دراسات شرق أوسطية

مذكرات مشير النصر أحمد إسماعيل

د.محمد عبدالرحمن عريف

هي مذكرات المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية فى حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1976، التي كتبها بخط يده، وظلت حبيسة الأدراج طوال أربعين عاماً.. يقول المشير الراحل في مقدمة مذكراته: خير ما أبدأ به هذه المذكرات هو جزء من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم): «اللهم اجعلني شكوراً واجعلني صبوراً واجعلني في عيني صغيراً وفي أعين الناس كبيراً». كما أدعـوه أن يوفقني في تذكر الحقائق، لكي أؤدي الأمانة لأصحابها، وأصحاب الأمانة هنا هم أهل وطني الذين يستحقون أن يقرأوا التاريخ كما حدث بالفعل وليس كما تلونه الأهواء والانحيازات والمصالح. هكذا بدأ المشير في كتابة مذكراته.

على الرغم من أن كتابة المذكرات لا تحتاج إلى تبرير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالذين يعملون في خدمة الوطن، فإنني أجد نفسى ملزماً بالتأكيد على أن ما دفعني هو شعوري ويقيني بأنني أديت جزءاً من واجبي نحو بلدي في تاريخ حياتي، ونظراً لأنني لم أكن مهتماً بالدعاية والإعلان عما فعلت، فوجئت أن الحقائق والوقائع طُمست، وأن التاريخ يتعرض للتحريف الذي يصل إلى حد التزوير، كما تعمد البعض أن ينسب أعمالي لغيري، بل إن هناك من تعمد تشويه الدوافع النبيلة لتلك الأعمال.

بدأت كتابة هذه المذكرات بعد أن تركت الخدمة بأربعة أشهر، وقد تخونني الذاكرة في بعض الأحداث، ولكننى سأحاول جهدي تذكر تلك الحقائق، وأستعين في ذلك بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

لا يعلم الكثيرون التاريخ الحقيقي لبداية لجوء مصر للاتحاد السوفيتى لشراء السلاح منه والتحرر من قبضة الغرب في هذا المجال.. فقد كان شُغل الرئيس عبد الناصر الشاغل منذ اندلاع ثورة يوليو، هو البحث عن مصدر جديد لشراء السلاح منه بدلاً من بريطانيا التي كانت تحتكر توريده لمصر، وقد حاول عبد الناصر كثيراً إقناع الولايات المتحدة ببيع السلاح لنا، ولكن كان الرفض دوماً موقف واشنطن. ومن هنا جاء التفكير في الاتحاد السوفيتي. وجاءت البداية عام 1955 عبر أحد رجال الأعمال الوطنيين ويُدعى محمد أحمد فرغلى باشا الذى أممت الثورة ممتلكاته فيما بعد ووضعته تحت الحراسة حيث أبلغه سفير الاتحاد السوفيتي في القاهرة باستعداد موسكو لبيع السلاح لمصر سراً عبر وسيط لإخفاء الأمر عن الولايات المتحدة. وهو الأمر الذى رحب به الرئيس عبد الناصر وكان يعلم أن التعاون مع الاتحاد السوفيتي لم يكن بالفكرة الجديدة، فقد سبق لرئاسة أركان الجيش المصرى التفكير فيه قبل قيام يوليو 1952 من خلال الفريق عزيز المصرى.

هنا قرر عبد الناصر زيارة الفريق عزيز عثمان وكان قد أُحيل للتقاعد وأقنعه بتولى مهمة التفاوض مع السوفيت وتوطيد علاقة مصر بهم عبر تعيينه سفيراً لمصر في موسكو. والحقيقة أن ثمار تلك الخطوة كانت شديدة الأهمية لمصر وهو ما أثبتته الأيام، حيث أعلن المسئولون السوفيت للسفير المصري استعداد موسكو لمساندة مصر ودعمها اقتصادياً وعسكرياً لتحقيق استقلالها عن الغرب. وهكذا وصلت مصر أول شحنة سلاح سوفيتي في النصف الثانى من عام 1955 عبر تشيكوسلوفاكيا التي تم اختيارها كوسيط لصفقات السلاح بعيداً عن أعين الولايات المتحدة، وقد أحاطت بالصفقة السرية التامة، والتكتم الشديد من قِبل الحكومتين المصرية والسوفيتية. ووقتها وقع اختيار عبد الناصر عليَّ لتدريب الجنود والضباط في الجيش المصري على الأسلحة الجديدة. بالطبع لم نستطع إخفاء أخبار ما استقدمه الجيش المصري من سلاح جديد، وهو ما أزعج العدو الإسرائيلي.

لعل هذا كان بداية تفكير إسرائيل في توجيه ضربة للقوات المسلحة المصرية لوأد تقدمها. ومن هنا كان قرار إسرائيل المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، رداً على قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس بعدما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تمويل بناء السد العالي، وتأثيرها على البنك الدولي هو الآخر لرفض التمويل. وجاء يوم 29 أكتوبر عام 1956 ليبدأ القصف الجوى لطائرات الدول الثلاث المعتدية على مصر (إنجلترا فرنسا إسرائيل). كنت وقتها قائداً للواء الثالث مشاة برتبة عقيد، وكان مقر وجودي هو شرق قناة السويس، وبالتحديد في القنطرة شرق. كانت مهمتنا الدفاع عن بورسعيد ومنع قوات الدول الثلاث من أي عملية إنزال فيها، سواء كانت براً أو بحراً أو جواً وذلك لمنع احتلال المدينة.

كانت إسرائيل قد نجحت في عملية إنزال جوي عند ممر «متلا» بسيناء وصدرت أوامر القيادة لي بالتعامل مع تلك القوات، مع الانسحاب لغرب القناة لإفشال خطط القوات البريطانية في احتلال بورسعيد. وهكذا اشتبكنا مع القوات الإسرائيلية في عدة معارك قتالية، ولكننا لم ننجح في منع تسلل القوات البريطانية لبورسعيد، فقاومنا باستبسال حتى نجحنا في تحرير المدينة بعد انسحاب القوات البريطانية منها فى 23 ديسمبر عام 1956.

أتوقف للحديث عن خدمتي العسكرية منذ تخرجي فى الكلية الحربية عام 1938، لقد قضيت نحو 35 عاماً من حياتي العسكرية بين القنطرة والعريش والإسماعيلية؛ ولذا كنت أحفظ سيناء وأرضها بشكل دقيق ولذا وبعد انتصار أكتوبر المجيد، أهدانى أهل سيناء وقواتنا في تلك المنطقة، أول علم رفعه الجنود على الضفة الشرقية للقناة بعد العبور لها يوم السادس من أكتوبر، تقديراً منهم لخدمتى في هذه المنطقة لسنوات طويلة، وعرفاناً بعلاقتى الطيبة مع شيوخ القبائل هناك.

أعود لحرب 1956 وأقول إن مسار الحرب أكد فشل المشير عبدالحكيم عامر كقائد عسكري، وكذلك قائد سلاح الطيران الفريق صدقى محمود، وتوقعنا كضباط إقالتهما لعدم إدراكهما حقيقة المعركة التي كنا نخوضها، وكذلك عدم فهمهما لأبسط الأمور العسكرية المتعلقة بالمعارك. ولكن عبد الناصر لم يُقل عامر الذي عارض من جانبه أيضاً إقالة الفريق صدقى أو محاسبته. كان أعضاء مجلس قيادة الثورة يرون في عبد الحكيم عامر مجرد صديق لعبد الناصر، بل إنهم عارضوا تعيينه عام 1954 قائداً عاماً للقوات المسلحة، وكانوا يرون أن الأكفأ والأجدر لتولى هذا المنصب، هو زكريا محيى الدين، ولكن عبد الناصر كان له رأي آخر، حيث أصر على تولية عبد الحكيم عامر رغم إمكانياته المتواضعة كقائد عسكرى.

الغريب فى العدوان الثلاثي على مصر، كان موقف الاتحاد السوفيتى. فنحن لم نكن قد حصلنا على كل احتياجاتنا من السلاح السوفيتي عبر تشيكوسلوفاكيا عند اندلاع الحرب، وبالتالي لم تستطع موسكو إمدادنا بالمتفق عليه وفق الجدول الزمني المحدد لظروف العدوان، وقد أتفهم هذا. ولكن الأمر الذي لم أتفهمه هو عدم قيام موسكو بتقديم أي دعم عسكرى لنا بعد صدور قرار وقف إطلاق النار وانسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية من القناة!!.. ولم تكتف بذلك وحسب ولكنها قامت بنقل المستشارين العسكريين التشيك والسوفيت الذين كانت قد أرسلتهم لمصر والسودان بمجرد اندلاع الحرب!..

كان السوفيت يخشون الظهور العلني على ساحة المشهد وبالتالي التورط بأي شكل من الأشكال في مواجهة مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة. وكان خوف موسكو أن تطلب القاهرة منها السماح لهؤلاء المستشارين بقيادة الطائرات «ميج 15» بأنفسهم لعدم إتمام تدريب الطيارين المصريين عليها حين اندلاع الحرب وبدء العدوان. واكتفت موسكو في دعمها لمصر في ذلك العدوان بإصدار بيان فى 5 نوفمبر 1956 تطالب فيه الولايات المتحدة بالقيام بعمل مشترك معها للعمل على وقف القتال، وزادت عليه توجيه تهديد لبريطانيا وفرنسا بالقيام بعمل انتقامي في حال عدم الانصياع لقرار وقف إطلاق النار.

مع قبول كافة الأطراف قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، سارعت موسكو لإصدار بيان تهدد فيه بإرسال جنود متطوعين لإجبار إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة، وهو ما أجبر الدول الثلاث على الانسحاب. وليبدأ الاتحاد السوفيتى بعدها في إعادة دعم مصر عسكرياً لتعويض خسائر الجيش المصري في تلك الحرب ولكن كان هناك إصرار غير معلن من قِبل موسكو على أن يقتصر ما تمنحنا إياه من سلاح على الأسلحة الدفاعية من دون الهجومية، فلم تستجب لطلبات القاهرة بتزويد قواتنا المسلحة بأسلحة تزيد من قدراتنا الهجومية. وهو ما استمر حتى قبل نكسة يونيو عام 1967. ليس هذا فحسب بل كان هناك تباطؤ من قبل الإدارة السوفيتية في تدريب قواتنا على السلاح الوارد لنا منهم، فكان يتم تجاهل مطالبنا في هذا الشأن.

في الثانى من يونيو عام 1967، عقد عبد الناصر اجتماعاً عسكرياً سياسياً في إحدى القواعد الجوية، وكان على رأس الحضور في ذلك اليوم كل من حسين الشافعى، وزكريا محيى الدين، وعلي صبرى، وأنور السادات، والفريق أول صدقى محمود، وأعلن فيه أن مصر لن تكون البادئة بإشعال فتيل الحرب للعديد من الأسباب والظروف الدولية، على الرغم من حالة الحشد العسكري التى كانت القوات المسلحة قد أعلنتها، وحالة التعبئة الشعبية لدى المصريين الذين شعروا أن مصر على وشك إعلان الحرب.

كان عبد الناصر يومها يئن تحت وطأة ضغوط سياسية من جانب الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتى، الذى أرسل رئيسه كوسيجين رسالة إلى عبد الناصر، عبر السفير السوفيتى في القاهرة، يطالبه بضبط النفس وعدم بدء الخطوة الأولى للحرب. وهو ذات المعنى الذى أعلنه الرئيس الفرنسى، شارل ديجول، من أن بلاده ستقف ضد الدولة البادئة بالعدوان. وفى هذا الاجتماع أعلن عبدالناصر توقعه أن تشن إسرائيل عدواناً على مصر في غضون أيام قليلة، وطلب من الحضور، خاصة الفريق صدقى محمود، الاستعداد لذلك، والأكثر الاستعداد لتقليل خسائر الضربة الجوية الإسرائيلية الأولى. وتوقع صدقى أن تتراوح تلك الخسائر من 20٪ إلى 30٪. وكان تقديراً مجافياً لحجم ضربات العدو بكل المقاييس.

يقول أحمد إسماعيل: بالنسبة لي، فقد استقبلت يوم 5 يونيو عام 1967، وأنا بصحبة الفريق أول عبد المحسن مرتجى، قائد جبهة سيناء، وكنت وقتها رئيس أركانه، كنا نقف في الثامنة والنصف صباحاً في مطار تمادا العسكري في انتظار وصول طائرة المشير عبد الحكيم عامر لتفقد أحوال الجبهة. كان قادة التشكيلات العسكرية بسيناء موجودين في المطار معنا ليكونوا في استقبال المشير عامر الذى لم يأت، وبدلاً من هبوط طائرته، فوجئنا بالطائرات الإسرائيلية تدك المطار على ارتفاعات منخفضة، بينما مدافع الطائرات المصرية لا تستطيع دفع أي شىء عن المطار، حيث إن أوامر كانت قد صدرت لها منذ الصباح الباكر بتقييد نيرانها انتظاراً لطائرة المشير عامر!!..

هكذا سارع كل القادة المحتشدين بالهرب من نيران الطائرات والقاذفات الإسرائيلية والذهاب إلى مقار قيادتهم، وسارعت أنا بالعودة إلى مقري في جبل الميثان بوسط سيناء، وأنا أراجع أحداث الأشهر القليلة السابقة على ذلك اليوم الذى تتابعت نكباته. وأدركت صدق حدسي في السابق من أننا اندفعنا في مغامرة عسكرية وسياسية غير محسوبة وغير متوازنة، وأنها لم تُبن على معلومات وخطط دقيقة، والأكثر كارثية، أنه لم يكن هناك تكامل بين الرؤيتين العسكرية والسياسية.

لقد كان كل منهما يسير في اتجاه رغم الدفع بالحشود العسكرية لسيناء. ولكم أن تتخيلوا حجم الغموض والكارثية حينما أعترف أنني كرئيس أركان لقوات جبهة سيناء، لم أكن أعلم على وجه اليقين مهام القوات التى تم حشدها في سيناء!!.. وهل ستقوم بالدفاع أم الهجوم؟!.. ووجدت أننا لم نبدأ الضربة القتالية في ساحة المعركة العسكرية، لكننا كنا البادئين سياسياً وبشكل يوحي لإسرائيل والعالم أننا بصدد المبادرة بتوجيه ضربة عسكرية لها، وذلك باتخاذ عدد من القرارات ومنها قرار عبد الناصر لقوات الطوارئ الدولية بترك المنطقة العازلة بيننا وبين إسرائيل منذ عام 1956، فى الوقت الذى لم تحل محلها قوات عسكرية مصرية.

بين المشهد السياسي المندفع في قراراته، وبين المشهد العسكري المرتبك في رؤيته وأهدافه، تعرض المقاتل المصري لأسوأ عملية عسكرية لم تتح له فيها حتى فرصة الدفاع عن نفسه وسمعته القتالية، والدليل ما قامت به القوات العسكرية بالعريش التي لم تتوقف عن قتال العدو إلا بعد صدور الأمر السياسي لها من القاهرة بالانسحاب أثناء عملية القتال. كان الانسحاب ذاته كارثة أخرى. فقد أصدر المشير عبد الحكيم عامر قراراً بانسحاب القوات، دون توفير حماية جوية تضمن سلامتها أثناء عملية الانسحاب، التي صدر القرار بها في الثانية صباح يوم السادس من يونيو.

كان على القوات المصرية السير مسافة 200 كيلومتر بدون أى خطة معدة سلفاً لتنظيم عملية الانسحاب. انسحبت القوات المصرية من صحراء سيناء إلى خط المياه عند الضفة الغربية للقناة، دون أي نظام، حيث رُفضت كل اقتراحات قادة الجيش التي قدموها للمشير عامر بأن يتم الانسحاب خلال 72 ساعة. فسارت القوات شاردة في كل اتجاه، لا هدف للجميع سوى الوصول للضفة الغربية للقناة للابتعاد عن ضربات العدو الإسرائيلي التي لم ترحم تلك القوات، بل طاردتها في صحراء سيناء، كلما تمكنت من ذلك، وباستخدام قنابل النابالم؛ فاُستشهد من استشهد، وأُسر من أسر؛ ولذا أقول وبحق، لم يُهزم الجندي المصري في يونيو 1967، ولكنه لم يُمنح فرصة القتال والدفاع عن أرضه، ودفع ثمن عدم كفاءة القيادة العسكرية للقوات المسلحة التي لم تدرك حجم عددها، ولم تخطط مع القيادة السياسية لفهم أبعاد الموقف، وتحديد المهام المطلوبة من أي عملية عسكرية، فخسرنا حجماً كبيراً من المعدات والأسلحة العسكرية التي اضطرت القوات لتركها وراءها لخطة الانسحاب، ودفع الجميع الثمن.

 من أخطأ ومن لم يخطئ

فى صباح يوم 14 يونيو 1967، أى بعد النكسة بتسعة أيام، اتصلت تليفونياً من الإسماعيلية بالفريق أول محمد فوزى، القائد العام للقوات المسلحة، وسألته عن الموقف الحالي، فأجابني باقتضاب، طالباً مني أن أتوجه إلى القاهرة لمقابلته. تحركت على الفور من الإسماعيلية إلى القاهرة، وتوجهت مباشرة إلى منزلي حيث استبدلت ملابسى الميدانية التى لم أستبدلها طوال أسبوعين، ثم انتقلت إلى مقر القيادة، لكننى لم أجد القائد العام في مكتبه، وتجولت على بعض الزملاء في مكاتبهم، وكانت مقابلتهم لي تشى بأن هناك أمراً يحاول الجميع إخفاءه عني، حتى أعز الأصدقاء، شعرت في حواراتى معهم بشيء غامض، وكانوا وقتها في مؤتمر في العمليات يناقشون حسم مسألة ما إذا كان يجب أن تستمر القوات البرية في تشكيل الفرق، أم تنقسم إلى مجموعات عمليات مثلما يحدث في الجيش الإسرائيلي، واشتركت في المناقشة معهم وكنت مصمماً على الاستمرار في تشكيل الفرق، وكان تركيزى أساساً على إقناعهم بأن هذا التنظيم أفضل بكثير من حيث التسليح والتدريب وتكوين القادة، وكان رأيى مستنداً إلى خبرتي السابقة كقائد فرقة.

خلال المناقشات، تأكد لى إحساسي بأن هناك سراً يخفيه عني الجميع ولا يجرؤ أحدهم على مكاشفتي به، وكان أول ما خطر ببالي أن هناك قراراً سرياً صدر بإحالتي إلى التقاعد، فعدت إلى مكتبي في القوات البرية وطلبت اللواء محمود القاضي، الذى كان قد تسلم أعمال «كاتم أسرار»، ودار بيننا الحوار التالى: هل هناك شىء بخصوصى؟ – نعم. – هل صدر قرار بإحالتي إلى المعاش كباقي الضباط؟ – نعم. – شكراً. انتهى الحوار القصير، وغادرت سريعاً، وطلبت من سكرتيري جمع أوراقى، ثم توجهت إلى منزلي، وعلى الرغم من أننى كنت أتوقع القرار، فإننى لم أجد له تفسيراً.

استرجعت جميع تصرفاتي قبل وأثناء وبعد المعركة، فلم أجد ما يشينني فيها جميعاً، لكنني كنت أشعر بخجل شديد أمام أسرتي وإخوتي، ولم أستطع إخفاء عصبيتي حتى إنني انفجرت غاضباً في ابني أثناء حواره معي وقلت له: «أبوك لم يخطئ ولم يكن جباناً، بل أدى واجبه كاملاً وأكثر وستثبت لك الأيام ذلك». لم أتوقف عن التفكير في أسباب إحالتي للتقاعد، وفي اليوم التالى، فكرت في إرسال خطاب لعبد الناصر، أشرح له فيه موقفي وصدمتي في قرار استبعادي، وهو ما حدث، كتبت الخطاب وأرسلته ولم أنتظر طويلاً. فبعد 10 ساعات من إرسال الخطاب، فوجئت باتصال تليفوني من الفريق أول محمد فوزى، وطلب مني أن أزوره في مكتبه فتوجهت إليه دون تردد بملابسى المدنية، وفور دخولى عليه، بادرنى بالقول إن «الرئيس أمر بعودتك إلى الخدمة وستتولى رئاسة هيئة التدريب». فقلت له إننى أشكر السيد الرئيس، لكننى قبل عودتي أريد معرفة سبب القرار السابق بإحالتي إلى التقاعد، فكان رده: «هذا الموضوع انتهى ويجب عدم الخوض فيه». عدت إلى الخدمة، محملاً بآمال وطموحات كبيرة فى أن يكون لى شأن ودور في المعركة المقبلة، اقتناعاً مني بأن القوات المسلحة في حاجة إلى كل جهد وكل علم في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها.

خلال الأيام العشرة الأولى من رئاستي هيئة التدريب، كان أهم ما ركزت عليه هو إنشاء ما يُسمى «مدارس المعركة المتحركة»، وهي باختصار تعتمد على إرسال ضباط وفنيين من إدارة التدريب المركزية إلى الجبهة لتدريب الضباط وضباط الصف في فرق تعليمية قصيرة مركزة، وكان لهذه المدارس المتحركة دور كبير في ذلك الوقت، لأن الظروف لم تكن تسمح بعودة الضباط وضباط الصف للتدريب في القاهرة وتغيبهم عن مواقعهم. وأثناء رئاستي هيئة التدريب، أتيحت لي فرصة أن أرافق كبير الخبراء العسكريين السوفيت، جنرال لاشنكوف في المرور على الجبهة، ولا أنكر أن شخصية هذا الجنرال وعلمه ومعلوماته كان لها تأثير كبير في نفسي، وأقولها صراحة بأنه قائد بارع من جميع النواحي، وأننى حصلت من خلال مصاحبتي له واجتماعي به عدة مرات بعد ذلك على معلومات لها قيمتها.

فى يوم 25 يونيو 67 استدعانى القائد العام وأبلغني بقرار سيصدر بتعييني قائداً للجبهة خلفاً للفريق صلاح الدين محسن اعتباراً من 1 يوليو 1967، وأمرنى بالاستعداد لذلك، كما نبه عليّ بضرورة المرور عليه لمقابلته قبل أن أتسلم العمل.

عدت إلى مكتبى وأنا أفكر في هذا المهمة الصعبة في ذلك الوقت، فقد كنت عائداً من الجبهة قبل أيام قليلة، وكنت أشارك الفريق صلاح محسن أحلك الأوقات، كما سبق لنا التعاون معاً في إعادة تنظيم القوات وتسكينها غرب القناة، وحين صدرت لي الأوامر، كان الموقف على الجبهة يتلخص في الآتي: القوات مهلهلة تفتقد القيادات والتنظيم، وحالة المعدات سيئة للغاية ومعظمها تالف، وبعض الأسلحة تنقصه الذخيرة، والدبابات معطلة، بما فى ذلك طرازات (T34، T55، T54، GS)، والروح المعنوية منخفضة للغاية، خاصة أن كثيراً من هذه القوات عاد من سيناء سيراً على الأقدام دون طعام أو مياه، وكان الأسوأ من ذلك أن الجنود فقدوا الثقة في ضباط الصف، وضباط الصف فقدوا الثقة في الضباط، والضباط فقدوا الثقة في قادتهم، والقيادة فقدت الثقة في هذه القوات.

كانت هذه الصورة الواضحة بالنسبة لحال القوات، أما الحالة الاستراتيجية، فيمكن تلخيصها في: رقعة من أرض الوطن يحتلها العدو، وجبهة قتال مكشوفة، وسيطرة جوية كاملة للعدو على غرب القناة، وقوات ضئيلة جداً ومبعثرة وأسلحة غير صالحة للعمل، وروح معنوية منهارة نتيجة الصدمة العصبية التى جعلت اليأس يسيطر على تفكير البعض. كنت أتأمل الجبهة، فأرى جنوداً في ملابس مهلهلة، لم يغتسلوا منذ أيام طويلة، حتى وصل الأمر إلى أن الضبط والربط الذي هو عقيدة أساسية للقوات المسلحة تحول إلى قرار اختيارى، باختصار كان الموقف ميئوساً منه تماماً، خاصة أن العدو كان أمامنا يتباهى بقوته وانتصاره على مرأى من أعين جنودنا، ووصل إلى درجة أن أفراد جيش الاحتلال كانوا يسبحون فى قناة السويس، وإذا أطلق أحد جنودنا طلقة واحدة، يردون علينا بالعشرات.

لقد كان مجموع القوات عند تسلمي الجبهة كالآتي: الفرقة السادسة بقيادة اللواء سعدي نجيب والفرقة الثانية بقيادة اللواء عبدالسلام توفيق، رئيس أركانه وتشمل الكتيبة 120 واللواء الرابع واللواء أول مدرع الذي كان مجموع دباباته يوازي كتيبة مدرعة، أي أنها كانت بقايا الفرقة المدرعة. أصررت على اختيار اللواء محمد عبدالغنى الجمسي، والعميد حسن الجريدلي؛ لإنجاح المهمة التي كُلفت بها، وليتحملا معي مسئولية إعادة تنظيم الجبهة. وقتها رفض الفريق أول محمد فوزى طلبي هذا بحجة الأقدمية. لكننى أصررت على الموقف حتى صدر قرار رئاسي بذلك.

انشغلت في تلك الفترة بإجراء تقدير موقف سريع ووضعت لنفسي أهدافاً محددة، أهمها: إعادة تنظيم القوات وشئونها الإدارية وتدريبها وإعادة الضبط والربط إليها، وإعادة الثقة في نفوس الأفراد وبث الروح القتالية، والمحافظة على أمن القوات، ومنع العدو بجميع الوسائل والإمكانات المتيسرة من عبور قناة السويس، والرد بعنف على اشتباكات العدو الخاطفة. وطوال الشهور الثلاثة التالية، عملت على رفع الروح المعنوية للقوات من خلال بعض الإجراءات والعمليات، كان أهمها معركة رأس العش، وتدمير المدمرة إيلات وإغراقها، وتسلم الأسلحة والذخائر والمعدات الجديدة وتكثيف الفرق التعليمية وإعطاء الثقة للجنود والضباط في أسلحتهم والمرور المستمر على الوحدات يومياً.

كان رفع الروح المعنوية للجنود يتمثل في خوض معركة قتالية ناجحة ومنها معركة رأس العش، بعد أن اعتقد الشعب المصري والعالم بأكمله أن القوات المسلحة المصرية انتهت بنكسة 5 يونيو، ولكن يشاء الله أن يوفَّق الجنود المصريين في تحقيق نجاح منقطع النظير خلال معركة رأس العش بفضل التخطيط الدقيق، فعندما انسحبت القوات المسلحة أصبحت كل مدن القناة خالية من القوات، عدا مدينة واحدة هي بورفؤاد التي كان بها قوة عسكرية بسيطة، وكان هدفنا أن نمنع سقوط مدينة بورفؤاد فوضعنا فيها قوة بسيطة جداً تؤمّن الدخول إليها من جنوب شرق القناة.

على الجانب الآخر كانت القوات الإسرائيلية تجهز للوصول إلى بورفؤاد هي الأخرى عبر هذا الجزء الضيق للغاية الذى يشبه الرأس، وكان يطلق عليها اسم طريق البركة، وقامت معركة رأس العش وانتصرت قوة الجيش البسيطة الصغيرة وبقيت بورفؤاد سالمة وارتفعت الروح المعنوية للجنود. الطريف في معركة رأس العش، أنها تم تصويرها بعدسات كاميرات محطات التليفزيون الأمريكية التى سمحت لها القيادة الإسرائيلية بالوجود مع القوات لتصوير احتلالها لمدينة بورفؤاد.

لم تكن معركة رأس العش وحدها التي رفعت الروح المعنوية للجنود المصريين، بل توالت المعارك الصغيرة الناجحة، ففي يوم 14 يوليو طلبت من الفريق مدكور أبوالعز، قائد القوات الجوية، قصف العدو الإسرائيلى لرفع الروح المعنوية وتوصيل رسالة للعالم مفادها أن الجندي المصر لم يفقد القدرة على القتال برغم تفوق العدو، وبالفعل ارتفعت نسورنا إلى سماء سيناء وقصفت قوات العدو بعنف، الأمر الذى فاجأ القوات الإسرائيلية وأذهل العالم.

فى 21 أكتوبر 1967 سجلت البحرية المصرية حدثاً فريداً في تاريخ الحروب البحرية على المستوى العالمي، ففي ذلك الوقت تقدمت المدمرة الإسرائيلية إيلات في غرور، ووصلت إلى مياهنا الإقليمية أمام مدينة بورسعيد، وانطلقت لنشاتنا الصاروخية تسبقها لتطلق صواريخ بحر لأول مرة في الحروب البحرية لتسكن المدمرة إيلات التي تمثل نصف القوة البحرية الإسرائيلية في ذلك الوقت قاع البحر وتغرق معها آمال المؤسسة العسكرية وغطرستها. وكنت أتوقع من إسرائيل رداً عنيفاً على الجيش المصري عبر ضرب ميناء السويس الذي كان مكدساً بالمراكب وخزانات البترول؛ الأمر الذى يجعل من الميناء صيداً ثميناً جداً للعدو، وكان الأمر سيتحول إلى كارثة فعلية لمصر في حالة ضرب إسرائيل ميناء السويس، وأرسلت تقريراً لعبد الناصر استعرضت فيه خطورة الموقف والتوقعات المحتمل حدوثها، فأمر بإخلاء ميناء السويس فوراً من البواخر ونقلها إلى خليج السويس بعيداً عن الميناء، كما أمر وزارة البترول في القاهرة بإخلاء خزانات البترول، وبعدها مباشرة حدث ما توقعته حين شن العدو غارات على السويس، لكن الخسائر لم تكن كبيرة بعد أن استبق عبد الناصر الغارات بقرار إخلاء القناة من المدنيين، وكان هذا بداية التهجير.

توالت العمليات الاستنزافية والقتالية لكنها كانت فترة عصيبة؛ لأن الجبهة كانت واسعة وتحتاج إلى سيطرة أكبر، وقتها رأيت ضرورة تقسيم الجبهة إلى جيشين ميدانيين، والعمل على إعادة تنظيم القيادة، وهو ما حدث بالفعل، وتوليت أنا قيادة الجيش الثانى، فيما تولى اللواء عدلي حسن سعيد قيادة الجيش الثالث. طوال تلك الفترة، كنت أعانى قلقاً شديداً، حتى إنني قبل نومي كنت أحرص على وضع التليفونات إلى جانب السرير، ولا أستطيع النوم إلا بعد اطمئنانى على عودة جنودنا من الضفة الأخرى في الأيام التى كنا نكلفهم فيها بعمليات خاطفة ضد العدو، وإذا أصيب أو استُشهد جندي أشعر بيني وبين نفسي بالذنب والمسئولية، وكثيراً ما كانت زوجتي تحاول التخفيف عني، خاصة عندما أتحدث أمامها عن أي شهيد وأقول لها إنني كنت السبب في يُتم أبنائه.

أذكر أنني حينما ذهبت للجبهة بعد النكسة، وأصررت على أن أكون مثل الجنود في كل شيء، حتى إنني كنت أنام في كشك من الصاج، وأمارس عملي في حجرة خشبية أسفل شجرة، وظللت هكذا حتى سقطت مريضاً بفعل الرطوبة والبرد الشديد، فتم بناء حجرة لي تحت الأرض بعيدة عن نيران العدو في حال قصف الموقع الخاص بقائد الجبهة. والحقيقة أننى لم أكن أهتم إلا بشيء واحد، كان هو هدفي الأساسي، وملخصه إعادة بناء وتنظيم الجبهة والدفاع عن عمق مصر، وتوجيه ضربات عسكرية موجعة للعدو الإسرائيلى كلما أمكن ذلك، وكان هناك العديد من الأبطال المصريين الذين سطروا معجزات في تاريخ العسكرية المصرية ومن بينهم العميد الشهيد إبراهيم الرفاعى والذى أدى العديد من المهام الوطنية، ومنها على سبيل المثال تفجير إحدى المناطق الإدارية لنا فى سيناء التي كان العدو قد استولى عليها بعد انسحاب القوات المصرية، وخزن بها ما تم جمعه من سلاح وذخائر وعتاد عسكرى تركه الجنود دون أن يتمكنوا من العودة به.

كانت المعلومات قد وصلت لي من بعض البدو الوطنيين، بموقع هذه المنطقة الإدارية في شمال «الشط». وزاد إصراري على تفجير الموقع لحرمان العدو من الاستفادة منه، فعهدت لمجموعة من خمسة رجال من أبطال الصاعقة بتلك المهمة بقيادة إبراهيم الرفاعى، فعبروا القناة في قوارب صغيرة، وقاموا بتلغيم المركز كله، ثم عادوا سالمين إلى غرب القناة، ولن أنسى ما حييت مشهد النيران وهي تأكل المركز بالكامل، وعلمت أن القائد الإسرائيلى الذي كان مسئولاً عن هذه الذخائر قد قُتل في هذه العملية، كما أذكر لإبراهيم الرفاعى عملية أخرى لا تقل عن الأولى في عظمتها، حيث رصدنا عام 1968 أنواعاً جديدة من الصواريخ المثبتة على الضفة الشرقية للقناة، فكان لا بد من الحصول على أحدها لمعاينتها وفحص إمكانياتها، فأصدرت أوامرى لمجموعة من أمهر المقاتلين يتقدمهم إبراهيم الرفاعي بإحضار أحد تلك الصواريخ، فتسللوا بملابس الضفادع البشرية لموقع العدو في الشط، وهم لا يحملون سوى خناجر وقاطعات أسلاك.. واستولوا على عدد من الصواريخ التى عادوا بها رغم الحراسة الإسرائيلية الشديدة. ولكنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأقسموا على حماية الوطن..

كنا كلنا في الجيش المصري عقب نكسة يونيو 1967 نعلم، قادةً وجنوداً، أن يوم الثأر آتٍ لا ريب فيه؛ ولذا كان كل منا يعلم مهمته ويسارع لأدائها. وضعنا خطة دفاعية عن جبهة القناة، وعملنا تجهيزات دفاعية ممثلة في حفر الخنادق والمواقع الدفاعية، وزدنا من ساعات التدريب الشرس بما هو موجود بالفعل بين أيدينا، وازدادت مدفعيتنا قوةً وثباتاً، فأصدرت أوامري بإلحاق خسائر بالعدو عبر توجيه ضربات مباشرة له وكان ذلك في سبتمبر من عام 1968، فدمرنا بطاريات الصواريخ الإسرائيلية أرض/ أرض، التى كان العدو يقصف بها مدينة الإسماعيلية، ولعل ما قمنا به في تلك الفترة كان الدافع الأساسى للعدو للبدء في إنشاء خط تحصينات قوى يغطى خط المواجهة بأكمله، فكان خط بارليف.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى