دراسات استشرافيةدراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

مستقبل العراق بين الراهن والشخصية التاريخية

وليد عبد الحي

هل ما يجري هذه الايام في العراق هو تعبير عن “نزق تيار او قائد حزبي” هو مقتدى الصدر أم تعبير عن بنية اجتماعية مشققة منذ أكثر من 1500 عام، ام هو تعبير عن أوزار الجغرافيا السياسية التي حشرت العراق في منطقة نزاعات تاريخية ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وحضاري.؟

بداية لا بد من رصد ابرز مقومات الكيان السياسي العراقي الاجرائية ، ويكفي ان نرصد مستوى الظواهر المركزية التالية:

أولا: مستوى الاستقرار السياسي في العراق:

لم تغادر العراق منذ عام 2000 مكانتها في ترتيب الاستقرار السياسي بين دول العالم، فهي دائما ضمن العشرة دول الاكثر اضطرابا ، فطبقا لمقياس كوفمان الذي يقيس بين +2.5(الاكثر

استقرارا) و( _2.5 ) الاكثر اضطرابا ، كان معدل العراق خلال العقد السابق هو – 2.3 وفي الرتبة بين 184 و 191 من بين 194 دولة .

ثانيا: الديمقراطية:

بقيت العراق ايضا في ذيل دول العالم بمعدل ديمقراطية لم يتجاوز 4.8 من عشر في عام واحد هو 2014، اما بقية الاعوام العشر الاخرى فبقي في حدود 3.2 من عشرة، كما حافظ على مكانة تقع في ذيل مؤشر الديمقراطية بين دول العالم، بل انه تراجع في السنوات الاخيرة الثلاث بشكل واضح.

ثالثا: الفقر وسوء توزيع الثروة(Gini Index ):

تشير مختلف نماذج القياس ان الثروة في العراق موزعة على النحو التالي:

50% من السكان في اسفل سلم الثروة يمتلكون 12.62% من الثروة

10% من السكان في اعلى السلم يمتلكون 52.23% من الثروة

1% من السكان في اعلى السلم يمتلكون 20.72% من الثروة.

ذلك يعني أن 1% من السكان له من الثروة ما يساوي مرة ونصف من ثروة نصف المجتمع العراقي، وهو ما يعزز أن سوء توزيع الثروة طبقا لمقياس “غيني” يزداد سوءً، بل إن 48.29% من العراقيين لا يتجاوز انفاقه اليومي 5.5 دولار.

رابعا:الفساد:

يرتبط الفساد بالاستبداد السياسي غالبا ، وبسوء توزيع الثروة ، وبعدم الاستقرار السياسي، فالعراق يقع ضمن الدول الاكثر فسادا ، وكانت مرتبته تتراوح بين 157 و 175 خلال الفترة 2010 و 2020، وبقيت نسبة الشفافية فيه تتراوح بين 1.5 الى 2.3 من عشرة.

ذلك يعني ان الازمة الحالية ليست خروجا على الاتجاه العام للدولة العراقية ، وانعكست هذه المؤشرات على الواقع الداخلي وتغذت بعدد من الظواهر التي لا بد من أخذها في الاعتبار:

1- ان الدستور الذي كان لبريمر (المفوض الامريكي) الدور الاكبر في وضع ركائزه عزز التشقق الاجتماعي(سني/شيعي، عربي /كردي /تركماني ، مسلم /مسيحي/ صابئي /آشوري/ ..الخ).وقد ادى ذلك لطغيان الهويات الفرعية على الهويات الجامعة فتعزز التشقق وبدأ يعبر عن نفسه تنظيما بل واستقرار اعراف دستورية بان الرئيس كردي ورئيس الوزراء شيعي ورئيس البرلمان سني، وكأن التجربة الفرنسية في لبنان قد استنسخت من حيث الجوهر.

2- تحويل العراق من لاعب اقليمي الى ملعب اقليمي، فمن ناحية هناك مشروع امريكي اسرائيلي لتعزيز النزعة الانفصالية بين الاكراد وربما التركمان لاحقا، وهناك نزوع اسرائيلي لمنع العراق من أخذ دوره بخاصة في الصراع العربي الاسرائيلي ، فالمعروف ان العراق هو البلد الوحيد غير المجاور لفلسطين ولكنه شارك في كل الحروب مع اسرائيل، وهناك ايران التي تخشى من تنامي العداء لها في العراق بشكل عام او تنامي العلاقة بين التيار الصدري وبعض الدول الخليجية المناهضة لايران وبخاصة السعودية، ثم هناك التدخلات التركية عسكريا وسياسيا واخيرا في نطاق المياه لمنع الاكراد من التجسيد لكيانهم السياسي ، ناهيك عن دور ” اليد الخفية” للسعودية عبر قنوات اجتماعية وسياسية ومذهبية واقتصادية مختلفة.

3- التشظي والتعدد في القوى العسكرية : فالى جانب الجيش والقوات الامنية هناك الحشد الشعبي المزود بالاسلحة الثقيلة ،وهناك البشمركة الكردية التي هي جيش بكل ما في الكلمة من معنى، فله علمه الخاص وقيادته الخاصة واستراتيجياته الخاصة ، ثم هناك قوى حزبية مسلحة ،الى جانب فلول داعش في مناطق متناثرة من العراق، وهو ما يعني أن كل قوة سياسية خلفها قوة عسكرية تسندها ،وهو ما يجعل المواجهات والحروب الاهلية في قاعة الانتظار حتى صدور امر الاقلاع لها.

4- الشخصية العراقية بين منظور الحجاج بن يوسف الثقفي عن الشقاق العراقي(مات اوائل القرن الثامن الميلادي) وبين منظور عالم الاجتماع العراقي على الوردي(مات أواخر القرن العشرين) عن ثنائية الشخصية العراقية بين البداوة والحضرية او بين الصحراء والنهر.،فالنظرة الاخلاقية للحجاج تساوقت مع النظرة الانثروبولوجية للوردي، وها هو الواقع المعاش الآن يعزز هذا الاتساق.

ذلك يعني ان العراق ” لن يستقر ” في المدى القصير والمتوسط، بل إن احتمالات الاضطراب طبقا للمؤشرات الكمية هي اقرب للتزايد منها للتراجع او حتى الثبات، وقد تتمكن بعض النخب من لجم هذا المسار ،الا ان البنية الاجتماعية المعاصرة والشخصية التاريخية الراسخة قد يعاندا هذا النزوع الذي تتكاتف فيه القوى الاقليمية والدولية مع قوى محلية تستفيد من الواقع الراهن، لكن العراق كطائر الفينيق الاغريقي ( او الققنوس الفارسي) ينهض ثانية من رماد جسده المحترق.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى