دراسات سياسية

مستقبل الظاهرة الحزبية – وليد عبد الحي

إذا كانت القبيلة والدين هما الأداة التنظيمية الاكثر بروزا وفاعلية في المجتمع الزراعي القديم ، فإن الأحزاب السياسية والنقابات شكلت الأداة التنظيمية الأهم للمجتمع الصناعي،كما ساهمت تدريجيا في تفكيك الأدوات التنظيمية لما كان في المجتمع الزراعي، ويبدو ان الوقوف على عتبة العولمة يشير لبداية تفكيك الأدوات التنظيمية للمجتمع الصناعي لصالح أدوات أسرع في اتخاذ القرار وأوسع في نطاق الاهتمام الجغرافي، ونطاق الاختصاص، وتجاوز هادئ وتدريجي لمفاهيم الأيديولوجيات التي سادت المجتمع الصناعي من قومية واشتراكية ورأسمالية باتجاه نمط يجمع بين كل ما سبق من خلال نموذج دول الرفاه والطريق الثالث والأفكار ” المابعدية” وترسيخ هادئ ومماحك أحيانا لمفهوم الانسان بدلا من مفهوم المواطن او الهويات الاخرى القائمة على الثقافات الفرعية.

ولعل الظاهرة الحزبية هي أحد ضحايا هذا التطور –الذي لا يسمح المجال لعرض جوانب التطور كلها-، لكن آلة الحزب التي تشكل بنية فوقية لبنية الانتاج الصناعية التحتية لم تعد قادرة على التكيف والتناغم مع موجات العولمة العالية والتي لن يلغيها ضجيج المتشبثين بالاليات القديمة. وللتدليل على أن الظاهرة الحزبية اصبحت ظاهرة مفارقة لبنية الواقع ، يكفي ان نشير للمعطيات التالية التي اطلعت عليها في عدد وافر من الدراسات والاطروحات الجامعية :

1- تشير الدراسات الأمريكية الى ان عدد “المستقلين “(أي غير الاعضاء في أي حزب) في الولايات المتحدة يتزايد بشكل مضطرد وخطي منذ 1985.
2- تكشف دراسة ” بول وايتلي ” التي شملت 36 دولة من دول الشمال(28 دولة) والجنوب( 8 دول) ما يلي:
– أ- 24 دولة كانت نسبة المشاركة العضوية في الأحزاب أقل من 10% من اجمالي البالغين، فمعدل العضوية في كل القارة الاوروبية هو 4,3% فقط.
– ب-8 دول كانت النسبة بين 10-20%
– ج-4 دول كانت النسبة بين 20 -40%.
3- وعند تتبع الاتجاه العام لنسب العضوية يتبين ان التراجع في نسب العضوية الحزبية كان في 17 دولة بحوالي 4% بين 1990- 2004، بينما الزيادة في 8 دول كانت اقل من 1%، وفي 11 دولة بقيت نسبة العضوية فيها شبه مستقرة.
4- وفي المعدل العام فإن 80.9% من سكان 36 دولة لم ينضم باي شكل من الاشكال لحزب سياسي
5- نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية (التي تخوضها الاحزاب) تتراجع بشكل واضح إلى حد ان 48% من الأوروبيين لم يشارك في أي انتخابات برلمانية او رئاسية.

والسؤال يصبح من يملأ الفراغ الذي تتركه الأحزاب؟، وهنا نجد ميلا واضحا لدى أغلب الباحثين للقول بأن التنظيم الاقتصادي والسياسي بدا يميل تدريجيا نحو ايقاع ينتقل من النمط البيروقراطي (bureaucracy) الى ما يطلق عليه ” وارين بنس” في كتابه (The Temporary Society) اسم الهيئات او اللجان العابرة(Adhocracy) التي تنفض بمجرد أداء المهمة الموكولة لها وليست كيانا قارا على غرار البيروقراطيات التي افرزها المجتمع الصناعي، ويقدر المفكر البريطاني أنتوني جدنز عدد اعضاء هذه الهيئات في أوروبا- ومن ضمنها هيئات المجتمع المدني غير الأحزاب – بانه يتجاوز عشرين ضعف عدد اعضاء الاحزاب.

إن طغيان الطابع التقني وبتسارع يرافقه على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية يجعل أليات المجتمع الصناعي التنظيمية تعيش ذات الوضع الذي عايشته القبيلة والأديان في اتكاء الوجود والظواهر السياسية عليهما، ولعل سرعة الانترنت ودورها في عبور الحدود محملة بالعقود التجارية والتحويلات المالية وبالأفكار الطائرة وبسرعة مذهله وبتكييف هادىء للوجدان والثقافات التي اعتادت على التناحر والتنابز يجعل من الأحزاب آلية تفقد قدرتها ببيروقراطيتها المعهودة على مجاراة هذا التسارع.

إن نموذج دولة الرفاه والطريق الثالث والتحديثات الاربعة الصينية تشير الى تماهي الحدود بين ” الآيديولوجيات وكأن المركب الهيغلي يستيقظ من جديد، ويحمل هذا التطور معه نسيجا ثقافيا جديدا بل ووجدانا يتوحد ولكن بصعوبة بالغة وبقدر من الدم والعرق لأن القديم ضارب بجذوره في العمق ، واقتلاعه يحتاج لموجات عاتية يبدو ان العولمة هي ربانها…إن مراقبة شاشات التلفزيون خلال المونديال الماضي في موسكو ورصد تفاعلات الجمهور العالمي –لا القطري- تجعلني اتساءل من وحد مشاعر المتفرج البرازيلي مع الهندي والألماني والسنغالي والعربي والامريكي ..الخ في لحظة معينة؟ من جعل توم آند جيري في افلام الكرتون او البحار بوبي معروفا لكل اطفال العالم..إن أي آلة تنظيمية لا تتكيف مع هذا التسارع مصيرها الانقراض، فكيف لحزب ان يتكيف ببنيته الحالية مع مئات الأخبار التي تصل كل ثانية لمقره ولكل منها أثره على حزبه ومجتمعه؟

إن كل استطلاعات الرأي التي اطلعت عليها- ومنها في الدول العربية – تؤكد ان الصورة السلبية للأحزاب تزداد قتامة، وان تراجع العضوية في الاحزاب يعني انها ستجد نفسها عاجزة عن تحمل اعباء المرحلة القادمة وهو ما سيدفعها للاتكال على الدولة ، وهو ما يعني نهايتها او تحولها لأداة رسمية شأنها شأن أي هيئة حكومية.
أعتقد ان على أحزابنا ان تستعد للرحيل أو التكيف مع سارية السفينة التي تطل ويشاهدها كل من له عيون زرقاء اليمامة ،وإلا سَتُرحلها العولمة طوعا او كرها..وللعولمة آثامها لكن الوقاية خير من العلاج.

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى