دراسات افريقية

مذكرات محمد نجيب.. “كنت رئيسًا لمصر”

محمد عبدالرحمن عريف

   كنت طالباً في السنة الثانية بالكلية (1914) وجاء المستر ن.ر.سمبسون، مدرس اللغة الإنجليزية، ليملي علينا قطعة إملاء.. جاء فيها: “إن مصر يحكمها البريطانيون. فلم يعجبني.. وتوقفت عن الكتابة ونهضت واقفاً وقلت له: لا يا سيدي.. مصر تحتلها بريطانيا فقط.. ولكنها مستقلة داخلياً.. وتابعة لتركيا. فثار المدرس الإنجليزي، غضب، وأصر على أن أذهب، أمامه إلى مكتبه وأمر بجلدي عشر جلدات على ظهري.. واستسلمت للعقوبة المؤلمة دون أن أتحرك، أو أفتح فمي”. كنت متأثراً، في ذلك الوقت، بكتابات مصطفى كامل ضد الإنجليز.. كانت الكتابات تهرب سراً من مصر إلى السودان.. وكنا نقرأها بعيداً عن الأعين، ونحاول أن نلقد صاحبها على قدر إستطاعتنا.

   لقد كان الهدف من النظام العسكري حماية الحكام من أعدائهم المحليين والأجانب، ولم يكن من السهل على الجيش أن يبتعد عن السياسة.. لأنه لم يكن من السهل عليه أن يترك بلاده تهوي إلى قاع الفساد.. وكان لابد أن يتدخل في السياسة ليكون حكومة تدافع عن المصالح والرغبات المشروعة للشعب. وهذا بالضبط ما حاولنا أن نفعله بقيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952. أمسكنا بزمام السلطة لأننا لم نعد نتحمل المهانة التي كنا نعيشها مع الشعب المصري.. وكانت نقطة التفجر هي إنهزامنا في فلسطين..ولكن.. بالنسبة لبعضنا كانت نقطة التفجر سابقة على الهزيمة في فلسطين. أنا شخصياً كانت نقطة تفجري في 4 فبراير 1942. وعبرت عن غضبي من هذا الحادث الذي داس فيه الإنجليز كرامة الملك فاروق بالدبابات، بأن قدمت استقالي من الجيش، لكن الملك لم يقبل الإستقالة.. وبقيت في الجيش، منذ ذلك اليوم، رغم إرداتي.

    أما الإصابات الكبيرة التي سجلتها، فكانت تستحق فعلاً التسجيل. كانت هناك إصابة من لغم انفجر على بعد متر ونصف المتر مني، أصابني في صدري وتحت إبطي ويدي اليُمنى. الإصابة الثانية كانت رصاصة، اخترقت شعري، واحتكت برأسي، وجرحتني جرحاً سطحياً. أما الإصابة الثالثة والخطيرة، فكانت في معركة التبة. كانت هذه المعركة في ديسمبر 1948. أصبت في صدري..في الشرايين القريبة من القلب..وعندما نقلت إلى المستشفى كنت في حالة إغماء تام..حتى تصور الأطباء أنني مت..وفعلاً كتبوا ذلك على الورق.

   كان حسين سري عامر وكيل السلاح..وكان وجوده عاراً على الجيش المصري كله..فقد ارتبط اسمه أكثر من مرة، بتهريب المخدرات وبيع الأراضي بالطرق غير المشروعة، واتهم بشراء الأسلحة المتخلفة من الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية، وبيعها للجيش المصري بأسعار خرافية.. بخلاف إتهامات أخرى مثل سرقة ونهب أموال البدو، ومصوغات نسائهم..ومثل جرائم الرشوة والتزوير. وكان الملك يشترك شخصياً في مثل هذه العلميات، خاصة عمليات بيع السلاح، لكنني لم أعرف ذلك إلا عام 1950، وقبل ذلك التاريخ، كنت بدون فهم، أبلغ الملك بهذه الإنحرافات.

    لا أريد أن أنسب لنفسي ما هو ليس لي.. ولكن الحقيقة تقتضي أن أقول، أنني أول من أطلق عبارة “الضباط الأحرار” على التنظيم الذي أسسه جمال عبد الناصر .. وأنا الآن أعتذر عن هذه التسمية، لأنها لم تكن إسماً عى مُسمى .. فهؤلاء لم يكونوا أحرار وإنما كانوا أشرار .. وكان أغلبهم، كما اكتشفت فيما عبد، من المنحرفين أخلاقياً وإجتماعياً .. ولأنهم كذلك كانوا في حاجة إلى قائد كبير، ليس في الرتبة فقط، وإنما في الأخلاق أيضاً، حتى يتواروا وراءه، ويتحركوا من خلاله.. وكنت أنا هذا الرجل للأسف الشديد.

    لم تكتب السيرة الذاتية لنجيب على نحو ما جرت عادة من يطلقون تغريدتهم الأخيرة فيطلقون ذكرياتهم ورحلات كفاحهم على طبيعتها دون تكلف، وإنما كانت بمثابة خوض لمعركة، ومحاولة لاسترداد الذات التي أفناها التخفي خلف أسوار الاعتقال، والتبرؤ من الكثير من الأخطاء والمسؤليات التي ألصقت بشخصه، والتشفي والانتقام من أولئك الذين أنهوا طموحه بتحديد إقامته.

   «إن هذا الكتاب سيعيش أطول مما عشت… وسيقول أكثر مما قلت… وسيثير عني جدلًا بعد رحيلي أكثر من الجدل الذي أثرته وأنا على قيد الحياة»… بهذه الكلمات يٌمهر الرئيس الراحل محمد نجيب مقدمة كتابه بعنوان «كنت رئيسًا لمصر»، الذي عُد في نظر البعض أول محاكمة حقيقية لحركة 23 تموز/ يوليو 1952 تصدر من أحد أهم قادتها العسكريين بعد سنوات طوال قضاها خلف أسوار الإقامة الجبرية، وهو الأمر الذي فتح الباب لنقاش وجدل عريضين -لم يتوقفا حتى اليوم- على الساحتين الثقافية والسياسية.

    بمجرد ظهور الكتاب في طبعته الصادرة عن دار المكتب المصري الحديث عام 1984، حتى صارت مذكرات محمد نجيب بمثابة المرجع الرئيس لجميع القوى والتيارات السياسية والثقافية المختلفة مع حركة تموز/ يوليو، وللحقبة الناصرية بشكل عام.

   هي محاولة لإستراداد الذات تبدو مذكرات نجيب –التي لا تخلو من حس أدبي، وبراعة في السرد- محاولة لقراءة تاريخ وادي النيل منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى ثمانينات القرن الماضي من زاويته الخاصة، بحيث يضمحل التاريخ العام أمام (الأنا المتعالية) للرئيس الذي حلم بقيادة التغيير ذات حين، فإذا به يقع رهن الإقامة الجبرية، ويُترك طي النسيان لسنوات طوال إلى حد سماعه نبأ وفاته في المذياع أكثر من مرة- كما يروي في سيرته.

   في مذكراته استطاع نجيب نفسيًا استرداد حريته وقوته وسيطرته وتفرده – ليكون أول دفعته في المدرسة الحربية، وأول من اعترض من بين اقرانه بكلية غوردون على المعاملة السيئة لأبناء وادي النيل من الضباط الانجليز، وأول من قدم استقالته من الحرس الملكي اعتراضًا على التجاوز في حق الملك فاروق من قبل الانجليز في اعقاب أحداث شباط/ فبراير 1942، بالإضافة لإنجازاته العسكرية في حرب 1948، وتضحياته وإصاباته التي بلغت نحو 12 اصابة لم يسجل منها سوى ثلاثة فقط، وقيادته لحركة الضباط الأحرار الذي كان صاحب الفضل في تسميتها.

   نفسيًا تحول الرئيس السجين إذن إلى بطل خارق منذ الطفولة، استعاد مجده ومكانته وأهميته المعنوية. الملك فاروق لم يتوقف نجيب في مذكراته عند هذا الحد، وإنما تبرأ من الكثير من القرارات والقوانين التي اتخذتها ثورة يوليو في مسارها الإصلاحي- وإن تعرضت للانتقاد فيما بعد، حتى تلك التي مٌهرت بتوقيعه كقانون حل الاحزاب، أو كانت في عهد وزارته العسكرية كقانون الإصلاح الزراعي. فبحسب نجيب –كانت الاغلبية في مجلس قيادة الثورة– تدعم القرارين وقد اضطر لاتخاذ هذه القرارات نزولًا على رأي الاغلبية، على الرغم من أنه يسوق في مذكراته مبرراته الشخصية لاتخاذ هذه الخطوات.

   كان نجيب يلقي بشهادته للتاريخ، وهو معلق ما بين الأرض والسماء –على حد تعبيره– وقد أراد من وراءها –كما يقول– كشف عدد من الملفات الهامة في التاريخ المصري الحديث التي ظلت حقائقها مطموسة بفعل توالي جيل الانقلاب على أجهزة الدولة تارة، والتأثير القوي للتيارت السياسية التي تبنت وجهة النظر الرسمية في ظل غيابه خلف أسوار الإقامة الجبرية تارة أخرى. وأيا ما يكون الأمر فقد استطاع نجيب من وراء كتابه إثارة الإشكالات، وفتح باب الجدل حول العديد من الملفات الهامة.

   هي نسخ ثلاث.. وروايات متناقضة إلا أن ثمة إشكالات وأسئلة دارت حول الكتاب في ذاته، بعضها يتعلق بمصداقيته، فكتاب «كنت رئيساً لمصر» ليس أول كتاب يحتوى على مذكرات الرئيس محمد نجيب، بل هو الكتاب الذى يحتوى على النسخة الثالثة من مذكرات نجيب، فقد صدرت النسخة الأولى من مذكرات نجيب عام 1955 بعنوان «مصير مصر» في بريطانيا والولايات المتحدة، وجرت ترجمتها وأعيد نشرها فى مصر فى ثمانينيات القرن الماضي. وفى عام 1975 أصدر نجيب النسخة الثانية من مذكراته بعنوان «كلمتى للتاريخ»، وفى عام 1984 صدر كتاب «كنت رئيساً لمصر»، الذى احتوى على أخر تنقيح لمذكرات الرجل.

أقوال مأثورة للرئيس نجيب

   النحاس قال لي: أفضل أن يكون الجيش بعيداً عن السياسة، وأن تكون الأمة هي المصدر الوحيد للسلطات.. وإن كنت في نفس الوقت أتمنى أن يكون انتماء الضباط للوطن والشعب، أكثر من انتمائهم للملك.

   لقد كنت كثير التصادم مع أمثال أولئك الضباط الذين باعوا أنفسهم للشيطان..إبراهيم عطا الله ويوسف رشاد واللواء محمد حيدري الذي جاء بعد إبراهيم عطا الله، والذي كان أحد ضباط البوليس السابقين، ذوي الشهرة في ضرب المتظاهرين أيام ثورة 1919، ثم رجع مديراً لمصلحة السجون.

    إن بإشتراكنا العلني في حرب فلسطين، أعطينا الصهاينة ذريعة ليمارسوا حقهم، كأقلية، في الحرب من أجل البقاء في أرض لا علاقة لهم بها. وكانت هذه الحرب في حقيقتها عبارة عن سلسلة من الهدنة تتخللها معارك بسيطة.

   في فلسطين اكتشفت أن العدو الرئيسي لنا ليس اليهود وإنما الفساد الذي ينخر كالسوس في مصر، والذي كان يتمثل في الملك وفي كبار القواد والحاشية والإقطاع وباقي عناصر النظام ودعائمه في مصر. وكنت أول من قال: إن المعركة الحقيقية في مصر وليست في فلسطين.. وهي العبارة التي نسبها جمال عبد الناصر لنفسه بعد ذلك.

   قبل حريق القاهرة بيومين، رفض جنود بلوكات النظام انذار القائد البريطاني المقيم في فايد، على شاطيء القناة، بتسليم انفسهم.. وأذاع فؤاد سراج الدين وزير الداخلية، بياناً من خلال الرادبو طالب فيه الجنود أن يقاتلوا حتى آخر طلقة، وهدد من تراجع عن ذلك بالمحاكمات العسكرية. بينما كانت القاهرة تحترق، كان الملك يحتفل بالمولود الجديد مع زوجته ناريمان صادق..

   إن انتخابات نادي الضباط كانت فعلاً هي الثورة.. وعندما يكتب التاريخ الحقيقي لثورة يوليو سوف يقرر المؤرخون أن الملكية في مصر بعد انتخابات نادي الضباط. قبل انتخابات النادي كانت اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الأحرار، تعتقد أنه ليس من الممكن القيام بالثورة قبل عام 1955. لقد غيرت الإنتخابات عقولنا. وأحسسنا بقوتنا.. وأكدت لنا مدى ضعف الملك ونظامه. لقد استغل الضباط الأحرار اسمي وسمعتي وشعبيتي، أحسن إستغلال في اختبار قوتهم، وفي احساسهم بذاتهم.

   أثناء وداعنا للملك فارق ومغادرته البلاد قال عدة كلمات منها: “أرجو أن تعتني بالجيش فهو جيش آبائي وأجدادي” .. “إن مهمتك صعبة جداً، فليس من السهل حكم مصر. الآن أدركت أن فاروق كان يُعني شيئاً آخر.. لا أتصور أن أحداً من الذين حكموا مصر أدركوه، وهو أن الجماهير التي ترفع الحاكم إلى سابع سماء هي التي تنزل به إلى سابع أرض.. لكن لا أحد يتعلم الدرس.

   إنني أعتبر ما حدث ليلة 23 يوليو 1952 إنقلاباً.. وظل على هذا النحو حتى قامت في مصر التحولات السياسية والإقتصادية والإجتماعية فتحول الإنقلاب إلى ثورة. بعد أقل من أسبوع على رحيل الملك كنا نسير في طريق تكييف القوانين الذي انتهى بنا إلى هاوية اللاقانون بعد ذلك. اقترحوا عليّ رشاد مهنا (كأحد الأوصياء) فاعترضت. وكان لإعتراضي ما يبرره.. فرشاد مهنا خشي مواجهة الملك ورشاد مهنا ضابط وأنا لا أريد أن أزج بالجيش فيما لم يُخلق له. حاولت قدر استطاعتي اغلاق هذا الباب، وابعاد الجيش عن الحياة المدنية، وعودته إلى الثكنات، وترك البلد للسياسيين. لكن، كان الوقت، على ما أعتقد، قد فات. فقد اخترق العسكريون كل المجالات وصبغوا كل المصالح الدنية باللون الكاكي.

   لقد كنت أخشى أن يكون حكم العسكريين هو نقطة تحول في تاريخ حكم مصر، لا تستطيع بعده أن تعود للحكم المدني، الطبيعي. وكنت أخشى أن ينتقل النفوذ العسكري من الوزارة التي شكلتها إلى كل شبر في الحياة المدنية. كان بين عبد الناصر وبينهم (الإخوان) تاريخ طويل، قبل الثورة، وكان اسمه الحركي عندهم زغلول عبد القادر. رغم الصدام الذي وقع بين الإخوان والثورة بسبب تشكيل وزارتي، إلا أننا لم نقطع كل الجسور معها كجماعة سياسية، هي في حقيقتها حزب، عندما أصدرنا قانون الأحزاب.. أو قانون تنظيم الأحزاب السياسية. كان موعد الإنتخابات البرلمانية الجديدة، كما وعدت، في فبراير 1953. كنت أعتبر هذا الموعد هو تاريخ إعادة الحياة الديمقراطية كاملة إلى مصر. كنت أعتبره التاريخ الذي يعود فيه الضباط إلى الثكنات والسياسيين إلى البرلمان، والحياة إلى طبيعتها.

   رغم أن بيتي كان بسيطاً، ولا يليق بأن يكون بيتاً لرئيس جمهورية، ورغم بعده عن قلب العاصمة، فقد فضلت البقاء فيه لكي أقنع الآخرين بالتقشف واعطاء المثل لهم. عندما قالوا لي: “ان مرتب رئيس الجمهورية سيكون ستة آلاف جنيه سنوياً. أي 500 جنيه في الشهر.. عرضت أن أتنازل عن نصف هذا المرتب طوال مدة الرئاسة..

   قوة عبد الناصر في شخصيته.. وشخصيته من النوع الذي يتكيف ويتغير حسب الظروف.. فهو مرة مع الشيوعيين ومرة مع الإخوان، وعشرات المرات ضد الجميع ومع نفسه. كما عرفت بعد ذلك، كانت “حركة” سليمان حافظ، المباغتة، تمهيداً لإعلاني رئيساً للجمهورية ولإبعادي عن الجيش، ووضع سلطة التصرف فيه إلى عبد الحكيم عامر، الذي رقي، رغم معارضتي، من صاغ إلى لواء، وأصبح القائد العام للقوات المسلحة.

   كان أول خلاف بيننا في تلك الفترة حول محكمة الثورة.. لأننا سنكون، كما قلت، خصماً وحكماً في نفس الوقت.. كان عبد الناصر وشلته يسعون علناً للإنفراد بالسلطة.. كانوا يفعلون كل شيء لفرش الأرض وتمهيدها لذلك.. رغم كل ذلك، لم أحاول أن أفعل مثلهم.. ولم أحاول أن أواجههم بنفس أساليبهم القذرة.. فلم تكن أخلاقي لتسمح بذلك كما أنني كنت أسعى جاهداً أن اُغطي على صورتهم المشوهة أمام الناس، حتى لا يفقدوا ما تبقى من إيمانهم بالثورة.. فهل كان هذا خطأي الكبير؟.

    سحبت من رأسي الأفكار الخاصة بتقديم استقالتي، والتي كثيراً ما روادتني خلال الشهور الأخيرة قبل رحلة النوبة، واعتبرت الإستقالة هي اعطاء الفرصة كاملة لديكتاتورية عبد الناصر لكي تسود وتسيطر وتطيح بما تبقى من أمل ديمقراطي.

   لم أكن موافقاً على حل جماعة الإخوان.. استقلت أول مرة لأنني رفضت أن اكون واجهة. حضروني في بيتي وقعطوا إتصالاتي ومنعوا الصحف وأنا لا أزال رئيساً للجمهورية. أرادوا تحطيم صورتي عند الناس فهب الناس للتخلص منهم. عُدت إلى الحكم على أكتاف الجماهير ودماء الإخوان المسلمين.

الصراع الخفي لعبدالناصر مع نجيب

   إذا كان للقيادة الجماعية بعض المميزات فإن عيوبها أكثر.. وأخطر هذه العيوب أن يظهر شخص مثل جمال عبد الناصر ينجح في تحريك المجموعة من تحت المنضدة، لتصوت حسب أهدافه وأغراضه، كما حدث. إنني لم أقبل العدول عن الإستقالة إلا من أجل الحرية والديمقراطية وإجراء انتخابات برلمانية وتأليف جمعية تأسيسية تمثل مختلف هيئات الشعب، ستجرى الإنتخابات التي تعيد الحياة النيابية للبلاد…

   اليوم أعود إلى القلم لأنفض عنه التراب، وإلى الفكر لأجلو عنه الصدأ، فالرقابة على الصحف لا تحطم الأقلام فحسب بل تقضي على ملكة التفكير. يا ويل أمة لا يمارس كُتّابها إلا المدح والثناء ولا يسمح حكماها إلا بتلك النغمة المزدولة، فالنقد السياسي كالنقد عامة ضرورة من ضرورات الحياة والتقدم رمز على الحيوية، فبغيره تفتر الهمم وتتقاعس النفوس ويخبو الذهن والإصلاح. أليس من الافضل أن تكون الأحزاب موجودة قبل الإنتخابات؟.. من يختلف على ذلك. إلا من يريد الديكتاتورية ويخشى على نفسه من الديمقراطية ؟.

   لقد اشتراهم (الإخوان) عبد الناصر ليبيعني.. ثم .. باعهم واشترى السلطة المطلقة. إنني بمنتهى الصراحة لم أتصور أن يغير الإخوان موقفهم ويؤيدوا جمال عبد الناصر. ولم يلبث أن دفع الإخوان ثمن تأييدهم لعبد الناصر، في أزمة مارس عندما دُبر ما سُميّ بحادث الإعتداء عليه في المنشية يوم 26 أكتوبر، واتهم فيها محمود عبد اللطيف. وكانت هذه المسرحية المدبرة، محاولة لتحويل عبد الناصر إلى بطل شعبي ومحاولة لينسى الناس عوار اتفاقية الجلاء، ثم هي فرصة ليتخلص عبد الناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان.

   قال لي عامر :”إن إقامتك في المرج لن تزيد عن بضعة أيام”. ولكن إقامتي في المرج استمرت من نوفمبر 1954 إلى أكتوبر 1983.

   عبد الناصر كان يعتبر السودان عبئاً على مصر يجب التخلص منه. إن السوادن لم يكن بالنسبة لي مجرد ارتباط عائلي ولا عاطفي.. وإنما كان أيضاً ايماناً بأهميته وضرورته لمصر.. لم يكن مجرد فصل من حياتي وإنما هو أيضاً فصل من حياة مصر. إنني بالرغم من كوني مصرياً، ولست سودانياً، إلا أنني أشعر بحنين لهذه الأرض التي ترعرت فيها ونشات عليها ورويتها بدماء أجدادي.

   كان الأمريكان في الحقيقة يسعون جاهدين للتسلل داخل السلطة في مصر، ورغم أنني كنت في صراع حاد مع عبد الناصر، إلا أنني رفضت الإستعانة بهم، ورغم أن عبد الناصر كان يفعل المستحيل للتخلص مني، فإنني لم أكن أعتمد في وجودي إلا على جماهير الشارع. كان الأمريكان يريدون أن يحصلوا على مصر مجاناً.. أو ببضعة أجوال من قمح المعونة.. ولم يكونوا على استعداد لأن يدفعوا أكثر من ذلك.. كأن يمدونا بالسلاح مثلاً. لقد وقف الأمريكان بجانب عبد الناصر فعلاً لكنه لم يوفِ بعهده.

    لقد كان شعار تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل شعاراً رفعته الحكومات العربية للإستهلاك المحلي، ولإستمرار طرح قضية وطنية تلهي الناس عن القضية الإجتماعية أو الديمقراطية.. كان بعض الكتاب الإسرائيليين قد تفاءلوا عندما عرفوا أن جمال عبد الناصر الذي كان على إتصال ببعض ضباط المخابرات الإسرائيلية في حرب فلسطين، هو أحد رجال الثورة.

  كان من المعروف أن الملك يحكم مصر بالجيش والأزهر.. الجيش يحميه والأزهر يبرر تصرفاته وقراراته.. وكان الملك قادراً على أن يُطيح بمن يعارضه من مشايخ الأزهر..

   إن المشروعات الضخمة التي أُقيمت في الستينات، كانت بلا تخطيط، وبلا كوادر تديرها.. كانت مباني بلا معاني.. وكانت دعاية لا ضرورة إقتصادية.. ووصل التوزير في بعضها إلى حد الإعلان عن إنتاجه السنوي دون أن يفتح المصنع أصلاً. حتى عندما أُقيم المشروع الضخم المُسمى بالسد العالي، كان الإهتمام بالجانب السياسي والدعائي فيه أهم وأكبر من الجانب الإقتصادي والفني.. إن شعار “مصر فوق الجميع” كان شعاراً حقيقياً في عهدي.. ولكن الشعار انقلب تماماً في ايام أخرى تلت إختفائي من على المسرح.

   رفضت أن أهرب خارج مصر بحجة وجود خطر على حياتي. تمنيت أن يعاملوني لحظة التخلص مني كما عاملت الملك فاروق الفاسد. الذين قاموا بالثورة طَحَنَتهم، والذين نافقوها رَفَعَتهم. شطبوا إسمي من كتب التاريخ فلم يصدق أطفالي أنني كنت رئسياً لمصر. إبني الأكبر مات بعد الإعتقال والأوسط مات مقتولاً في ألمانيا والثالث طردوه من عمله بقرار جمهوري. ضُرِبتُ وأُهنت وتعرضت للموت في حادث إختطافي عام 1956. سمعت خبر وفاتي في اذاعات العالم نقلاً عن مصادر مطلعة في القاهرة..

   كٌنت أقضي يومي في ممارسة بعض التمارين الرياضية.. وفي قراءة الصحف.. وفي سماع الإذاعات .. وفي تسجيل ملاحظاتي حول الأحداث التي تجري في البلاد .. وبعد ذلك في تربية القطط والكلاب..

   الإرهاب يولد إرهاباً.. والدم يفجر الدم.. والقسوة تعشق القسوة.. والديكتاتورية العسكرية لا تحكم إلا بدولة المخابرات.. رفعت المطابع إسمي من كافة الكتب.. شطبوا إسمي من التاريخ.. زوروا التاريخ.. بل وحاولوا أن يتعاملوا معي كأنني لم أوجد ولم أولد وكأنني كذبة أو خرافة أو إشاعة.. لقد تعذب أولادي كما تعذبت أنا.. تعذبنا منذ دخولنا معتقل المرج.

    لو كانوا قد قرأوا قليلاً في التاريخ أو في السياسة، لعرفوا أن عبد الناصر نفذ نصائح مكيافللي في “الأمير” خاصة تلك التي تنصح الحاكم بالتخلص من كل الذين ساعدوه في الوصول إلى الحكم. لقد قًمنا بثورة .. فإذا بهم يحولونها إلى عورة!.

   علمنا أن الملك اتصل بالسفير الامريكي، وطلب منه أن يبلغ الإنجليز أنه في حاجة إلى عونهم، لكن السفير اعتذر بحجة عدم تدخل حكومته في الشئون الداخلية.. لكنه وعد الملك بحمايته وحماية عائلته إذا احتاج الأمر ذلك.. وغضب الملك من رد كافري، وطلب قائد القوات البريطانية في مصر وطلب منه أن يضع خطة لتهريبه هو وأعوانه خارج مصر، لكن القائد البريطاني تراخى في الإستجابة لطلب الملك، فإذا بالملك يطلب منه إحتلال القاهرة، وضرب الإسكندرية بالأسطول.. وفي هذه المرة رفض طلبه تماماً.

   أريد أن أحسم قضية هامة لا تزال تثير الحوار والجدال، كلما جاءت سيرة ما فعلناه في 23 يوليو 1952: هل ما فعلناه في تلك الليلة ثورة أم انقلاب؟ إن من يؤيدنا ويتحمس لنا، يقول: -ثورة!. وكأنه يكرمنا. ومن يعارضنا ويرفض ما فعلنا يقول: “إنقلاب” وكأنه يحط منا. وفي الحالتين لا يجوز أن نأخذ بمثل هذه الإنفعالات العاطفية. وأنا لن أدخل في مناقشات ومتاهات التعريفات والمصطلحات الأكاديمية حول الثورة والإنقلاب.. ولن أتوه في صحارى الخلافات النظرية.. لكنني سأقول رأيى فيما عشته، وفيما رأيته، وفيما صنعته. ان تحركنا ليلة 23 يوليو، والإستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعاً إنقلاباً.. وكان لفظ انقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا.. ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه كان يعبر عن أمر واقع.. وكان لفظ الإنقلاب هو اللفظ المستخدم في المفاوضات والإتصالات. الأولى بيني وبين رجال الحكومة ورئيسها للعودة إلى الثكنات.. ثم عندما أردنا أن نخاطب الشعب، وأن نكسبه إلى صفوفنا، أو على الأقل نجعله لا يقف ضدنا، استخدمنا لفظ الحركة.. وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب.. وهو نفس الوقت لفظ مائع ومطاط ليس له مثيل ولا معنى واضح في قواميس المصطلحات السياسية.. وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة، وبدأنا في البيانات والخطب والتصريحات الصحفية نقول: “حركة الجيش المباركة”. وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع لتعبر عن فرحتها بالحركة.. وبدأت برقيات التأييد تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة، فأحس البعض أن عنصر الجماهير الذي ينقص الإنقلاب ليصبح ثورة قد توافر الآن، فبدأنا أحياناً في استخدام تعبير الثورة، إلى جانب تعبيري: الإنقلاب والحركة.

   أما أول مشكلة عامة أقابلها بعد نجاح الثورة، فكانت مشكلة الوصاية على العرش. لقد تنازل الملك فاروق على العرش لإبنه الأمير أحمد فؤد الثاني.. ولم يكن ممكنا أن يحكم مصر طفل طُرد أبوه إلى المنفى.. فماذا نفعل في هذا الوضع ؟ معظم أعضاء مجلس القيادة طالبوا بإقامة الجمهورية .. لكنني أقنعتهم أن التحضير للجمهورية التي ستحل محل الملكية يحتاج إلى وقت. وكان رأي الإخوان المسلمين إسقاط الملكية وإعلان الخلافة الإسلامية فوراً. وكان رأيى تشكيل مجلس وصاية على العرش. ووافق الجميع. لكن.. كانت هناك عقبة دستورية كبيرة أمام تشكيل هذا المجلس.. فالدستور ينص (مادة 51) على ألا يتولى أوصياء العرش عملهم إلا بعد أن يؤدوا أمام مجلس النواب والشيوخ مجتمعين اليمين الذي يؤديها الملك أمامها قبل مباشرة سلطته الدستورية. والدستور ينص (مادة 55) على أن يتولى مجلس الوزراء بصفة مؤقتة، سلطات الملك الدستورية حتى يؤدي أوصياء العرش اليمين أمام البرلمان. اعترض سليمان حافظ على عدد من السياسيين، كان من بينهم مصطفى النحاس الذي أصبح رئيساً شرفياً للوفد.

    دخلت الحكومة مع الأحزاب في سلسلة من المنازعات القضائية، بسبب هذا القانون، وانشغل الرأي العام بهذه القضايا، حتى صدور قانون إلغاء الأحزاب. وأذكر، يوم طلبنا من الأحزاب أن تنظم نفسها، أن طلب عبد الناصر عدم إعتبار الإخوان حزباً حتى لا يطبق عليهم القانون، وقال لي: “إن جماعة الإخوان كانت من أكبر أعوان الحركة قبل قيامها، ولا يصح أن نطبق عليها قانون الأحزاب. ورفضت طلبه.. وقلت “لا.. لأن القوى السياسية يجب أن تكون سواء أمام القانون”. على أن كل هذه الأسباب التي لم نعلن تفاصيلها في حينها، عندما أعلنا حل الأحزاب، لم تكن لتقنع أحداً بضرورة ذلك القرار.. فتعرضنا إلى هجوم من كل صحافة العالم، خاصة الغرب. وأطلقت عليّ تلك الصحافة لقب “الديكتاتور العادل” .. أو الديكتاتور المهذب.

   إن صحافة العالم التي لصقت بي هذا اللقب، لم تكن لتدرك أن الثورة التي حظيت بموافقة الأغلبية الساحقة، كان لها أعداء، كانوا رغم قلتهم أقوياء.. وكان بإمكانهم تدمير الثورة. ولكوني ديكتاتوراً عادلاً، تعرضت للنقد الشديد من أُلئك الذين يريدون ديكتاتوراً حقيقياً.. كان أولئك يحلمون بأتاتورك مصري.. وجاء عليهم وقت اعتقدوا فيه أن فاروق كان يمكن أن يلعب هذا الدور.. وأعتقدت أنا كذلك.. لكنه خيب ظننا.. وبعد الثورة توقعوا أن ألعب هذا الدور.. لكنني خيبت ظنهم أيضاً.. فإتجه تفكيرهم إلى جمال عبد الناصر ليقوم بهذا الدور ولا أعتقد أنه خيب آمالهم.

   كنت عائداً إلى منزلي في يوليو 1953، فلاحظت رجلاً يرتدي ثياباً رثة ويصرخ: “يا ظالم .. يا ظالم”. كان عجوزاً، إلى درجة أنه لا يمكن أن يحدث بي أي أذى، فأوقفت سيارتي وأمرت حارسي الخاص بأن يحضره إلى منزلي في اليوم التالي.. عرفت منه أن أسمه أحمد محمد منصور وأنه كان لص خزائن، وقبض عليه 33 مرة، وقضى قرابة 28 سنة في مختلف السجون، وبالرغم من أنه كان يريد أن يحيا حياة شريفة إلا أن البوليس منعه من ذلك.. كان يرغب في إستخراج رخصة لبيع المشروبات الغازية ولكن طلبه كان يرفض دائماً بسبب سوابقه.. أعطيته 5 جنيهات ليشتري بها ثلاجة صغيرة لبيع المرطبات، وعلمت فيما بعد أنه أصبح يبيع المشروبات في كشك أقامه أمام أحد أقسام البوليس. كان أحمد محمد منصور واحداً من الآلاف الذين ساعدتهم.. وأنا أذكر هذه الواقعة لأوضح مدى اقتناعي بأن الشعب المصري يمكن أن تكسبه بالود وليس بالعنف. لكن هذه النصيحة فشلت في أن أقنع بها زملائي الضباط في مجلس القيادة.

    كانوا شبابا.. وكانت خبرتهم في الحياة بسيطة.. وكانت خبرتهم في الحكم أبسط.. أحسوا أنهم يحكمون، فاندفعوا يتعامون بعنف، وبغطرسة، مع الآخرين، حتى زملائهم في التنظيم وفي الحركة، تعاملوا معهم بنفس الأسلوب.. وقد كنت أتصور أن الأمر داخل الجيش سيعود إلى طبيعته بعد القبض على ضباط المدفعية، لكن هذا لم يحدث.

   كان طبيعياً ألا يتغير النظام من ملكي إلى جمهوري قبل الدستور الجديد، إلا أنني فوجئت بأعضاء مجلس الثورة يطالبون الإسراع بإعلان الجمهورية. وقد رفضت هذا القرار لأكثر من مرة.. رفضته لأنني أردت أن يتحول نظام مصر السياسي بنص من الدستور لا بقرار من مجلس القيادة. ورفضته لأن مجلس القيادة، لصق القرار بقرار آخر هو تعيين عبد الحكيم عامر قائداً عاماً للجيش، بعد ترقيته من صاغ إلى لواء.. ومن جديد مارس أعضاء المجلس الضغط المكثف عليّ.. وطالبوني بتنفيذ ما اتفق عليه، من قبل، وهو أن تكون الأغلبية هي الفيصل في إتخاذ القرارات وتنفيذها.. وأقنعوني بأهمية أن نبدوا متماسكين أمام الجماهير. وفي 18 يونيو 1953 أصبحت أقدم دولة في العالم، أحدث جمهورية في العالم.

   لقد خرج الجيش من الثكنات.. وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية.. فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلى الآن في مصر. كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قوياً، فأصبح لكل منهم “شلة” وكانت هذه الشلة غالباً من المنافقين الذين لم يلعبوا دوراً لا في التحضير للثورة.. ولا في القيام بها، والمنافق دائماً مثل العسل على قلب صاحب النفوذ.. لذلك فهو يحبه.. ويقربه ويتخلص بسببه من المخلصين الحقيقين، الذين راحوا وراء الشمس، لأن اخلاصهم كان هماً وحجراً ثقيلاً على  قلوب الضباط من أصحاب الجلالة. تعددت الشلل والتنظيمات داخل الجيش، وحول ضباط القيادة. وبدأ الصراع بين هذه الشلل، بعد أيام من نجاح الثورة، وتحول من يومها إلى قتال يومي شرس. وظهرت مرامز القوى، بعد شهور قليلة، من قيام الثورة داخل مجلس القيادة وخارجه.

    مما لا شك فيه أن جمال عبد الناصر كان أكبر قوة داخل المجلس، وعندما ساعده الآخرون في التخلص مني، استدار اليهم، وتخلص منهم واحداً بعد الآخر. إن أول شيء فعلته ضباط القيادة بعد أن استقرت الأمور هو أنهم غيروا سياراتهم الجيب، وركبوا سيارات الصالون الفاخر للتمييز بينهم وبين باقي الضباط الأحرار.. وإمعاناً في التمييز بين ضباط القيادة وباقي الضباط الأحرار، أوحي جمال عبد الناصر لمصطفى أمين بكتابة مقالة بعنوان: “سر الضباط التسعة”.. نُشرت هذه المقالة في جريدة الأخبار، في سبتمبر 1952 في الصفحة الأولى بجانب صورة كبيرة لجمال عبد الناصر ومع بقية المقال في الصفحة الثالثة نشرت صور باقي ضباط القيادة من أعضاء المجلس.. وفي هذه المقالة طلب جمال عبد الناصر من مصطفى أمين أن يوحي للقاريء بأنه بطل الثورة ورئيسها الذي يختفي في الظل.. وأنا لم أهتم بهذا الكلام، لكن الذي اهتهم به باقي الضباط الذين غضبوا من نشره، خاصة وأن هناك اتفاق قديم فيما بينهم بعدم نشر صورهم في الجرائد.. ورفض الدعاية وانكار الذات. وأثارت مقالة مصطفى أمين الفتنة بين صفوف الضباط الأحرار، وحرضت بعض منهم على التمرد والإنقلاب، كما حدث مع ضباط المدفعية.. وكان ضباط المدفعية قد بدأوا في رصد انحرافات ضباط القيادة.. وكانت فضائحهم في الحقيقة كثيرة.. فقد ترك أحدهم شقته المتواضعة واستولى على قصر من قصور الأمراء في جاردن ستي، حتى يكون قريباً من إحدى الأميرات التي كان قصرها قريباً من ذلك القصر الذي استولى عليها.. وكان لا يتورع أن يهجم على قصرها بعد منتصف الليل، وهو في حالة من اغماء بسبب الخمر.. وكثيراً ما طلبتني الأمير في الفجر لإنقاذها من ذلك الضابط، الذي تصور، على حد تعبيرها، أنه ملك جديد. وعندما حاولت أن أثنيه عما يفعل قال: “اننا نسترد جزء مما دفعناه لسنوات طويلة”. وللأسف كان بعض زملائه، يضحكون. وترك ضابط آخر من ضباط القيادة الحبل على الغارب لزوجته، التي كانت تعرف كل ما يدور في مجلس القيادة، وكانت تستغله لصالحها ولصالحه.. وكانت تتباهى بنفوذها، وكانت تقول علناً: “الجيش في يميني والبوليس في يساري” وكان إيجار شقتها 50 جنيهاً في وقت كان هذا المبلغ يساوي إيجار بيتي في عامين. وفاحت رائحة ثالث، كان يجري وراء ناهد رشاد زوجة الطبيب بحري يوسف رشاد، طبيب الملك فاروق الخاص، الذي كون الحرس الحديدي. وانتشرت هذه الفضائح وغيرها لضباط القيادة.. وكان لابد حتى يتخلص ضباط القيادة من أصوات المعارضين التي تواجههم، أن يلفقوا لهم التهم المناسبة للقضاء عليهم.

    تطور أسلوب التلفيق من تحضير شهود الزور، كما في قضية المدفعية، إلى العنف والقسوة في معاملة المعارضين لهم، داخل السجون، حتى يعترفوا بجريمة لم يرتكبوها، كما حدث مع حسني الدمنهوري. وكلما كان أحد المعارضين يسقط أو يضيع، أو يختفي وراء الشمس، كلما كان ضباط القيادة يزدادون قوة وعنفاً وديكتاتورية.. وإذا زادت قوتهم، زادت مخالبهم وإذا زاد عنفهم زادت أنيابهم.. إذا زادت ديكتاتوريتهم زاد انحرافهم.. وهكذا إلى أن أصبحوا أباطرة وجلادين. وذات صباح لا أنساه وقعت مفاجأة مذهلة لا أنساها حتى اليوم..

    كنا أنا وجمال عبد الناصر نركب سيارة، ونتجه إلى نادي الضباط في الزمالك، لنهنيء الضباط بعيد الأضحى.. فهمس لي عبد الناصر، وقال: “إني أود أن أعرض عليك أمراً ناقشته مع بعض الزملاء.” وانتبهت له.. وأعطيته كل حواسي.. فقال: “اعتقد أن ظروفنا الآن تفرض علينا أن ننظر إلى مستقبلنا ومستقبل الثورة ونحن محاطون بالعواصف والأعداد ولا نعرف مصيرنا معها. قلت له: “ماذا تقصد بالضبط؟” قال:” لقد اتخذنا قراراً أرجو أن توافقنا عليه، وهو أن يأخذ كل عضو من أعضاء مجلس القيادة مبلغ عشرة آلاف جنيه، وتأخذ أنت أربعة عشرة ألفاً فيكون المجموع 134 ألف جنيه.. وقد طلبت من زكريا محيى الدين أن يحجزهم لنا من النقود الجديدة. “أحسست ساعتها بالغيظ.. وغلى الدم في عروقي.. وارتفع ضغطه في رأسي.. ولم أحتمل هذا الحديث، فصرخت فيه: “أسكت .. أسكت”. وأخذت أعنفه بشدة.. وأهاجمه على استباحة أموال الشعب لنا.. ورفضت أن يخلط بين أموال الناس وجيوبنا الخاصة وكدت أن أطلب منه أن ينزل من السيارة.. فإذا به يضحك، ضحكة عصبية، ويرد عليّ وهو مرتبك: “أنا كنت متأكد انك حترد بالشكل ده”. وبعد تماسك، ملك نفسه، وقال: “صدقني أنا كنت بأمتحنك”. ولم أصدق بالطبع.. ولكني بدأت أعيد النظر في تصرفاته، وفي تصرفات زملائه.. وما حدث من عبد الناصر حدث بصورة أو أخرى من باقي الزملاء في المجلس.

   إن عبد الناصر الذي كنت أحترمه، كان شاباً صغيراً، ذو قدرات متميزة.. وقد اقترحت عليه أن أدير وأقود البلاد لعدة سنوات إلى أن يكتسب الخبرة اللازمة التي تمكنه من أن يخلفني في الرئاسة .. وأكدت له في ذلك الوقت أنني سأكون سعيداً أن أستقيل من أجله ولصالحه .. وخيرته في ذلك، أو أن أستقيل حالاًـ حتى لو أدى الأمر إلى خلق أزمة داخلية لأنني لم أعد أتحمل، أو أتسامح عن الأخطاء التي يرتكبها أعضاء المجلس.. ولم يختر عبد الناصر! فقلت له: “من الأفضل أن تقود المسيرة من الآن بدوني!” لم يكن لي سلطة تعيين أو فصل الوزراء بدون موافقة المجلس، ومع ذلك كنت مضطراً لمساندة الوزراء سواء كنت موافقاً عليهم أم لا! وكنت مضطراً للتصديق على قرارات أركان حرب الجيش، حتى التي صدرت دون استشارتي، أو أخذ رأيى فيها. وأنا لم أطلب سلطات مطلقة لي ولكني ببساطة، كنت أطلب الحد الأدنى الضروري لممارسة مهامي .. وكنت مستعداً لمناقشة المجلس في أري قرار أتخذه.

   لقد كان الإنجليز يقفون على بُعد 90 كليو متراً من القاهرة، في طريق السويس وكان لهم .. 80 ألف جندي في قاعدة قناة السويس .. وكانوا يعرفون كل شيء عنا، وعن الجيش، وكانوا يستطيعون الإستيلاء على السلطة والتخلص منا بسهولة .. لكنهم، والحمد لله، لم يتحركوا .. لأن حركتنا في ليلة 23 يوليو كانت مفاجأة لهم .. ولأننا تصرفنا بذكاء، فلم نقل اكثر من أننا حركة إصلاح داخلية في الجيش .. وأعلنا منذ البيان الأول أن الرعايا الأجانب في مأمن كامل .. وخشي الإنجليز أن ينزلوا من السويس حتى لا تتحول شوارع القاهرة إلى مجازر .. كما أنهم ، وأنا أيضاً، قبلنا الدخول في مفاوضات الجلاء، منعاً للقتال، وحقناً للدماء. وقد حولت أنا الدور الأرضي من الفيلا إلى مخزن كبير، أضع فيه مئات الكتب التي جمعتها وقرأتها طول سنوات إقامتي بها .. كتب في كل فروع المعرفة وبلغات مختلفة.. في الأدب، والطب، واللغات والتاريخ، واليوجا، والفلك، والإقتصاد .. وفي ذلك المخزن وضعت ما تبقى لي من أوراق خاصة، وصور شخصية، وخطابات من وإلى الأسرة ومعارفي وأصدقائي وفي ذلك المخزن الذي أُغلِق وأُهمل في السنوات الأخيرة عاشت مع الكتب والأوراق الحشرات والفئران والثعابين وكميات لا وزن لها من الأتربة.

   لم يحافظ عبد الناصر لا على الأصول ولا على  التقاليد، أنا الذي فعلت كل هذا من أجله ومن أجل مصر ومن أجل الثورة .. تعاملوا معي كأنني لص .. أو مجرم .. أو شرير .. لم يتصل بي عبد الناصر .. لم يقل لي كلمة واحدة .. ولم يشرحوا لي ما حدث .. ولم يحترموا سني ولا رتبتي ولا مركزي ولا دوري .. والقوا بي في النهاية في أيادٍ لا ترحم وقلوب لا تحس، وبشر تتعفف الحيوانات من الإنتساب لهم. ما أقصى المقارنة بيني وبين فاروق عند لحظات النهاية والوداع.. ودعناه بالإحترام وودعوني بالإهانة .. ودعناه بالسلام الملكي والموسيقى.. وودعوني بالصمت والإعتقال .. ودعناه بالمصافحة وودعوني بإعطاء ظهورهم لي.

   كانت مشاعري معهم .. مع الإخوان .. رغم أنهم تخلوا عني وعن الديمقراطية ورفضوا أن يقفوا في وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس، بل انهم وقفوا معه، وساندوه، بعد أن اعتقدوا، خطأ، أنهم سيصبحون حزب الثورة وأنهم سيضحكون على عبد الناصر ويطوونه تحتهم .. فإذا بعبد الناصر يستغلهم في ضربي، في ضرب الديمقراطية، وفي تحقيق شعبية له، بعد حادث المنشية.. إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية، هي أنه إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتماً سيطيح بكل القوى السياسية، المدنية، ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد .. وأنه لا يفرق في هذه الحالة بين وفدي وسعدي، ولا بين إخواني وشيوعي.. وأن كل قوة سياسية مدنية عليها أن تلعب دور القيادة العسكرية الديكتاتورية ثم يقضي عليها .. لكن .. لا الإخوان عرفوا هذا الدرس، ولا غيرهم استوعبه .. ودفع الثمن الجميع. ودفعته مصر أيضاً.. دفعته من حريتها وكرامتها ودماء أبنائها.

   لقد عرفت، فيما بعد، من بعض رجال عبد الناصر الذين جاءوا يطلبون مني أن أسامحهم على ما فعلوه بي، أن تعليمات صدرت أثناء خطفي بقتلي وإخفاء جثتي تماماً بإذابتها في حامض مركز .. ولكن ضمير البعض استيقظ فرفض تنفيذ التعليمات، ودفع ثمن ذلك من مستقبله، كما أن إحساس عبد الناصر بالخطر قد زال بعد تدخل الروس والأمريكان لإجلاء القوات الإسرائيلية. وإذا كان عبد الناصر طلب إذابة جثتي في حامض شرس .. فأنا طلبت منه أن أتطوع كجندي عادي في جيش مصر، في تلك الحرب التي أوقعنا فيها..

    بعد أن انتهى عصر الإرهاب، قال لي السادات: “أنت حر طليق!” ولم أصدق نفسي.. هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة.. هل أستطيع أن أتكلم في التليفون بلا تصنيت .. هل أستطيع أن استقبل الناس بلا رقيب! لم أصدق ذلك بسهولة..فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته.. وأنا لم أكن سجيناً عادياً.. كنت سجيناً يحصون أنفاسه .. ويتصنتون على كلماته .. ويزرعون الميكروفونات والعدسات في حجرة معيشته .. وكنت أخشى أن اقترب من أحد حتى لا يختفي .. وأتحاشى زيارة الاهل والاصدقاء حتى لا يتعكر صفو حياتهم .. وابتعد عن الأماكن العامة حتى لا يلتفت بالناس حولي، فيذهبون وراء الشمس. لكن .. بعد فترة .. وبالتدريج .. عدت إلى حريتي .. وعدت إلى الناس .. وعدت إلى الحياة العامة.. وياليتني ما عدت.. فالناس جميعاً كان في حلقها مرارة من الهزيمة والإحتلال وحديثهم كل شكوى والم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي.. وبجانب هذه الأحاسيس، كانت هناك أنات ضحايا الثورة.. الذين خرجوا من السجون والمعتقلات.. ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب.. وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات.. وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة.. وعرفت ساعتها أي مستنقع القينا فيه الشعب المصري.. فقد حريته .. فقد كرامته .. فقد أرضه .. وتضاعفت متاعبه .. المجاري طفحت .. المياة شحت .. الأزمات اشتعلت .. الأخلاق انعدمت .. والإنسان ضاع.. أين الأهداف العظيمة والتي نادت بها الثورة!؟. أين كرامة الإنسان الذي قال له جمال عبد الناصر ارفع رأسك يا أخي؟! لقد قًمنا بثورة .. فإذا بهم يحولونها إلى عورة! قمنا من أجل الناس .. فإذا بهم يعملون من أجل انفسهم. قمنا من أجل رفع مستوى المعيشة .. فإذا بهم يعملون على خفض مستوى كرامة البشر.

    كان للثورة أعداء، وكنا نحن أشدهم خطورة.. كان ضابط من ضباط الثورة يريد أن يملك يملك مثل الملك ويحكم مثل رئيس الحكومة. لذلك فهم كانوا يسمون الوزراء بالسعادة.. أو بالطراطير أو بالمحضرين. وكان زملائهم الضباط يقولون عنهم: “طردنا ملكاً وجئنا بثلاثة عشر ملكاً آخر”. هذا ما حدث بعد أيام قليلة من الثورة.. هذا ما حدث منذ أكثر من 30 سنة.. وأنا اليوم أشعر أن الثورة، تحولت بتصرفاتهم، إلى عورة.. وأشعر أن ما كنت أنظر اليهم على أنهم أولادي، أصبحوا بعد ذلك، مثل زبانية جهنم.. ومن كنت أتصورهم ثواراً، أصبحوا أشراراً.. فيارب، لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. ويارب لا تحاسبنا على ما نقوله، وانما حاسبنا أن كنا لا نقول الحق.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى