يطل علينا الأستاذ بلال التليدي، الباحث المغربي المتخصص في الحركات الإسلامية في كتاب جديد ومتميز صدر له عن مركز نماء للبحوث والدراسات مطلع عام 2014م، بعنوان (الإسلاميون ومراكز الدراسات الأمريكية دراسة في أزمة النموذج المعرفي حالة معهد واشنطن ومعهد كارنيجي).
يقع الكتاب في 360 صفحة من القطع المتوسط، وجاء في ثلاثة فصول، هي:
مراكز الأبحاث الأمريكية والإسلاميون: الإطار الوصفي.
مراكز الأبحاث الأمريكية والإسلاميون: التوجهات، المقولات والحجج، المسارات والتحولات.
مراكز الأبحاث الأمريكية والإسلاميون: أزمة النموذج المعرفي.
والكتاب يأتي في مرحلة مفصلية في تاريخ الحركات الإسلامية وخاصة بعد مرحلة الثورة المضادة للربيع العربي، حيث يناقش موقف السياسات الأمريكية عبر تحليل توصيات وأبحاث مراكز الدراسات من قضية مشاركة الإسلاميين السياسية.
وركزت الدراسة على إبراز مدرستين متعارضتين من هذه القضية، مدرسة مركز واشنطن الرافضة لمشاركة الإسلاميين السياسية وخاصة في السلطة، ومدرسة معهد كارنيجي التي تشجع على هذه المشاركة للإسلاميين.
وجاء اختيار هذين المركزين لما لهما من نشاط بحثي ضخم في المنطقة وتركيز على دور الإسلاميين السياسي ولقوة تأثيرهما على صانع القرار الأمريكي، وفي كل مدرسة هناك مراكز أخرى لكن لحصر الدراسة وعدم تشعبها تم الاقتصار على عينة ممثلة لكل مدرسة.
الخلاصة المهمة التي يخرج بها القارئ أن تباين هاتين المدرستين ينبع من التنافس على تحقيق المصلحة العليا لأمريكا، وليس حباً بالعدالة أو إيماناً بالحق وإخلاصاً لنشر الديمقراطية، ولذلك إن انعدم تحقيق المصلحة الأمريكية أو كان هناك ضعف في تحقيق تلك المصالح من خلال رؤية أي مركز فإنه لا يتوانى عن تغيير رؤيته لأنها ليست قضية مبادئ وقيم.
الفصل الأول والذي بلغ ثلثي الكتاب هو عبارة عن تتبع ورصد وصفي لإنتاج هذين المركزين في الموضوع من عام إعلان مبادرة تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط سنة 2002 وحتى سنة 2013.
وقد استعرض التليدي 30 مادة من إنتاج معهد واشنطن بين مقالة وشهادة وورقة بحثية وأغلبها من إنتاج المدير التنفيذي للمركز وكبير الباحثين فيه أيضاً روبرت ساتلوف، لكونه المتخصص بذلك في المعهد بشكل رئيسي، وذلك لتقديم صورة متكاملة عن إنتاج المعهد والرؤية المعادية للإسلاميين التي يعمل على أن تتبناها الإدارة الأمريكية.
وفي نفس الفصل قام التليدي باستعراض 28 مادة من إنتاج معهد كارنيجي بين ورقة ومقالة ساهم فيها عدد من خبراء المركز وهم: مارينا أوتاري، وناثان براون، وعمرو حمزاوى، وجرهام فولر، لتوضيح كامل الرؤية التي يدافع عنها معهد كارنيجي بالتفريق بين الإسلاميين المعتدلين والراديكاليين، وضرورة مشاركة المعتدلين في العملية السياسية.
أما الفصل الثاني والذي خصصه المؤلف لفحص التوجهات، والمقولات والحجج، والمسارات والتحولات، فهو بمثابة توضيح وشرح لرؤية كل مركز / مدرسة من موضوع مشاركة الإسلاميين في السلطة، وذلك بتحديد المنطلقات التى ينطلق منها كل فريق، وهل حدث تحول أو تطور في هذه الرؤية.
بخصوص معهد واشنطن فرؤيته تنطلق من أن المصلحة الأمريكية لم تعد في الاستقرار في المنطقة العربية من خلال دعم الأنظمة الاستبدادية، لأنها أصبحت عاجزة عن توفير الاستقرار، وأن البديل عن ذلك هو دعم التغيير والديمقراطية في العالم العربي، ولكن معهد واشنطن متنبه لإمكانية بروز وصعود الإسلاميين من خلال الديمقراطية، لذلك فهو يطرح ديمقراطية الاستثناء أو التمييز ضدهم.
وذلك لأنه يرفض (خرافة) وجود إسلاميين معتدلين والتي يروجها مركز كارنيجي، ويرى أنهم خطر على الديمقراطية والمصالح الأمريكية، وأن قبولهم بالمشاركة السياسية نوع من الخداع، والتعامل الأفضل معهم هو عرقلة مشاركتهم السياسية ومنعهم من الوصول للسلطة ابتداء، والعمل بشكل سلمي على انهيارهم في حالة وصولهم للسلطة!
وللوصول لهذه الغاية، فإن على أمريكا دعم المسار الديمقراطي، وتعزيز الحلفاء الطبيعيين لأمريكا وتنشئة حلفاء جدد، ومحاربة الإرهاب لمنع وصول الإسلاميين للسلطة.
ولكن نجاح الإسلاميين في الانتخابات المتعددة، ووصول محمد مرسي لرئاسة مصر، جعل مركز واشنطن يهمل الدعوة لتعزيز الديمقراطية، ويركز دعوته للإدارة الأمريكية على ضرورة إسقاط الإسلاميين ودعم خصومهم! ويشارك مركز راند معهد واشنطن في جزء كبير من رؤيته هذه.
ثم يورد المؤلف 18 مقولة وحجة يستند إليها معهد واشنطن في تبرير موقفه الرافض لمشاركة الإسلاميين السياسية وهي جوهر محتوى المواد التي أنتجها المركز/ المدرسة في الفصل الأول.
أما بخصوص مركز كارنيجي فهو على النقيض من رؤية معهد واشنطن، فهو يرى ضرورة إشراك الإسلاميين المعتدلين في العملية السياسية في المنطقة العربية من أجل المحافظة على المصالح العليا الأمريكية، وهو يرفض خيار الاستقرار عبر الاستمرار في دعم الأنظمة المستبدة القائمة، أو خيار الديمقراطية التمييزية ضد الإسلاميين، وذلك أن الضغط على الأنظمة لم يجدِ نفعاً في الإصلاح السياسي، بل اعتبر تدخلاً في شؤونهم الداخلية، وفى نفس الوقت فإن القوى العلمانية عاجزة ولا قوة لها في الشارع، وليس هناك من حل لتجنب التطرف وزعزعة الاستقرار إلا بقبول إدماج الإسلاميين المعتدلين في العملية السياسية والذين هم القوة السياسية الحيوية في المنطقة.
فمعهد كارنيجى مشغول بالانتقال الديمقراطي الذي يخدم المصالح الأمريكية، ولا يعرض مكتسباتها للخطر، ولكن بسبب تقبل معهد كارنيجي لمشاركة الإسلاميين أصبح له علاقات أوثق معهم مما أتاح له دراسة أطيافهم بشكل أشمل وأدق ومن قرب.
وتقوم رؤية معهد كارنيجى على أن القوى السياسية في المنطقة ثلاث: الأنظمة، المعارضة العلمانية المدنية وهي هامشية التأثير، القوى الإسلامية وهي صاحبة القوة في الشارع، وأن الأنظمة تستغل ضعف القوى العلمانية لتجعلها في صفها في مقابل الإسلاميين، مما يديم حالة الاستبداد والفساد، ولذلك يقترح المعهد دعم الإسلاميين المعتدلين وإقامة جسور بينهم وبين العلمانيين ليصبح هناك ضغط مزدوج على السلطة، مما يجبرها على انتهاج سلوك تصحيح المسار السياسي.
ويرى المعهد أن الاستمرار في دعم الأنظمة المستبدة سيجعل الإسلاميين في طليعة المعارضة ورأس حربة في معاداة الإمبريالية والأنظمة القائمة، وستتصاعد الهوية الإسلامية بينهم، ويحدث تقارب بينهم وبين القوى القومية واليسارية، ويقلل من اتجاه الإسلاميين للاعتدال ويزيد نفوذ التيارات الراديكالية.
ولذلك يركز معهد كارنيجي على تطوير الإسلاميين نحو (الاعتدال) من خلال تحديد مناطق رمادية في فكر وسلوك الإسلاميين حددها في ست قضايا ثم وسعها أكثر، لتتطور وتتوافق مع المنظومة الغربية، ومما يساعد على تطور الإسلاميين، ويرى المركز ضرورة تعزيز قوة وحضور الأحزاب العلمانية لتنافس الإسلاميين بما يضغط عليهم لسلوك مسار (الاعتدال).
ويضرب المعهد المثل بالتجربة التركية وأن التعنت واللجوء إلى الانقلابات ضد الإسلاميين لم يخدم السياسة الأمريكية في تركيا، بينما القبول بمشاركة الإسلاميين نهض بتركيا وجعلها على مسار بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية.
وهذه الرؤية لا تقتصر على معهد كارنيجي، بل يشاركه فيها معهد بروكنغز ومعهد السلام الأمريكي، ومن أوروبا: معهد العلاقات الدولية والحوار الخارجي في مدريد، ومركز دراسات السياسة العامة ببريطانيا، ولكن الانقلاب على العملية السياسية ومرسي في مصر، جعل مركز كارنيجي يحول اهتمامه لقضايا أخرى مثل التربية والتعليم وحقوق الأقليات.
ثم يستعرض التليدي 9 حجج تقوم عليها هذه الرؤية، هي محاور المواد التي أنتجها معهد كارنيجي وتم استعراضها في الفصل الأول.
الفصل الثالث والأهم بحسب المؤلف، يعالج أزمة النموذج المعرفي في تناول المراكز الأمريكية لموضوع الإسلاميين، حيث وجد التليدى أن المعهدين برغم تناقض طرحيهما إلا أنهما انطلقا من أطروحة سابقة على البحث، وكان الهدف من البحث تعزيزها وإثباتها!
وأن قضية الديمقراطية ليست مبدئية عند المركزين، بل كان لاعتبار الدينامية السياسية وما فرضه الواقع وتحصين المصالح الأمريكية القول الفصل، فمعهد واشنطن تخلى عن فكرة تعزيز الديمقراطية واهتم بمحاربة الإسلاميين، ومعهد كارنيجي تحول لاهتمامات أخرى بعيدة عن الديمقراطية.
لقد كان النموذج الغربي للديمقراطية وتحقيق المصالح الأمريكية والغربية هو السقف والمعيار لقياس الديمقراطية واعتدال الإسلاميين، مما جعل هذه المراكز تولد ثلاثة مفاهيم جديدة للديمقراطية، وهي:
1- الديمقراطية التمييزية، والتي تقوم على أن الاسلاميين عدو للديمقراطية ولا مكان لهم فيها، وفي الحقيقة هي محاولة لمنع تأسيس الديمقراطية على نموذج ثقافي مباين للحضارة الغربية.
2- الديمقراطية الإرشادية، وهي تقوم على ضرورة توافق الإسلاميين مع المعايير والقيم الليبرالية في اللعبة السياسية ليتم قبولهم فيها، والعجيب أن هذه المعايير غير ثابتة بل دائمة الاتساع.
3- الديمقراطية التدخلية، وهي تعني أنه عند عدم تحمل مخاطر الديمقراطية تقوم الإدارة الأمريكية بإفهام السلطات بالأهداف المطلوب تحقيقها.
إن من المشاكل التي تعاني منها مراكز الأبحاث الأمريكية تجاه الإسلاميين نقص وعدم كفاءة أدوات التحليل، بسبب محاولة دراسة الإسلام والإسلاميين بحسب نموذج الحضارة الغربية، فتقاس الحركات الإسلامية على الأحزاب المسيحية، والأنظمة السلطوية بالأنظمة الديمقراطية، والعملية الديمقراطية العربية بالغربية مع البون الشاسع بينهما، وهكذا.
وفي الخاتمة ينبه المؤلف على خطورة الاستنتاج أن الدراسات الغربية عديمة الجدوى أو أنها دراسات سطحية، برغم السلبيات التى كشفتها الدراسة، بل يجب الاهتمام بها مع التيقظ لعيوبها والاستفادة من أدواتها الإجرائية.
وأما عن سؤال: كيف يمكن تقويم دراسات المراكز الغربية عن الإسلام والإسلاميين؟ يأتي الجواب من ثلاث زوايا: الزاوية المعرفية بالاعتماد على الفكر الإسلامي في تفسير مواقف وسلوك الإسلاميين، والتي تشمل علاقة الدين بالسياسة.
ومن الزاوية النظرية تحديد الغرض من الدراسة، هل هو تطويع الإسلاميين للمصالح الغربية، أم نشر الديمقراطية بغض النظر عن مدى توافقها مع المصالح الغربية.
ومن الزاوية المنهجية لا بد من عدم الاقتصار على آليات محدودة مثل المقابلة والملاحظة السلوكية واللقاءات ذات الغرض المحدد، والشفافية في الإفصاح عن الوسائل المستخدمة وطريقة تحويلها إلى مؤشرات صالحة لتوليد خلاصات، وإخضاع المسلّمات إلى عملية اختبار ضمن النسق الثقافي والسياسي الذي يحكم العملية السياسية في البلاد العربية.
وهذه القراءة لهذه الدراسة لا تغني عن قراءة الأصل والاستفادة من تفاصيلها الكثيرة ومعلوماتها الغزيرة لكل مهتم بالحركات الإسلامية السياسية.