ولاقى هذه الاهتمام اتساعا كبيرا على المستوى العالمي. فقد بدأت الجامعات الأمريكية بوضع البرامج البحثية التي تقرأ وتحلل الفكر الإستراتيجي الأوربي: مثلا Edward Mead Earle أطلق دراساته حول كبار الإستراتيجيين الأوربيين في كتاب له تحت عنوان ” Makers of Strategy” صدر في عام 1943،وترجم للفرنسية في عام 1982،وقد استمر هذا المرجع نصف قرن من الزمان كأحد أهم المراجع في هذا المضمار.

أيضا Stephen Possony أدار برنامجا ضخما للترجمة لجميع الإستراتيجيات الكلاسيكية. والعددي من المحللين درسوا تحولات وتغيرات الحروب البرية و البحرية. ومن هنا بدأت تظهر ملامح تيار جديد في العلوم الإستراتيجية،هذا التيار سيؤسس لما سنسميه فيما بعد بالجيوإستراتيجية. ويمكن القول هنا،إن القوة العالمية للولايات المتحدة ليست فقط وليدة ظروف معينة،بل هي أيضا ناتجة عن برنامج ناضج من التفكير والبحث قبل أن يوضع في التنفيذ. حيث بالنسبة لهم النظرية توجه وتغني التطبيق العملي.

الفصل الرابع الإستراتيجية كنهج وطريقة
1ـ بين النموذج السياسي و النموذج العسكري.
عبر التاريخ الطويل للفكر الإستراتيجي نكتشف التغيير أو الاضطراب بين ما يمكن ان نسميه بالنموذج السياسي و النموذج العسكري. الأول يربط الإستراتيجية ببعد سام ومتفوق هو البعد السياسي،و بالقيادة العامة للحرب،بينما الثاني يتمركز ضمن إطار صارم من تنظيم الجهاز العسكري وقيادة العمليات و المعارك.هذه الثنائية تم التنظير لها في القرن العشرين مع التمييز بين الإستراتيجية الكبرى أو العامة، و القيادة الدبلوماسية ـ الإستراتيجية و الإستراتيجية العملياتية. ولكن في الواقع هذا التمييز وجد منذ القرن الثامن عشر،أي منذ ظهور الفكر الإستراتيجي.

أيضا،هذه الثنائية ستوجد في العلوم الإستراتيجية المعاصرة. Jomini كان قبل كل شيء مفكرا عسكريا كما تشهد بذلك عناوين أولى مؤلفاته: ” تحليل العمليات الكبرى” ، ” التاريخ العسكري لحروب الثورة”. بينما نجد Clausewitz يربط بشكل واضح بين الحرب ونهاياتها السياسية. في الواقع، إرث Jomini سيهمن على الفكر الإستراتيجي طيلة القرن التاسع عشر، أما أولوية الفصل بين السلطة السياسية و القيادة العسكرية ستقود إلى انتصار النموذج العسكري حتى عام 1914. والسبب أن القلق الوحيد كان في كيفية الانتصار في حقل المعركة من غير الأخذ بالحسبان لمصطلحات السلام التي ستهتم بها فيما بعد السلطة السياسية.

سنرى أن النموذج السياسي في الإستراتيجية سيعود للظهور مع أواخر القرن التاسع عشر،عندما بدأ الكتاب يفكرون بما يسمى الحرب الصناعية والإيديولوجية. أيضا البعد السياسي سيظهر عند الكاتب von der Goltz في كتابه ” الأمة المسلحة”. ما بين الحربين العالميتين كان هناك اقتسام للنزعتين السياسية والعسكرية،لكن النزعة العسكرية كانت أكثر هيمنة لاسيما مع الاختراعات العسكرية الجديدة (الطائرة،الدبابة،الغواصات). أما القطيعة الحقيقية بين النموذجين كانت بعد عام 1945، حيث ظهرت قوة النموذج السياسي،وكان هذا شيئا طبيعيا بعد الوصول إلى اختراع القنبلة النووية حيث منعت التفكير بوسائل لها غايات عسكرية فقط. هذه الأولوية للسياسة بقيت حتى اليوم،حتى ولو أن بعض الكتاب العسكريين حاولوا إبقاء فكر يستلهم التكتيك مبعدين منه البعد السياسي.

2ـ إيديولوجية و إستراتيجية.
إن عودة النموذج السياسي وبقوة على الساحة،طرحت سؤالا جديدا طالما تم تجاهله، وهو العلاقات بين الإيديولوجية و الإستراتيجية. في البداية،المعرة الإستراتيجية تم إدراكها كجزء أساسي من عملية تقنية،أما كجزء من إيديولوجية عامة للمجتمع،فلم تأخذ قيمتها سوى بشكل بسيط جدا. ونكتفي بالإشارة هنا إلى أن أحد كبار الإستراتيجيين مثل Clausewitz تأثرا كثيرا بالمفكرين الألمانيين هيغل و فيخته وكبار المؤلفات الفلسفية في عصره. ويعتقد بعض مؤرخي علم الإستراتيجية أنه كان استثناءا من بين الكتاب الإستراتيجيين في ذلك الوقت.

اليوم مع تعيق الأبحاث والدراسات يمكننا فهم السياق الأيديولوجي التي ظهرت فيه النظريات الإستراتيجية، ثم تطورت وتراجعت . اليوم أيضا نحدد الاختلاف بين المعنى الذي يكون إستراتيجيا خالصا للمذاهب التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر والتي تركزت على الهجوم،والإيديولوجية الهجومية التي استولت على العقول والنفوس. إذا الإستراتيجية توقف علن أن تكون معرفة “روحية” لها سمو وتفوق، لتدخل ضمن البيئة التي تعيش فيها وتصبح جزءا منها. ربما يكون من الضروري معرفة التأثيرات التي مورست على هذا الكاتب أو ذاك،ولكن هذه المعرفة لا تكفي للقول أن كاتب إستراتيجي معين استطاع بناء نظرية أو مذهب إستراتيجي فقط لأنه قرأ فيلسوفا أو مجموعة من المؤلفات الفلسفية، لأن التأثيرات الإيديولوجية والفلسفية،لوحدها، لا يمكنها أن تبني نظاما أو نسقا فكريا.

بالإضافة لذلك، حتى ولو اعترفنا بتعدد وكثرة التأثيرات الخارجية،أيضا لا يمكننا القول أنها بديل ع تفكير وتجربة الإستراتيجي أو الكاتب الإستراتيجي،كما أن النظريات الإستراتيجية أو المذاهب الإستراتيجية ليست انعكاسا بسيطا لإيديولوجية عامة سائدة.

3ـ المدارس الإستراتيجية.
بالإضافة للتعدد الذي لا يمكن تجنبه في تيارات الفكر الإستراتيجي، يمكننا أيضا تمييز ثلاثة مدارس كبيرة ظهرت بشكل متعاقب وهي ما تزال موجودة:
1ـ المدرسة الكلاسيكية، وتتركز حول قيادة الحرب،وتجمع كل المنتمين إلى المفهوم التقليدي للحرب حول نموذج واحد : هو النصر. ترى هذه المدرسة أن الإستراتيجية هي فن الجنرال وهي معرفته التي يتمتع بها كقائد أو كعبقري،معرفة تسمح له وتحدد مدى استعداده للنصر أو الهزيمة.

2ـ المدرسة الكلاسيكية الجديدة، وظهرت في نهاية القرن التاسع عشر،وقد ساهم في ظهورها تقدم العلوم الاجتماعية و الدراسات العلمية.هذه العلوم أعطت بعدا جديدا ووعيا للظروف والبيئة التي يمكن أن تحيط بالإستراتيجية. بقي نموذجها يستند على مفهوم تحقيق النصر،ولكن الحرب هي من الآن فصاعدا تدخل في أفق صراعي أكسر ضخامة واتساعا،كأن يكون لدينا إستراتيجيات للسلام ليس فيها بعد عسكري.من أهم أعلامها الأميرال Castex في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، و Bernard Brodie في الولايات المتحدة الأمريكية،وأخيرا Beaufre في فرنسا.

3ـ المدرسة الحديثة،لم تتطور هذه المدرسة بشكل حقيقي إلا بعد عام 1945.ترك هذه المدرسة نموذج النصر الذي تسعى الحرب لتحقيقه،وبدأت تقرأ الإستراتيجية كعلم اجتماعي لا يمكن وضع حدود له فقط داخل حقل الصراع و المعارك.هذه المدرسة أو الإستراتيجية الحديثة كانت عملا أو نتيجة لباحثين مدنيين،أيضا شارك فيها العديد من العسكريين. إشكالية هذه المدرسة كانت في التمييز بين هؤلاء الذين بالفعل جددوا نظرية الإستراتيجية كما هو الحال مع Thomas Schelling في الولايات المتحدة أو الجنرال Lucien Poirier في فرنسا ؛ وأولئك الذين يكتفون بخطاب يستند على أفكار قديمة.

إن الاختلاف و الانقسام حول مفهوم الإستراتيجية في عالمنا المعاصر ليس إلا انعكاسا للانقسام والاختلاف حول النظام الاجتماعي بأكمله وخاصة في قرن عرف تغيرات جذرية وكبيرة على مستوى البشرية جمعاء.

أولا ـ الإستراتيجية كنظرية ومذهب.
يجمع الكثير من مؤرخي الإستراتيجية على أن المفاهيم التي ظهرت حولها هي ناتجة عن الفكر الاستراتيجي وعن الإستراتيجية كعلم. أو بشكل آخر،الإستراتيجية هي معرفة في خدمة الفعل أو التطبيق للإستراتيجية كفن.عمليا، العلم الاستراتيجي يتألف من جانبين مختلفين أو متميزين عن بعضهما وقد دعاهما Foch بالنظرية والمذهب .

1ـ النظرية.
بشكل عام النظرية تهدف إلى تعميق مفاهيم و مناهج معينة،وتريد الوصول إلى معرفة يمكن استخدامها بشكل عام وشامل،استخدام مستقل عن الجغرافية و التاريخ. إن أسس النظرية يمكن أن تكون متعددة ولكن مع ذلك يمكنها أن تؤسس نظرية موحدة. هذه التعدد وطبيعة متغيراته من الصعب تحديده. حيث نفس الوظائف والحاجات يمكن أن تؤدي إلى إجابات مختلفة بشكل كبير وذلك وفق المجتمعات. إذا يمكن القول هنا،إن بناء نظرية موحدة هو عمل في غاية الصعوبة.

مع ذلك،هذه الحالة و الصعوبة في بناء النظرية لا تؤدي بشكل أوتوماتيكي للأبحاث المتعددة والمتغيرة وفق المجتمعات التي تنشأ فيها.ومن غير أن ندخل هنا في التناقضات اللاهوتية حول طبيعة البشر،إنه من الضروري أن تنظيم المجتمعات البشرية يصل إلى درجات معينة من التعقيد المطابق لاهتمامات البشر. فبناء سياسة خارجية لدولة كبرى ولها قوة عظمى لا يشبه بناء نفس السياسة لدولة صغيرة هامشية.

عرف أحد علماء السياسة المعاصرين النظرية بأنها :” على الأقل مخطط،برنامج لتسجيل،تصنيف وترتيب المعطيات و المعارف.أيضا النظرية،على الأقل،تستطيع الحصول على قوة تنظيمية وقيمة نقدية” . بالإضافة لذلك،يمكننا تنظيم وظائف النظرية حول ثلاثة محاور وفق وظائف اللغة : أولا،وظيفة التعبير. فالوصول إلى الكتابة ليس تغيير بسيط،بل يجبر الكاتب ببذل جهد كبير وصارم.وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العسكريين يكتبون بشكل أكثر بساطة وعدم تعقيد،من رجال الدولة أو الدبلوماسيين ،وهذا يعني أنهم بحاجة وبشكل قوي إلى نظرية. فوظيفة التعبير،إنها النظرية الإستراتيجية في ذاتها أو هي نفسها،وهذا يعود للشخص الذي يكتبها أو يبنيها. ثانيا،وظيفة الاتصال. ومن خلال هذه الوظيفة “المعلم”ينقل معرفته إما إلى تلاميذ مختارين،كما كان في الزمن القديم،أو على قراء لا يعرفهم،كما حصل مع بداية العصور الحديثة. وتحول هذه الوظيفة من الحالة الشفهية على الكتابية حتى يتم ضمان وصول الرسالة ومعرفة أصحابها أو منظريها بشكل أفضل. ثالثا،وظيفة التمثيل.هذه الوظيفة تتخيل رموزا أو صورا إستراتيجية لم يتم وجدودها بعد. هذا البعد مرتبط بتحولات اجتماعية/سياسية تتعلق بتغيرات فن الحرب.وظيفة التمثيل أخذت أهمية كبيرة بعد النمو السريع في التقنية،ففي العالم الأكثر تعقيدا،الإستراتيجية تحتاج أكثر من أي وقت على مساندة نظرية تمثلها أو تقدمها.

إن هذه الرؤية للنظرية وأهميتها تجعلنا نطرح السؤال التالي: ما هي غاية النظرية؟ وهل هناك مقاربات مختلفة لهذه الغاية؟
المقاربة ” الواقعية” تقودنا للحديث عن الاختلاف و التنوع في البشر،ومدى قدرة النظرية على أن تُعَمَّم حيث تجردها سيصبح أكثر ضعفا،وربما تتحول إلى تاريخ. أما المقاربة”المثالية” هي أكثر طموحا،ولكنها أكثر صعوبة أيضا.فهي تتطلب دقة كبيرة في توظيف المفاهيم، هذه المفاهيم التي سيتم إدراكها كأفكار عامة ولكن ليست مطلقة.هذه المقاربة أيضا،ستضع تحت الضوء،وبالإضافة للتنوع والانقسام الذي نعرفه بعد التجربة التاريخية،جوهرا معينا سيخدم كنقاط علام من أجل بناء النظرية.الإستراتيجي الشهير Clausewitz اعترف بوجود شكلين للحرب،لأن المجابهة الواضحة للنظرية مع الخبرة الشخصية قادته للوصل إلى أن مفهوم الحرب المطلقة لا يأخذ بالحسبان شمولية الحرب الحقيقية ويضيف:” النظرية عليها أن تقبل كل هذا،ولكن واجبها هو بإعطاء المكان الأول للشكل المطلق للحرب،كنقطة مرجعية،لأن من يريد أن يتعلم الأشياء النظرية فإنه سيتعلم على ألا يفقد نهائيا الرؤية” .

أما تلميذه Rosinski فقد نقل تعليماته إلى الإستراتيجية البحرية :” نظرية مثالية ستشير بشكل قوي إلى أن السيطرة على البحر هي المفهوم الوحيد الذي من خلاله نظرية مطلقة ،كاملة و مرضية للحرب البحرية يمكن أن تتطور،حتى ولو أن هذا الهدف لا يصل لحد التطبيق” . إذا المشكلة الحاسمة هي في المصالحة بين المتطلب النظري مع براغماتية الإستراتيجية،أو في بناء نظرية لا تكون منقطعة عن الحقيقة التي لها قيمة عملية كبيرة. فالنظرية الإستراتيجية يجب أن تترافق بجرعة تجريبية. أو أخيرا،كما يقول “ريموند آرون” :” التفكير بكل وضوح،مفهوم الحرب و حقائق الحرب” .

إذا كان على النظرية أن ترتبط بالواقع والتجربة، فما هي المستويات المتعددة لهذه النظرية؟
إن النظرية تفترض جهدا من التفكير حول المفاهيم وحول المناهج أو الطرائق والتي يصعب تحقيقها في الكثير من الأحيان. إذا من الضروري وداخل التمييز الجوهري بين المذهب والنظرية أن نجري عملية من التصنيف أكثر دقة. بمعنى أننا نميز بين النظرية الإستراتيجية و التحليل الإستراتيجي،وذلك وفق درجة الدقة والصفاء الفكري.فالمنظر الإستراتيجي يسعى لتقديم عمل إبداعي وفق تفكير منهجي منظم،بينما المعلق الإستراتيجي له حدود تقف عند دراسة حالة معينة،معتمدا على نظريات أو منظرين إستراتيجيين.

كذلك،وضمن هذا التحليل يمكن أن نقول بأن Jomini, Clausewitz, Mahan, Corbett, Castex, Fuller, Liddell Hart, Douhet, Beaufre, Poirier, Schelling…هم منظرون إستراتيجيون، بينما Caemmerer, Mordacq, اللذان يعلقان على كتابات إستراتيجية في القرن التاسع عشر، و Puleston , Lepotier اللذان هما امتداد للإستراتيجي Mahan وآخرون كثيرون هم محللون إستراتيجيون.

في الواقع،لا يمكن الفصل النهائي بين النظرية والتحليل.كما هو الحال في علم اللاهوت والفلسفة،حيث تعليقات وتحليلات المؤسسين ترقى إلى تجديد كبير قد يصل إلى ثورة داخل هذه العلوم. أما المعيار الأساسي هنا كما في أماكن أخرى،هو الموهبة التي توضع في خدمة مشروع ما.أيضا يمكننا أنى منظرين إستراتيجيين لا يصلون على حد بناء نظرية متكاملة وفق ما يطمحون إليه،ونرى منظرين يقدمون قيما فكرية عظيمة لكنها تنهار مع أول تجربة عملية لها.

2ـ المذهب Doctrine .
يقول Lucien Poirier :” المذهب يسبق اختيارا محسوبا داخل مجموع النظريات الموجودة. يَستخرج منها مفاهيم يفضلها في عملية التطبيق أو الفعل”. (من كتابه ” الورشة الإستراتيجية الصفحة 129). إن المذهب له طابع محلي وليس شمولي،ويتم تبنيه ضمن إطار وطني،كما أن له نهاية أو غاية عملية كما يقول Jacques Laurent :” المبادئ القائدة،عندما يتم تشكيلها، تخدم كدليل أو مرشد في بناء القرارات العملية التي سنتخذها”.( من كتابه ” أداة من أجل الفكر العسكري السوفييتي”، الصفحة 47).

وقد ورد في الموسوعة العسكرية السوفييتية تعريفا للمذهب:” بأنه نظام من وجهات النظر التي تتبناها الدولة خلال فترة زمنية معينة، منطلقا من الأمور الجوهرية، الأهداف وطبيعة حرب ما قادمة، أيضا تحضير البلاد و القوات العسكرية لهذه الحرب ووضع الوسائل الممكنة”. أما الولايات المتحدة فقد عرّفت المذهب :” هو الدليل من اجل قيادة الحروب والعمليات الأخرى غير الحروب”.

في الواقع، الحوار المذهبي الإستراتيجي يجب أن يصل إلى نتيجة في تبني مذهب رسمي يتم فرض تطبيقه،وقد تم شرحه في تعليمات أو منشورات تؤسس قواعد أو كتابا أبيضا.القوات المسلحة الأمريكية تنشر بشكل دوري نصوصا مذهبية، وقد تم نشرها وتغييرها خلال سنوات متعددة (1954، 1963،1982،1986،1993 ).

في الواقع،تربط المذهب علاقة قوية بالنظرية : فالمذهب يحتوي عادة على النظرية بشكل واضح أو مبطن،مباشر أو غير مباشر. ولكن هذه العلاقة بين طرفي علم الإستراتيجية لم تتطور بشكل مماثل في العالم المعاصر. وهنا نستطيع القول أن النظرية هي بشكل جوهري عمل تراكمي،بمعنى أنها تستند في أجزائها على كتابات ماضية،وعلى مفاهيم ومناهج من الماضي تم تعريفها مسبقا،والهدف هو إغناء هذه النظرية ومحاولة وصولها إلى الكمال. على العكس من ذلك،المذاهب تأتي بشكل متتال أو متعاقب،أي بشكل متقطع،من غير أن نراها ترتبط بالمذاهب التي سبقتها أو التي تظهر وتنشر في مكان آخر،وحتى في الشكل العملي للعلاقة بين المذاهب،القطيعة لا تكون نهائية،إلا أننا نرى العلاقة بينها بطيئة،ضعيفة وكل مذهب إذا أراد الارتباط أو الأخذ من مذهب آخر فيكون من خلال محاكاته أو تقليده.في النتيجة، إن طرق ومناهج التعبير هي مختلفة بين الجانبين،النظرية و المذهب. وتبقى النظرية الإستراتيجية هي قبل كل شيء فكر منفتح،بينما المذاهب الإستراتيجية فيها الكثير من التستر على الأسرار و الأفكار،وخاصة فيما يتعلق بالشؤون الدفاعية.

بالاستناد إلى تحليل العلاقة بين النظرية و المذهب، نستطيع تحديد بعض الأمور المتعلقة بطريقة عمل المذهب.فعلى الخلاف من النظرية أو من النموذج الأمثل لها،المذهب لم يكن في أي يوم من الأيام حياديا،فهو يدار ويحكم بواسطة مبدأ الفعالية و الثبات. وهو من الأجل الاستخدام الداخلي والخارجي في نفس الوقت.

في الداخل،يهدف المذهب لخلق مجتمع أو تجمع من الفكر بهدف القيام بفعل ما.( انظر: Foch،مرجع سابق، الصفحة 101 ).فخلال العديد من القرون،كان عمل المذهب يتركز على تعريف طريقة وعمل الأسلحة،وهذا العمل بشكل عام لم يختلف من بلد لآخر إلا بشكل بسيط جدا.إذا كانت وظيفته،بالتحديد، وظيفة عملية،ونذكر هنا أن Clausewitz أبعد من حقل ومجال التفكير الإستراتيجي كل ما يتعلق بتحضير الحرب. فمجال المذهب كان محددا بصرامة ودقة ولم تتطور هذه الوظيفة إلا بشكل بطيء.

ومع التقدم التقني السريع،كان على المذهب وضع تعريف جديد لتوظيف الأسلحة،بمعنى ما هي الأسلحة التي يجب أن نستخدمها في البداية.وفي نفس الوقت،كان عليه الموافقة بتحديد مكان لأشياء جديدة أكثر كبرا من الماضي أو قبل عام 1789. ففي العصر الحديث كان على المقررين أن يواجهوا ضرورة الاختيار بين أمور متعددة. هذه الاختيارات تنتج بشكل أقل عن تطور موضوعي لإمكانية العتاد أو المواد، وشكل أكبر عن مفاهيم يجب اختيارها. فالتأخر التقني ليس فقط نتيجة للافتقار إلى الوسائل،بل ينتج أيضا عن التأخر و الجمود الفكري.

وعلى العكس،الذي أخذوا بمقاربة “فردية” يؤيدون أن طاقة المعركة و استخدام الذكاء في حالة معينة خاصة،بالنسبة للقادة،هي عوامل نجاح ذات قوة وتأثير أكبر من المذاهب التي توضع بشكل مسبق. وعمليا هذا الرأي يتفق بشكل كبير مع Clausewitz الذي يعطي دورا مهما للصدفة و الحظ أثناء الحرب.مع ذلك،هذا الأخير كان قد تحدث في السابق عن أن المذهب المشترك هو أفضل وسيلة لضمان فهم أفضل للأوامر والأنظمة الموضوعة. ولهذا السبب،في ظل غياب مذهب معين للقيادة في الحروب و المعارك،فإن موت أحد القادة العسكريين الكبار أو القادة المباشرين قد يؤثر بشكل سلبي كبير على المعركة أو الحرب.
بالإضافة لما سبق،وفيما يتعلق بانتشار المذهب بشكل واسع أو ضيق،يمكن القول أن المذهب هنا على عكس النظرية أيضا. فالنظرية في الغالب تنتشر بين “نخبة” فكرية،بينما المذهب ينتشر بشكل واسع،فليس القادة وحدهم من يفهمه ويعرفه، بل على المنفذين له أيضا أن يمتلكوا معرفة دقيقة للمذهب.

ثانيا ـ المناهج و الطرائق الإستراتيجية.
في طرحنا أو سؤالنا عن المناهج المستخدمة في العلوم الإستراتيجية،نكون قد وصلنا إلى موضوع بالغ الأهمية يتعلق بهذه العلوم. فعلم الإستراتيجية كما الفروع العلمية الأخرى لديه أصول معرفية أو إبستمولوجية،ولديه أيضا منهجه أو طريقته. ومن الإشكاليات المطروحة في هذا الشأن أمام الكتاب الإستراتيجيين أنهم لا يمتلكون تكوينا أو معرفة فلسفية أو أكاديمية تسمح لهم بإجراءات مقاربات معينة في الأفكار والمواضيع التي يطرحونها.

Clausewitz أحد كبار الكتاب الإستراتيجيين،كان قد درس جيدا الفيلسوف الألماني الشهير فيخته لأنه وعى مبكرا على أهمية التكوين الفلسفي للكاتب الإستراتيجي.مع ذلك يرى بعض مؤرخي الإستراتيجية أنه لم يصل إلى المرحلة التي تقدم فكرا نقديا،بل كان لديه كتابات عامة. ويقول “ماكس فيبر” في الحديث عن الإستراتيجيين:” معظمهم فهم هذا الحقل العلمي أو أدركه كمعرفة موضوعية مشيدة على قواعد شاملة وعالمية،ولكن علم الإستراتيجية،في الغالب، ليس إلا ترجمة لتجربة تاريخية محدودة ومحلية” .

أيضا الإستراتيجي الشهير Mahan، استبعد في دراساته أية نظرية شاملة للقوة البحرية انطلاقا من دراسة تاريخ بحري واحد لأوربا الحديثة. ونذكر هنا أنه في القرن التسع عشر،دراسة التاريخ كانت المصدر المفضل، إذا لم نقل الوحيد،من أجل دراسة الحرب. وقد ذكر نابليون هذا الموضوع أكثر من مرة عندما قال :” إذا أردت القيام بحرب هجومية مثل الإسكندر،هانيبال،القيصر، أو غيرهم، اقرأ،ثم أعد قراءة التاريخ فيما يتعلق بالثلاث والثمانين حملة قاموا بها، كن مثلهم أو قلدهم،وهذه هي الوسيلة الوحيدة لتصبح قائدا كبيرا”. ( من كتاب ملاحظات نابليون الأول، الجزء السادس، الصفحة 179).

إن هذا المصدر التاريخي تحول بشكل طبيعي إلى منهج، هو المنهج التاريخي والذي وصل إلى ذروته بين عامي 1880 ـ 1914، وتم تطبيقه في كل مكان،لاسيما في الإستراتيجيات البرية والبحرية،علما أن هذا المنهج تم الخروج عليه في العديد من الحالات في فرنسا وألمانيا، وأيضا على يد كبار مؤسسي الإستراتيجيات البحرية وأهمهم الأمريكي Alfred T.Mahan و البريطاني Philip Colomb. من جهة أخرى،كان هذا المنهج في منافسة كبيرة مع منهج آخر لا يعتمد على التاريخ بل على “الحاضر” بمعنى أنه اعتمد على مقاربة أخرى وهي التقدم الكبير والجذري في المجال التقني و على الثورة الصناعية. وكانت بداية التمييز بين المنهجين مع البريطاني Reginald Custance الذي ميز بين المنهج التاريخي و المنهج المادي في بداية القرن العشرين في كتابه ” Naval Policy” الصادر عام 1907.

أما الكتاب العسكريون في نهاية القرن التاسع عشر،فقد فضلوا مواجهة المنهج التاريخي بمنهج آخر هو المنهج العقلاني ،والذي وجد أصوله في المقاربة الهندسية عند التكتيكيين في العصر الحديث. من جهتها،الجغرافية العسكرية بنت منهجها الخاص في البحث الإستراتيجي. أما بالنسبة للمنهج العقلاني والمنهج الوضعي فهما متجاوران بشكل كبير إذا لم نقل أنهما متماثلين في الكثير من الحالات،والتفريق أو التمييز بينهما يعود لاعتبارات تاريخية. أما فيما يتعلق بالمنهج الفلسفي فإنه يتميز من خلال موضوع الدراسة الخاص به أكثر مما يتميز بالطريقة،وهو ليس إلا تطبيق نوعي للمنهج العقلاني.

1ـ المنهج التاريخي.
وهو الأكثر استخداما،أو على الأقل كان كذلك حتى الثورة النووية.هذا المنهج يعتمد المقارنة و التجربة أيضا،ولكنه لا يعتبرهما عملين إجباريين في البحث. الإستراتيجي والجنرال البروسي Scharnhorst،في نهاية القرن الثامن عشر، فضّل العمل على أمثلة قليلة، ولكن على أن تتم دراستها بعمق. أما الجنرال Hubert Bonnal،في نهاية القرن التاسع عشر، وضع منهجا يتألف أو يقوم على مثال واحد بهدف الوصول لنتائج إستراتيجية أكثر منها تكتيكية. بشكل عام، المنهج التاريخي كان يهدف من خلال مقارنة التجارب التاريخية المتعددة،الوصول إلى وضع قوانين أو قواعد محددة.لقد عرف هذا المنهج العديد من الصعوبات أو عدم الوصول إلى القناعة التامة به كمنهج متكامل. من هذه الصعوبات هي الطابع غير الكامل أو غير الأكيد للمصادر خاصة القديمة منها.

2ـ المنهج الواقعي.
تحت اسم هذا المنهج تختفي الطريقة المادية القديمة التي تتأسس على وسائل موجودة في بيئة محددة أكثر مما تتأسس على معاينة موروثة من الماضي والتي ليس لديها الكثير لتقديمه لنا. فالكثير من الدروس التي استفيد منها في حروب ماضية لا يمكن الاستفادة منها الآن كما لا يمكن استخدامها.ونشير هنا أننا عندما نقول منهج “مادي” فإن هذه التسمية لا تقتصر على جانب مادي مطلق،لأن العوامل الإنسانية يبقى لها دور بالغ الأهمية،وأيضا استطاعة الوسائل المادية يجب أن تترافق و تتوافق مع الطريقة التي نريد استخدام هذه الوسائل فيها.

في الواقع،المنهج الواقعي سوف يعمل على وضع الإستراتيجيات وفق عمل وسير الوسائل الممكنة.وهو ينقسم إلى فرعين: المنهج الموضوعي والذي سيرتبط بقدرة الوسائل المتاحة، و المنهج الذاتي/الشخصي المرتبط بالمذاهب المستخدمة والتي يمكن ألا تتطابق مع القدرات القصوى للوسائل المتاحة،أو ألا تتأقلم نهائيا معها.

3ـ المنهج العقلاني/العلمي.
المنهج العقلاني أو الذي يمكن أن نسميه بالعلمي،” يُقترَح من خلال الانطلاق من أولوية وسائل الإستراتيجية، حتى الوصول ومن خلال البراهين،إلى القواعد التي ستتبع ومن أجل تحديد الأجزاء الأكثر أهمية و التي يمكن استغلالها بشكل كبير” . إن الخطوات التي يتبعها هذا المنهج ليست مؤسسة على الخبرة أو التجربة ،كما في المنهج التاريخي،وليس مؤسسة على الوسائل،كما في المنهج الواقعي،بل مؤسسة على المنطق الخالص.

استُخدم هذا المنهج منذ زمن بعيد حيث ظهر في البداية بشكل أو هيئة هندسية،لاسيما عند مؤسسي الفكر التكتيكي الحديث،إن كان في الإستراتيجيات البحرية أو البرية. المارشال Puységur استند بشكل واضح على علم الهندسة ويقول في كتابه “فن الحرب”: ” قاعدة وأساس كل فن الحرب هي في القدرة على تشكيل أنظمة جيدة للمعارك وجعلها تتحرك و تتفاعل ضمن قواعد كاملة أو الأكثر كمالا في الحركة؛وهذا ما يمكن استخراج مبادئه من علم الهندسة”.

ويبدو أن معظم ،إذا لم نقل جميع، الكتاب الإستراتيجيين استندوا على هذه المبادئ من اجل تقديم تعريف القواعد و الأنظمة بشكل ناجز أو كامل،و يمكن تطبيقها في جميع الظروف من غير العودة لوضع الخصم أو اعتباراته الخاصة،أو حتى إعطاء اعتبارات خاصة للميدان.إن المنهج العقلاني المستند إلى العلوم الهندسية تحول إلى مخططات إستراتيجية عند الكثيرين أثناء المعارك وحروب الاستقلال.أما اليوم فقد اختفى هذا الإعجاب الكبير بهذا المنهج أو الطريقة،مع العلم أن المنهج العلمي عرف تطورا هاما على مستوى العمليات و التكتيك.

أخيرا، ومع بداية القرن العشرين،بدأت الكثير من الجيوش البحث عن تطبيقات أكثر خفة وسرعة.وأثناء الحرب العالمي الثاني،وضع الأمريكيون و البريطانيون مجموعات علمية مكلفة بتحسين توظيف عمل الرادارات والوسائل المضادة للغواصات. وقد أصبح البحث العلمي في العمليات شيئا دارجا ومفتوحا أمام التحليلات المنهجية.

4ـ المنهج الجغرافي.
استطاعت العلوم الجغرافية العسكرية أن تؤسس منهجا تقدم و تدرج بشكل مستمر حتى أصبح”حقلا علميا” كاملا ومطلوبا بشكل كبير وهو “الجيوإستراتيجية”. هذا المفهوم قديم جدا وأكثر مما نعتقد،فقد ظهر مع “الجيوتكتيك”،والذي لم يعرف نفس الحظ، تحت ريشة الجنرال الإيطالي Giacomo Durando في عام 1846. لكن هذا المنهج لم يتأسس بشكل حقيقي إلا في نهاية القرن التاسع عشر.وبينما المنهج التاريخي والمنهج الواقعي يهتمان كليهما “بالأداة”،أي بالقوى المسلحة؛ إلا أن المنهج الجغرافي يهتم “بالوسط” أو البيئة التي ستعمل فيها “الأداة”.الجغرافية العسكرية تهتم بصفات الأرض و الميدان،أما الجيوإستراتيجية فتهتم وتحلل المسافات ،وهذا عامل رئيسي في الحرب الحديثة.

5ـ المنهج الثقافي.
يعتبر هذا المنهج من المناهج التي وضعت حديثا،فمفهوم الثقافة الإستراتيجية لم يوضع ويفرض إلى مع نهاية السبعينات من القرن العشرين. فقد استخدمه بشكل واضح أكثر من غيره البروفسور الأمريكي في العلاقات الدولية Jack Snyder، وفي كتاب بعنوان The Soviet Strategic Culture والصادر في عام 1977. المنهج الثقافي يعتمد على مجموعة من العلوم وأهمها السيكولوجية،الإتنولوجية و السيسيولوجية. يبحث هذا المنهج عن إقامة ثقافات إستراتيجية يمكن تعريفها كالتالي:” وهي مجموعة من المواقف و المعتقدات المفضلة داخل معهد أو مؤسسة عسكرية،فيما يتعلق بالهدف السياسي للحرب والطريقة الإستراتيجية و العملاتية الأكثر تأثيرا و التي يمكن الوصول إليها” .

يقصد بهذا التعريف وكما هو متعارف عليه بين الكتاب الإستراتيجيين الفرنسيين،تحديد في أية أجواء ومناخات تجذرت المحاور الكبرى للإستراتيجية داخل الثقافة الوطنية بشكل أساسي،لأن هذه الثقافات الإستراتيجية الوطنية يمكن أن تترافق أو تواكب ثقافة إستراتيجية تعود لفرد أو جماعة،حيث كل جيش يستطيع أن يقول أن له ثقافته الإستراتيجية التي يمتلكها. ففي الولايات المتحدة الجيش يعطي مكانة خاصة للإستراتيجي Jomini،والقوى البحرية تعطي هذه المكانة للإستراتيجي البحري Mahan،أما القوى الجوية مع Douhet وهو منظر الحرب الجوية الإيطالية . إن مفهوم الثقافة الإستراتيجية استلهم الكثير من الثقافة السياسية التي جاء بها الكتاب السياسيون الأمريكيون في سنوات الستينات مثل Gabriel Almond, Sidney Verba في كتابهما ( The Civic Culture،1963)، و Lucien Pye في
( Political culture and Political Development ،1965).

6ـ المنهج التركيبي.
هذا المنهج يتكون من مجموع المناهج السابقة.ولكن لابد من القول هنا أنه من الصعب العثور على كتابات قديمة أو كلاسيكية استخدمت هذه المناهج مع بعضها. وتشير بعض الدراسات التي أرخت علم الإستراتيجية على أن الأميرال Castex في كتابه “نظريات إستراتيجية” اقترب كثيرا من استخدام المنهج التركيبي. بعد الأميرال Castex يأتي Bernard Brodie والذي استخدم المناهج التاريخية و الواقعية معا،وخاصة في أعماله الأولى حول الإستراتيجية البحرية،ولكنه لم يعط مساحة أو مكانة واضحة للمنهج الجغرافي ،ولم يعرف أيضا قيمة المنهج الثقافي إلا بشكل متأخر.

7ـ المنهج الفلسفي.
وهو الجزء الأرقى والأصعب في علم الإستراتيجية.ويعتبر الصينيون أول من استخدم هذا المنهج أو الطريقة. وبينما الفكر الاستراتيجي الغربي امتلك قاعدة تاريخية،الفكر الإستراتيجي عند الصيني Sun Zi ومن أتى بعده كانت يرتكز على أسس فلسفية. حيث أراد الإستراتيجيون الصينيون تطبيق المنهج الفلسفي والحكمة في مجال الحرب،كما في المجالات الأخرى من الحياة الاجتماعية .

المنهج الفلسفي وكما يقول Clausewitz يهتم بجوهر الحرب، أو بجزء منها كما يقول Corbett و Rosinski في عملهما عن الحرب البحرية،أما اليوم فيهتم هذا المنهج بالعلوم الإستراتيجية كعلوم معرفية،ويساند هذا المفهوم الإستراتيجي Poirier. أما الصفة المشتركة بين هؤلاء هي ما نستطيع تسميته بالمتطلب النظري،بمعنى الإرادة في تجاوز الأشياء كما هي،أو تجاوز الطبيعة المادي للأشياء من أجل فهم طبيعتها الفلسفية و المعرفية،أما الهدف النهائي فهو الوصول إلى نظرية موحدة.بالنسبة للعالم الغربي،يعتبر Clausewitz النموذج الذي لا يمكن تجاوزه،إن كان فيما يتعلق بعمق أفكاره أو من خلال قلقه الدائم من أجل ربط التطورات العملياتية بالنظرية .

بعد محاولة القراءة السريعة لمناهج البحث الإستراتيجي،لابد من طرح سؤال في غاية الأهمية يتعلق بجميع هذه المناهج : هل يمكننا تحديد منهج واحد من بينها يكون أكثر دقة من غيره؟

المنهج التاريخي هو منهج متغير بشكل كبير،بمعنى أنه من الصعب أن يكون منهجا شاملا وقادرا بشكل دائم على الوصول إلى الحقيقة. والمنهج الواقعي يقدم الموضوع التقني على غيره.بمعنى أن يبحث عن الوسائل الممكنة التي مصدرها التقدم التقني.أما المنهج الجغرافي،فيعطي الأولية للوسط أو البيئة.وكما رأينا ذلك مع منظري الجيوإستراتيجية في القرن العشرين. وبالنسبة للمنهج العقلاني ـ العلمي فإنه يهمل العوامل المادية ويصل إلى اختزال الحرب إلى قواعد رياضية أو هندسية.بمعنى أن هذا المنهج يبحث عن صيغة دائمة يمكن تطبيقها في جميع الظروف.

وفي المنهج الثقافي نجد أنه مرتبط بالبيئة الاجتماعية.وهنا يقترب كثيرا من المنهج الواقعي ليشير إلينا بمتغيرات الإستراتيجية حسب المكان والزمان.أما المنهج التركيبي الناتج عن التوفيق بين العديد من المناهج،وهو بالتعريف منهج متعدد ويرتكز على إستراتيجية متعددة الوسائل. وأخيرا المنهج الفلسفي الذي يرتكز بشكل جوهري على النظرية.فهو بهذه الحالة لا يستند على عامل واحد بشكل خاص ،بل يحاول فهم ظاهرة الصراع بأقصى حد ممكن من الدقة والصرامة العلمية،ثم يضعها في بيئتها الخاصة للوصول بالوسائل المستخدمة إلى الغايات النهائية المنشودة.

ثالثا ـ مبادئ الإستراتيجية.
في قراءة و تحليل مبادئ الإستراتيجية يمكننا أن نطرح في البداية إشكالية هامة تتعلق بمدى الموضوعية في اتخاذ القرار الإستراتيجي،أو بمعنى آخر ما هي المبادئ التي نسميها أو نتخذها كمرجعية في صناعة القرار الإستراتيجي؟ وكيف نقيّم صلاحية قرار إستراتيجي معين؟
في الإجابة على هذه السؤال نرى أن مبادئ الإستراتيجية تتدخل بسرعة لمساعدتنا في صياغة ووضع الإجابة،أو بشكل آخر للقول:هل القرار الإستراتيجي الذي نتخذه يحترم معايير و قواعد أساسية تتعلق بالعلوم الإستراتيجية ،قد تم وضعها من خلال التجربة و الحدس؟ في الواقع،إن مبادئ الإستراتيجية لا يمكن تجاهلها لا على المستوى الاستراتيجي ولا على المستوى التكتيكي في الحرب أو في غيرها. فالمبادئ الإستراتيجية هي قواعد عامة تهدف للوقاية من مفاجآت العدو والتأكد من التفوق عليه في أية خطوة نختارها في التعامل معه. إن التاريخ يبين أن وضع مبادئ للإستراتيجية ثم التقيد فيها في عملية صناعة القرار هي من أكبر الصعوبات التي واجهت عمل الإستراتيجيين في زمن الحرب و السلم. وعمليا هذا ما دفع العديد منهم للقول بأن تطبيق مبادئ محددة للإستراتيجية يختلف كثيرا عن صياغتها أو وضعها،حيث أنه من المستحيل التقيد الصارم بهذه المبادئ.

إذا، هل يمكن وضع قواعد دائمة يمكنها قيادتنا لاسيما أثناء الحروب؟ إن البحث عن مبادئ إستراتيجية بدأ بشكل عملي منذ بداية تبلور الفكر العسكري الحديث. في بداية القرن السادس عشر كان ميكيافلي قد أعلن ذلك مسبقا :” لا يوجد علم لديه مبادئه العامة التي هي قاعدة لمختلف العمليات أو الممارسات التي نقوم بها”.( من كتاب فن الحرب،ميكيافلي،مرجع سابق، الصفحة 188). هذا البحث عن المبادئ طُرح بشكل واضح من قبل المارشال Marmont:” نحن نكتشف مبدأ ثم نبحث فيما بعد عن أفضل وسيلة للوصول إليه أو تطبيقه.المبادئ تكون معروفة، لكن العبقرية في تطبيقها وهنا يكمن فن الحرب” .

إن جميع التأكيدات حول عالمية المبادئ تصطدم بمسألة تتعلق بشكل مباشر بهذه المبادئ وهي تنوعها وتحولاتها الدائمة. فالمبادئ في علم الإستراتيجية تتغير من كاتب إلى آخر،وما هو أساسي عند هذا الكاتب ربما يكون هامشيا عند غيره. وهذا ما دفع العديد من المتخصصين للقول وهم يحاولون إيجاد حل لتحولات وتغيرات المبادئ،بأن المهم ليس إيجاد المبادئ ولكن المهم هو البحث عنها.

ـ كيف يمكن التحقق من المبادئ ؟
إن مسيرة التحقق والتعرف على مبادئ الإستراتيجية أنتجت لنا أدبا إستراتيجيا خاصا وضخما. فمثلا الجنرال و الإستراتيجي الشهير Foch ( 1851ـ 1929)،يشير في العديد من كتاباته إلى “المبدأ السامي أو الأرقى” وهو ـ اقتصاد القوى ـ ،ويضيف عليه مبدأ آخرا يرى فيه أنه مطلقا وهو ـ حرية الفعل والتصرف ـ،وهذا المبدأ الأخير يستعيره الكاتب من Xénophon عندما يقول :” فن الحرب هو بشكل جازم ونهائي فن الحفاظ على حريته”. ( من كتاب Foch ” مبادئ من أجل الحرب”،كتبه في عام 1903،الصفحة 95).
أما الميجور ـ جنرال Fuller فقد اقترح لائحة استفاد منها الجيش الأمريكي بشكل كبير في عام 1921. تم تنقيحها و تصحيحها أكثر من مرة،مع ذلك احتفظت ،ورغم تناولها من قبل مذاهب مختلفة،بقوتها ومكانتها. وفي آخر طبعة للمرجع Field Manual 100-5 الصادرة في عام 1993 عن الجيش الأمريكي،تأخذ هذه الطبعة بتسعة مبادئ هي : الهدف،الهجوم،التجمع،اقتصاد القوى،المناورة،وحدة القيادة،الأمن،المفاجأة والبساطة.أما تغيرات وتحولات المبادئ لا تنتهي وليس لها حد. لقد تحدث بعض الإستراتيجيين عن مبدأ أو مبدأين كبيرين يلخصان كل فن الحرب. الأميرال Labouerie حدد المبادئ جميعها بمبدأين فقط وهما : الصعق أو الرعب و الشك .

رابعا ـ القرار الإستراتيجي.
تُفهم الإستراتيجية في العادة على أنها رؤية شاملة على المدى الطويل،ولكنها تقع تحت رحمة التغيرات المستمرة وغير المتوقعة.أيضا القرارات الإستراتيجية تؤخذ في الكثير من الأحيان في أجواء من الضغط المستمر يكون بدرجة كبيرة أو قليلة. إذا ليس من المدهش القول بأن القرار الإستراتيجي هو واحد من أصعب القرارات التي يمكن أن تحدث،وأيضا من أعقدها على الإطلاق،ومن هنا ربما تأتي الندرة في وجود قادة عظام وكبار. فالقرار الإستراتيجي يقع تحت هيمنة التغيرات و التحولات،إنه يتبع مؤشرا متعددا وليس واحدا،إنه قرار يأتي بعد عدة تقييمات وتقديرات أهمها :
ـ المجازفة والرهانات.
ـ الوسائل و الإمكانيات.
ـ الأخطار.
ـ الظروف.

1ـ المجازفة و الرهانات.
وتقع على مستويات مختلفة،إنها ضرورية من أجل التمييز بين الغايات السياسية و الأهداف الإستراتيجية. هذا التمييز في العادة تصعب رؤيته أو تحقيقه كما يقع ضحية للخلط في المفاهيم. ويرى Clausewitz أنه كلما كان الرهان حيويا كلما كانت المخاطرة مبررة وتستحق الكثير من التضحيات،وإذا كان الرهان “محدودا” فنعطيه بعض الوسائل التي تتناسب معه،مع أدنى مستوى من المخاطرة.وعلى المستوي العملياتي،لابد من تقدير وتقييم التماسك لهذا الهدف أو ذاك. إن التاريخ الإنساني والعسكري بشكل خاص يعطينا أمثلة كثيرة على القرارات التي اتخذت أو استندت على أسس وتقييمات سيئة وخاطئة للرهان،إن كان على المستوي السياسي/الإستراتيجي أو على مستوى العمليات العسكرية والحروب.

2ـ الوسائل و الإمكانيات.
يرى الإستراتيجيون أنه من الناحية المبدئية،بأن الوسائل والإمكانيات رغم تحولها وتغيرها إلا أنها سهلة الفهم. مع ذلك،لابد من اختيار الوسائل التي يمكن توظيفها،ثم الاختيار فيما بينها،وبعد ذلك يجب الأخذ بالحسبان عدم الدقة والتأكد الكامل من الرأي الذي تم اتخاذه. اختيار الوسائل يعتمد،في نفس الوقت، على إمكانيات الفاعلين بمعنى (يجب التصرف وفق ما لدينا)،وأيضا على طبيعة المشكلة المطروحة بمعنى (هذا يقود للغاية التي نريد الوصول إليها).

3ـ الأخطار.
يقول نابليون بونابرت في هذا الصدد:” الحرب لا يمكن أن تكون من غير أخطار،فنحن نرى شرورها أكثر مما نرى شرور الحرب نفسها،لذلك لابد من إظهار الثقة دائما” . وجميع فنون الحرب تأخذ في حسبانها دائما الأخطار وتقوم بالتخطيط لها بشكل مسبق،ومن هنا لابد للوسائل أن تتوافق مع الأخطار المتوقعة،أو على الأقل ألا تكون أقل منها بكثير. الاحتياط من الخطر يأتي على جميع المستويات،ثم يوسع هامش الحسابات للصدفة،ولكن بالمقابل يجب أن يكون هناك استعداد دائم لمعالجة النتائج التي يمكن أن يتسبب بها قرار خاطئ على مستوى عال. هذا القرار يمكن أن يسبب تراكمات خطيرة ولكن يمكن تحييدها بشكل تدريجي إذا تم التخطيط للأخطار المتوقعة.

اليوم،حساب الأخطار يختلف عن الماضي،وربما يعود هذا لأن الحرب أو حتى الميادين الأخرى أصبحت تستخدم وسائل متطورة جدا في تطبيق الإستراتيجيات. هذا الوسائل تحاول الوصول إلى ضمانات شبه مطلقة في عدم وقوع أية خسائر لا في الحرب ولا في غيرها، وقد سمي هذا التيار الجديد في التخطيط لعدم وقوع الأخطار ” صفر من الموت”،بمعنى ألا يموت أحد. ولكن على أرض الواقع ليس دائما التطور التقني والتكنولوجي هو من يحدد طبيعة تطور الأخطار،فالعدو أو المنافس في هذه الحالة هو من يلعب الدور الحاسم.

4ـ الظروف.
هناك من يردد دائما بأن التاريخ لا يعيد نفسه نهائيا،مع ذلك نرى أننا بحاجة لقراءته بشكل مستمر.في الواقع،توجد ظروف تلعب دوراها بشكل مستمر ومنها الجغرافية،التقنية و العامل الإنساني،ولكن لا يوجد حتمية في هذا الشأن،فكل حالة لها ظروفها الخاصة التي يجب أن تأخذ بالاعتبار في أي قرار إستراتيجي.هذه الظروف الخاصة تعود إلى عوامل جغرافية،ظروفٍ سياسيةٍ،دبلوماسية وعسكرية. ويبقى أن نقول بأن قدرة الخصم واستعداده يلعبان دورا حاسما.

ويرى نابليون بونابرت أن القرار و التخطيط الإستراتيجي عليهما التوافق مع الظروف التي يمكن ان تتغير بشكل ستمر:” أن تنفيذ العمليات هو تدريجي ويخضع لتأثيرات وأحداث يمكن أن تقع وتتغير كل يوم” .

خامسا ـ وسائل القرار الإستراتيجي.
إن الأخذ بالحسبان لجميع معايير وتقديرات القرار الإستراتيجي لا يعني أن نبعد جميع الفرضيات المحتملة لصالح واحدة فقط. فالطابع الميز و الغالب على الإستراتيجية هي أنها لها طابع “احتمالي”. فمن بين جميع المتغيرات النظرية التي يمكن تقييمها وتقديرها بشكل موضوعي،إلا أنه يبقى لدينا جانب لا يمكن تقييمه بشكل صحيح إلا من خلال الجانب الشخصي والذي يتعلق مباشرة بتصرفات وسلوك الخصم،المنافس أو العدو.
عن الطريقة الأفضل للتقييم هي بناء شبكة كبيرة وقادرة على الحصول على جميع المعلومات المطلوبة.فرغم الصعوبات التي تعترض “مهنة”التجسس،إلى أن كبار القادة السياسيون والعسكريون يعمدون إلى تدعيم هذه المهنة مهما كانت مكلفة وحتى لو أن القوانين تحكم بأشد العقوبات على من يمارس هذه المهنة.إذا هذه الوسيلة كانت وما تزال هي من الوسائل المتبعة في عملية اتخاذ القرار الإستراتيجي.

ولكن مهما كانت النوعية أو الأهمية التي تتميز بها المعلومة التي نحصل عليها،فإنه من النادر أن تسمح لنا بإبعاد كلي لعدم التأكد أو عدم اليقين،أو الحصول على معرفة كلية وأكيدة للموضوع الذي نريده.بمعنى آخر،إن التحليل الموضوعي للوضع والحالة سيترك مكانه في لحظة معينة لتقييم آخر وتطورات أخرى تتعلق بالجانب الشخصي وكما ذكرنا سابقا. ضمن هذا المجال،يوجد مدرستين تتحدثان عن المعلومات وهما متخصصتان بها. المدرسة الأولى،وتسمى مدرسة الإمكانيات أو الاحتمالات،وتنطلق من الوضع الراهن أو القائم من أجل تحديد الحلول التي يمكن إتباعها مع العدو.وهي طريقة اتبعها نابليون بونابرت والذي يقول:” يجب ألا نبحث نهائيا عن تخيل أو تصور ماذا سيفعل الخصم”.ومن مميزات هذه الطريقة أنها تحبرنا على الأخذ في الاعتبار جميع الفرضيات،ومحاول إيجاد جواب على كل حالة أو فرضية متوقع أن يقوم بها الخصم.

المدرسة الثانية، وهي المدرسة المخطَّطَة. تنطلق هذه المدرسة من حالة أو وضع،من إشارات ودلائل يمكن أن تطبعها بطابعها،من مذاهب وتيارات،ومن تجارب سابقة للخصم أو العدو،من سلوك اعتيادي يقوم به الزعيم أو الرئيس،وتبحث عن تحديد الخطط والنيات التي يرمي إليها الخصم،وإلى فهم المناورة التي ربما سيقوم بها .بالتأكيد هناك خطورة بتوقع فهم جميع الخطط والنيات التي يريدها الخصم وهذه من العيوب التي تشوب هذه المدرسة. كما أن هذه الطريقة تعتمد في الكثير من الأحيان على وجود عباقرة في هذا التخصص، وليس طريقة يمكن تطبيقها بشكل دائم.

الفصل الخامس الإستراتيجية كنظام
1 ـ مدخل
عرف العالم بعد الحربين العالميتين الكثير من التطورات وعلى كافة الأصعدة. فقد تضاعف عدد سكان العالم،وزاد النمو الاقتصادي في الكثير من الأقاليم و القارات. وترافق هذا النمو و التطور مع تقدم على المستوى التقني و التكنولوجي،حتى أن سار على سطح القمر في عام 1969.أيضا هذا بدوره قاد إلى تغيرات سياسية واجتماعية لحقت في جميع الميادين والقطاعات،مما أدى لزعزعة العديد من البنى الاجتماعية والثقافية السائدة والقديمة.

نحن نعرف أن الحرب في القرن التاسع عشر كانت حروبا وطنية،وأصبحت في القرن العشرين حروبا أيديولوجية. لقد كانت حربا صناعية في التاسع عشر وأصبحت شاملة في القرن العشرين،أي وظفت كل مصادر الدولة وثرواتها وطاقتها من أجل خدمة الحرب.والمثال الأكبر على هذا التوظيف الشامل هو أن البشرية فقدت في الحرب العالمية الثانية ملايين الضحايا. والنتيجة هي إعادة بناء بعض أولويات إستراتيجيات الإبادة أو التدمير.ففي حرب شاملة لم يعد الهدف هو الحصول على مكاسب جديدة من الأرض أو توازن الرعب والقوة ،بل التدمير النهائي للخصم.

في الحربين العالميتين،تطور الأسلحة من الناحية التقنية كان أسرع من المتوقع. فقد أصبحت الحرب تستخدم الآلة بشكل كبير،وهذا ما سمح بتوسيع مساحات المعارك،لا بل مهاجمة الخصم في أرضه نفسها،ثم العمل على اجتياحها. وهنا كانت نتيجة جديدة وقاطعة :تمدد وتوسع مسرح المعارك،حتى وصلنا إلى مفهوم جديد سميناه بالجيوإستراتيجية، أي إستراتيجية المساحات أو الفضاءات الكبيرة والتي تنظم العمليات التي تجري في وقت متزامن على مسارح منفصلة. أما الوصول لتصنيع السلاح النووي فقد احدث انقلابا كبيرا في عمليات التسليح،وهذا ما أحدث بدوره تشظٍّ أو تجزئة للإستراتيجية.

لقد ذكرنا في السابق أن الإستراتيجية عرفت في تعريفها القديم “بفن الجنرال”. وهذا المفهوم يعود إلى العهد اليوناني القديم،وبقي كذلك حتى نهاية العصر الحديث،ولم يحدث تغيرات كبيرة على المفهوم إلا في عهد حديث ويعود هذا لتأثيرات كبيرة ناتجة عن التطور التقني،الفكري والاجتماعي في القرن العشرين.لقد وضع مؤرخ العلوم “توماس كوهان” بنية للثورات العلمية تسمح بفهم المتغيرات التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية والأسئلة الكثيرة التي دارت حولها.

يقول “توماس كوهان” إن تطور العلم تمركز حول أربعة مراحل:
1 ـ في البداية وجدت نظرية أو مجموعة من النظريات كان عليها اتفاق كبير،ويمكن أن نسمي هذه النظريات “براديغم” . فالبراديغم يعطي أو يأخذ بالحسبان حالة العلم في لحظة معينة.فمثلا يمكننا التحدث عن براديغم نيوتن في الفيزياء اعتبارا من القرن السابع عشر،وبقي مقبولا حتى الثورة في حقل “النسبية”.

2ـ تأتي لحظة معينة يصاب البراديغم فيها بأزمة.فالعمل المستمر للباحثين يعطي ويطرح أسئلة جديدة،وهذا البراديغم لا يستطيع أن يعطي دائما أجوبة كاملة على الأسئلة المطروحة.إذن تظهر حدود لا يكون هناك قدرة على تجاوزها،وبالتالي في هذه الحالة يصبح المناخ مستعدا بشكل أكبر لظهور براديغم جديد يرد بشكل أفضل على الأسئلة الجديدة التي يطرحها تقدم العلم والمعرفة.

3ـ هذا البراديغم الجديد سيخضع للمواجهة مع المعطيات العلمية الموجودة لاسيما النقد الموجه من قبل البراديغمات السائدة.هذه المرحلة الثالثة تتصف بوجود حوار قد يتحول إلى صراع بين وضعية في طريقها للانحطاط و شرعية صاعدة.

4ـ البراديغم الجديد يقترب بشكل أكبر من الحقيقة ومن ظواهر وأسئلة مطروحة، أكثر من البراديغم الذي قبله. فهذا الأخير تم تركه، أما الجديد فتتم مأسسته. هنا تغلق دائرة الثورة العلمية، ولكن هذه الدائرة يمكن أن تعود من جديد.

إن تقسيم “توماس كوهان” له أهميته الكبيرة،فقد استطاع تحقيق المصالحة بين مقاربتين للمعرفة العلمية كانتا في حالة من الصراع حتى انجاز كتابه : النموذج القائم على أساس دائري و البراديغم. ويمكن عمليا تطبيق هذا النموذج على الفكر الإستراتيجي المعاصر.أيضا يمكننا الاستناد على الثورة العلمية التي غيرت العالم،وذلك بإدخال في مجال الفكر الإستراتيجي،لاسيما الثورة ما بين سنوات 1945 و1970.

ـ هل من تغير في مقاربة الإستراتيجية ؟
يعتبر الكثير من الكتاب أن المسائل العسكرية هي وحيدة،بمعنى أنها تختلف بشكل كبير عن الفعاليات المدنية.و الإستراتيجية امتلكت قضايا ومجالات عسكرية منها التاريخ العسكري والجغرافية العسكرية. وفي الواقع،كان للإستراتيجية خصوصية تختلف عن غيرها،فالعسكريون أنفسهم الذين كتبوا في المجال الإستراتيجي امتلكوا بدورهم شبكة من المعلومات والقواعد التعليمية ودور النشر التابعة لهم. هذه الخصوصية وصلت إلى مجموعة من المفاهيم الإستراتيجية و التي تنتمي وفق الكثير من المراقبين إلى نفس الفرضية، أي إلى الفصل الجذري بين مجالي السلام والحرب،السيطرة الكاملة على العسكريين في ميدان العمليات،عدم تدخل العسكريين في الحياة المدنية. وفي فرنسا مثلا، كان العسكريون ممنوعين من التصويت حتى عام 1945.

هذه المقاربة التقليدية للإستراتيجية انتقدت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية. حيث عرف مفهوم الإستراتيجية تطورا وصل لحد كبير نقله خارج المناخ والبيئة العسكرية.ولم يعد هناك مقاربة خاصة تعتمد فقط على الجانب العسكري،لاسيما بعد استند مفهومها على مناهج،مدارس،وتحليلات قادمة من علوم وأدوات مستخدمة في المجال المدني،وبشكل أساسي الاقتصاد و العلوم السياسية.ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية،لاسيما مع بداية عام 1949، وضع Bernard Brodie روابط بين الإستراتيجية و الاقتصاد واقترح مقاربة الأمن من خلال مصطلحات ومفردات تتعلق بالثروات النادرة .

ـ الإستراتيجية و المنهج الجديد.
يعرف معظم المراقبين و المؤرخين للإستراتيجية التقليدية بأنها لم تتبع أو تعتمد على العديد من المناهج والطرائق المتنوعة. فدراسات الإستراتيجية،إلا في بعض الاستثناءات، لم تعتمد على أصول معرفية أو علوم منهجية. فالمفاهيم في الماضي كانت تعتمد على رؤية شخصية،حيث أن الإستراتيجية كعلم كانت في خدمة الإستراتيجية كفن،بمعنى آخر ضاعت قدرات الباحثين والمنظرين أمام ما يقوم به رجل الميدان أو العمليات العسكرية،فالهدف لم يكن سوى تحقيق النصر.

هذه لعقلية تزعزعت بعد الحرب العالمية الثانية.حيث بدأت تظهر تيارات ومذاهب جديدة عرفت انتشارا واسعا وتبناها عدد كبير من الباحثين. وكانت الإستراتيجية في نفس الوقت مدعوة لإدخال الروح النقدية إلى مجالها كما كانت مطالبة بالتواضع وعدم الاستمرار في حصر نفسها بين أيدي قلة قليلة.لقد بدأت الاعتماد على مناهج تحليلية مختلفة من قبل منظريها،ويمكن القول أنها بدأت دخول الحداثة.

فالمنهج التاريخي لم يعد مستخدما بعدما توقف استخدام السلاح النووي بعد الحرب الثانية،والمنهج الواقعي لم يعد كافيا بعدما تبين أن استعمال هذا السلاح لا يمكن فصله عن غايات الإستراتيجية. أما المنهج الجغرافي لم يعد سوى أداة لها منفعة هامشية بعد التقدم التقني والتكنولوجي.المنهج الوحيد المستخدم هو”السيناريوهات”. بمعنى آخر وكما يقول “هيرمان كاهان”، التفكير بغير المفكر فيه،أي محاولة تخيل عمل أو وظيفة عقلانية لأداة يمكن أن تؤدي لردة فعل غير عقلانية.

إذا السيناريو لا يقترح علينا بأن نأخذ الحقيقة أو الواقع في الحسبان، ولكن أن نتخيل حقيقة أخرى لم توجد بعد.هنا نصل إلا ما يمكن أن نسميه “الإستراتيجية الافتراضية”. أيضا أصبحت هناك أداة أخرى تستخدمها الإستراتيجية هي “الإستراتيجية المتخيلة”،وقد نتجت عن ـ مبادرة الدفاع الإستراتيجي ـ التي وضعها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان،وهي في الوقع نظام لم يوجد أو يفكر فيه من قبل أو لم يوجد بعد.

ـ هل تغيرت مواضيع الإستراتيجية ؟
اهتمت الإستراتيجية التقليدية بشكل كبير بالعمليات العسكرية ( دراسة الحملات،خطط المعارك،التفكير حول الصراع،فن القيادة على الأرض)،تاركة كل ما تبقى للسياسة. لكن المفهوم الكلاسيكي الذي يميز بين مجالي الحرب و السلام ترك المكان لنظام جديد في داخله يتواجد المفهومان بشكل مختلط أو مندمج،ويكملان الإستراتيجية التي من الآن فصاعدا لا يمكنها أن تحد نفسها بمجال واحد فقط يتعلق بالحرب،ولا يمكن أن تنغلق على نفسها في الحقل العسكري. فالإستراتيجية العملياتية تمت إزاحتها بقوة من قبل إستراتيجية شاملة تأخذ في الحسبان جميع التطورات والأبعاد الجديدة .

2 ـ الإستراتيجية المعاصرة.
إن التغيرات التي أصابت الإستراتيجية والتي تحدثنا عنها سابقا، تم تحليلها وتقييمها من قبل جيش من المنظرين والمحللين. فرغم الحضور للكتاب الاستراتيجيين القادمين من المجال العسكري،إلا أن الحدث الجديد كان في الصعود القوي للإستراتيجيين المدنيين مثل Herman Kahn وهو قادم من مجال العلوم،عالما الاجتماع Raymond Aron و Henry Kissinger،المؤرخان Bernard Brodie و Michael Howard، الاقتصادي Thomas schelling والمنظِّر السياسي Edward Luttwak.

في الولايات المتحدة،كان التفكير الإستراتيجي يعاني من ضعف قبل الحرب العالمية الثانية.مع بداية هذه الحرب بدأ الحراك الإستراتيجي الأمريكي عندما بدأ العديد من المدنيين بالارتباط بهيئة الأركان العسكرية الأمريكية،وقد تطورت هذه الظاهرة بشكل كبير مع نهاية الأربعينات وبعد تأسيس Rand Corporation من قبل القوى الجوية الأمريكية،وقد كان هدفها تحليل التغيرات الجديدة التي أدخل على الجيوش الحديثة. وعمليا يمكن القول أن جميع الأسماء الكبيرة في الفكر الإستراتيجي الأمريكي،باستثناء هنري كيسنجر، مرت عبر Rand Corporation. العمر الذهبي للمحللين الإستراتيجيين الأمريكيين بدأ مع سنوات الستينات ومع وصول ” روبرت مكنمارا” إلى منصب وزير الدفاع،والذي كان مؤمنا بدور تحديث التخطيط العسكري من خلال تطبيق طرق في الإدارة الصناعية. قام “مكنمارا” بدعوة المحللين المتخصصين بشؤون الدفاع من أجل شغل المناصب في إدارة وزارة الدفاع الأمريكية.

تدعم وتطور الفكر الإستراتيجي الأمريكي من خلال المبادلات التي حصلت بين الجامعات و المؤسسات البحثية الكبرى العامة مثل : ( Institute of Defense Analysis، Centre of Naval Analysis، Congressional Research Service)، أو المؤسسات البحثية الخاصة مثل : ( Rand Corporation، Brookings Institute، American Entreprise Institute).أما الطرف الآخر في المبادلة كانت الإدارة الأمريكية،هؤلاء بمجموعهم شكلوا “مجتمعا” إستراتيجيا حقيقيا لا يوجد له مثيل في العالم.

في بريطانيا،استطاعت هذه الدولة أن تقدم العديد من المنظرين الإستراتيجيين الكبار،وقد كان في طليعتهم الفيزيائي P.M.S Blackett والذي كان من أوائل المتحدثين عن دور السلاح النووي في التخطيط الإستراتيجي ، ثم Basil Liddell Hart والذي وضّح العديد من المفاهيم في سنوات الخمسينات،لاسيما من خلال التمييز بين مصطلحات كثيرة تتعلق بالشؤون الدفاعية . في الواقع،وفيما يتعلق بالفكر الإستراتيجي البريطاني،هناك من يعتقد بأن بريطانيا وبسبب عمق علاقاتها وارتباطها بالولايات المتحدة لم تستطع أن تضع إستراتيجيات مستقلة خاصة بها،وقد انعكس هذا بدوره على الفكر الإستراتيجي البريطاني.

على صعيد الدولة الألمانية،نستطيع أن نرى وبوضوح اختفاء هذه الدولة من المسرح الإستراتيجي العالمي بعد الفشل الكبير وفقدان الشرعية للمؤسسات العسكرية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.أم أهم مشاركاتها في هذا المضمار فكانت عبر بعض الكتاب المدنيين مثل Wolf Schneider ، Erik Grawert-May، Panaiotis Kondylis و Gunter Maschke.

في فرنسا،لم يكتب النجاح للأبحاث الإستراتيجية المدنية في أن تتحول إلى مؤسسات دائمة،ولا في أن يكون لها تأثير فعلي على أرض الواقع.فالمؤسسات البحثية الفرنسية تأثيرها هامشي بسبب ضعف الإمكانيات والوسائل،ولكن أيضا لأسباب أكثر قوة وهي تكتم العسكريين فيما يتعلق بالتخطيط العسكري وهيمنتهم على المعلومات والمعطيات التي لا يستطيع أحد سواهم الوصول أليها أو اختراقها. والمركز الوحيد الذي ساهم بتوجيه الإستراتيجية الفرنسية هو مركز “التقييمات و التوجهات المستقبلية”،ويعود في ملكيته إلى وزارة الدفاع. أما الجامعات الفرنسية فلم تعرف “علم الإستراتيجية”كتخصص،فهي تلحقه بالعلوم السياسية والتي لا تعطيه أهمية كبيرة أو عميقة.

3ـ النظام الإستراتيجي.
أ ـ مفهوم ونظرية النظام الإستراتيجي.
وضع عالم الأحياء النمساوي Ludwig von Bertalanffy ( 1901ـ1972)، نظريته “النظرية العامة للأنظمة” وذلك في كتابه ” General System Theory ” ، وقد كتب عنها العديد من الأبحاث و المؤلفات . عرفت هذه النظرية في البداية داخل أوساط العلوم البيولوجية ثم انتقلت إلى العلوم الأخرى، لاسيما العلوم الاجتماعية،وبشكل خاص في العلوم السياسية من خلال David Eston . كما أن هذه النظرية عرفت طريقا لها إلى العلاقات الدولية بواسطة Morton Kaplan و Karl Deutsch في الولايات المتحدة، و Marcel Merle في فرنسا . لكن هذه النظرية لم تعرف امتدادا لها نحو النظرية الإستراتيجية ،باستثناء محاولة جادة قام بها ضابط بحري أرجنتيني هو Pablo Oscar Mazzoni،وفي وقت متأخر على يد الجنرال Warden في كتابه “العدو كنظام”. مع ذلك، النظرية العامة للأنظمة استطاعت الدخول إلى الإستراتيجية لتبين كم أصبح هذا العلم معقدا في العصر الحديث.

قدم Ludwig von Bertalanffy في عام 1937 مفهوم “النظام المفتوح”،ثم قام بتطويره شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى “النظرية العامة للأنظمة”. يقول العالم النمساوي في كتابه :”هدف هذه النظرية هو الوصول إلى مبادئ موضحة للكون أو العالم الذي نعتبره كنظام،وبمساعدة هذه المبادئ يمكننا تصميم أو “نمذجة”(من نموذج) الحقيقة”، ويتابع قائلا :” يوجد أنظمة في كل مكان”. ولكن ما هو النظام أو ما مفهومه بشكل عام ؟إن الشهرة التي يتمتع بها هذا المصطلح يجب ألا تضعنا في موقف مفهومي غامض،حيث الكثير من علماء السياسة تحدثوا عن الأنظمة السياسية Système،في الوقت الذي تحدثوا فيه مسبقا عن النظام السياسي بمعنى régime ،وذلك من غير تغيرات جوهرية بالمعنى القانوني أو الوصفي. النظام système هو مفهوم عصري نستخدمه مع محتوى أشمل و أعم. ويعرف الإبستمولوجي Paul Weiss النظام :” هو كل ما يملك التجانس بشكل كافٍ وذلك من أجل أن يستحق الاسم”. مع ذلك نقول بأن نظرية الأنظمة هي أكثر تعقيدا بكثير.

النظام عند Ludwig von Bertalanffy هو :”كلٌ منظمٌ والذي فيه جميع العناصر في علاقة قوية ويمتلك تنظيما داخليا. إنه ينبثق في بيئة فيها الإجبار والقسر ويستقبل المطالبات،ثم يتصرف منتجا القرارات. أيضا هناك تيارا من التبادلات المستمرة تقام بين النظام وبيئته،مع آلية من مفعول رجعي يضمن استقراره”. ( من كتابه المشار أليه سابقا). هناك العديد من الانتقادات و الأفكار الإيديولوجية وجهت الاتهامات إلى منظري التيار الذي ينظر “للنظام” Système،منها أنه نقل عملية الصراع وحاول ترقية أو إعلاء نموذج اجتماعي نظري واحد ومتفرد من اجل شرعنة الفكر المحافظ.

إن “النظرية العامة للأنظمة” يمكنها أن تسمح بإقامة نماذج إستراتيجية تأخذ بالحسبان تداخل الإستراتيجيات في العصر الحديث،وتوضح كيف يستطيع الفاعلون في هذا الميدان الحفاظ على هامش للمناورة يمكنهم استخدامه. فالصراع،هو أكثر مما كان في الماضي،شكلا من الاتصال و التنظيم.فهذا المفهوم لا يمكن أن يصل إلى تحديد أو حتمية “نظامية” (من نظام) والتي ستصل إلى إنكار كل الخطوات الإستراتيجية، فهذه الأخيرة “الخطوات الإستراتيجية” تبقى وبشكل واسع مؤسسة على مبادرة الفاعل،سلوكه وتصرفه. عمليا،وبشكل أولي،يمكننا القول أن الخطوة القادمة من نظرية النظام،تتكامل مع الخطوة الإستراتيجية.

ب ـ نظام إستراتيجي ونظام تقني.
هناك أهمية وفائدة جوهرية للتحليل النظامي أو “النسقي” وهي الإصرار على الشمولية وعلى العلاقات الدائمة بين العناصر التي تؤلف النظام. هذه المقاربة هي بشكل خاص تم تبنيها من أجل البنى المعقدة التي لا تختزل في فئة واحدة من العناصر أو الظواهر. و الإستراتيجية عرفت بشكل دقيق،في الحياة المعاصرة،تطورا نحو تعقيدات متنامية تجعلها تختلف أكثر فأكثر عن جميع النماذج الإستراتيجية التي وجدت في الماضي. ويمكننا التعرف على أهمية هذا التطور من خلال إجراء مقاربة مع مفهوم مركزي لتحليل المجتمعات المعاصرة وهو ” التقني”. في عام 1977 قام Jacques Ellul بتطبيق التحليل النظامي او النسقي على التحليل التقني،ورأى أن الصفات التي نعطيها للنظام التقني هي متحولة أو متنقلة من غير خضوعها لتغييرات،ويمكن انتقالها إلى النظام الإستراتيجي.

ووفق Jacques Ellul هناك تماثل حقيقي وواضح يبدأ مع تعريف قاعدة المفهوم. فالتقني بالنسبة له “هو الانشغال المسبق بالبحث في جميع الأشياء عن المنهج الأكثر فعَّالية”. يميز Jacques Ellulثماني صفات للظاهرة التقنية :
1ـ الاستقلالية : يعني أن التقني لا يتبع إلا نفسه،يخط طريقه لوحده،إنه عامل أساسي وجوهري ولا يمكن أن يكون في المرتبة الثانية،ويجب أن يعتبر جهازا قائما بحد ذاته،قادر على حكم نفسه،إنه هدف بحد ذاته . هنا يمكننا أن نلاحظ تحليلا يتعلق بالإستراتيجية إنه البحث عن عقلانية تعتمد،في أقل تقدير، الغايات السياسية. فالإستراتيجية تمحور قواعدها الخاصة وتبحث للعمل داخل نظام مغلق.وهنا نرى انحرافا معينا، رفضه Clausewitz بقوة والذي يحمل الوسائل إلى غايات ما،وبالتالي الحرب بهدف سياسي،ولكن في العموم هذا اتجاه يمكن أن نجده في جميع العصور وضمن مختلف الفعاليات الإنسانية،وخاصة عندما يكون هناك خوف قادم من الخارج .

2ـ الوحدة: حيث التقنيات مرتبطة بعضها ببعض بشكل لا يمكن يوجد احدها من غير الآخر أو بواسطته،وهي تابعة لبعضها بعض. وتجزأ الإستراتيجية المعاصرة سيذهب في نفس السياق و المعنى.حيث تم الانتقال من إستراتيجية الردع إلى إستراتيجية الفعل،من الإستراتيجية النووية إلى الحرب الثورية و ثم التدميرية. كل هذه العناصر و المركبات مرتبطة ببعضها. ومن الأفكار القوية للإستراتيجية النووية بعد التردد،هي أن الذرة لا يمكنها أن تكون إلا في خدمة حماية المصالح الحيوية.الإستراتيجية المعاصرة يتم فهمها وإدراكها “ككل” مع تفرعات أخرى،و “كنظام” مؤلف من تعدد آخر يأتي تحت النظام وهو متشابك متداخل.

3ـ الشمولية والعمومية : النظام التقني يمتد إلى جميع المجالات،حيث يوجد في البداية شمولية تتعلق بالبيئة ومناخ العمل والفعاليات الإنسانية.ثم يوجد شمولية جغرافية ،فالنظام التقني يشمل جميع البلدان . هاتان الصفتان توجدان في الإستراتيجية المعاصرة.إن شمولية أو عمومية المجالات هي حقيقة واقعية لأن الإستراتيجية كما رأينا سابقا انتقلت من فضائها العسكري أو الحربي لكي يتم تطبيقها في مختلف الحقول والميادين،إذا لا يمكن وضع حد لها في المجال الحربي،بل يتم وضعها بشكل كامل وشامل لجميع الشؤون ومن بينها العسكرية،كما الاقتصادية والثقافية..الخ.

4ـ الجمع أو “التجميع” : يمكننا أن ندرس ظاهرة تقنية والتي بشكل عام لا يوجد دراسة أخرى خاصة درس هذا الجانب فيها أو ذاك. فالجمع هو الوجه الآخر للتخصيص .

5ـ النمو الذاتي : الدارس للنظام التقني يراه يتطور بشكل ذاتي أو من خلال قوة داخلية ومن غير تدخل كبير أو حاسم من قبل الإنسان أراد ذلك أم لم يرد . ففي الإستراتيجية هذه الصفة تتجسد في الثنائي او المركب العسكري/الصناعي. حيث أن الباحثين،المصنعين للأسلحة ورؤساء الأركان محاصرين بالخوف من يتم تجاوزهم أو تخطيهم ،وذلك بسبب السباق في التطوير الذي يؤدي في النهاية إلى تطور ذاتي داخلي في قلب الإستراتيجية.

6ـ الآلية أو التلقائية : ففي كل حالة أو وضع جديد،وفي كل ميدان أو حقل جديد،التقنيون يتوافقون في النتائج وفي شكل مستقل عن القرار الإنساني. فالآلية لا تتخلى أو تتنازل في بداية الاختيار،بل تعمل على الاختيار من بين كل الاختيارات التي وضعت،بمعنى تختار ما هو متوافق مع الإستراتيجية وما هو غير متوافق . في الواقعة هذه التلقائية أو الآلية تصل وتبلغ النموذج العلمي.

7ـ التقدم السببي و غياب الغاية: إن التقني لا يتطور ضمن مفهوم الوصول إلى غايات يريد متابعتها،ولكن ضمن إمكانيات للتطور موجودة بشكل مسبق .ففي العصر النووي،الترسانة النووية يمكن فهمها ضمن رؤية تقنية مفتوحة على البحث، أكثر من رؤيتها موجدة لغايات سياسية أو تتعلق بالخصم أو المنافس. والمشروع الذي وضعه الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان حول “مبادرة الدفاع الإستراتيجي” كان له غايات سياسية،ولكنه لم يوجد على أرض الواقع إلا بعد مشروع عملاق عرف ميلاده في المخابر،وبعد أبحاث ليس لها أهداف سياسية محددة أو نوعية.

8ـ السرعة : لقد عرف النظام الإستراتيجي سرعة كبيرة لم يشهدها من قبل منذ عام 1945،ليس فقط في الجوانب التقنية،بل أيضا في أبعاده السياسية. ربما أصابه التباطؤ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي،ولكن فقط ضمن المجال العلمي. أما ظهور وتتعد الأزمات المحلية والإقليمية فربما أو ستؤدي إلى ظهور اقتراحات جديدة تقود بدورها إلى تسارع جديد في السنوات القادمة.

ت ـ شمولية النظام.
تحدثنا سابقا أن التغيرات و التحولات البنيوية التي أحدثتها التطورات المعقدة في جميع مستويات الإستراتيجية،جعلت من غير الممكن أن يكتفي أي جزء من النظام بنفسه أو أن يوضع في التنفيذ كجزء يعمل لوحده،بل لا بد أن يعمل كمركب من جزء متكامل.

على الصعيد التقني: يتم الحديث اليوم بشكل أكبر عن نظام الأسلحة. أيام الأسلحة الكلاسيكية كانت استخدامها بسيط،بمعنى نحدد نقطة ما ويتم الإطلاق عليها،مع الأسلحة الحديثة نحن بحاجة لبيئة فيها الكثير من الحسابات المعقدة والمتعقلة،من غير ذلك لا نستطيع استخدام هذه الأسلحة.فالصواريخ مثلا لا من برمجتها قبل إطلاقها. إن استخدام الأسلحة الحديثة يترافق بعناصر أخر تعتمد على المعلومات،الاتصالات،القرار و أشياء أخرى.

فالمعومات ليست هي نفسها كما كانت في الماضي،يقدمها مجموعة من المخبرين وتراقب من قبل الأجهزة والمؤسسات العسكرية ثم توجه لقلة من المقررين. فالمعلومات اليوم مطلوبة في جميع الميادين وتقوم فيها وفي معظم الأحيان وكالات متخصصة تخضع لسلطة مدنية،مع وسائل بالغة التقدم والتعقيد،تكنولوجية و إنسانية.ثم توزع بطرق غامضة بسرعة كبيرة وعلى جميع المستويات المدنية والعسكرية وغيرها،وذلك من أجل الوصول وضمان تحقيق بيئة إستراتيجية متكاملة تستطيع التحرك بأفضل وأحسن حال أو شكل .

أما الاتصالات فهي مضمونة من خلال مجموعة من الوسائل السريعة و الفعالة،ولكن يمكن تعطيلها بشكل سريع أيضا.من هنا جاء التطور الكبير في وسائل الحماية و السرية. والصراع حول أنظمة الاتصالات عرف تطورا ضخما خلال الحرب العالمية الثانية.فيما يتعلق بالقرار،فقد أصبح من الواجب السيطرة على معطيات كثيرة ومختلفة في هذا الشأن،كما أن السلطة المدنية لم تعد تسمح للسلطة العسكرية بالحرية المطلقة في اختيار الوسائل والطرق.
من الآن فصاعدا أصبحت وسئل المساندة الدائمة والضخمة تحقق نتائج كبيرة على الصعيد الإستراتيجي،مثل الدعم اللوجستي وغيره، التي تقدم دعما كبيرا للقوات وتبقى في اتصال معها،وتجعلها قادرة على الحفاظ على مستواها لمدة كبيرة،كما أنها تقوم بترميم كل ما يتعرض للتدمير وبسرعة استثنائية.
على الصعيد الإستراتيجي: النظام الإستراتيجي هو تنظيم جميع القوى التي توضع في العمل وفي خدمة الإستراتيجية العامة،الشاملة أو الوطنية. هذا النظام يتجاوز عمليات الفصل والتمييز المعروفة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية،وبين الدبلوماسية و الإستراتيجية في تعريفها الكلاسيكي،بين المؤسسات وجماعات الضغط.؛في عملية هندسية معقدة تنقسم إلى فضائين أساسيين، مادي مثل ( القوى) وثقافي مثل (المذاهب والتيارات،الثقافة الإستراتيجية)، و معنوي مثل ( الانتماء والارتباط بالأمة،ترابط وتعاون النخب الحاكمة)، وهذا ما سماه بعض الإستراتيجيين ” المعنوي الإستراتيجي” .

هذان الفضاءان يتبعان أو يصبهما تأثير خاضع للبيئة أو المناخ الذي يوجدان فيه وهو ما نسميه “المدخلات”، ويحاولان التفاعل معه من خلال تثبيت الأهداف الحالية أو الكامنة والتي في النهاية تتعارض مع أهداف العدو أو الخصم. هذه الأهداف متغيرة ومتبدلة حتى يكون لديها استعداد المواجهة مع الظروف والمتغيرات. أما وضعها في التطبيق يتطلب قرارات ستصطدم بعمل النظام وسيره مثل (البيروقراطية،الدعم اللوجستي والمساندة،والحالة الفنية و التقنية)؛هذا الاصطدام يترجم باتخاذ قرارات خاطئة أو بعدم اتخاذ القرار.

ث ـ في تداخل العلاقة بين العوامل الداخلية و الصراعات الدولية.
بالتأكيد هناك قيمة كبيرة للمصلحة التي تحددها العوامل الداخلية للإستراتيجية وللسياسة الخارجية.مع ذلك يجب الابتعاد نهائيا أو تجنب فقدان الرؤية الصحيحة فيما يتعلق بالعامل المركزي أو الأساسي، هذا العامل هو أن الإستراتيجية تفترض دائما خصما أو منافسا محددا. إذا لا بد من وجود عدو موضوعي أو يمكن الإشارة إليه ومعرفته بطريقة ما، ( كما كان الاتحاد السوفييتي مثلا موضع انشغال دائم للولايات المتحدة أو للدول الغربية بشكل عام). Colin Gray تحدث عن وجود طبيعتين لسباق التسلح، هاتان الطبيعتان ناتجتان عن ظاهرة الفعل/ورد الفعل،والتي أصبحت أكثر تعقيدا من خلال تدخل الضغوطات الداخلية.

إن وجود سباق للتسلح يفترض التنافس بين اثنين على الأقل. والأمثلة التاريخية هي كثيرة على هذه الحالة، مثل التنافس البحري بين ألمانيا و إنكلترا في بداية القرن العشرين،التنافس البري بين فرنسا وألمانيا بين عامي 1870ـ1940،الصراع والتنافس الأمريكي ـ السوفييتي طيلة الحرب الباردة. يمكن أن يبدأ السباق من قبل بلد يريد ردع كل التصرفات العدوانية من خلال إظهار قوته الهجومية و الدفاعية،أو من اجل دعم قوته الدبلوماسية،وهي عوامل تتعلق هنا بالسياسة الخارجية.وأيضا يمكن لسباق التسلح أن يبدأ لأنه من الضروري والمفيد عند العديد من الفاعلين والمستفيدين في هذا المضمار. ويمكن أن يكون نتيجة لعملية سياسية، كما فعل الرئيس جون كنيدي بالحديث عن صاروخ gap أثناء حملته الانتخابية في عام 1960.

Colin Gray يحدد ثمانية عوامل أو تأثيرات داخلية محرضة أو تشترط سباق التسلح،وهي تظهر كحالة إجبارية ناتجة عن تهديدات خارجية،هذه العوامل هي :
ـ الجمود
ـ التقنية
ـ مصالح المقررين
ـ وباء الخوف من أن يسبقك الآخرون
ـ التخطيط
ـ المذهب الإستراتيجي
ـ الحكومة وعلاقتها مع الجيش
ـ الموقع الجغرافي

هذا المثال عن التسليح يظهر الطبيعة المزدوجة و المعقدة لسباق التسلح والذي لا يمكن اختزاله إلى فئة واحدة من العوامل. من هنا تأتي فائدة التحليل “النظامي” (من نظام)،والذي يأخذ بالحسبان هذا التراكب imbrication بين العوامل الداخلية و العوامل الخارجية.

4 ـ الاستشراف الإستراتيجي.
ـ مفهوم “الثورة داخل الشؤون العسكرية”.
إن فكرة النظام بدأت في أخذ مكانها داخل المفردات الإستراتيجية،لاسيما بعد دخول فكرة الثورة في الشؤون العسكرية.أتت هذه الثورة في الشؤون العسكرية من قبل الولايات المتحدة الأميركية،وذلك من خلال أدب جديد وغزير تناول هذا المفهوم مع مطلع التسعينات.حاول الكثير من المنظرين البحث عن أصول بعيدة لمفهوم الثورة في الشؤون العسكرية،حتى أن بعضهم عاد به إلى منتصف القرن التاسع عشر،ولكن هذا المفهوم يبدو انه أحدث من ذلك بكثير. فقد عمد السوفييت إلى تطوير فكرة “الثورة في الأشياء العسكرية” منذ عام 1963،وفي عام 1980 فتحوا حوارا حول “الطرق التكتيكية الجديدة”،حتى أن بعض المعلقين أطلق عليه “الثورة التكتيكية” .

إن مصطلح Revolution in Military Affairs ( RMA)، ظهر في المفردات الأميركية في سنوات التسعينات وذلك بتحريض من مدير Net Assessment Office of Pentagone،وهو Andrew w. Marshall ،حيث وقف مع الفكر القائلة بأن الثورة العميقة التي نتجت عن التجديدات التقنية سيكون لها نتائج مذهبية doctrinales كبيرة. أما ( RMA) فقد كان موضوعا لتقرير سري في عام 1992،ثم تم نشره في السنة التالية. إذا الحوار حول المصطلح انطلق وبقوة،إن كان بين المحللين أو في جميع وحدات الجيش،والتي بدورها وضعت مجموعات متخصصة هدفها الوصل إلى بناء مذهب جديد.

إن الفكرة الأساسية للمفهوم ترتكز على أن الحرب من الآن فصاعدا قد تغيرت بشكل جذري فيما يتعلق بطريقة وآلية العمل،أو بطبيعتها،لاسيما مع قدوم وسائل أخرى جديدة في المراقبة و بناء جيوش لها قدرات كبيرة ودقيقة في نفس الوقت. أما الشجاعة والإرادة الإنسانية فقد وجدت أيضا من الآن فصاعدا أمام أو في مواجهة التقنية. فالتقنية تحكم في جميع المجالات،إنها تفرض تغيرات مذهبية وعملياتية لها اتساع كبير. وقد تحدث البعض،مثل الأميرال ” Owens” عن مفهوم جديد في هذا المضمار وهو “نظام الأنظمة” من أجل الإشارة إلى أنه لا يوجد أي قطاع من السياسة أو الإستراتيجية لم تتدخل هذه التحولات الجديدة.

وقد ظهرت العديد من الكتب لاقت نجاحا كبيرا في هذا الموضوع،لاسيما War and Anti War في عام 1993 لمؤلفه Alvin and Heidi Toffler، وقد ترجم بشكل سريع إلى الكثير من اللغات،ترجمة ساهمت في تعميم ونشر فكر أن الحرب هي “كبسة زر”.

إن مفهوم “الثورة في الشؤون العسكرية” قدم في مراحل متعددة بشكل مغال فيه،حتى أصبح البعض يعتقده أكثر أهمية من الثورة التي صاحبت السلاح النووي نفسه.أما المعلومات ستصبح من الآن فصاعدا من المفردات التي تضم بقوة على الإستراتيجية. حيث ستسمح بإبعاد الشك وعدم اليقين من أمام كل من يستخدمها ويسيطر عليها،ستساعد في معرفة ماذا نهاجم،كيف ومتى. حتى أن المرجع الأميركي المتعلق بالعمليات ” FM 100-5″ سيضاف إليه ملحقا تحت اسم ” عمليات المعلومات” FM 100-6 .

هذان المرجعان سيضعان في التنفيذ مفاهيم عملياتية جديدة : المناورة الكبرى ،والتي تؤسس على القدرة في السيطرة على المعلومات والحركة ؛ الالتزام الدقيق،وفيه تحدد الوحدات أهدافها وكيفية الوصل إليها بجهد أقل؛ الحماية الكاملة، والتي تضمن الحرية الكاملة في الفعل وتقدر الخسائر ؛ اللوجستيك المدمج، حيث يحدث التوافق من خلاله في تقنيات المعلومات التي تسمح بدورها وسائل نقل تؤدي لردة فعل سريعة في الأزمات وعلى جميع المستويات.

ـ في نقد مفهوم وخطاب “الثورة في الشؤون العسكرية”.
لقد كرّس الحوار حول مفهوم “الثورة في الشؤون العسكرية” نفسه ليقول بضرورة وجود هندسة شاملة و تماسك بين الجوانب التقنية و العملياتية. نتذكر هنا أن مساعد وزير الدفاع الأميركي Edward Warner يعرف الثورة في الشؤون العسكرية كتوافق في تقنيات جديدة،وتغيرات مذهبية، ثم بتغيرات في البنى. ويضيف أن الكثير من التغيرات هي متطورة عن أشياء سابقة أو عن غيرها،أكثر مما هي تغيرات ثورية ، وهذا ما يقود للقول بأن تلك التحولات و التغيرات الجذرية هي غامضة أو مبهمة.

أما البحث عن المعلومات فهو معطى دائم في تاريخ الإستراتيجية،وعدما نغير كلمة “معلومات” بكلمة أخرى هي “مخابرات” فهذا ليس مبررا للقول بأن تغيرا جذريا قد حصل .ويتابع المتشككون في هذه “الثورة” القول أو التساؤل: هل المخابرات أو المعلومات تستطيع بشكل فعلي القضاء على الشك وعدم اليقين،محولة الحرب بذلك إلى لعبة؟ أما جوابهم فهو أن العامل الإنساني يبقى له دور كبير في الموضوع،بحيث أنا لا نستطيع إعطاء أو توصيف ردة الفعل الإنسانية بشكل ناجز وكامل. وقد كانت الحرب في كوسوفو و حرب الخليج أمثلة جيدة على الاختلاف في وجهات النظر حول “الثورة داخل الشؤون العسكرية” .

ـ ماهية ومعنى خطاب “الثورة في الشؤون العسكرية”.
الثورة داخل الشؤون العسكرية كانت خطابا في البداية أكثر مما هي إشارة على متغيرات تقنية،كما كانت في البداية “مبادرة الدفاع الإستراتيجي” التي وضعها الرئيس الأسبق ريغان.ولكن هذه الإثارة و الانتشار النظري كانت نتيجة لمفهوم يحاول الإجابة على منطقين: داخلي وخارجي. “فالثورة” هذه،كانت عملية من أجل شرعنة بنية وتطوير القوى المسلحة الأميركية. والمقصود هنا أن وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” قد تبنت التغيرات الكبيرة وفي جميع الميادين والتي تظهر اليوم بشكل كبير أو يتم إنتاجها على جميع المستويات،أو هي التجديد العسكري نفسه .إن خطاب هذه “الثورة” هو موضوع محرك على صعيد المذاهب العسكرية وخاصة في داخل المؤسسة العسكرية،وهو فعَّال على الصعيد السياسي في مواجهة محاولات تخفيض أو تقليص الميزانيات العسكرية.

أيضا خطاب “الثورة” يشكل رسالة هامة يمكن توجيهها إلى الخارج.فالولايات المتحدة تقترح من جديد نموذجا للعالم بأسره،فهي تبين وفي نفس الوقت أنها ما تزال متقدمة على العالم ومهما حصل،وأن المستقبل سيكون ملك الجيوش التي تتطابق مع هذا النموذج،أي النموذج الأميركي .أما الذين يرفضون هذا التطور الإجباري فهم في نظر أصحاب “الثورة” ليسوا إلا متأخرين عن التطور. ولكن تجربة اللحاق بالولايات المتحدة من قبل الدول العظمى مكلفة جدا وخاصة فيما يتعلق بالتحديث في الشؤون العسكرية.

فمن جهة،محاولة تقليد الولايات المتحدة تعني البقاء تحت خط قوتها،والسبب هو عدم وجود الإمكانيات أو حتى امتلاك مناهج عمل وسير التحديث الأميركي. ومن جهة أخرى،هناك العديد من القوى ترى أن الوسائل التقنية المعروضة من قبل مفهوم”الثورة داخل الشؤون العسكرية” ربما تكون مفيدة من اجل وضع أو بناء إستراتيجية ليس في الحقل العسكري فقط،بل في جميع المجالات.إذا، وفي قراءتنا لمفهوم أو خطاب “الثورة داخل الشؤون العسكرية” نعرف ما هي التطبيقات العملية التي يستطيع أن يقدمها مفهوم يتصف بأنه مجرد أكثر من مفهوم “النظام” الذي أوردناه سابقا. “فالثورة” هنا تذكرنا بضرورة فهم وإدراك الإستراتيجية بشكلها الشمولي وليس الجزئي،مهما كانت إستراتيجية تقنية أو تعتمد مذهبا بحد ذاته. أيضا،تحليل هذا الخطاب يسمح بمعرفة الخلفية الإيديولوجية للمفاهيم التي تقدم نفسها على أنها مفاهيم تقنية خالصة،وهي في الواقع تضع نفسها في خدمة وجهة نظر سياسية أو مشروع سياسي.

في النهاية،يرى الكثير من الإستراتيجيين أن البعد العسكري ليس إلا عنصر من العناصر الأخرى للإستراتيجية،فاليوم هناك صعود كبير وقوي للبعد الاقتصادي،طبعا من غير أن ننسى الثورة المعلوماتية التي لا تقل أهمية.إذا النظرة وحيدة الجانب أو التي تعتمد البعد العسكري فقط هي في نفس الوقت،نزعة ذاتية أو استعلائية تهدف للرفع من شأن بلد على حساب البلدان الأخرى،وتتجاهل التعددية الثقافية بين الأمم و تنطلق من موقف قومي يمكن أن نصفه بالتطرف، وهي أيضا معرفة غير عميقة بطبيعة الإستراتيجية،ومؤسسة على علاقة صراعية conflictuel و على إمكانية تحقيق إقصاء نهائي يصل لدرجة تغيب الخصم من الوجود نهائيا. إن مفهوم البعد الواحد للإستراتيجية ليس بمفهوم جديد فقد تحدث عنه إستراتيجيو الصين لاسيما Sun Zi عندما قال :” الحرب هي ميدان الحياة والموت،إنها الطريق الذي يؤدي للحياة أو للعدم والفناء” .

إذا نظرنا بعمق إلى تاريخ التحولات و التغيرات التي استمرت منذ 2500 عام،وبشكل خاص تلك التحولات التي نراها اليوم أمام أعيننا،نستطيع القول إن حكمة هذا الإستراتيجي الصيني بقيت وستكون الأساس أو جوهر كل فكر إستراتيجي.

 إعداد وتأليف الدكتور صلاح نيُّوف

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14860

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *