معضلة الأمن في إفريقيا: هياكل الأزمة وفرص الإصلاح

ستلازم الدول الإفريقية، وعلى الرغم من تقدمها النسبي على مرِّ السنين، وفي ظل استمرار ضعف المؤسسات واستشراء الفساد واستعصاء التنمية، وضعية الهشاشة؛ حيث القيود الناشئة عن الافتقار إلى القدرات المؤسسية وشفافية التدبير والقيود التشغيلية للاقتصاد والاجتماع البشري، لا يمكنها إلا أن تعرقل جهود بناء السلام والأمن والاستقرار.

تنقسم القارة الإفريقية من الناحية الجيوسياسية إلى عدة مناطق أمنية؛ حيث باستثناء منطقة شمال إفريقيا التي غالبًا ما يتم ربطها بالشرق الأوسط سيما أنها تنفصل عن باقي القارة بالصحراء الكبرى، تشكِّل هذه الأخيرة مع ما تحتها منطقة الساحل والصحراء. وفي وسط إفريقيا، توجد أربعة أنظمة أمنية إقليمية: منطقة خليج غينيا إلى الغرب، ومنطقة حوض بحيرة تشاد إلى الغرب الأوسط، ثم منطقة البحيرات الكبرى في الوسط، ثم شرق إفريقيا التي تحتوي على المنطقة الفرعية المعروفة باسم القرن الإفريقي، وأخيرًا هناك نظام الأمن جنوب الإفريقي(1)؛ حيث تشكِّل كل منطقة نظامًا أو مجمع أمن إقليمي يمكن تعريفه بأنه “مجموعة من الدول المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحيث لا يمكن حسبان الاعتبارات الأمنية للأنظمة المختلفة بمعزل عن بعضها البعض”(2).

ومعنى ذلك أن الأمن في إفريقيا مترابط بين تلك المناطق إلى جانب تجانسه بين دولها. ولهذا، فالورقة لن تعتمد الدولة فقط كوحدة لتحليل الأمن الإفريقي، وإنما ستنشغل أيضًا بأبعاده الإقليمية. وعليه، ستحاول الإجابة عن الأسئلة التي تشكِّل صميم أي دراسة للأمن، وهي تلك المتعلقة -في الحالة هذه- بطبيعة الأمن الإفريقي، وبالطلب عليه، وبقضاياه، ثم بإصلاحه.

مكانة الأمن الإفريقي في الاستراتيجيات العالمية

بدأ الانشغال الدولي بأمن إفريقيا أمميًّا؛ حيث اهتمت الأمم المتحدة انطلاقًا من ستينات القرن الماضي بتسوية النزاعات المسلحة بين الدول المتجاورة إما على خلفية الاستقطابات الأيديولوجية نتيجة الانهماك في الصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، أو بسبب التنازع على الحدود المشوهة التي خلَّفها الإرث الاستعماري. أما بعد نهاية الحرب الباردة، فقد انصرفت الأمم المتحدة إلى تسوية النزاعات داخل الدول، والتي ارتبط معظمها بإعادة تعريف الهويات الوطنية (حروب أهلية عرقية) أو بإسقاط حكومات ما بعد الاستعمار (حروب شرعية)، وأدت في نهاية المطاف إلى انهيار تلك الدول طوال الفترة الممتدة بين سنتي 1991 و2001.

في مقابل ذلك، ظلت إفريقيا بالنسبة للقوى الدولية، الغربية على وجه التحديد، مرادفة للعنف المسلح وما يترتب عليه من فقر وأمراض ومجاعات، ولذلك حينما درجت على نعتها بالقارة السوداء فليس لسواد بشرة شعوبها وإنما في إشارة إلى ظلام مستنقع عدم الأمن الذي ما فتئت ترزح فيه. وهكذا، ظلت القارة في نهاية المطاف منسية لدى الدول الكبرى، باستثناء محاولة الدول الاستعمارية التاريخية، سيما فرنسا، التأثير على الممارسات السياسية والاقتصادية بمستعمراتها السابقة في إفريقيا.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول سنة 2001، بدا دور إفريقيا في الأمن الدولي مهمًّا للغاية؛ حيث أصبحت القارة في خط المواجهة أمام الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بعد ظهور جماعات متطرفة في بعض مناطقها. فقد برزت المخاوف من تحويلها إلى ملاذات محصنة وساحات عمل للجماعات المتشددة، وذلك مثلما وفرت السودان ملجأ آمنًا لتنظيم القاعدة. “ولذلك أدى التركيز الجديد على مكافحة الإرهاب أيضًا إلى زيادة النشاط العسكري الأميركي في إفريقيا. وشكلت منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي أول جبهة إفريقية لواشنطن في الحرب العالمية على الإرهاب. ففي عام 2002، تم إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في معسكر ليمونييه، جيبوتي، وهي أول قاعدة أميركية يجري افتتاحها في إفريقيا منذ الحرب الباردة”(3)، والتي أصبحت منطلقًا للتدخلات العسكرية الأميركية بالقارة وذلك مثل الضربات الجوية، سنة 2006، التي استهدفت وقف تطور التمرد الإسلامي بالصومال.

كما أنه بعد تراجع جاذبية منطقة الشرق الأوسط التي ظلت تستقطب أطماع القوى العظمى نتيجة دخولها في طور الاستنزاف وارتفاع تكلفة صيانة نظام الأمن الإقليمي بها، وبعد أن ظلت إفريقيا تقليديًّا في الخلف الجيوسياسي لهذه القوى، شرعت خلال السنوات الأخيرة في الاستدارة نحو القارة الإفريقية؛ حيث اجتذبت البلدان الإفريقية ذات الموارد الطبيعية قدرًا كبيرًا من الاهتمام الدولي.

فقد انغمست القوى الدولية في التنافس على الموارد النادرة للقارة الإفريقية وذلك لتحقيق أقصى قدر من رفاهية مواطنيها. وهكذا، فتحول هذه القوى نحو إفريقيا مدفوع بالبحث عن مصالحها الاستراتيجية المادية بالخصوص. وعليه، فاهتمامها بأمن القارة في هذا الإطار هو من باب إيجاد السياق الآمن لحماية هذه المصالح وضمان انسياب تدفقها. وبالتالي، فارتفاع الطلب على الأمن الإفريقي لم يكن قط لإشباع الحاجات الاجتماعية للشعوب الإفريقية وإنما لصيانة المصالح الأجنبية بالقارة.

فباستثناء النشاط الصيني السلمي بالقارة الإفريقية، فإن السياسة الخارجية الأميركية تجاه إفريقيا تنزع نحو العسكرة في تركيزها على مكافحة الإرهاب وتأمين إمدادات الطاقة، كتجسيد للجمع بين التوجهات الأمنية والاقتصادية لسياسة القوة العظمى في القارة، وذلك على خلفية السعي لخلق بيئة آمنة للمستثمرين الأميركيين. وتعتمد الولايات المتحدة في سيطرتها العسكرية على إفريقيا على قوات القيادة الإفريقية (أفريكوم) وعلى قواعدها العسكرية المتوسعة بالقارة، وهي لا تستهدف حماية وضمان الوصول إلى الموارد الطبيعية فحسب، وإنما مواجهة النفوذ الصيني والفرنسي المتنامي بالقارة، وكبح وصول القوى الدولية الأخرى إلى هذه الموارد. وتحاول الولايات المتحدة تمويه رغبتها بالهيمنة على إفريقيا وعلى مقدَّراتها بمزاعم تعزيز الديمقراطية في القارة من خلال منظور يقوم على نهج شامل يستدمج المخاوف التقليدية المرتبطة بالإرهاب وإمدادات النفط بمجموعة واسعة من الانشغالات في إطار ما يسمى الأمن الجديد كالاتجار بالبشر، وتهريب المخدرات، والأمراض، وانتهاكات حقوق الإنسان.

أما بالنسبة للجانب الأوروبي فالتهديدات الأمنية التي تقض مضجعه من جهة الجوار الإفريقي هي المرتبطة أساسًا بالإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، وذلك من حيث كونها “تحديات صريحة للمصالح الأوروبية المتمثلة أساسًا في: الوصول إلى الموارد الطبيعية الاستراتيجية التي تمتلكها القارة (الإفريقية)، وكذا السيطرة على المواقع الاستراتيجية الإفريقية”$#a4. ولذلك، فكونه أهم مزود للمساعدات التنموية لإفريقيا، ليس معيارًا لاهتمامه بالأمن الإنساني في القارة وإنما يخفي حقيقة أمننة التنمية، وذلك في ظل كونه، بموازاة ذلك، المتدخل العسكري الخارجي الأكثر نشاطًا في إفريقيا؛ إذ “غالبًا ما يجري تأطير الروابط السياسية بين التنمية والأمن من خلال عدسات خطابات ما بعد الاستعمار، وبالتالي، حُدِّد التدخل الخارجي المتزايد في إفريقيا كمثال على مساوئ ربط الأمن والتنمية”(5).

التحديات الأمنية التي تواجه إفريقيا

بشكل عام، هناك مصدران رئيسيان للتهديدات الأمنية في إفريقيا، الأكثر شيوعًا هو الصراعات المسلحة على الموارد النادرة اللازمة لبقاء الفرد أو الجماعة. والثاني: هو التمرد على الحكومة أو الوضع الراهن الذي يخصص هذه الموارد في وقت السلم(6).

على أن العديد من صراعات ما بعد الحرب الباردة في إفريقيا لا ينطبق على تعريف الحرب الأهلية أو الحرب بين الدول…فما تشترك فيه معظم الحروب الجديدة هو فهم أن الدور المتضائل للدولة يضعها خارج فئة الحرب الكلاسيكية، سواء بين الدول أو الحرب الأهلية؛ لأن الدولة لم تعد العامل المركزي في هذه الصراعات، بالمعنى الذي تتم محاربتها(7).

عمومًا، وبحكم أن الأمن هو نتاج العديد من الجهات الفاعلة والعوامل المتفاعلة المختلفة حيث التأثيرات الداخلية والخارجية هي محددات مهمة للأمن، وتفاعل الداخل والخارج هو ما يُكسب النزاعات الإفريقية صفة الاستمرارية؛ إذ يكثِّف التدخل الخارجي مصادر انعدام الأمن في القارة، فالتنافس الدولي على الوجود العسكري بها والصراع على الموانئ التجارية ومحاولات كسب النفوذ الذي تمارسه القوى الدولية يسهم في تعميق حالة الاختراق وتراجع سيادة الدول الإفريقية المعنية فتستحيل إلى وضع الانكشاف الأمني.

هكذا إذن، فإن قابلية القارة الإفريقية للتأثيرات الخارجية ترتِّب، وفق منظور التعقد، نوعين من التحديات المتداخلة التي تواجه أمنها على مستويين إقليمي ومحلي:

تحديات الأمن الإقليمي

نادرًا ما تهدد البلدان الإفريقية بعضها البعض عسكريًّا؛ ذلك أنه باستثناء بعض النزاعات الحدودية كما بين إريتريا وجيبوتي، وباستثناء بعض التدخلات العسكرية كما في توثيق هجمات على جمهورية الكونغو الديمقراطية من قبل رواندا باسم ملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية، أو تدخُّل إثيوبيا عسكريًّا في الصومال من حين لآخر لملاحقة حركة شباب المجاهدين الإرهابية. فإن التهديدات الخارجية مصدرها فاعلون من غير الدول، أي إن الدول الإفريقية تواجه أساسًا الجماعات المسلحة المنبثقة من خارج حدودها؛ حيث صارت الحركات المقاتلة توسِّع نشاطها خارج دول توطنها. فعلى سبيل المثال، وبالرغم من وجود توتر بين الكاميرون ونيجيريا حول شبه جزيرة باكاسي إلا أن احتمال غزو نيجيريا للكاميرون ضئيل للغاية، في الوقت الذي تشكِّل جماعة بوكو حرام المنحدرة من نيجيريا تهديدًا عسكريًّا كبيرًا للكاميرون.

وبقدر ما يرتبط أمن كل دولة إفريقية ببيئتها، أي باستقرار المنطقة الأمنية التي تنتمي إليها، بقدر ما قد يؤدي انعدام الأمن في دولة ما إلى أقلمة وضع عدم الأمن وانتشاره في سائر أرجاء المنطقة المحيطة، وفي هذا السياق يمكن وصف شرق إفريقيا بأنه “منطقة ظَلَّ فيها وجود الدول مهدَّدًا إما لكونها، أي الدول، ضحية حالة انعدام الأمن في الدول المجاورة أو -على النقيض من ذلك- لكونها تشكِّل هي ذاتها تهديدًا لجيرانها”(8)، كما يمكن الاستناد بهذا الخصوص إلى كيف “جلب انهيار ليبيريا بقية منطقة غرب إفريقيا إلى اقتصاد سياسي للحرب. وقد جرت الإشارة إلى هذه الظاهرة باسم الانفجار الداخلي الإقليمي، بحيث يمكن تعريف الانهيار الإقليمي على أنه حالة تنهار فيها بنية الدولة الإقليمية، وتنجذب دول أخرى في المنطقة إلى الصراع الداخلي وفي الاقتصاد السياسي للدولة المنهارة، فهي ظاهرة نموذجية للحروب الأهلية الإفريقية”(9)، حيث بموازاة إظهار قادة منطقةٍ ما جهود التعاون لمحاصرة حرب أهلية ذات طابع إقليمي وتبني سياسات أمنية لهذا الغرض، “يحاول نفس السياسيين (سرًّا) إثراء أنفسهم من خلال اقتصاد الحرب العابر للحدود في المنطقة”(10).

على نحو آخر، تعتبر السياسات المائية في منطقة حوض النيل مصدرًا لتهديدات أمنية مع احتمال نشوب مواجهات مسلحة بين الدول حول الخلافات على استخدام مياه النهر الدولي؛ حيث “تشير أدلة جديدة اليوم إلى حقيقة أن الوضع السياسي والإيكولوجي في حوض النيل أصبح أكثر خطورة من ذي قبل. يبدو أن نوعية المياه تزداد سوءًا، وهناك مشكلات في كمية المياه؛ حيث تعاني بعض الدول من الفقر المائي. وتتفاقم هذه التحديات بسبب استراتيجية بناء السدود على كل من النيل الأزرق والنيل الأبيض. ولعل أكبر هذه السدود هو سد النهضة الكبير في إثيوبيا. أضف إلى ذلك أن هناك مخاوف جديدة ومتزايدة بشأن التأثير المحتمل لتغير المناخ على حوض نهر النيل. وتتفاقم هذه الشكوك من حقيقة أن معظم الدول التي تشترك في حوض النيل سوف تكون أكثر عرضة “لندرة المياه” بحلول عام 2050، ويرجع ذلك إلى تغير المناخ، وزيادة الطلب على المياه بسبب النمو السكاني”(11). ذلك أن انكشاف القارة أمام الآثار المدمرة للعنف المناخي، فضلًا عن مخلفات الأنشطة الاستخراجية للثروات الطبيعية، يؤدي إلى تدهور بيئي قد تختلف تداعياته بين دول القارة، إلا أنه بالنظر لكون النسق البيئي مفتوحًا، فإن التلف البيئي المرتبط بالتغيرات المناخية يهدد مناطق معينة واسعة من إفريقيا، وبذلك يظل تهديدًا لا يقل شأنًا في سلَّم المخاطر الأمنية المحدقة بالقارة ككل.

كذلك، تستمر معضلة القرصنة في تهديد حركة الملاحة في منطقة القرن الإفريقي، بل تهديد الأمن البحري العالمي برمته، وذلك بالنظر إلى أن هذه المنطقة تحتل من الناحية الاستراتيجية موقع القلب من جسد الممرات البحرية الدولية، حيث تجتذب نسبة كبيرة من حركة السفن والتجارة العالمية. ومن المثير للاستغراب أن هذا الواقع يأبى إلا أن يرتفع فوق الجهود الدولية لمكافحة القرصنة بالمنطقة؛ وذلك على “الرغم من التكدس والازدحام العسكري الذي تشهده تلك المنطقة والذي لم يمنع من أن تكون منطقة القرن الإفريقي إحدى أخطر بؤر أنشطة القرصنة في العالم…-إذ- نجد هناك قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وصينية وإيطالية وبعثة أوروبية لمكافحة القرصنة، تشارك فيها قوات من ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا واليونان وهولندا وبريطانيا والسويد”(12)، فضلًا عن قاعدة عسكرية يابانية كذلك بجيبوتي الإثيوبية، ووجود عسكري تركي في الصومال وميناء سواكن السوداني، وآخر روسي في إريتريا، دون أن ننسى الحضور العسكري العربي أيضًا.

تحديات الأمن المحلي

لعل أبرز ما يواجه الأمن المجتمعي في إفريقيا هو مشكلة التشظي أو الانشطار الهوياتي لمجتمعات دول القارة، فبرغم أنه لا يؤدي دائمًا إلى الصراع بحيث هناك ندرة نسبية للمطالب الانفصالية إلا أنه قد يخلق الفرص التي يمكن استغلالها من قبل المصالح المتناقضة، فبعض الصراعات يأخذ شكلًا عرقيًّا أو دينيًّا؛ حيث يكون هذا الأخير مجرد وسيلة للتنظيم وليس سببًا للصراع، ولهذا فالحروب الأهلية التي تحفزها في الغالب عوامل إثنية أو دينية، في معظم الحالات تكون مدفوعة بالصراع على الموارد مثل أراضي الرعي والمياه، “وينطبق ذلك على منطقة الحزام الأوسط من نيجيريا التي تحولت خلال العام 2018 إلى مركز للصراع، نتيجة تصاعد المواجهات بين الرعاة (غالبية مسلمة) والمزارعين (أكثرية مسيحية) في هذا الحزام، الذى يفصل بين شمال وجنوب البلاد، وهو مركز العاصمة النيجيرية أبوجا”(13).

وفضلًا عمَّا سبق، لا يزال المأزق الأمني القديم، أي النزاعات المسلحة المزمنة داخل الدول الإفريقية، مرتكزًا على العنف السياسي خاصة في ظل التوافر الجاهز للأسلحة الصغيرة والخفيفة؛ إذ تتردد مشاكل الحكم، سيما الانقلابات والتمردات، على قوس واسع من دول القارة. ذلك أن العسكرة هي سمة مشتركة للحكم الإفريقي، حيث يقاتل الحكام وشاغلو المناصب للبقاء في السلطة أو يحارب المعارضون للاستيلاء على السلطة؛ فقد شهدت دول مثل نيجيريا وغانا وجمهورية إفريقيا الوسطى أكثر من خمسة انقلابات. على أن التمرد ضد الحكومة لا يفسَّر بالصراع على الحكم فحسب وإنما كذلك بالصراع على الموارد، إذ قد يرجع إلى حرمان مجموعات الأقليات بشكل منهجي من الوصول إلى السلطة وإلى الشبكات الاقتصادية على السواء، فلا يزال التمرد ضد الحكومة نوعًا من النضال من أجل الوصول إلى وسائل بقاء الفرد والجماعة في إطار ما يعبَّر عنه بـ”سياسة البطن، ومن شواهد هذا القول حركات التمرد المسلحة ضد الحكومات في كل من الكونغو ورواندا وأوغندا وزيمبابوي وليبيريا وسيراليون والسودان؛ حيث ورثت هذه الدول بنية الإدارة الاستعمارية الممهورة بالسيطرة على الأرض وعلى الاستخراج بدلًا من الحكم والسيطرة على السكان، ولذلك تزداد احتمالية النزاعات الداخلية المتعلقة بالموارد في ظل حكومات مركزية ضعيفة ومنقسمة، حيث غياب المؤسسات التنظيمية القوية هو ما يجعل المنافسة على الموارد تتطور إلى صراع. والمشكل أن الوصول إلى الموارد هو ما يساعد على تمديد الحروب، بحيث تغير دوافع الصراع من المظالم إلى الجشع، فعندما تكون الموارد قابلة للنهب، تميل إلى صراع عنيف، ولهذا يلاحظ أن النزاعات في المناطق الغنية بالموارد تميل إلى أن تطول أكثر من المناطق التي يعتمد فيها المقاتلون على المساعدات الخارجية أو الدعم المحلي.

قد تكون النزاعات المسلحة العنيفة كمهددات قديمة للأمن الإفريقي آخذة في الانخفاض نسبيًّا، وذلك بفضل جهود منظمة الأمم المتحدة؛ حيث “تشير إحصاءات المنظمة إلى أن أكثر من نحو 70 من القرارات التي اتخذها مجلس الأمن بشأن النزاعات الاقليمية تتعلق بإفريقيا. كما نُشر ما يقرب من 80 في المئة من قوات حفظ السلام في إفريقيا”(14)، غير أن هناك تهديدات جديدة متجذرة بعمق في التهديدات القديمة مثل نمو الأنشطة الإجرامية العابرة للحدود، والاتجار غير المشروع بالمخدرات أو الأسلحة؛ حيث إن “الجريمة المنظمة في القارة هي جزء من “قصة الاستقلال وإقامة الدول”،… -بالنظر- للتمويل الإجرامي لهياكل الدولة”(15).

من جانب آخر، تعد إفريقيا القارة الأكثر إصابة بالإرهاب، وإن كان الإرهاب فيها يأخذ طابعًا محليًّا وليس دوليًّا. ففي ظل هذا المعطى وأمام تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تفرز ظاهرة الدولة الهشة أو الدولة المنهارة غير القادرة على بسط سيادتها على إقليمها، يمكن أن تشكِّل هذه المناطق بيئة حاضنة مواتية لتنظيم “داعش” الذي يبحث عن مأوى جديد بعد انحساره في سوريا والعراق خاصة في ظل وجود أجنحة موالية له في التنظيمات المحلية مثل تنظيم حركة الشباب المجاهدين في الصومال، التي تمكنت من استخدام المساحات الفارغة غير الخاضعة للحكم للتدريب وتنظيم الهجمات في البلدان المجاورة مثل كينيا. وما يعزز ذلك هو تراجع الدعم الغربي للدول الإفريقية في مجال مكافحة الإرهاب، فحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية فإن “إفريقيا تشهد الآن انسحابًا على شاكلة الانسحاب الغربي الذي أدى إلى انهيار كابل؛ حيث أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في يوليو/تموز الماضي، خطة لسحب أكثر من ألفي جندي فرنسي من أصل 5100 جندي موزعين في مناطق مختلفة بمنطقة الساحل الإفريقي، وذلك بسبب ضغوط داخلية واجهتها حكومته مدفوعة بالخوف من أن تصبح منطقة الساحل أفغانستان أخرى بالنسبة لفرنسا”(16).

الإصلاحات التي يحتاجها القطاع الأمني في إفريقيا

تجدر الإشارة إلى أن الأمن الإفريقي نظرًا لكونه متداخل الأبعاد والجهات الفاعلة فكذلك إصلاحه لا يمكن إتيانه إلا باستحضار ذلك، وهو ما سيجعل الإصلاح في النهاية جسرًا طويلًا جدًّا من حيث الحاجة إلى الشمولية وإلى التقاء إرادة الفاعلين الداخليين والخارجيين.

قبل ذلك، يُنظر إلى إصلاح القطاع الأمني “كتغييرات في هيكل وسلوك مؤسسات الدولة المسؤولة عن مقاضاة ومعاقبة المظاهر غير القانونية للعنف: الجيش والشرطة والقضاء”#a17، بهدف تغيير علاقات القوة داخل القطاع في اتجاه الرقابة المدنية/الدستورية لتحويل الثقافة المؤسسية، وتعزيز المهنية، وتحسين استخدام الموارد والفعالية التشغيلية (من جانب قوات الأمن)، وإدارة سياسية أفضل (من جانب السلطات المدنية)، جنبًا إلى جنب المساءلة واحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي وإشراك مدخلات من مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة واللاعبين(18).

ومن ناحية أولى، “يظهر إصلاح القطاع الأمني في السياق الإفريقي كمفهوم ليبرالي يستخدمه المانحون الغربيون إلى حدٍّ كبير في محاولاتهم لإعادة هيكلة قطاع الأمن في دول القارة، أو تحسين أدائه، لاسيما عند خروج البلد من الصراع”(19). ومع أن هذا المفهوم يُظهر وعودًا بتعزيز الحكم الديمقراطي والرقابة على قطاع الأمن، فضلًا عن إدارته بكفاءة وفعالية إلا أنه يثير الشك على نطاق واسع في الدوافع السياسية الكامنة وراءه، بحيث أصبح من الواضح أنه واجهة لبعض اللاعبين الخارجيين لتشكيل أمن الدول الإفريقية بما يخدم أجنداتهم وليس بالضرورة لتعزيز استقرار السكان الذين يعانون من انعدام الأمن البشري.

وفضلًا عن ذلك، فنهج الإصلاح الأمني كما تتصوره الجهات الخارجية سواء كان مرتكزًا على الدولة أم على القطاعات غير الحكومية لا يراعي طبيعة الدولة في إفريقيا بشكل كامل؛ ذلك أن الدول الإفريقية الضعيفة والمفككة لا يمكن أن تكون بمنزلة قاعدة لإصلاحات ذات مغزى لقطاع الأمن، لأن الحكم الاستبدادي المنتشر بدول إفريقية عديدة، والذي انزلق بها إلى دول هشة أو فاشلة أو إلى صراعات وحروب في أحسن الأحوال لا يفضي إلى إصلاح القطاع الأمني.

لكل ذلك، فالانتقال إلى مرحلة السلام هو أنسب فترة لإصلاح القطاع الأمني؛ حيث خروج المجتمعات من الصراع والدخول في فترة الانتعاش يساعد على ظهور حكم ديمقراطي، فالعديد من الدول لا تزال بحاجة إلى التقدم في التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي قبل إدخال نظام إصلاح القطاع الأمني بالكامل، في حين أن دولًا أخرى لم تصل بعد إلى وقف الصراع والانتقال لبناء السلام. وهنا، يصبح دور الأطراف الخارجية حاسمًا لأنهم يستطيعون تحديد جداول الأعمال الأمنية للدول الضعيفة أو الهشة وفي هذه العملية، بحيث إما يعززون أو يضرون بشدة بآفاق إصلاح القطاع الأمني الشامل. ويتطلب ذلك في المجمل تعاونًا عادلًا بين الغرب وإفريقيا، أي شراكة تقبل الافتراض بأن الدول الإفريقية هي الأخرى لها مصالح وطنية.

في غياب ذلك، ومن جهة ثانية، يبقى شعار “الحلول الإفريقية لمشاكل إفريقيا” هو الأنسب. وفي هذا الإطار، ينبغي إيجاد منظومة إقليمية فعَّالة لضمان أمن الدول الإفريقية تكون قادرة على دعم الجهود المحلية، وذلك على أساس أن الأمن هو منتج أو خاصية ناشئة لنظام تكيفي معقد، بمعنى أن الأمن القومي لكل دولة إفريقية هو وظيفة من وظائف نظام الأمن الذي توجد فيه. لأنه بغضِّ النظر عن مدى كفاءة دولة واحدة في إدارة أمنها القومي، فإنها حينما تجد نفسها في منطقة مضطربة ستظل معرضة للأحداث التي تحدث في البلدان المجاورة والتي تخرج عن نطاق سلطتها أو سيطرتها. طبعًا، الإطار المؤسسي لهذه المنظومة موجود، أي الاتحاد الإفريقي، الذي شارك بالفعل في جهود تسوية النزاعات والحروب المسلحة في مجموعة من الدول، لكن ضعف فاعليته بالنظر لاستمرار النزاعات وعدم الاستقرار بالقارة، تفرض حاجته لإصلاح عميق، خاصة في ظل افتقاده لسلطة تسود على حكومات الدول، وعدم استكمال مؤسساته، ثم ارتهانه للتمويل الخارجي من القوى الغربية مع ما يعنيه ذلك من تقويض لاستقلالية القرار الإفريقي.

في هذا الإطار، يبقى العمل الإقليمي المشترك بالغ الأهمية، لكنه لا يستطيع أن يعوض الاشتغال على المستوى القُطري، حيث الحلول السياسية تبقى هي أفضل المناهج لتحقيق الاستقرار والأمن، إذ هناك حاجة كبيرة لمواصلة تطوير هياكل الحكم الديمقراطي والمؤسسات القوية القادرة على الاستجابة في الوقت المناسب للتصدي بفعالية للتهديدات المتزايدة وغير التقليدية للأمن، كما يعد تطوير القيادة النوعية عاملًا رئيسيًّا في المساعدة على منع الصراعات من الظهور بشكل أكبر.

وتظل مفارقة الحكم المعبَّر عنها بمقولة: “نخب قوية ودول ضعيفة” مشكلة عميقة بإفريقيا، وربما هي أصل اللعنة الأمنية المسلَّطة على دولها، ولذلك يجدر بأنظمة الحكم أن تكون قوية من الناحية المؤسسية، حتى تصبح أفضل بشكل متزايد في استخدام تقنيات السيطرة المشروعة على مجتمعاتها، بما في ذلك حركات التمرد، بدلًا من الانحدار إلى استخدام القوة العارية. ومن هنا، تنبع أهمية الإصلاح الأمني من الدور الذي يلعبه “في تهدئة العنف ومن قدرته، من خلال الحوار، على معالجة السبب المحدد الذي يكمن وراء النزاع والذي غالبًا ما يعرقل تحقيق الاستقرار. كالتنافس حول من سيسيطر على احتكار الدولة للاستعمال المشروع للقوة. فإصلاح القطاع الأمني ليس مجرد أداة تقنية، بل هو أيضًا أداة سياسية تلعب دورًا أساسيًّا في عمليات تحقيق الاستقرار”(20).

ولهذا، فالدولة الإفريقية وعلى الرغم من تقدمها النسبي على مرِّ السنين، وفي ظل استمرار ضعف المؤسسات واستشراء الفساد واستعصاء التنمية، ستلازم وضعية الهشاشة؛ حيث القيود الناشئة عن الافتقار إلى القدرات المؤسسية وشفافية التدبير والقيود التشغيلية للاقتصاد والاجتماع البشري، لا يمكنها إلا أن تعرقل جهود بناء السلام والأمن والاستقرار.   

هناك عامل آخر في دعم الإصلاح الأمني، هو العامل الاقتصادي، وذلك لأنه مع ضعف الاقتصاد لا تستطيع الحكومات تقديم الخدمات بما فيها تلبية حاجة المواطنين من الأمن كخدمة اجتماعية؛ إذ إن توفير الأمن هو خدمة مكلِّفة لتقديمها، وبدون اقتصاد قوي، لن توجد عائدات ضريبية كافية للحكومة لتوفير الأمن المناسب، وفي المقابل يقود الافتقار للأمن إلى خلق ظروف اقتصادية أكثر معاكسة، وتؤدي أوجه القصور هذه إلى زيادة الصراع الذي يفاقم الحالة الاقتصادية فيرتب بالتالي مزيدًا من الصراع. ولذلك فتجاوز هذه الحلقة المفرغة هو ما يشكل أحد أبرز رهانات الإصلاح الأمني بإفريقيا.

مراجع

(1) لمزيد من التفاصيل حول هذه المناطق الأمنية، انظر:

Manu Lekunze, Inherent and Contemporary Challenges to African Security, (Cham: Palgrave Macmillan, 2020), p-p: 6-8.

(2)- Karin Dokken, African Security Politics Redefined, First published, (New York: Palgrave Macmillan, 2008), P. 12.

(3)- Elizabeth Schmidt, Intervention In Africa: From the cold war to the War on Terror, (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), p. 215

(4) بروال الطيب، استراتيجية الاتحاد الأوروبـي-الفـرنسـي للأمــن والتنميــة فـي منطقــة الساحــل الإفريقي، مجلة الباحث الأكاديمي، العدد 1، 2019، ص. 692.

(5)- Toni Haastrup, Charting Transformation Through Security: Contemporary EU-Africa Relations, (Palgrave Macmillan: New York, 2013), p. 6.

(6)- Manu Lekunze), P. 5

(7)- James J. Hentz, Introduction: African Security in the Twenty-First Century, in James J. Hentz, (ed), Routledge Handbook of African Security, First published, (New York: Routledge, 2014), p. 4.

(8) جيلبرت خادياجالا، شرق إفريقيا: الأمن وإرث الهشاشة، ترجمة محمد خلفان الصوافي، الطبعة الأولى، سلسلة دراسات عالمية، العدد 86، (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2009)، ص47.

(9) Karin Dokken, P. 18

 (10) Ibid.

(11) حمدي عبد الرحمن، دبلوماسية “الذهب الأزرق”: اتجاهات نزع الأمننة عن قضايا المياه في إفريقيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 26 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 18 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/2XMcBhQ

(12) صفاء عزب، القرصنة خطر يهدد القرن الإفريقي ويستوجب مواجهة من العالم أجمع، الصومال الجديد، 26 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/3AJN6fR

(13) أميرة عبد الحليم، الصراع الطائفي في نيجيريا… نموذج لتأثير التغيرات المناخية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/3o98K9G

(14) حمدي عبد الرحمن، إفريقيا والنظام الدولي.. جدلية التهميش والنهوض، السياسة الدولية، العدد 200، أبريل/نيسان 2015، ص 134.

(15) منظمة الإنسانية الجديدة، تحليل: فهم الجريمة المنظمة في إفريقيا، 14 يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 21 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/3u8N1jl

(16) الجزيرة نت، مع تزايد الجماعات الجهادية فيها.. هل تنتقل الحرب على الإرهاب إلى إفريقيا؟، 26 أغسطس/آب 2021، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2021): https://bit.ly/39xCEvY

(17)- Nadine Ansor, Security Sector Reform in Africa: Donor Approaches Versus local Needs, Contomporary Security Policy, 38(1), 2017, p. 1.

(18)- Sarah Detzner, Modern Post-Conflict Security Sector Reform in Africa: Patterns of Success and Failure, African Security Review, (26)2, 2017, p. 118.

(19)- Anthoni Van Nieuwkerk, Security Sector Reform in Africa in Africa, in: James J. Hentz, (ed), Op Cit, p. 13

(20) المنتدى الإفريقي لإصلاح القطاع الأمني، اتجاهات إصلاح القطاع الأمني في إفريقيا وتحدياته، أديس أبابا، 26-24 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ص 4

نبيل زكاوي أستاذ مساعد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button