دراسات تاريخية

مضر بدران: رئيس الوزراء في القرار .. خفايا أزمة 1989 في الأردن والتدخل العسكري ضد العراق

محمد عبدالرحمن عريف

       قد لا ينقضي عجب قارئ مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران من جرأة كاتبها في الحديث عن واحدةٍ من أكبر الأزمات التي مرت بالمنطقة والعالم، خلال الغزو العراقي للكويت في حرب الخليج الثانية 1990. لم تزل الأسئلة تتوالى دون إجابات على تلك الأسئلة التي أثارها نشر هذه المذكرات، عن توقيت النشر؟ وما الفائدة من ذلك.

     ينقل بدران أكذوبة محمد حسنين هيكل حين سمّى الهزيمة النكراء في عام 1967 بـ«النكسة» وهو يقتفي فكر هيكل وطروحاته السياسية المهترئة ضد دول الخليج وضد الملَكيات العربية، حاول هيكل من قبل ويحاول بدران من بعد إعادة رواية التاريخ وكأن التاريخ ملكٌ شخصيٌ له أو روايةٌ تنفع للاستهلاك المحلي ولا يعلم عنها الآخرون شيئاً. وتناسى بدران التحالف الذي أسسه صدام حسين تحت مسمى «مجلس التعاون العربي» والذي فضح أهدافه كثيرون من أهمهم الرئيس المصري العظيم الأسبق محمد حسني مبارك الذي خرج من ذلك المجلس المشؤوم وانحاز للعدل ووقف مع أشقائه في الكويت ودول الخليج. والسيد بدران كان رئيس وزرائه حينها. ويتحدث بدران عن قصف صدام لإسرائيل بثمانية صواريخ ولكنه يتجاهل تماماً أن صدّام قد قصف السعودية بصواريخ أكثر من ذلك.

     من بين ما نشرته في مذكراته، القول: «كنّا على يقين بأن صدام حسين لن يضرب جيشاً عربياً، لكنه سيدمر أي جيش أجنبي وسيشتبك معه» المشكلة فقط هي أن يعيد التذكير بعد ثلاثة عقود بالموقف السياسي الخطأ، فصدام استهدف الجيش الكويتي وقتل وسفك دماء الشعب الكويتي الأعزل قبل هذا الموقف المعيب من السيد بدران. ولم يزل بدران يروّج لأكاذيب صدام وربطه بين انسحاب صدام من الكويت وانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية والقدس، وهو الربط الصارخ في يعكس عداءً للكويت ودول الخليج. والسيد بدران يذكر بالتفصيل نصائحه لصدام وقادته العسكريين ويضيف دعمه الكامل لهم في مواجهة الكويت والسعودية ودول الخليج والتحالف الدولي، ثم يقول: «وهو ما استمعنا إليه من (مارجريت تاتشر) والتي كانت تمتلك عقلية ديكتاتورية كاملة»، هكذا كتب وكأن عقلية صدام كانت ديمقراطية سلميةً بالكامل، ونسي أن نصائح تاتشر للأردن كانت صادقةً ولو تبعها لسلم من كثير من التبعات السياسية والاقتصادية.

     وسط هذا وذاك تبقى هي الهوية الأردنية الحديثة عاشت على ميراث الثورة العربية الكبرى، وعلى المكانة الخاصة للأسرة الهاشمية ودورها في تأسيس إمارة شرق الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية. لكن هذه الهوية سرعان ما استقرّت على شكل متدامج ومتنافر في الوقت نفسه، هو ثنائية (الأردني – الفلسطيني)، خصوصًا بعد وحدة الضفتين، الشرقية والغربية، في عام 1950. ثم راحت تعبّر عن نفسها أحيانًا بطريقة فلكلورية مسلية أَكان ذلك في الطعام أو غطاء الرأس أو حتى الرياضة كالتنافس بين ناديي الوحدات الفلسطيني والفيصلي الأردني، أو اعتمار الكوفية ذات اللونين الأسود والأبيض في مقابل الشماغ الأحمر والأبيض من طراز “أبو الشراشيب”، أو المنسف في مقابل المسخّن والمقلوبة. ولشديد الأسف، صارت تلك الثنائية الطبيعية مدعاة للخوف، أحيانًا،  لدى بعض الشرق أردنيين كلما سمعوا كلامًا إسرائيليًا عن “الوطن البديل” أو “الخيار الأردني”، وكلما تضاءل حلّ الدولتين في فلسطين.

      في محاولة الباحث صقر أبو فخر تقصي وجود تلك الثنائية في مذكرات مضر بدران الموسومة بعنوان “القرار”  فما عثرتُ على ملامحها ألبتة، وهذا مفهوم، ما دام صاحب المذكرات التي قدّم لها خالد الكركي، من أصول فلسطينية نابلسية، ووالدته شامية وزوجتة شامية أيضًا، ووالده كان قاضيًا في حمص، وهو نفسه درس في الشام وتخرّج في جامعتها. ونابلس، كما هو معروف، هي “دمشق الصغرى”، ومعظم عائلاتها مثل آل النمر وطوقان ويتحدّرون من حماة وجوارها. وقد عثرنا على اسم والدة مضر بدران فريزة المولا (باللام ألف)، لكننا لم نعثر إلا على الاسم الأول لزوجته، وهو مؤمنة، وكنيتها “أم عمّار”، فكأننا نقرأ على الطريقة المصرية التي تكتفي بعبارة “حرم دولة رئيس مجلس الوزراء”، من دون ذكر اسمها الشخصي، وفي هذا محو للفردانية. ومع ذلك عثرنا، مصادفة، على اسم عائلة زوجته (السرايجي) في الصورة المنشورة في الصفحة 411، ففككنا عقدة تجهيل اسم عائلة زوجته. ومهما يكن الأمر، فليس في هذه المذكرات أيديولوجيا أو “فلسفة” أو “فذلكة”، فلا الثورة العربية الكبرى حاضرة، ولا الهاشميون يتلألؤن إلا كإشاراتٍ عابرة هنا وهناك. وحده الملك حسين يحظى بالحضور الكلي، وحتى المذكرات نفسها تتوقف عن الكلام والبوح مع وفاة الحسين في 27/2/1999.

      كان يُقال في الأوساط السياسية العربية إن الملك حسين إذا أراد أن يحسّن علاقته بسورية يجعل زيد الرفاعي رئيسًا للوزراء، وإذا أراد أن يحسّن علاقته بالعراق يجعل مضر بدران رئيسَا للحكومة. ومن غير الممكن وضع علامةٍ مدرسيةٍ تفضيليةٍ لهذه المقولة مثل العلامات التي يضعها معلمو المدارس لطلابهم. ولكن مضر بدران، كما يبدو في المذكرات نفسها، قومي عربي، ولعله تأثر ببعض أفكار القومية العربية في أثناء دراسته في دمشق. ولاحقًا كان شاهدًا على هزيمة عام 1967، وعلى ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة ومعركة الكرامة وغيرها. وفي هذا الميدان، لم يتحرج في الإفصاح عن رأيه  بشأن ما سُمّي “الربيع العربي” فيقول إن ذلك الربيع “بلغ مستوى المؤامرة على سورية الموحدة”. وبدران اتخذ موقف الرافض لزيارة أنور السادات القدس ولمفاوضات كامب دايفيد ولاتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، وكان معارضًا لمعاهدة وادي عربة من غير أن يعلن ذلك (هل الكتمان في هذه الحال يساوي التأييد؟). وقد استقال من رئاسة الحكومة الأردنية في عام 1991 لأنه كان يرفض المشاركة في التفاوض مع إسرائيل، وكان يعلم، علم اليقين، أن اسرائيل لن تلتزم أي اتفاق سلام، وأن أميركا لن تضغط عليها من  أجل اتفاق سلام مع العرب. وفوق ذلك، في جنازة الملك حسين، لفته عدنان أبو عودة إلى أن شيمون بيريز يفتش عنه كي يلقي السلام عليه، فهرب حتى لا يصافحه.

     مضر بدران أحد ثلاثة عملوا على تطوير الوحدة الأردنية الداخلية، وعلى تحديث الإدارة وتنمية الاقتصاد ومكافحة الفساد. والثلاثة هم عبد الحميد شرف ومضر بدران وأحمد عبيدات. والثاني والثالث توليا إدارة المخابرات العامة. والمعروف أن أكثر الأشخاص ليونةً في الأزمات السياسية ليس السياسيون، بل رجال المخابرات الذين يعرفون الواقع الحقيقي جيدًا، ويعرفون ما يجري في ثنايا المجتمع، خلافًا للسياسي الذي يُغلّب الخطاب التعبوي والشعبوي والأيديولوجي على المعالجة الصحيحة للمشكلات. ومع ميوله القومية الخفيفة، إلا أنه كان غارقًا في حب الملك حسين، ومغرمًا بوصفي التل. وقد يبدو ذلك أمراً معتادًا في الأردن، لكن الصورة من خارج الأردن ليست على مثل هذا البهاء ألبتة. فهو يصف الملك حسين بأنه “أسطورة لا تتكرر”. صحيح أن الملك حسين كان لاعبًا ماهراً، واكتسب خبراتٍ مهمة لم يتسنَ لأي زعيم عربي آخر أن يكتسيها جراء طول مدة حكمه، لكنه لم يكن أسطورة على الإطلاق، وثمة فارق هائل بينه وبين جمال عبد الناصر، ومع ذلك نحن لا نسمي عبد الناصر أسطورة، بل زعيم عربي نادر. وكل ما في الأمر أن الملك حسين كان أحد الحكام العرب الذين أقاموا طويلاً في عروشهم، فاكتسبوا خبراتٍ جمّة، وتعلموا كيف يتعاملون مع موازين القوى، وفهموا إكراهات الواقع، وأتقنوا فنون المناورة بين المتناقضات والسير في حقول الألغام، أو بين حبال المطر، لكن هذا الانسحار بالملك حسين عجيب غريب، حتى أن بدران كان يدعو الله أن يميته قبل الحسين. وفي جميع صفحات الكتاب لم يرد اسم “الملك حسين” ألبتة بل كان اسمه يرد بصيغة “الراحل الحسين”. ولا ريب أن للملك حسين مزايا كثيرة قرّبته من شعبه، وهو أيضًا أتقن فن التواصل بالأردنيين، قبائل وعائلات وسياسيين وتجار ومثقفين. والصفات الفردية هذه كانت جزءًا من صناعة الصورة كقيادات السيارات السريعة والطائرات والتزلج على الماء والثلوج … إلخ.  وهذا كله مشغول بدقة، كي يتسرب التأثير إلى سريرة كل شخص، وحينذاك سيجد مضر بدران في الملك حسين أسطورة. ومن مرصدي هنا، خارج الأردن، لم أرَ في الملك حسين لا أسطورة، فالمسلك السياسي للملك كان مندغمًا بالسياسات الغربية، خصوصًا البريطانية ثم الأميركية، وبالتحديد في ذروة صعود حركة التحرّر القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر. ويُسجل للملك حسين في تلك الأثناء أنه حوّل عمان إلى بؤرة للعمل الاستخباري ضد الوحدة المصرية – السورية، وجنّد لهذه الغاية العميد فيصل سري الحسيني وشقيقه أكرم سري الحسيني وحيدر الكزبري قائد قوات البادية في سورية، والعميد موفق عصاصة، ومعهم خلوصي الكزبري ومأمون الكزبري وعبد الغني دهمان، وهؤلاء هم أركان الانقلاب على الوحدة وبيادق المخابرات الأميركية والبريطانية التي كان رجل المخابرات السعودية، كمال أدهم، يسخو عليهم بالأموال أيما سخاء.

     حين لاحت فرصة للتقارب (العراقي – السوري) بعد أكتوبر/ تشرين الأول 1978 مع توقيع اتفاقية كامب دايفيد، وأحس عرب كثيرون بإمكان تعديل موازين القوى، ولو قليلًا، لتعويض خروج أنور السادات من الصراع العربي – الاسرائيلي، أرسل الملك حسين، في مطلع عام 1979، مبعوثًا إلى صدّام حسين، وكان هذا نائبًا لرئيس الجمهورية العراقية أحمد حسن البكر، ليبلغه أن مجموعة من خمسة أشخاص في مجلس قيادة الثورة اتفقوا مع الرئيس حافظ الأسد على إنجاز اتحاد عراقي – سوري يكون البكر رئيسًا للجمهورية الجديدة، وحافظ الأسد نائبًا للرئيس، ومنيف الرزاز أمينًا عامًا للحزب بدلًا من ميشال عفلق. وبناء على هذه المعلومات غير الصحيحة، بادر صدام إلى الفتك بالمجموعة الخماسية، فأعدمهم، وهم: عدنان الحمداني ومحمد محجوب وغانم عبد الجليل ومحمد عايش ومحيي المشهداني، وتولى  السلطة في 16/7/1979 بعدما أرسل أحمد حسن البكر ومنيف الرزاز إلى منزليهما. أما لقاءات “الملك الأسطورة” مع القادة الاسرائيليين فتحتاج مجلدًا لتدوين وقائعها التي بدأت، بحسب المعروف منها، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1970 حين جاء الملك من قصر الحمر بطائرة عمودية، ووصل يغآل ألون بطائرة عمودية أيضًا من مطار بير السبع،  والتقيا في نقطة تقع بين إيلات والبحر الميت، وكرّت السبحة، فاعترف الملك حسين نفسه لمحطة BBC في مايو/ أيار 1998 بأنه التقى غولدا مئير في 25/9/1973، وأخبرها أن القادة العسكريين السوريين الكبار قد أصبحوا في غرف  العمليات، وعلى الأرجح سيشنون حربًا مع مصر على إسرائيل، ثم التقاها في 4/10/1973 ليحذّرها من أن المعركة ستقع خلال يومين. وفي السياق نفسه، يذكر صديقه، الوزير ورئيس الديوان الملكي الأسبق، عدنان أبو عودة، أن وكالة رويترز بثت خبرًا، نقلاً عن محطة  NBC، عن لقاء عقده الملك حسين ورئيس الحكومة الأردنية في حينه، زيد الرفاعي، مع غولدا مئير ويغآل ألون وشلومو غازيت في وادي عربة في مايو/ أيار 1974، وهذا غيض من فيض اللقاءات المتكرّرة مع القادة الأمنيين والعسكريين الاسرائيليين مثل اللقاء مع موشي دايان في لندن في أغسطس/ آب 1977. وأثار دهشتي حقاً أن يكتب مضر بدران: “كيف لي أن آتي [رئيساً للوزراء] بعد وصفي التل الذي كان “طافِفْ” على الكرسي [أي انه أكبر منها بكثير]. فأنا لا أغطي يد الكرسي الذي يجلس عليه وصفي”. ويعترف بدران بقلة معلوماته عن اغتيال وصفي التل أمام فندق شيراتون في القاهرة في 28/11/1971 بالقول: “بقي السؤال الذي يحيرني عن ضعف حراسة وصفي في فندق الشيراتون من قبل الجهات الأمنية المصرية بلا إجابة”. ولو! بعد تسع وأربعين سنة على الاغتيال، ولا زالت تفصيلات ذلك الحدث تحيرك، وأنت رجل استخبارات في الأساس، ورجل سياسة في المراس؟.

تنبوءات وتوقعات

     يخبرنا مضر بدران أنه تنبأ بإفلاس خزينة الدولة في سنة 1988، وبسقوط شاه إيران في سنة 1979 خلافاً لتوقعات الملك حسين، وبهبة نيسان (إبريل) 1989 الشعبية الاحتجاجية، وبأن ياسر عرفات لن يوقع الصيغة الأولية لاتفاق عمّان في سنة 1984، وبأن الولايات المتحدة الأميركية ستتخذ من اجتياح العراق للكويت في سنة 1990 ذريعة لتدمير قوة العراق. وفي شرحه قصة الاتفاق مع عرفات يقول: إن الملك حسين وضع صيغة أولية لاتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية. وأراد عدنان أبو عودة أن يحصل على توقيع ياسر عرفات على تلك الصيغة في أثناء عشاء في المدينة الرياضية في عمّان. فقال مضر بدران لعدنان أبو عودة إن عرفات لن يوقع الاتفاق، بينما أكد طارق علاء الدين (مدير المخابرات الأردنية) ومعه عدنان أبو عودة أن أبو عمار سيوقع الاتفاق قبل العشاء. وتبين في تلك الليلة أن عرفات لم يوقع الاتفاق، ثم ذهب ولم يعد. والحقيقة أنه عاد. والدليل توقيع “اتفاق عمّان”، لا في تلك الليلة، بل في 11/2/1985؛ ذلك الاتفاق الذي ألغاه الملك حسين في فبراير/ شباط 1986، ولم يلبث طويلاً حتى أعلن قطع روابط الأردن الإدارية والقانونية بالضفة الغربية في 31/7/1988، أي في ذروة الانتفاضة الأولى، وتوقف الأردن عن دفع رواتب 23 ألف موظف فلسطيني في الضفة الغربية، وأُقيل الأعيان الفلسطينيون من مجلس الأعيان. أما لماذا لم يوقع ياسر عرفات الصيغة الأولية للاتفاق في تلك الليلة، وقد جاءت بعنوان “الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين”، فلأنه كان يحتاج موافقه أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح. وبالفعل ذهب أبو عمار إلى الكويت، وجمع قادة حركة فتح الموجودين هناك، وعرض عليهم الصيغة، فرفضها الجميع، لأنها تمثل تنازلًا عن الحق في إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وكان أبو عمار وحيدًا في تلك المعمعة، واستولى عليه الغضب. ومن طرائف هذه الحادثة أن أبو عمار هدّد بالاستقالة حينذاك، فقال له أبو إياد (صلاح خلف): إذاً، تقدّم باستقالة مكتوبة. فكتب عرفات على ورقةٍ النص التالي: “إلى جماهير الشعب الفلسطيني، بما إن إخوتي في قيادة حركة فتح وقيادة الشعب الفلسطيني قد تخلوا عن دورهم وواجباتهم كقادة في الدفاع عن مصالح الشعب، فإني أقدم إستقالتي آملاً أن تجدوا مَن هو أفضل مني”، وأرسل الورقة إلى قيادة فتح من دون توقيع. ولما قرئت الورقة طفق الجميع بالضحك، وردّد بعضهم أن أبو عمار لم يوقع الرسالة، وهي ليست استقالة بل تحريض على أعضاء اللجنة المركزية الموجودين في الكويت.

بعض نبوءات مضر بدران صحّت، وبعضها خاب

     إذاً، بعض نبوءات مضر بدران صحّت، وبعضها خاب. ومع أنه ماهر في التوقع والتنبوء، فما باله ينسى اسم قائد شرطة دمشق فلا يتذكّر إلا أنه من عائلة الحسيني. وسننجد ذاكرته في هذا الأمر؛ فاسم ذلك الضابط هو إبراهيم الحسيني الذي اشتهر ببطشه وموالاته أديب الشيشكلي. وكذلك ينسى اسم زميله الطالب السوري من بيت الأتاسي، وهو نور الدين الأتاسي، طالب الطب الذي اعتقل في تظاهرة عام 1952 وسجن، ثم أصبح لاحقًا رئيسًا للدولة السورية. وسأترك هامشًا بسيطًا للخطأ. فإذا كان يقصد طالبًا زميلاً له في كلية الحقوق “من بيت الأتاسي” فهو زهير الأتاسي أو توفيق الأتاسي. أما إذا كان يقصد ذلك الطالب الذي ضُرب وسجن بعد تلك التظاهرة فهو بالتأكيد نور الدين الأتاسي. وكانت كلية الطب في الجامعة السورية مجاورة لكلية الحقوق. والقاعدة الترجيحية لدى قليلي الهمّة في البحث والتقصي تقول: إن لم يكن إبلاً فمعزى. لكن المؤكد لدي هو أن “الطالب السوري من بيت الأتاسي” هو نور الدين. وكذلك نسي اسم سفير سورية في الأردن، ولم يتذكّر إلا أنه من آل الصباغ. والصحيح أنه عبد الكريم الصباغ. وما دام صاحبنا ينسى فكيف يتنبأ.

خفايا غائبة

      قيمة أي مذكرات من مذكرات رجال السياسة أو الأمن تكمن في ما تكشفه من المعلومات والخفايا وخلفيات الوقائع، لا بما تسرده مما هو معلوم بالضرورة. ومذكرات مضر بدران مهمة بلا شك، لكنه، لأمرٍ ما، لم يتطرّق إلى شؤون كثيرة جدًا كبعثة روجر فيشر، على سبيل المثال، التي جاءت إلى الأردن في فبراير/ شباط 1971 حاملة معها عرضًا لإقامة دولة فلسطينية، أو إلى عملية اغتيال حردان التكريتي في الكويت في مارس/ آذار 1971 وصلة الاغتيال بحوادث أيلول 1970، أو إلى إعلان المملكة المتحدة في إبريل/ نيسان 1972، أو إلى تسلل محمد داود عودة (أبو داود) إلى الأردن، وظهوره على شاشة التلفزة الأردنية في 19/2/1973 ليروي أن خطته كانت تتضمن اقتحام مقر رئاسة الوزراء في عمّان واحتجاز رهائن، وأن أبو إياد وأبو مازن (محمود عباس) هما مَن وضع الخطة، وتدبّرا أمر جوازات السفر والأسلحة والنفقات. وأبعد من ذلك، فقد زاغ صاحب المذكرات عن قصة محاولة اغتيال الملك حسين في مؤتمر القمة العربية في الرباط سنة 1974، وعن خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في السنة نفسها، وعن الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975، والتي كان للمخابرات الأردنية شأن فيها، فثمة وثيقة في الأرشيف الوطني الأميركي تذكر أن الملك حسين قدّم للمليشيات اليمينية اللبنانية 400 طن من السلاح والذخيرة. ولم تقترب المذكرات من حادثة اغتيال فهد القواسمة في عمّان في 29/12/1984 على أيدي مجموعة إرهابية أرسلها موسى العملة (أبو خالد العملة) لاغتيال محمود تيم، وكانت مؤلفة من نايف البايض وشاكر العبسي (قائد عصابة “فتح الاسلام” في ما بعد). ولم نعثر في المذكرات على أي خبر ربما ينير معرفتنا بمن اغتال الصحافي الأردني ميشال النمري في أثينا في عام 1985.

     يكشف مضر بدران أن المخابرات المركزية الأميركية جنّدت عميلاً للمخابرات العامة الأردنية، وطلبت منه أن يسافر إلى برلين، ويلتقي قريبه محمود الزعبي (رئيس الحكومة السورية فيما بعد)، ويحصل منه على معلومات تحتاجها المخابرات الأميركية، فما كان من مضر بدران، وكان مديرا للمخابرات الأردنية في حينه (من إبريل/ نيسان 1968 – يونيو/ حزيران 1970)، إلا اعتقال ذلك العميل، لأن الولاء المزدوج غير مسموح به، ومنعه من السفر إلى برلين على الرغم من إلحاح المخابرات الأميركية. وحين أخبره وزير خارجية الأردن، مروان القلسم، أن هنري كيسنجر كتب في مذكراته تمجيدًا للرئيس السوري حافظ الأسد، ونقدًا أساء فيه للملك حسين، بادر مضر بدران إلى وضع اسم كيسنجر على القائمة السوداء، ومنعه من دخول الأردن. وعندما أراد كيسنجر زيارة عمّان فوجئ بأنه ممنوع من الدخول إلى البلاد، فاتصل بالملك حسين الذي غضب لهذا القرار، وطلب رفع اسم كيسنجر من القائمة السوداء، لكن بدران رفض، وكاد الملك ينفجر من الغضب. السؤال: من أين له القوة ليرفض طلبًا للملك حسين، وهو الذي كثيرًا ما دعا الله أن يميته قبل الملك؟.

      يذكر مضر بدران أن لدى المخابرات المركزية الأميركية (CIA) مصدرًا للمعلومات في قيادة حركة فتح في الكويت، وهو  يوافق ما ذكره عدنان أبو عودة في يومياته عن أن جميل الرمحي (أبو اسماعيل)، وهو قناة استخبارية، كان لديه عميل رفيع في حركة فتح يزوده بتقارير وافيه عن أوضاع المقاومة الفلسطينية وعن أحوال منظماتها. كما يكشف أن مصادره في داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جيدة المستوى ورفيعة المرتبة. ولهذا تمكّن بسرعة من تحديد مكان احتجاز أحمد عبيدات في مخيم الوحدات، الذي كان الرجل الثالث في المخابرات العامة بعد مضر بدران وأديب طهبوب، والذي اختطفته الجبهة الشعبية في تلك الفترة. ويكتب مضر بدران إن أنور السادات كان يكره الملك حسين كثيرًا، لكنه لا يفسر أسباب هذا الكره ودوافعه. ويؤكّد أن المخابرات الأردنية كان لها مصدر مهم في القصر الجمهوري في مصر كان يرسل محاضر اجتماعات أنور السادات أول بأول. ومع ذلك، فإن الملك حسين كان يرغب في إرسال برقية إلى أنور السادات، في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977ن تشيد بشجاعته بعد زيارة القدس. وفي هذا السياق، يقول بدران “إن حرب 1973 لم تحظَ بالقراءة الشاملة في ظل المتوفر من المعلومات والمدرك في التحليل، خصوصًا أمام حقائق قد يكون الآن موعد الكشف عنها، ويتساءل: “لماذا توقف السادات عند ممر متلا في سيناء، ولم يتقدم أكثر على الرغم من قدرة الجيش المصري على ذلك”. وهذا غلط بغلط مجددًا، فالجيش المصري في حرب 1973 لم يتوقف عند ممر متلا الذي يبعد نحو 40 كلم شرق قناة السويس، بل توقف على مبعدة نحو 10 كيلومترات فقط، وبقي ممرا متلا والجدي في منطقة السيطرة الإسرائيلية، وهذا من ألاعيب أنور السادات الذي اتفق مع الرئيس السوري حافظ الأسد وأركانه على “خطة غرانيت  – 2″، لكنه وضع مع رئيس أركانه، سعد الدين الشاذلي، خطة أخرى دُعيت “العملية 41″، ثم قلّص الأهداف مرة ثانية في “خطة المآذن العالية”، من دون أن يتفق على ذلك مع السوريين. وهكذا وضع المصريون والسوريون “خطة غرانيت -2” ، لكن السادات خدع السوريين بالأهداف التي وضعها معهم، ونفذ خطة أخرى، واستخدم الجيش السوري لتشتيت قوة الجيش الاسرائيلي في سبيل ضمان نجاح عملية عبور قناة السويس.

     تزخر مذكرات بدران بالأحداث والمواقف التي يكشف عنها لأول مرة، وتوثق لمراحل مهمة مر بها الأردن خلال النصف الأخير من القرن الماضي. وسبق لمضر بدران أن أسس وترأس جهاز المخابرات العامة الأردني في نهاية ستينات القرن الماضي، ورئاسة الديوان الملكي على فترات، وكان قريباً من الملك حسين ومطلعاً على جوانب مهمة من صياغة القرار الأردني. وفي هذه الحلقة الأولى يروي بدران تفاصيل عن الجهود التي بذلها الأردن لمنع العمل العسكري العراقي ضد الكويت ويقول إن المساعي الأردنية كانت تهدف إلى إيجاد حل (عربي – عربي) لتأمين انسحاب العراق من الكويت. كما يتطرق إلى تفاصيل عن اتصالات الملك حسين مع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في الفترة التي سبقت حرب تحرير الكويت.

      في 2 مايو (أيار) 1990 انعقدت القمة العربية في بغداد، وفي اجتماع مغلق مع القادة، خاطب صدام كلاً من الإمارات والكويت… كان الاجتماع متوتراً، وكانت قمة تتحدث صراحة عن الخلافات العراقية الكويتية.

       تحدث إلى العراقيين في إحدى الزيارات الرسمية لبغداد، بأن الكويتيين حفروا على حدودهم مع العراق، وسحبوا نفطاً خاماً من حوض مشترك مع العراقيين على الحدود (حقل الرميلة)، وذلك خلال انشغال العراق بحربها مع إيران. أثار ذلك استغرابي، وقدرت أنه سيسبب أزمة كبيرة بين البلدين. كنا قريبين من العراقيين، تعبنا ونحن نحاول إقناعهم بأهمية ألا تصل الأمور بينهم وبين الكويتيين للعمل العسكري، ورغم أننا اتهمنا بأننا كنا نعرف عن احتلال العراق للكويت، لكنْ قطعاً لم نكن نعلم بذلك. صحيح أن المؤشرات كانت واضحة لنا، وفكرنا بصوتٍ عالٍ في الأمر مع الراحل الحسين، وحاولنا أن نحذر صدام حسين من أي تهور على هذه الجبهة، لكن لم يكن لدينا أي علم بنية صدام اجتياح الكويت، أو بموعد ذلك الحدث الذي غير ملامح منطقتنا. وذهب فينا الظن إلى أن ما يقوم به صدام مجرد مناورات سياسية، عطفاً على مطالبة عبد الكريم قاسم سابقاً، بأن الكويت أرض عراقية، وهدد باسترجاعها، وقامت جامعة الدول العربية في حينها بإرسال قوات عسكرية للكويت. كنت أعي أن صدام حسين الذي عرفته جيداً لديه نقاط حساسة لا يساوم عليها، فقد درست شخصية صدام، وأمعنت النظر طويلاً في تحليلها، وبقيت في الأشهر الثلاثة الأولى لمعرفتي به، أجلس في الاجتماعات صامتاً، فقط أريد أن أحلل شخصيته، فهو رجل يتعامل بانفعال شديد، إذا ما تعلق الأمر بالكرامة أو النخوة أو الشهامة. خلال زيارتنا الأخيرة لبغداد، وقبل احتلال الكويت، كان صدام قد أرسل رئيس وزرائه سعدون حمادي للكويت، حيث انتظر الأخير ليومين لمقابلة أمير الكويت، وهذا ما زاد (الطين بلة). بقيت الأمور تتطور، وحاولنا رأب الصدع بين الأشقاء، لكن محاولاتنا جاءت بعد أن ساءت الأمور كثيراً. وقبل احتلال الكويت بأيام، كانت العواصم العربية تعج بالزيارات الثنائية والاجتماعات، وأذكر جيداً أنه في 29 و30 يوليو (تموز) 1990 وقبل احتلال العراق للكويت عقد اجتماعان منفصلان، الأول في السعودية بين ولي العهد الكويتي سعد العبد الله الصباح، ونائب الرئيس العراقي عزت إبراهيم الدوري، وكانت تعليمات صدام للدوري واضحة: «في حال وافقت الكويت على المطالب العراقية (خير وزين)، وإنْ لم توافق ارجعْ فوراً». أما الاجتماع الثاني، فكان بين الملك الحسين والرئيس العراقي صدام حسين في بغداد، وتأخرت يومها عن اللحاق بالاجتماع بسبب قدوم رئيس الوزراء المصري عاطف صدقي لعمان في زيارة رسمية. غادر صدقي للقاهرة، وغادرت أنا إلى بغداد حيث وصلت الساعة العاشرة ليلاً، وكان العشاء الرسمي قد انتهى، وجلست مع الراحل الحسين، الذي أبلغني عن توتر الوضع بين صدام والكويت. طلبت أن أقابل صدام لأحذره من التهور والاستعجال، وبالفعل وقبل مغادرتنا – جلالة الملك وأنا – بغداد باتجاه الكويت حيث كانت وجهتنا مقررة سلفاً، قابلته وحاولت إقناع صدام بذلك. لاحقاً، وبينما نحن في السيارة مغادرين إلى المطار، قلت لطه ياسين رمضان الذي كان النائب الأول لرئيس الوزراء العراقي آنذاك، إنني لم أر صدام غاضباً لهذه الدرجة من قبل، وأضفت أن عليهم إقناعه بعدم التهور، فهذا سيضر بمصالحنا جميعاً.

     في زيارة لاحقة خلال أيام احتلال الكويت، قال لي صدام حسين على ضوء حواري السابق مع رمضان: «بدك أبو نادية (طـه ياسين رمضان) يهدي علي، أنا من يهدي عليه خلال اجتماعات مجلس قيادة الثورة». لقد كان طارق عزيز هو الوحيد في القيادة العراقية الذي اتخذ موقفاً ضد حرب صدام على الكويت. بعد ذلك وصلنا إلى الكويت، حيث بقينا في بالمطار والتقى الحسين بالشيخ جابر الأحمد الصباح، وبدا لي أن الأمور تتجه إلى مزيد من التوتر، وأن هناك نية لدى صدام لدخول الكويت التي كانت متمسكة برأيها، وكان العراقيون متشددين بموقفهم. أنا لم أحضر اجتماع الراحل الحسين بأمير الكويت، لكن بقيت ووزير الخارجية الكويتي وقتها، الشيخ صباح الأحمد الصباح، واقفين بانتظار انتهاء اجتماع الملك والأمير. هناك سألت الصباح، عن صحة ما يقوله العراقيون، عن الحوض النفطي المشترك بين البلدين، وسحْب الكويت النفط الموجود فيه، وأجابني بقوله إن هذا صحيح، وإنهم على استعداد للتفاهم على هذا الأمر، وإنهم أنتجوا من البئر 1700 برميل يومياً، وإن صدام يقول إن إنتاجهم تجاوز 2000 برميل نفط وأكثر. وعندها تأكدت أن صدام لن يتركها هكذا، لأن الموقف كله حدث وصدام مشتبك عسكرياً على الجبهة الإيرانية. بعد عودتنا من الكويت طلبت مجلس النواب للاجتماع في جلسة سرية، وقلت في تلك الجلسة، إنني لن أتفاجأ إذا قام العراق باحتلال الكويت. كانت تلك الجلسة مساء يوم الأربعاء، وفي صباح اليوم التالي، الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 دخل صدام الكويت، واستولى عليها كاملة في غضون أربعة أيام. بعد أن احتل العراق الكويت واصلنا العمل للضغط على صدام للانسحاب، ولم نهدأ، ونحن نحاول الضغط عليه، تجنباً لأي عمل عسكري ضده تقوده أميركا وحلفاؤها.

    في أحد الاجتماعات استطعت أن أحرج صدام حسين، وأضغط عليه بفكرة الانسحاب، قلت له: «أنت لم تكن تنوي أن تجتاح الكويت». لم يعجبه كلامي، لكنه اعترف بصحته، وقال إن قائد الكتيبة الذي ذهب إلى الحدود العراقية الكويتية، أبلغه أنه لا وجود لقوات كويتية على الحدود، وإنه سأل صدام: «هل أكمل الطريق نحو العاصمة؟»، فأجابه: «نعم»، وهذا ما جرى. استغربت أن من جملة الأسباب التي أدت إلى تلك الكارثة، اجتهاد قائد كتيبة عراقي، بطريقة غير صحيحة، عندما عاد إلى صدام لأخْذ رأيه، والأصل ألا يعود له ويكتفي بتنفيذ الأوامر الموجودة عنده.

وساطة أردنية لحل الأزمة

      استمرت مساعي الحسين للضغط على صدام للانسحاب من الكويت، فقد أعلن الراحل الحسين أنه أخذ وعداً من الرئيس المصري حسني مبارك والملك فهد بن عبد العزيز، بقبول وساطته للضغط على صدام للانسحاب من الكويت، مقابل عقد قمة مصغرة في جدة. حيث طار الملك الحسين إلى بغداد في اليوم التالي لإتمام الاتفاق، وكان الاتفاق على عقد اجتماع قمة مصغر، إذا ما أخذت القيادة العراقية قراراً بالانسحاب السريع المحدد من الكويت.

     القضية عند هذا الحد كانت في طريقها إلى الحل الكامل. والراحل الحسين أخذ موافقة العراقيين على الاجتماع في جدة، وطلب صدام حسين الرجوع لقيادة الحزب، لأخذ قرار الانسحاب من الكويت، وكان ذلك في تمام الساعة الرابعة عصراً، وقال صدام إن عزت إبراهيم سيتصل للإبلاغ بخبر الانسحاب. فهمنا أن العراقيين مرنون بالتفاوض على مبدأ الانسحاب. ووصلنا مطار ماركا في الساعة 5:15 مساء. وقد أدلى الراحل الحسين بتصريحات لشبكة CNN، وبعد أن صدرت التصريحات عادت مصر والسعودية عن موافقتهما لحضور القمة المصغرة والقمة الموسعة، وقال صدام للحسين: «إذا صدر قرار مجلس الجامعة بإدانة العراق، ترى يا أبو عبد الله كل واحد بأرضه».

     كان الاتفاق مع حسني مبارك على تأجيل اجتماع مجلس الجامعة، لتنجح الوساطة، إلا أنه في تمام الساعة 11 ليلاً، صدر قرار مجلس الجامعة العربية، وقد كنا أبلغنا وزير خارجيتنا مروان القاسم، أن على اجتماع الجامعة أنْ يستمع لخبر مهم عند الساعة العاشرة ليلاً، يتضمن موافقة مجلس قيادة الثورة العراقية على الانسحاب من الكويت، وحضور القمة المصغرة في جدة. بعد صدور قرار مجلس الجامعة، عرفنا أن الأمور أكبر من تحركاتنا الدبلوماسية، عندها أرسل سفيرنا في القاهرة مشروع قرار مجلس جامعة الدول العربية، الذي سيبحث في قمة القاهرة، يوم 5 أغسطس.

    انعقدت قمة القاهرة وكانت مليئة بالمفارقات لأن المصريين قبل القمة كانوا قد أعلنوا موقفهم بإرسال قواتهم إلى حفر الباطن، وبالتالي موقفهم كان محسوماً في الأزمة، ولم يعد هناك أي مبرر للقمة. لم تأخذ القمة القرارات بالإجماع العربي، بل كان قرارها قرار مجموعة عربية. كان وزير الخارجية مروان القاسم يحضر اجتماعات وزراء الخارجية العرب قبل القمة، وبعث للراحل الحسين بأن موقف القمة يذهب باتجاه «شجب وإدانة» اجتياح العراق للكويت، بشكل يحاكي قرار مجلس الأمن. كنا في قصر الندوة صباحاً، أنا وزيد بن شاكر وعدنان أبو عودة، ولدى سماع الملك الحسين بالقرار غضب كثيراً، وقال: «الله أكبر، شو تركوا للوساطة»، وقال لنا أنْ نبلغ القاسم أن قرار الأردن التحفظ على القرار العربي. بالنسبة للأردن، كنا لا نزال فاعلين على خط الوساطة مع صدام، لدفعِه للخروج من الكويت… وكان موقفنا في قمة القاهرة هو مع تشكيل لجنة عربية مصغرة، تقدم تقريرها خلال مدة محدودة، وأردنا من القرار أن نستفيد من الوقت، لصالح جهود الوساطة، كما أردنا من التقرير أن يسند الموقف العراقي، ويبين جوهر الخلاف بين العراق والكويت. لم تتوقف مساعي الأردن لإيجاد حل عربي عربي لتأمين انسحاب العراق من الكويت، ولذلك قدمنا اقتراحاً بأن ننشر نصف جيشنا العربي على الحدود السعودية العراقية، وأن يكون جيشنا تحت تصرف السعوديين بالإضافة إلى الجيشين المصري والجزائري، فقد كنا على يقين بأن صدام حسين لن يضرب جيشاً عربياً، لكنه سيدمر أي جيش أجنبي، وسيشتبك معه.

    لكن مقترحاتنا لم تتوافق مع التصورات الخليجية حول ما يجري، وهذا ما عقد من نجاح مبادرتنا للحل العربي العربي، إذْ بات جلياً أن التصور الخليجي استند إلى أن الاجتياح العراقي للكويت ناتج عن تنسيق أردني عراقي يمني فلسطيني، وأن الملك الحسين يعرف بالاجتياح… وأمام كل تلك الإشاعات والمعلومات الخاطئة، أخذ الخليج موقفه من وقف المساعدات للأردن. وقال الملك حسين في أحد اجتماعاته بمجلس الوزراء، نهاية العام 1990 إنه اكتشف مؤخراً أن هناك حملة مركزة تجاه قيادات في الخليج العربي والمملكة العربية السعودية مستمرة منذ ما لا يقل عن سنتين، سعت لأن تعطي انطباعاً لهم بأن هناك تآمراً يستهدف الخليج والسعودية، وأن هذا الانطباع يؤكد وجود أهداف مرسومة عند العراق والأردن واليمن، وهو ما فسره الراحل الحسين على أنه السبب وراء معاناتنا خلال الفترة الماضية، وكيف كانت الوعود بالمساعدات لا تنفذ.

مساعي منْع العمل العسكري

    رغم التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة، كان الحسين يسعى من خلال الجهود الدبلوماسية لمنع العمل العسكري، وزرنا بالفعل واشنطن، والتقينا بالرئيس الأميركي جورج بوش، وقال بوش للحسين: «لن أسمح للعراق ولا لصدام ولا لأي أحد آخر، أن يتحكم بالنفط، لأنه مستقبل الأجيال في الولايات المتحدة والغرب، وصدام يريد الاستحواذ على 20 في المائة من احتياطي النفط في العالم، وهذا بالنسبة لنا أمن قومي، ولن نسمح لصدام بانتهاكه».

     الحسين شرح في تلك الزيارة حيثيات الأزمة بين العراق والكويت، وأن فرص الحل العربي قد تؤجل الحرب في المنطقة. وأشار الحسين إلى أن حماية السعودية من أي تهديد عراقي تكون بوضع قوات عربية على الحدود العراقية السعودية. وجدد الحسين مطالبه بوقف حملات التصعيد ضد العراق، وحذر من أن العراق سيبادر برد الفعل على كل فعل أميركي.

     الحركة الدبلوماسية للراحل الحسين لم تقتصر على واشنطن، ورافقناه في العديد من الجولات. قمنا بزيارات لشمال أفريقيا وأوروبا، وعدنا بانطباعات كثيرة، منها أن موقف ليبيا (مخلخل)، والتدخل العراقي بالكويت هو سبب التدخل الأجنبي في المنطقة بحسب قولهم.

    بالنسبة لبريطانيا، فقد كانت تؤيد الحرب وتريد إسقاط صدام حسين، لا بل إن موقفها متشدد ومتطرف جداً من استمرار نظام صدام حسين رئيساً للعراق، بحسب ما فهمنا من البريطانيين، فهم لا يعيرون اهتماماً لِمن سيحكم الكويت بعد الحرب، المهم بالنسبة لهم إسقاط صدام، وهو ما استمعنا إليه من (مارغريت ثاتشر) والتي تمتلك عقلية ديكتاتورية كاملة، كأنها خارجة من استعمار الهند للتو.

     بالنسبة للفرنسيين، فقد أبلغنا الرئيس الفرنسي «فرنسوا ميتران»، أنه متألم من موقف العراقيين، ومنزعج من صدام، لكنه لا يزال يعمل على تفعيل مبدأ الحل السلمي السياسي، وليس العسكري. أما ألمانيا، فكانت ضد استخدام القوة، وغمزوا لنا بأن ثاتشر هي من تدفع جورج بوش الأب لهذا الموقف ضد العراق.

     في تلك الجولة، فشلت زيارتنا لموسكو، بسبب تضارب المواعيد، وبعدها توجهنا إلى بغداد، لوضعهم بصورة كل التطورات. قابلت طارق عزيز، وكان كلامه لا يوحي بالتفاؤل، لكنه ليس القائد، لذلك بقيت متفائلاً قليلاً. في أحد الاجتماعات هناك، تحدث قائد عسكري رفيع، وكان اسمه خلدون سلطان، وهو فريق في الجيش العراقي، قلنا للعراقيين في تلك الزيارة، إن هناك أفكاراً يمكن دعمها إنْ أبدى العراق المزيد من المرونة، فمن الممكن الانسحاب الأميركي من المنطقة والخليج، وأن يكون ذلك متزامناً مع خروج العراق من الكويت، وهذا يدور اليوم في أروقة مجلس الأمن، كما أكدنا لهم أن بوش من قال إن الحكومة الكويتية ليست مشكلته الرئيسة، وإنما الأهم عنده هو انسحاب العراق من الكويت.

     في زيارتنا للعراق التي أعقبت الجولة الدولية، كان لقاء الراحل الحسين مع الرئيس صدام صريحاً جداً، وكاشف الزعيمان بعضهما بعضاً بكل ما يجول في خاطرهما، والنتيجة التي وجدنا صدام ممسكاً بها، هي ما طرحه في اجتماع سابق في 12 أغسطس 1990، وهو الذي تضمن مبادرة العراق في ربط انسحاب العراق من الكويت بحل القضية الفلسطينية، وأنْ لا عودة عن هذا القرار، فالمرونة ستفسر على أنها تراجع، وصدام قال: «لا تراجع عن هذا الموقف، والكويت محافظة عراقية، وانتهى الأمر».

    على الجهة المقابلة، كان وزير الخارجية مروان القاسم، ينفذ جولة دبلوماسية على دول الخليج، وكم كانت تلك الزيارة ثقيلة عليهم، وصعبة علينا. كانت الزيارة بهدف تجديد التوضيحات حول الموقف الأردني.

     قطر لم تجب على رسالتنا، فلم نزرها. وفي عمان، كان السلطان قابوس قد أظهر بعض الإيجابية، خصوصا أنه لم يتجاوب مع كل مطالب الأميركيين. الإمارات كانت في حالة غضب، ويقولون لنا: «هيك الملك حسين يعمل فينا! واحنا اللي ساعدناه»، فقد كانوا يعتبرون أن موقف الراحل الحسين في كفة، وموقف العالم كله في الكفة الأخرى.

     كان ذلك يعني بالنسبة لنا في الأردن، قطْع المساعدات العربية، وهو ما أبلغناه لمجلس النواب، وأننا بوضع اقتصادي صعب، حيث طلبنا من ليبيا دفْع المساعدات، فسألونا عما إذا كان صدام حسين أعطانا من أموال البنك المركزي الكويتي، فأبلغناهم أن أميركا قالت لنا إن صدام حسين لم يستطع فتح خزنة البنك المركزي الكويتي، وفك شيفرة الكومبيوتر الخاص بها.

قبل قصف بغداد بأيام، زرت دمشق، وقابلت الرئيس حافظ الأسد لمدة ست ساعات متصلة، وقلت له إن الحرب الدائرة ليس لنا علاقة بها، وإن العلاقة السورية العراقية تحسنت مؤخراً، وهو ما يسند الأردن ويدعمه أمام التحديات الأهم وهي القضية الفلسطينية. وأن قوة العراق لكل العرب، وليست لصدام وحده. وسألت الأسد: «كيف سيوفق السوريون بين وجود جيشهم في حفر الباطن، ووجوده في الجهة الأخرى إذا ما حدث لنا أي شيء من جهة الإسرائيليين؟!». ليجيبني الرئيس السوري بقوله إن أي هجوم إسرائيلي على الأردن هو هجوم على سوريا، وإن جيشه سيتدخل فوراً، ولن يترك الأردن وحده في مواجهة إسرائيل.

     حاولت في ذلك الاجتماع الطويل، أن أدعو الأسد لمصالحة صدام، لكن الأسد قال لي إن الحسين أغلق الباب علي وعلى صدام في الجفر لمدة 14 ساعة للتفاوض على أساس المصالحة، لكنْ فشل ذلك الاجتماع بسبب غرور صدام، وغروره هو ما سيقتله. كان السبب الجوهري لزيارتي الطلب المباشر من حافظ الأسد بالموافقة على تأمين الأردن بالنفط في حال قطع النفط العراقي عن الأردن. وأصدر الأسد أوامره لرئيس الوزراء السوري محمود الزعبي، بتأمين احتياجات الأردن من النفط، متى ما طلبت الحكومة ذلك، وبعد خروجي من عند الأسد، قال الزعبي إن ما طلبته من صلاحياته، وما من داعٍ لتدخل الرئيس الأسد بالأمر، فقلت له: «هكذا أضمن تنفيذ طلبي». وبالفعل، في أحد الأيام، التي طلبت فيها النفط من سوريا، منع وزير المواصلات السوري خروج الصهاريج المحملة بالنفط من العاصمة السورية دمشق إلى الحدود السورية الأردنية، فاتصل معه الزعبي وأبلغه أن الرئيس الأسد هو الذي أمر بذلك، وليس أي أحد آخر. لم تتوقف وساطاتنا لحل الأزمة تفاديا للعمل العسكري، وقبل شهرين من الحرب ذهبت لبغداد، حاملاً رسالة من الراحل الحسين إلى صدام، واجتمعت بالرئيس العراقي نحو ساعتين ونصف الساعة، كان سبب الرسالة المستجدات بحركة الممثل الشخصي لرئيس الاتحاد السوفياتي غورباتشوف، والاتصالات حول التوجه الفرنسي الداعي للحل السياسي للأزمة. وكالعادة، أعاد صدام حسين تأكيد موقفه الثابت، وأن الانسحاب من الكويت غير وارد، في تلك الزيارة، شعرت أن العراق ذاهبٌ لخيار الحرب، وقال لي فيها صدام: «فلتحدث الحرب… ولا تنازل، وإن العراق لن يبدأ الحرب، لكن إن بدأوا بالحرب فالجاهزية عالية، ويخطئ من يظن أن الحرب ستكون سريعة».

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى