مفاوضات فيينا والاتفاق النووي الإيراني: إلی أين؟

نشرت هذه الدراسة بمجلة لباب الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، العدد الثالث عشر، فبراير/شباط 2022، عبر الرابط التالي https://studies.aljazeera.net/ar/magazines/book-1450

عندما نقض الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاتفاق النووي، في مايو/أيار 2018، لم يتوقع استراتيجيو السلطة في واشنطن أن تصل مقاومة إيران إلی حدود الصدام المباشر أو أن ترتقي إيران بتقنيتها النووية لحدود ابتعدت بأشواط عن محددات اتفاق 2015. فقد كان الصورة المرسومة هناك توحي باستجابة إيران للضغوط وتراجعها بالتالي أمام المطالب الأميركية وقبولها باتفاق يخلف اتفاق 2015. هذا بينما لم يكن خيار التراجع مطروحًا في إيران. وفي مايو/أيار 2019، بدأت مسيرة تقليص طهران التزامها بالاتفاق، وذلك بعد استنزاف الجهود الأوروبية البطيئة أصلًا للتعويض عن سلوك واشنطن. فأمام “الضغط الأقصی” المفروض عليها، قامت طهران بـ”المقاومة القصوى”. ومع زيادة حدة المواجهة الإيرانية-الأميركية علی مستوى المنطقة والتي ظهرت بإسقاط مسيَّرة أميركية وأفعال أخرى وباستهداف واشنطن الجنرال سليماني في مطار بغداد، اقترب الطرفان من شفا المواجهة العسكرية المباشرة. إلا أن دخول الدولتين معترك الانتخابات الرئاسية، قلَّص من احتمالات المواجهة إلی حين. ومع انتخاب الرئيس بايدن بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات استمرت بعد انتخاب الرئيس رئيسي ليخلف روحاني في إيران. تحاول هذه الورقة استشراف مستقبل تلك المفاوضات وطرح السيناريوهات المحتملة عبر التركيز علی محاور الخلاف بين أطرافها.

التفاوض من جديد

لم يدم الانتظار طويلًا بعد انتخاب الرئيس بايدن لبدء جولات تفاوضية مكوكية في العاصمة النمساوية؛ حيث شهدت فيينا ست جولات تفاوضية بين إيران والـ1+4 بمشاركة أميركية غير مباشرة؛ إذ منع نقضُها الاتفاق حضورَها علی تلك الطاولة. وبينما يمثل البحث عن سبل لإيقاف عجلة البرنامج النووي المتسارعة محفزًا رئيسيًّا لحراك واشنطن تجاه التفاوض، يمثل إلغاء العقوبات المحور في دوافع طهران للخوض في المفاوضات الجديدة. وبالإضافة لمحاولتها إلغاء العقوبات الأميركية، دأبت إدارة الرئيس روحاني علی إحياء الاتفاق النووي لتأثيره الإيجابي علی حظوظ تيارها “المعتدل” في الاستحقاق الرئاسي لعام 2020. إلا أن تعثر الاتفاق أمام الخلافات المطروحة استمر حتی يونيو/حزيران 2020 وأدی لتجميد العملية التفاوضية علی مشارف الانتخابات الرئاسية في إيران.

وبعد قرابة خمسة أشهر، عادت إيران بحلَّة جديدة إلی فيينا لتطرح رؤى لم تختلف جذريًّا عن رؤى الإدارة السابقة إلا أنها حملت في طياتها واقع التغيير السياسي في طهران. شكليًّا، رأس الفريق التفاوضي الإيراني الجديد دبلوماسي محافظ عُرف بانتقاداته للاتفاق النووي وبمعارضته لفرضيات الإدارة السابقة في التعاطي مع الأطراف الغربية وعلی رأسها واشنطن(1). فالسيد باقري كني ينتمي للفريق الذي قاد المفاوضات النووية من قبل إيران قبل انتخاب الرئيس روحاني. وهو فريق خصص الكثير من الوقت لدراسة مساوئ الاتفاق النووي وهفوات إدارة روحاني. وإذ يهتم الفريق الجديد والإدارة القائمة عليه بإحياء الاتفاق النووي كالتزام قانوني واستحقاق اقتصادي، إلا أنه لا يوليه الأولوية التي عُرفت بها إدارة الرئيس روحاني. أما في الفحوى، فيرى الفريق الجديد أن استمرار التطور النووي أمام تمسك الولايات المتحدة بالضغوط القصوى تعد ضرورة لإحياء الاتفاق بشكل يضمن الحقوق الإيرانية. ومن الأمور التي تُركز عليها الإدارة الجديدة وفريقها التفاوضي ضمان عدم نقض الاتفاق مستقبلًا وضرورة التحقق من إلغاء العقوبات قبل عودة إيران إلی التزاماتها النووية، ناهيك عن ضرورة تعويض إيران عن الضغوط الاقتصادية التي مورست عليها(2).

وعلی الجانب الآخر، وبينما تختلف الإدارة الأميركية الجديدة في رؤيتها للاتفاق النووي وسُبُل التعاطي مع إيران، إلا أنها لم تتراجع قيد أنملة عن الضغط الأقصی المفروض من قبل إدارة ترامب. ويری القائمون علی الملف الإيراني في واشنطن، رغم اختلافات تكتيكية تظهر بين الحين والآخر، في العقوبات أوراق ضغط يجب التمسك بها لحمل طهران علی التراجع عن خطواتها النووية. وبينما يُحمِّل هؤلاء أوزار الوضع القائم لأسلافهم لنقضهم الاتفاق النووي، إلا أنهم لم يتخلفوا عن أولئك إلا في الخطاب المركِّز علی التفاوض أداةً لنيل المطلوب أميركيًّا. ولا ترى الإدارة الأميركية الجديدة جدوى في المطالبة الإيرانية بضمانات مستقبلية إذ يُنظر إليها كمطالب مستحيلة؛ فالضمانات المستقبلية غير ممكنة حسب مسؤولين أميركيين. وأمام ذلك يؤكد المسؤولون الإيرانيون علی أن إيران لن تتراجع عن مطلب الضمانات(3). هذا، بينما الشروط الإيرانية حول التعويضات وخاصة التحقق من إلغاء العقوبات تُلاقَی بأطروحات أميركية لم تكن كافية لردم الفجوة بين الجانبين حتی الآن.

مطالب جديدة قديمة

تخرج المطالب الإيرانية من نقاشات داخلية دامت طيلة الفترة اللاحقة لنقض واشنطن الاتفاق النووي عام 2018. يجب التركيز علی محاور تلك النقاشات للوقوف علی المطالب الإيرانية والردود الأميركية عليها بالتالي، وهو ما يشمل أوجه الخلاف الرئيسية المطروحة اليوم علی طاولة التفاوض في فيينا.

انقسم الإيرانيون حول السبل الأمثل للرد علی نقض الاتفاق من قبل إدارة ترامب. فقد رأى معارضو الاتفاق في خروج إيران منه ضرورة لاستعادة أوراق الضغط وحمل واشنطن علی مفاوضة طهران علی قدم المساواة. هذا، بينما رأى منتقدو الاتفاق في البقاء فيه ومعالجة مساوئه التي حرمت إيران من مكاسبه الاقتصادية حلًّا أفضل. وإذ اجتمع هؤلاء مع الفريق الأول بقولهم بصعوبة -أو استحالة- إحياء الاتفاق ناهيك عن إصلاح فحواه لصالح إيران في ظل إدارة ترامب، فقد اختلفوا بقولهم: إن إدارة ديمقراطية يمكن أن تفتح الباب لمثل هذه المراجعة، باستبعاد المعارضين اختلاف سلوك إدارة ديمقراطية عن إدارة ترامب تجاه إيران. وثمة فريق ثالث نظر منذ البدء للاتفاق من منظور أمني بقوله: إن الاتفاق أنهی “أمننة” إيران وأخرجها من الخانة التي وُضعت فيها كظاهرة أمنية تهدد الأمن والسلم الدوليين. وبرؤية هؤلاء، فإن خروج ترامب لم يغير ذلك الواقع ولذلك اقترب هؤلاء من المعسكر الثاني الداعي للتريث بغية إصلاح فحوى الاتفاق عندما تحين الفرصة.

أجمعت طهران في الختام علی الأخذ بالتريث. وإلی جانب ذلك، بدأت ببناء أدوات ضغط تهدف لحمل واشنطن والأطراف الأخرى علی العودة للاتفاق النووي، أولًا، وقبولها الرؤى الإيرانية حول مساوئ الاتفاق التي أضرَّت بطهران، ثانيًا. لذلك، عند النظر إلی الشروط الإيرانية المطروحة علی الطاولة اليوم، يجب الأخذ بتلك السياسة كاستراتيجية إيرانية مبنية علی ضرورة تغيير الوضع القائم بعد توقيع الاتفاق النووي الذي مكَّن ترامب من نقضه دون كلفة تُذكر. وثمة مساوئ أربع شهدت شبه إجماع إيراني بعد 2018 نلخصها كالتالي:

  • مقارنة التطبيع: بينما بدأت إيران تطبيق التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق النووي في الفترة المحددة عام 2015، لم تطبق واشنطن التزاماتها بإلغاء العقوبات بشكل مؤثر يمكن التحقق منه؛ فقد نصَّ الاتفاق علی بدء إيران تجميد أجزاء رئيسية من برنامجها النووي ونقل مخزون اليورانيوم المخصب إلی خارج إيران وقبولها الرقابة الدولية منقطعة النظير لتقوم باقي الأطراف بتعليق العقوبات بعد ذلك. لم تفِ واشنطن وحليفاتها الأوروبيات بالتزاماتها حصب الاتفاق ولم يعد بجعبة طهران بعد تطبيقها الاتفاق أدوات ضغط تمكِّنها من حمل تلك الأطراف علی الوفاء بالتزاماتها. يرى المنتقدون في التطبيق المقارن وفي التحقق من إلغاء العقوبات قبل العودة للالتزامات النووية ضرورة لعدم تكرار الماضي(4)، وأصبح ذلك من شروط إيران للعودة للاتفاق النووي. وثمة نقاش مستمر حتی اليوم حول سُبُل التحقق من إلغاء العقوبات بين أطراف الاتفاق. وكان ثمة مقترح في الجولات الست الأولی لعام 2020 يقضي بالتحقق في غضون 48 ساعة قبل عودة إيران للالتزامات النووية؛ وهو ما رفضته الإدارة الجديدة في إيران.
  • أحادية الإجراءات العقابية: ينص الاتفاق النووي علی إجراءات عقابية تركز علی إيران كطرف يطغی احتمال تنصله علی احتمالات نقض باقي الأطراف الاتفاق النووي. فآلية الزناد تقول بعودة العقوبات الأممية علی إيران بمجرد استشعار طرف من الـ1+5 عدم التزام إيران وإشعار مجلس الأمن بذلك. هذا بينما لا تمتلك إيران أي إجراء عقابي أمام نقض تلك الأطراف للاتفاق. وكان نقض الولايات المتحدة لالتزاماتها حريًّا بإظهار هذا الواقع غير المتكافئ. ينادي المنتقدون الباحثون عن تعديل الاتفاق، وجلهم ينتمي لحكومة الرئيس الجديد في إيران، بضرورة وضع آليات عقابية تشمل الجميع ولا تركز علی إيران. وفي خضم ذلك، يطرح هؤلاء ضرورة التمسك بدفع التعويضات لإيران(5) وشرعنة ذلك بالتالي إجراءً عقابيًّا يردع الدولة الباحثة عن النقض في المستقبل.
  • تشرذم الإطار القانوني: لا يشمل الإطار القانوني روادع موثوقة لحمل أطراف الاتفاق النووي علی الالتزام وعدم نقضه. فالقرار 2231 لمجلس الأمن لا يمنع “الاستثناء الأميركي” مثلًا من أن يطغی بقول واشنطن إنها غير معنية بالالتزام إلا بالدستور الأميركي والمعاهدات المصادَق عليها من قبل الكونغرس الأميركي. من هنا خرج تركيز المنتقدين الإيرانيين علی ضرورة أن يشمل أي اتفاق للعودة للاتفاق النووي ضمانات تمنع نقضه مستقبلًا(6)، ومثل ذلك من الشروط التي تتمسك بها إدارة رئيسي وفريقها التفاوضي. وثمة أفكار طُرحت حول الموضوع تجري مناقشتها علی الأرجح بين أطراف الاتفاق في فيينا.
  • العقوبات الموازية: لا يشمل الاتفاق النووي إلغاء كامل العقوبات المفروضة علی إيران؛ فقد جرى الاتفاق علی تعليق العقوبات المفروضة علی إيران جرَّاء تقدم برنامجها النووي، وتبقی العقوبات المفروضة تحت أسماء أخرى كـ”دعم الإرهاب” أو “نقض حقوق الإنسان” وغيرها، خارج ذلك الإطار. قَبِل الإيرانيون بهذا التفصيل في اتفاق 2015 ليواجهوا واقعًا يقول بأن الكثير من تلك العقوبات سارية المفعول يؤثر سلبًا علی النتائج المرجوة من إلغاء العقوبات النووية؛ فالعقوبات المالية المفروضة حسب قانون “داماتو” مثلًا تمنع الاستثمار في إيران بمبلغ يفوق الـ45 مليون دولار(7) والـ”يو ترن” مثلًا يمنع الاستثمار في إيران دون تأييد أميركي لكل عملية استثمار. من هنا تظهر أسباب تركيز إدارة رئيسي علی إلغاء كامل العقوبات(8)، رغم علمها بصعوبة أو استحالة ذلك. إلا أنها وبرفع السقف تبدو أكثر تركيزًا علی تلك العقوبات التي تُفرغ إلغاء العقوبات النووية من مضمونها كالمثالين سالفي الذكر.

بين التفاوض وتعزيز الموقف

وثمة قضايا خلافية أخرى لا تبدو عصية علی الاتفاق إن جرى ردم الفجوات سالفة الذكر. فالواضح أن تجميد التطور النووي والعودة للوضع القائم بعد اتفاق 2015 من قِبل إيران يمثِّل المطلب الأميركي الرئيس، بينما يمثل إلغاء العقوبات بشروط جديدة المطلب الأهم بالنسبة لإيران. وهذه عناوين لا يختلف عليها الطرفان إلا في التفاصيل. وبسبب نقض اتفاق 2015، ثمة معرفة بمكامن الخطر حول تلك العناوين العريضة وهو ما يُعقِّد العملية التفاوضية الحالية. ولأن واشنطن كانت الطرف السابق في نقض الاتفاق، فإن الرؤية الإيرانية بشروطها آنفة الذكر تلقی قبولًا لدى الدولتين غير الغربيتين -روسيا والصين- بشكل خاص.

وضمن رؤيتها المختلفة عن سلفها للاتفاق النووي، ركزت إدارة رئيسي علی التذكير بأن اتفاقًا سيئًا شرٌّ من عدم الاتفاق. فهي الجهة المنتمية للمنتقدين ويواكبها بعض من معارضي اتفاق 2015. ولذلك دأبت منذ تسلمها الملف علی زيادة وطأة أدوات ضغط إيران النووية علی الولايات المتحدة والأطراف الأخرى عبر زيادة التخصيب عالي النسبة، وإرباك عملية رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية علی برنامج إيران النووي، وتفعيل عدد أكبر من أجهزة الطرد المتطورة IR6 في منشآت إيران النووية. ومن جهة أخرى، تركز إدارة رئيسي في خطابها علی أنها لا تربط مستقبل اقتصاد البلاد بالمفاوضات النووية ومخرجاتها، رغم ترجيحها التوصل إلی حلٍّ يحيي الاتفاق النووي(9). وبعيدًا عمَّا إذا كان ذلك خطابًا يرنو لتعزيز موقف إيران التفاوضي أو سياسة ذات أبعاد واقعية، تشير تفاصيل ميزانية البلاد المقدمة إلی البرلمان للعام المقبل إلی رهان إدارة رئيسي علی إمكانية إدارة البلاد في ظل العقوبات الحالية. وكان الرئيس رئيسي قد أشار(10) إلی أن صادرات النفط الإيرانية قد ازدادت بشكل كبير وأن عائداتها المالية تعود للبلاد علی الرغم من استمرار العقوبات، وهو ما انعكس إيجابيًّا علی سعر صرف الريال الإيراني أمام الدولار الأميركي.

ويبدو واضحًا في رؤية إدارة رئيسي أن الوقت يمضي لصالح إيران؛ فالتقدم النووي المطَّرد يُراكم الضغوط علی الولايات المتحدة، بينما يتراجع مفعول العقوبات، أو لا يزداد عمَّا هو عليه علی أقل تقدير. ولذلك لجأت الأطراف الغربية إلی الضغط السياسي والإعلامي بالقول بأن نافذة التفاوض لن تبقی مفتوحة لأمد طويل(11) وأن “خياراتها الأخری” قد تأخذ مكان الدبلوماسية إن لم تتوصل لاتفاق في الأجل القريب. فقد أوعز الرئيس بايدن بالتحضير لتلك الخيارات في حال فشل المفاوضات الجارية في فيينا(12)، وهو إيعاز فهمه الإيرانيون علی أنه يهدف لتعزيز الموقف التفاوضي لواشنطن. ولأن الخيار العسكري مستبعد في الوضع الراهن، لا يبدو للخطاب الأميركي أثر يُذكر علی الفعل والخطاب الإيرانيين.

وما زالت الولايات المتحدة ترواح مكانها في رفض الاشتراطات الإيرانية للعودة للاتفاق، وإن أبدت استعدادًا للتفاوض حول بعضها. يقول مسؤولو الولايات المتحدة ومعلِّقوها باستحالة تقديم ضمانات حول مستقبل الالتزام بالاتفاق النووي نظرًا للأغلبية الضعيفة للديمقراطيين في الكونغرس وهو ما يمنع المصادقة علی الاتفاق وتحويله إلی معاهدة. هذا، بينما يرى البعض أن التوصل إلی معاهدة أيضًا لن يفي بغرض إيران ضمان مستقبل الاتفاق أمام الناقضين له؛ إذ أخرج الرئيس الأميركي السابق بلاده من الالتزام بمعاهدات عدَّة ومنها معاهدة الصداقة الإيرانية-الأميركية المصادق عليها عام 1955(13).

إلا أن واشنطن بدت أكثر انفتاحًا علی مناقشة الاشتراطات الإيرانية الأخرى -وإن أبدت تمنعًا جافًّا في بدء الجولة السابعة للمفاوضات نهاية 2021- وهي الجولة الأولی مع فريق إدارة رئيسي. فالمطالبة بإلغاء العقوبات الموازية لا ترتطم بضرورة مصادقة الكونغرس علی الكثير منها. كما أن مطالبة إيران بإجراءات عقابية تشمل الجميع أمام نقض الاتفاق مستقبلًا أتت نتيجة تنصل واشنطن ولا تفرض ثقلًا سياسيًّا يُذكر علی الرئيس الأميركي في الداخل؛ فهي تشمل أمورًا جرت مناقشة بعضها في النقاشات الدارجة حول الموضوع مثل تجريم نقض الاتفاق مستقبلًا وإعطاء إيران حجة قانونية مقبولة دوليًّا تمكِّنها من مقاضاة الطرف الناقض في المحاكم الدولية أو الاعتراف بحق إيران في وقف الالتزام بكامل الاتفاق إن نقضه طرف آخر كما حدث سابقًا وإجراءات أخرى في ذات السياق. أما بالنسبة للتطبيق، يركز جل الحديث علی خطوات لطمأنة إيران عبر التحقق من إلغاء فعلي -لا معلن فقط- للعقوبات المفروضة عليها. وقد عرضت الأطراف الأوروبية -والولايات المتحدة- في الجولات الست الأولی من المفاوضات موضوع التحقق في غضون 48 ساعة تحت اسم “اليوم الطويل” (Long Day)(14) أمام عودة إيرانية للالتزام الكامل بالاتفاق، وهو طرح جُوبه برفض الفريق الإيراني الجديد الذي يری في الاحتفاظ بشئ من التقدم النووي لمراحل أطول -أي التدرج في التطبيق بعد التحقق من فاعلية إلغاء العقوبات- أداة أمضی لحمل الدول الغربية علی الوفاء بالتزاماتها وعدم التنصل بعد إعادة البرنامج النووي الإيراني لحدود 2015.

سيناريوهات

تُطرح في هذا الوضع عدة متغيرات مهمة يمكن أن تشكِّل جزءًا من أي سيناريو مستقبلي للاتفاق النووي. ولأن العنوان العريض -الالتزام بالحدود النووية إيرانيًّا أمام إلغاء العقوبات أميركيًّا- فرض أولي لا خلاف عليه إلا في التفاصيل، تأتي متغيرات أخرى للواجهة لتحدد السيناريوهات المطروحة أمام الاتفاق النووي والمفاوضات الجارية في فيينا. وثمة متغيران تجري مناقشتهما في إيران والولايات المتحدة -وفي مفاوضات فيينا علی الأرجح- وهما، بتقديري، كفيلان بإيصال مركب الاتفاق النووي إلی مرسی يعيد تأهيله أو يُفشله بالكامل وحينها سنكون أمام وضع مختلف عمَّا نحن عليه الآن.

المتغير الأول هو القبول بالتدرج إيرانيًّا وأميركيًّا أو عدمه. بعبارة أخری، لا تقبل إيران بالتدرج بإلغاء العقوبات النووية -والموازية المؤثرة علی مخرجات الاتفاق- وفي المقابل، لا تقبل واشنطن بتدرج إيراني في العودة للالتزامات النووية ولا يجري بالتالي التوصل إلی صيغة تحدد الخطوات المتفق عليها. بذلك، وإن جری الاتفاق، تحصل إيران علی شرطها القائل بضرورة التقارن في العودة إلی الاتفاق النووي. أما المتغير الثاني فهو مستوى عدم تقديم ضمانات أمام احتمال التنصل من الاتفاق النووي مستقبلًا وهو سيحدد منسوب الثقة واستمرار الخطوات من قبل الجانبين من عدمه لإحياء الاتفاق. فالواضح أن طهران لن تعود للاتفاق كما كان عام 2015 دون تضمينه أو تأطيره بشروطها القائلة بضرورة إتيان الطرف الأميركي بضمانات تؤكد عدم نقضه مستقبلًا. وقد لا تأتي الضمانات علی المستوی المطلوب أو قد تأتي في سياقٍ خارج الاتفاق النووي ذاته أو قد تأخذ شكل تعويضات عبر استثمارات دولية في إيران. عندها ستتمحور الإشكالية حول عدم زيادة منسوب الثقة بعد عدم بدء التدرج في العودة للالتزامات لدى الطرفين، الإيراني والأميركي. بذلك، نكون أمام أربعة سيناريوهات عامة قد يتخلَّلها بعض من التفاصيل نتيجة وجود متغيرات فرعية أخری.

  1. القبول بالتدرج وتقديم ضمانات ترفع الثقة حول مستقبل الاتفاق: يشمل هذا السيناريو ضمانات تراها طهران كافية لديمومة الالتزام بالاتفاق. في هذا السيناريو يعمل الطرفان وفق الخطوات المحددة في فيينا متدرجيْن في إلغاء العقوبات وتراجع الخطوات النووية الإيرانية. بذلك، تتحقق إيران من نتائج إلغاء العقوبات بعد كل خطوة وتتحقق الأطراف الأخری من تراجع الإجراءات النووية في إيران عبر رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبعد كل خطوة تزداد الثقة المتبادلة ويخطو الطرفان حسب المتفق عليه بعد التأكد من الخطوة السابقة. وفي النهاية، يُعاد العمل بالاتفاق النووي وتُفتح أمام الإقتصاد الإيراني النوافذ الموصدة بفعل العقوبات.
  2. القبول بالتدرج وتراجع الثقة بمستقبل الاتفاق: يقبل الطرفان في هذا السيناريو بالتدرج ويتفقان علی الخطوات المطلوب اتخاذها بشكل متدرج ومستمر، وتقبل إيران بضمانات غير كافية لإحياء الاتفاق النووي أمام وعود للتعويض عبر الاستثمار. إلا أن محدودية الضمانات المقدمة أمام التنصل المستقبلي و/أو ثبوت الشكوك لدى أي من الطرفين حول عدم وفاء الآخر بالخطوات المتفق عليها تفضي إلی تراجع الثقة المتبادلة. في هذا الوضع، تعود الأطراف إلی طاولة التفاوض لحل الخلافات المستحدثة أو قد تتراجع عن خطواتها السابقة المبنية علی المتفق عليه وهو ما قد يُعقِّد مستقبل الاتفاق أكثر من الوضع الحالي. ومن الأرجح عودة الطرفين إلی التمترس خلف أدوات الضغط -العقوبات أميركيًّا والتقدم النووي إيرانيًّا- وهو ما سيزيد من مستوی التعقيدات التي تواجه الاتفاق.
  3. عدم القبول بالتدرج مع زيادة الثقة حول مستقبل الاتفاق: وإن كان مستبعدًا، يأتي هذا السيناريو للواجهة بعد تقديم الولايات المتحدة ضمانات ترتضيها طهران للعودة للاتفاق النووي. وفي المقابل، تُقْدم إيران علی خطوات أولية -وضع حدٍّ للتقدم النووي مثلًا- تزيد من ثقة الأطراف الغربية بجديتها في التراجع عن خطواتها النووية التي قطعتها منذ 2019. وفي ظل تلك الضمانات وهذه الثقة، يقوم الطرفان بالعودة إلی الاتفاق بشكلٍ كامل. من أسباب استبعاد هذا السيناريو أنه لا يقدم لإيران أي سبيل للتحقق من جدية إلغاء العقوبات المفروضة عليها رغم تقديم الضمانات حول مستقبل الاتفاق؛ إذ إنه سيُخرج أدوات الضغط الإيرانية المتمثلة بتقدم برنامجها النووي دفعة واحدة أمام وعود وضمانات يُرجح عدم وثوق صانع القرار الإيراني بها. من جهة أخری، فإن من الأرجح عدم إلغاء واشنطن العقوبات دفعة واحدة نتيجة تخوفها من عدم وفاء إيران بالعودة للالتزامات النووية لعام 2015.
  4. عدم القبول بالتدرج واستمرار انعدام الثقة بين الطرفين: هذا السيناريو هو عبارة عن استمرار الوضع القائم بين إيران وأطراف الاتفاق النووي. ولأن الوقت كفيل بتأزيم الوضع أكثر من ذي قبل نظرًا لاستمرار العقوبات المفروضة علی إيران من جهة وتقليص إيران المستمر لالتزامها بالحدود النووية لاتفاق 2015، يمكن أن يُفضي الضغط والضغط المجابه إلی اللجوء لأحد السيناريوهات المذكورة أعلاه أو أن يؤدي إلی تصعيد، يستبعده الكثيرون حاليًّا، بين إيران والولايات المتحدة قد يصل إلی مواجهة عسكرية.

لا تشمل هذه السيناريوهات العناصر غير القابلة للتنبؤ (Wild Cards) التي قد تُخرج العملية التفاوضية من سياقاتها القائمة وتُدخل متغيرات جديدة كمحاور رئيسية حول مستقبل الاتفاق. من ذلك مثلًا: قيام إسرائيل بعمل عسكري مباشر ضد بعض المنشآت النووية الإيرانية. وهو وإن كان سيناريو مستبعدًا نظرًا لعدم رغبة واشنطن بهذا التطور وهو ما يردع إسرائيل، يبقی هذا العنصر خارج السيناريوهات المطروحة لعدم القدرة علی التنبؤ به. يمكن تعداد عدد آخر من العناصر تلك التي ستغير المعادلات، لكنها ولعدم رجحان حدوثها وانعدام القدرة علی التنبؤ بها، تبقی خارج أية دراسة مستقبلية. بالإضافة لذلك، لا يمكن التنبؤ زمنيًّا بتاريخ التوصل إلی اتفاق أو الوصول لقناعة بأن الاتفاق النووي انهار بشكل كامل ولا يمكن إحياؤه. تلك أمور تُطرح من قبل بعض أطراف الاتفاق للضغط وتحسين الوضع التفاوضي، إلا أن طبيعة الدبلوماسية لا تتيح نوافذ زمنية تحدد التوقيتات والتفاصيل.

خلاصة

بعد خمسة أشهر تقريبًا عادت إيران بحلَّتها الجديدة تحت إدارة رئيسي إلی طاولة المفاوضات النووية في فيينا بمسودات لم تختلف جذريًّا مع رؤی طهران السابقة حول عملية إحياء الاتفاق النووي. إلا أن الإدارة الجديدة تختلف بشح ثقتها بالأطراف الغربية ووعودها وبضرورة تحقق الاشتراطات الإيرانية بشكل مقبول قبل العودة للالتزامات النووية. وتشمل تلك الاشتراطات تقديم ضمانات أميركية بعدم التنصل مستقبلًا من الاتفاق، والتحقق من إلغاء العقوبات قبل العودة للالتزام بالحدود النووية لاتفاق 2015، وإلغاء كامل العقوبات المؤثرة علی مخرجات الاتفاق النووي وتقديم التعويضات لإيران. وإذ يتفق الجانبان علی العناوين العريضة -أي إلغاء العقوبات أمام عودة إيران الی الالتزامات النووية- إلا أن التفاصيل كفيلة بإجهاض العودة للاتفاق النووي إن لم تُبدِ أطرافه مرونة أكبر ولم ترتض بالحلول الوسط حول الخلافات. ولأن العناوين العريضة متفقٌ عليها، يطغی أثر المتغيرات الفرعية المرتبطة بالتفاصيل علی مخرجات مفاوضات فيينا. وفي هذا الإطار ثمة متغيران يحددان بشكل رئيسي مخرجات تلك المفاوضات: أولًا: القبول بالتدرج في العودة للاتفاق النووي من قبل إيران والولايات المتحدة أو عدمه. وثانيًا: تقديم الضمانات وزيادة منسوب الثقة بالتالي من عدمه. ويأتي هذان المتغيران بأربعة سيناريوهات مستقبلية تبدأ بإحياء كامل للاتفاق النووي لعام 2015 وتنتهي بانهياره كما في تفاصيل الجزء الأخير من الورقة. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة تفاؤلًا حذرًا من قبل أطراف الاتفاق حول مفاوضات فيينا ما يوحي بتقارب في وجهات النظر حول التفاصيل المختلف عليها، إلا أن الواقع يقول: أن لا شيء متفق عليه حتی يجري الاتفاق علی كل شيء. وحتی تلك اللحظة يبقی الوضع متأرجحًا بين السيناريوهات الأربعة سالفة الذكر.

مراجع
  1. عبد الرحمن فتح اللهي، باقري كني از منتقد سرسخت برجام تا مذاكره كننده احياي آن (باقري كني من منتقد شرس للاتفاق النووي إلی مفاوض لإحياء الاتفاق)، موقع ديپلماسي إيراني، 13 دي 1400، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/egpAJ
  2. 5 شرط اصلي إيران برای توافق با أميركا، (خمسة شروط رئيسية لإيران للاتفاق مع أميركا) موقع إكو إيران، 8 آذر 1400، (تاريخ الدخول: 14 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/enBH4
  3. باقري كني: از دريافت ضمانت چشم پوشي نمي كنيم (باقري كني: لن نتراجع عن أخذ الضمانات) موقع خبر آنلاين، 5 آبان 1400، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022) shorturl.at/lnxB2
  4.  أمير عبد اللهيان: دستيابی به توافق در وين مستلزم لغو مؤثر و قابل راستي ‌آزمايي تحريم هاست (أمير عبد اللهيان: التوصل إلی اتفاق في فيينا يتطلب إلغاء العقوبات بشكل فعلي وقابل للتحقق)، وكالة أنباء تسنيم، 21 آبان 1400، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/cADQU
  5. 5 شرط اصلي إيران برای توافق با أميركا، (خمسة شروط رئيسية لإيران للاتفاق مع أميركا)، مصدر سبق ذكره.
  6. روايتي تازه از اختلافات در مذاكرات وين وراه حل هاي احتمالي (سردية جديدة حول الخلافات في فيينا والحلول المحتملة)، صحيفة دنياي اقتصاد، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/uwPS5
  7.  كان الرئيس أوباما قد وقَّع علی تمديد قانون كاتسا لعشر سنوات أخری قبل خروجه من البيت الأبيض بيوم واحد.
  8. علي باقري كني: تحريم ها بايد به طور كامل برداشته شود (علي باقري كني: يجب أن تُلغی العقوبات بشكل كامل)، وكالة أنباء باشگاه خبرنگاران جوان، 7 آذر 1400، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/cfmwJ
  9.  رييس جمهور؛ اقتصاد كشور را به مذاكره گره نمي زنيم (رئيس الجمهورية: لن نربط اقتصاد البلاد بالمفاوضات)، موقع اقتصاد آنلاين، 2 آبان 1400، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/jnuQW
  10. رئيس جمهور: صادرات نفت ایران ۴۰ درصد افزایش یافت (رئيس الجمهورية: ازدادت صادرات نفط إيران بنسبة 40%)، موقع تجارت نيوز، 23 دي 1400، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/sS189
  11.  Alexander Ratz and Humeyra Pamuk, “Time is running out for Iran nuclear deal, Germany says,” Reuters, December 11, 2021. https://www.reuters.com/world/us-secretary-state-met-with-european-coun…
  12. Servet Gunerigok, “Biden asks for “other options” if talks fail on Iran’s nuclear program,” AA News Agency, December 10, 2021. https://www.aa.com.tr/en/americas/biden-asks-for-other-options-if-talks…
  13. دابليو جي هنيگان، خصومت‌ورزی‌های ترامپ این بار با لغو معاهده مودت (عدائية ترامب مرة أخری بإلغاء معاهدة الصداقة)، موقع دیپلماسي إيراني، 14 مهر 1397، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/cyHU6
  14. أمیر عبد اللهیان: مذاكرات در مسیر درستی قرار دارد (أمير عبد اللهيان: المفاوضات في المسار الصحيح)، موقع خواندني ها، 21 دي 1400، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2022): shorturl.at/kzAGY

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button