دراسات سوسيولوجية

مفهوم الهوية والهوية الوطنية

أولاُ: التأسيس النظري

يشتق المعنى اللغوي لمصطلح الهوية المركب من تكرار (هو) فقد تم وضعه كاسم معرّف ب “أل”، ومعناه “الاتحاد بالذات”. ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو هو، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره، فمفهوم الهوية يشكل وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري، ومحتوى هذا الضمير في ذات الآن، بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها.

وتعبر الهوية عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية، التي تميزه عن غيره، كما نعبر عن خاصية المطابقة، أي مطابقة الشيء لنفسه أو لمثيله، وبالتالي فالهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات.

ويقف “امارتيا صن” موقف الرافض للزعم الذي تقدم به “صمويل هنتنغتون” بان الغرب كان غرباً منذ زمن بعيد، وأنه كان ومازال هو الممثل الوحيد لقيم التسامح، فضلاً عن النظرة إلى الديمقراطية باعتبارها جوهر فكرة غريبة، ويبني “أمارتيا صن” نقضه لهذا الزعم القاتل بالطبيعة الغربية للديمقراطية على شكل قفزة من اليونان إلى الغرب الحديث على عدة أسباب منها: اعتباطية التصنيف في تعريف الحضارة بتعبيرات عنصرية، والزعم بأن الديمقراطية هي فقط عملية التصويت متناسين التشاور…. ” وتقاليد النقاش العام، وهو ما يمكن أن نجدها في كل مكان من العالم” بعبارة واضحة يؤكد صن بأن العالم الغربي “لا يمتلك حقوق ملكية الأفكار الديمقراطية” مشيراً إلى أن الأشكال الدستورية العصرية جديدة نسبياً، إلا أن تجلياتها في شكل المشاركة والمناقشة العامة كانت منتشرة في العالم.

يقف أمارتيا صن عندما يسمى العلوم الغربية ليؤكد بأنها اعتمدت على تراث عالمي، وهناك مجموعة كبيرة من المساهمين في هذه العلوم ومن مجتمعات متعددة، فإذا كان صحيحاً أن ثمة اعتراف بما قدمه الغرب على مدى القرون القليلة الماضية فإن “… افتراض أن ذلك كله كان نتيجة ازدهار”حضارة غربية” منفصلة تماماً، نشأت في عزلة مدهشة، هو وهم خطير”

فمن نافلة القول تأكيد ما أثبتته الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو امة مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية والنفسية والمعيشية والتاريخية المتماثلة التي تعبر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم، ومن نافلة القول التأكيد أيضاً أن الشرق لم يكن دائماً استبدادياً، ولن يظل كذلك فالاستبدادية والديمقراطية وجدتا بدرجات متفاوتة أثناء تطور الجماعات الأثنو. اجتماعية والديمقراطية هي نتاج لتطور اجتماعي اقتصادي سياسي بنيوي بزر بشكل أوضح في ظل التشكل الرأسمالي للمجتمعات المعاصرة وقيام الدولة القومية الحديثة.

ومن هذا الشعور القومي ذاته، يستمد الفرد إحساسه بالهوية والانتماء، يحس بأنه ليس مجرد فرد نكرة، وإنما يشترك مع عدد كبير من أفراد الجماعة في عدد من المعطيات والمكونات والأهداف، وينتمي إلى ثقافة مركبة من جملة من المعايير والرموز والصور، فنحن نتفق تماماً مع “نوربير إلياس” في انه لا “لا توجد هوية للأنا بدون هوية للنخبة”.

ومن خلال دراسة التطور القومي للجماعات الإثنو، اجتماعية يتضح أنه بقدر نضوج القومية يتبلور ويتعزز الشعور بها والانتماء إليها، أما في حالة انعدام شعور الفرد بهويته نتيجة عوامل داخلية وخارجية، فقد يتولد لديه ما يمكن أن نسميه أزمة الهوية التي تفرز بدورها أزمة وعي، تؤدي إلى ضياع الهوية نهائياً.

الهوية بهذا المفهوم حديثة الاستعمال ولكنها اكتسحت في بحر بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية، فقد فرض هذا المفهوم نفسه حتى غدا بمثابة كلمة سحرية، وذلك في تحليل حقائق جد متنوعة مثل علم نفس الأفراد وتحولات الأديان والعلاقات بين النساء والرجال وموضوعات المهن والحياة الأسرية والهجرة والصراعات العرقية.

أما مفهوم الهوية بشكل عام فيمكن أن يعد ضمن المفاهيم التي ليس لها تاريخ، فهي تعتبر مفهوماً فلسفياً، يرجع استعمالها إلى الأصول الأولى للفكر، فالفلاسفة ما قبل سقراط كثل بارميندس أو هراقليطس كانوا دائماً حائرين حول مسألة “هو ذاته والآخر” وكيف يمكن التوفيق بين التغيير والهوية.

مفهوم الهوية في مدلولاته الحديثة هو التشخيص والشخصية، وهو مال قال به ابن حزم “الفصل بين الملل والنحل” بأنه: “هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو بعينه إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها احد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر”. وهو ما التمسه الأستاذ جميل صليبا في معرض المقابلة بينها وبين الغيرية حين عرف الهوية (في المعجم الفلسفي) بأنها: “المميز عن الأغبار”. فهي تستخدم بمعنى الهيئة والأوصاف الظاهرة، وبأتي مقابلاً لها الأوصاف النفسية والجوهر.

لقد ذاع مفهوم الهوية عالمياً وعربياً منذ ستينات القرن المنصرم، ومع الصعود القومي والثوري في منطقتنا، ونتيجة حمأة الصراع الدولي أو الثقافي منذ هذا التاريخ، واهتمام العديد من المجالات العلمية بدراسته، ويصح ذلك قول المؤرخ “ألفرد كروزر الذي يقول: “القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخم والاهتمام الذي عرفه مفهوم الهوية، حيث أصبحت الهوية شعاراً طرطمياً وأصبح بديهياً أن يحل كل الإشكاليات المطروحة” فصرنا نسمع عن خطاب الهوية أي تلك الخطابات التي تقوم في أسسها الفكرية على تصور خاص للهوية يمكن التمثيل لها بالتيارات القطرية والقومية والوحدوية والإسلامية، كما نسمع عن سياسات الهوية أي السياسات التي تمثل الهوية مصدراً لشرعيتها وسنداً لها كحقوق الأقليات في تقرير مصيرها أو الصراعات الأهلية وسلطات الحكم الذاتي… الخ.

الهوية إذن تتحقق في مجال الاتصال بالآخرين، حتى يصح القول إن هوية الفرد الواحد تتبدل حسب اتصالاته ومواقفه ومواقعه المختلفة، فالهوية معطى من الآخرين وانعكاس ظاهر وكامن لمواقفنا منهم وردود فعلنا عليهم، وهنا نؤكد على القول أن الهوية معطى من الآخرين لا ينفي أساس تشكلها ذاتياً وسيرورة تطورها المرتبطة بتطور الجماعة الإثنو. اجتماعية البنيوي، فهذا التطور هو شرط البناء الذاتي لكل العناصر المكونة للهوية والقابلة لخلق ذات وهويتها في مواجهة الآخرين لذلك الهوية – رغم ثباتها – صيرورة في التاريخ كذلك.


ثانياً: مستويات التعبير عن الهوية

تركز أغلب الدراسات والبحوث التي أطلعنا عليها على البعدين الديني و / أو القومي عند تناولها لمسألة الهوية وأزمتها، وتغفل كلياً عن البحث في إمكان تعريف الهوية استناداً إلى مقومات وطنية أو قطرية، وذلك اعتقاداً منهم أن الإقرار بالخصائص الوطنية للهوية يتعارض أو يتنافى أو يلغي الخصائص الدينية أو القومية أو كلاهما معاً، ولكن ذلك اعتقاد لا يقوم على أسس حقيقية، وإنما هو مستمد من مخاوف من أن تكون الهوية الوطنية بديلاً أبدياً عن الهوية القومية “العربية” أو أن يُقعد ذلك الشعوب العربية عن السعي نحو الوحدة، وتعتقد انه وبعد تجربة طويلة من الهزائم والإخفاقات، صار يمكن القول أن خيار الهوية الوطنية (القطرية) يعبر عن حاجة ملحة، ولا يتعارض بالضرورة مع الخيارات الأخرى، بل يمكن أن يتكامل معها مستقبلاً. ولا شك أن هوية الجماعة التي نتقاسمها تغذي إحساسنا الفردي جزئياً حسب علاقتنا بالآخرين الذين ينتمون إلى هوية المجموعة ذاتها.

تعبر الهوية عن نفسها خلال مستويات ثلاثة: الدولة والأمة والجماعة، أما في واقعنا العربي الخاص فهنالك مستوى رابع وهو القومية لأن الأمة العربية مقسمة إلى دول قطرية.

عن قضية الهوية القطرية تمثل أكثر القضايا حساسية لارتباطها بنشأة المجتمعات واستمرارها، ولعل هذا ما يضع قضية الهوية في عمق كثير من النزاعات المسلحة أو حتى السلمية، وستظل هذه المستويات في تدافع وتزاحم ما لم يتم حسم الولاء الوطني حسماً كاملاً من قبل الدولة أو القوى السياسية الفاعلة في الأقطار العربية، وذلك من خلال جعل الهوية الوطنية الخالصة محل أبحاث متعمقة، ودراسات علمية واسعة تهدف جميعاً لتمهيد كافة السبل لترسيخها بدون انعزالية عن المستوى القومي، وذلك عبر نشر البرامج والاستراتيجيات الوطنية، والممارسة على هدبها حتى تستطيع اللحاق بركب العالم والابتعاد عن أوهام التاريخ وخيالات الأيديولوجيا المتعصبة.

يجب ترسيخ هوية الدولة الوطنية الحديثة ذات الحدود المعروفة والعلم الواحد والمصير الواحد، ثم تحويل الاهتمام من الأمة إلى الشعب، فالأمة سواء كانت عربية (كما يدعو لها القوميون) أم كانت إسلامية (كما تدعو لها جماعات الإسلام السياسي) هويات شديدة العمومية والاتساع، والأكثر أهمية أنها غير ذات أثر مباشر في الواقع ومصالحه ومشكلاته وتعقيداته، ومن هنا فإن التركيز على الهوية الوطنية يمثل المخرج الأكثر عملية ونجاعة في العصر الحديث ولكن دون إهمال الهوية القومية.

يرى البعض أن عدم وجود جنسية أي حالة انعدام الرابطة القانونية والسياسية بين الشخص ودولة ما، يُعد صورة من صور الموت الاجتماعي، كما أن الدولة التي ليس لها تعريف حصري للمواطنة لا يمكن أن تقيم نظاماً ديمقراطياً، ورغم ذلك وربما بسبب ذلك يكون تسهيل أمور المهاجرين المشروط بضرورة أن يكتسب المهاجرون هوية البلد الجديد من قبيل قهر الإنسان واحتقار هويته.

حين تترسخ هوية الدولة الوطنية وتثبت هوية الشعب المنتمي لها، لن يجد صانع القرار مشكلة مع الجماعات السياسية العابرة المحدود، أو تلك المحلية منها كجماعات الإسلام السياسي ونحوها، فهي ستصبح حينذاك كغيرها من التيارات الوطني التي يمكن التحكم بها عبر توجيهها بما يخدم الصالح العام أو الحد من خطرها – إن وجد – تحت مظلة القوانين الواحدة الراعية للحراك العام، وبرى البعض أن الهوية القطرية المرتبطة بمساحة محددة من الأرض هي أدق تعبير عن الهوية حتى لو كانت بدون معنى، تماماً مثل الاسم في الهوية الفردية، إذ يشكل أدق تعبير عن الشخص رغم أنه بلا معنى، فالشخص الذي اسمه “جميل سعيد منتصر” قد يكون قبيحاً وتعيساً ومهزوماً ولكم “جميل سعيد منتصر” هو التعبير الأدق عنه.

لكل إنسان عدد من الهويات ابتداءً باسمه، وانتهاءً بفكره مروراً بمصالحه وأحاسيسه وعلاقاته المتعددة مع الجماعات المختلفة في الجنس أو المهنة أو الجنسية، ولكن هذه الهويات تترتب في أهميتها وبروزها حسب الظروف والتطورات، ولكن أمين معلوف (في كتابه الهوية القاتلة) يخالف ذلك.

فالهوية لا تتجزأ ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ولا تصنف في خانات محددة ومنفصلة عن بعضها البعض، فأنا لا أملك هويات متعددة (رجل، شاب، عربي، لبناني، فرنسي، مسيحي، مثقف) بل هوية واحدة مؤلفة من العناصر وفقاً “لجرعة خاصة لا تتطابق مطلقاً بين شخص وآخر”.

ويرى بعض الباحثين أنه في الحياة الواقعية نجد أشخاصاً حقيقيين في بعض الأحيان ينتحلون هويات زائفة أو تنتحل لهم تلك الهويات من آخرين، فمشكلة سرقة الهويات في تصاعد، والعديد من الأشخاص والجماعات يعيشون بهويات مسروقة، وآخرون يعيشون وقد سرقت منهم هوياتهم، ولذلك فإن الطموح الذي يرمي إلى استرداد الهوية الجماعية والحفاظ عليها يُعد بلا منازع طموحاً مشروعاً يمكن تحقيقه بأساليب مختلفة.

ثالثاً: في مفهوم الهوية الوطنية

يثير التباس مفهوم الهوية الفلسطينية وعدم وضوح حدوده في بقاع كثيرة من بلاد العالم مشاكل عدة، نظراً لكونه من أكثر المفاهيم إثارة للخلاف بين المتحاورين والكتاب والفرقاء السياسيين، ويستعر أوار الخلاف حوله أكثر فأكثر في أزمنة الأزمة التي تضع كثيراً من المسلمات التي سادت لفترة ما موضع الشك، ولعل الحال في فلسطين والأقطار العربية يمثل تجسيداً ملموساً لهذه الحقيقة، فعلى الرغم من الاتفاق على أهميته الجوهرية في إرساء الوحدة الوطنية على أسس راسخة، إلا أننا نادراً ما نلاحظ اتفاق وجود اتفاق حول ماهية هذه الهوية وأبعادها الثقافية والفكرية والسياسية.

ولعل من المناسب بداية أن نقرر مبادئ عامة نحتكم إليها في مسعانا لتحديد مقومات الهوية الوطنية، وهي المبادئ التي يمكن حصرها بالآتي:

  • أن تكون الهوية منسجمة مع معطيات الفكر السياسي والقانوني الحديث الذي يستند إلى قاعدة المواطنة بوصفها معياراً جوهرياً ومبدأ قانونياً تتحدد بموجبه حقوق وواجبات جميع أبناء الشعب أو الأمة ممن يحملون هذه الهوية وماهية علاقتهم بالدولة.
  • أن تكون الهوية معبرة عن الواقع الراهن للشعب أو الأمة، بوصفه / أو بوصفها كلاً غير قابل للتجزئة، بمعنى أن الهوية لن تكون انعكاسا، لتصور فئة ما دون غيرها، وهذا يجعلها هوية وطنية بحق وليست تعبيراً عن موقف سياسي أو ايديولوجي ضيق، وليست تعبيراً عن هوية فرعية، كتلك ذات الأصول الإثنية أو الدينية أو الاجتماعية الفئوية أو غيرها، فالهويات الجزئية في تركيب الشعب الواحد أو الأمة الواحدة قد تنزاع الهوية الوطنية ولكن حتى إن سادت لفترة ما لا ترقى إلى مستوى الهوية الوطنية.
    • أن تكون الهوية عامل توحيد وتقوية وتفعيل للحراك السياسي الاجتماعي والاقتصادي في البلاد على الأسس الواردة في المبدأين أعلاه، وأساساً راسخاً لتعزيز الكيان السياسي الموحد للدولة واستكمال بناء مؤسساتها المعبرة عن وحدتها.

أما إذ أردنا أن نتناول مفهوم الهوية الوطنية في الواقع العربي بشكل خاص فعلينا أن نحدد سماتها الخاصة وهي:-

أ‌- استمرار حالة التنازع مع الآخر ومع الذات: لقد تشكل الواقع العربي وتطور عبر قرون طويلة، فتشلك سمات الفرد العربي وتطوره الثقافي والقيمي، ولأن الهوية كما أشرنا تتشكل من خلال العلاقة بين الذات والآخر خلال تطور طويل، فإن الهوية القومية العربية مرت بعدة مراحل من تطورها وشهدت حالات من المد والجزر وهي مذ أكثر من قرنين تعيش حالة مخاض، فهنالك عوامل تدفع باتجاه طمسها لمصلحة هويات وطنية قطرية، هندس الاستعمار حدودها وشكل دولها ومازالت تؤثر على مستوى التطور فيها مضموناً وشكلاً وهنالك عوامل تحافظ على وجودها وتعزز الحاجة إليها.

ب‌- غلبة البعد القطري على البعد القومي: تشهد الهوية القومية تراجعاً لمصلحة الهويات الوطنية القطرية وهي رغم أفعال وسياسات الأحزاب والحكومات المنادية بالوحدة نظرياً والمسيئة لفكرتها ممارسة، والتي بسببها أصبحت الوحدة بعيدة المنال، مازالت تحافظ على مكانة مهمة في فكر الجماهير العربي، بيد أن الهوية القومية في ظل تشكل الدول القطرية والهويات الوطنية أصبحت طموحاً وهدفاً غير ملموس وصعب المنال وربما مؤجل خاصة في ظل انشغال الجماهير العربية بقضاياها الوطنية الملموسة كغلاء الأسعار والبطالة والرواتب والتخلف والفقر وسوء توزيع الثروة والتبعية والتهميش والتعليم والصحة والفساد وعدم ديمقراطية الحكم وغيرها من القضايا.

ت‌- البعد القومي كامن وليس منعدماً: الهوية الوطنية كما نراها ويراها آخرون ليست في حالة تناقض مع الهوية القومية، وهي كذلك فقط إذا كانت تسعى إلى انكفاء الدولة القطرية على ذاتها لتخليد التجزئة أو بسبب السعي نحو بقاء تبعية البنية الاقتصادية والثقافية والفكرية فيها للمركز الإمبريالي العالمي، أو بسبب تصالحها مع أحد أهم أعداء الأمة العربية مجتمعة أو أقطارا منفصلة هي دولة إسرائيل الاستيطانية التوسعية التي أقيمت على الأرض الفلسطينية بعد تدمير قراها ومدنها وتهجير وتشتيت سكانها.

ث‌- تأكيد الهوية الوطنية الفلسطينية ضرورة نضالية وليست طبيعة انعزالية: الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون للحفاظ على هويته لأنها مستهدفة من عدو استيطاني احتلالي بنى وجوده على مرتكزات أساسية أهمها: أن “فلسطين وطن بلا شعب لشعب بلا وطن” ، “الشعب الفلسطيني وطنه الأردن وبالتالي هويته أردنية”, “الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية وليه عشرون دولة ليقيم فيها” وغيرها من الإدعاءات التي ليس آخرها “هوية الشعب الفلسطيني مزيفة”. لذلك يصح القول أنه في السياق الفلسطيني يصبح التأكيد على الهوية الوطنية ضرورة نضالية لتأكيد الوجود وبالتالي الحقوق، أي بما يتجاوز ضرورات تمييز الذات عن الآخر كما هو الحال لدى الشعوب الأخرى، فالهوية الوطنية الفلسطينية “تتميز لكونها تستند إلى وجود تاريخ من الصمود والنضال الفلسطيني مضمخ لدم الشهداء وعرق المناضلين في مواجهة عدو استيطاني فاشي إحلالي بدعم من كل دول العالم الاستعماري.

بالمقابل، الشعب الفلسطيني أحوج الشعوب العربية إلى هويته لأنه عجز وسيظل عاجز بإمكانياته الذاتية، عن تحقيق أهدافه في التحرر والعودة وبناء دولته الديمقراطية فوق أرضه، فإسرائيل التي تحتل الأرض الفلسطينية وأراض عربية ، قوية بما تحقق لها من دعم دولي مستمر مادياً ومالياً ومعنوياً، ولكن هزيمتها ممكنة بقدرة عربية أساسها الانتماء القومي العربي الذي يوحد أهداف كل الشعوب العربية.

ج‌- الربط الخلاق بين الهوية الوطنية لكل قطر عربي والهوية القومية: هذا الربط ممكن وملح وضروري في مسيرة التحرر والتقدم العربية ويقرب من الوحدة العربية ويساهم في نفي العوائق القطرية أمام الوحدة والتقدم العربيين، فالهوية القطرية التي تناضل ضد التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية الخارجية وتسعى إلى تحقيق تنمية مستقلة مستدامة، وتحارب التخلف والجهل والأمراض والبطالة، وتسعى إلى إقامة دولة ديمقراطية خالية من الفساد،هي هوية قومية حتى لو لم ترفع شعارات قومية، فهي تقرب بين الشعوب العربية حتى لو لم تعلن أن الوحدة ضمن أهدافها لأن العوائق أمام الوحدة وبناء الهوية القومية هي التبعية القطرية وإفرازاتها المختلفة من جهل وأمية وفساد وتخلف واستبداد.

ح‌- الهويات القطرية الانعزالية / الانفصالية خطر على الهوية القومية: الهويات الوطنية القطرية التابعة والمشوهة هي التي تحاول تخليد القطرية لأنها لمصلحة الاستعمار الذي أسسها، ولمصلحة الرأسمالية التابعة التي خلقها الاستعمار وساهم في بلورتها وتكورها ودعم سيطرتها على السلطة في الأقطار العربية ليتمكن من إبقاء هيمنته بعد سيطرته على هذه الأقطار، لذلك نجد هذه الهويات تبحث عن سند تاريخي لها بفصلها عن الأقطار العربية الأخرى من خلال فواصل تاريخية، فالفرعونبة والفينيقية والكنعانية والبابلية وغيرها جذور لها وجود في تاريخ الأقطار العربية لكن الثابت أنه حدث قطع بنيوي كامل بين هذا التاريخ والتطور العربي منذ قيام الدولة العربية الإسلامية، فلا لغة هذا السند التاريخي ولا ثقافته ولا قيمة لها علاقة بجماهير هذه الأقطار ويكاد يكون تأثيرها منحصراً في وجود آثار معمارية قديمة.

خ‌- الهويات ما دون الوطنية (الجزئية) خطر على الهوية الوطنية: يحد من دور تأثيرها الهويات الوطنية والقومية ويضعفها هويات ذات بعد جزئي كالاثنية والطائفية والقبلية، فهي تعيق وحدة الأمة أو الشعب وتخلق في الغالب حالات من الانقسام تؤثر على القدرة الكلية للأمم والشعوب، وقد تسبب هزيمتها وتدعم تخلفها وعجزها، فالانتماء القبلي وكل أشكال الهويات “قبل الوطنية” تضعف الهوية الوطنية، وتضعف شعور الأفراد وشعور الجماعات بالمصلحة العامة، وتقوي الشعور بالمصالح الفردية وتكبح التغيير الاجتماعي والعمل على إصلاح اجتماعي وسياسي شاملين، وخير مثال على ذلك ما حدث ويحدث في السودان مؤخراً وأفريقيا عموماً، أما الهويات الطائفية فتأثيرها بنفس الاتجاه وربما أعمق، لأن الطوائف مرتبطة في العادة بوشاج ايديولوجي، كسرة والتغلب على آثاره الانقسامية في الواقع الوطني والقومي أصعب من تأثير القلية الناجم عن التخلف الاجتماعي الاقتصادي، فالانقسام الطائفي في لبنان ولاحقاً في العراق خير مثال على الآثار السلبية التي يتركها التأثير الطائفي على الهويات الوطنية، كما أن الهويات الاثنية إذا أسيء استعمالها يمكن أن تخلق شرخاً في هويات العديد من الأقطار، ففي الوطن العربي أقليات بمكن بل يتوجب استيعابها على أساس حقوقها المعترف بها دولياً مثل الأقليات الكردية في سوريا والعراق والأقليات الأمازيغية في دول المغرب العربي.

د‌- فشل الهويات المتجاوزة للوطنية: هنالك أيضاً هويات ذات بعد عالمي أو عولمي وهي تتجاوز عادة الخصائص الوطنية والقومية المشكلة لهوية ما وتركز على علاقة “ما بعد الوطنية” وهي لا تأخذ عادة بعين الاعتبار الواقع المحلي ولا التفاوت في التطور بين القوميات المختلفة، هذه التوجهات بغض النظر عن أيديولوجيتها لا تأخذ في العادة بعين الاعتبار خصائص الواقع الخاص ومتطلبات النضال أو التغيير فيه ولا تركز على الخاصية البرنامجية للواقع الخاص الملموس، ومن أبرز التوجهات: الإسلامية التي تؤمن بالأمة الإسلامية وتتخطى نزعة التطور إلى أمم وهي نزعة سائدة في العصر الحديث، والأممية الشيوعية التي فشلت في الكثير من دول العالم الثالث لأنها لم تتبن الرؤية ولا البرامج ذات البعد الوطني والقومي، حيث وحدة الشعب وقوى الأمة الوطنية أساسية لمواجهة خطر خارجي، لذلك فشلت في عدة تجارب عالمية مختلفة وهنا قد يبدو ضرورياً أن نشير إلى أن بعض التوجهات الإسلامية والشيوعية أخذت بعين الاعتبار في فكرها السياسي وبرامجها مسألة الهوية الوطنية والقومية ولم تعد تشكل ممارساتها خللاً في النضال الوطني والقومي.

ذ‌- نزع وطنية الهوية بالتغريب / الإغتراب: “العولمة وهي غير العالمية أي الانفتاح على الثقافات الأخرى مع الاحتفاظ بالاختلاف الثقافي والخلاف الأيديولوجي، نفي الآخر، وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي فهي إرادة للهيمنة وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصي لاحترام العالم”ز

فالعولمة بشكل عام تسعى إلى تمييع الهوية الوطنية وتسرطن الوعي الثقافي للأمم والشعوب من أجل شقها وتسهيل الهيمنة عليها، والأهم أن ثقافة العولمة هي ثقافة دول المركز الاستعمارية التي تؤكد أنها المالكة الوحيدة للثقافة الديمقراطية، وتسعى إلى فرض هيمنتها بعد سيطرتها من خلال نشر ثقافتها وقيمها بين شرائح مثقفة ومتعلمة من دول العالم المتخلف لتضمن ولاء هؤلاء وبقاء هيمنتها على دولهم وهذا يؤدي إلى تشويه وإضعاف الهويات الوطنية لأنه يمس أهم مكون من مكوناتها وهو المكون الثقافي القيمي الوطني، وهنا يجدر الذكر أن أي مجتمع وأي شعب يمكن أن يكون ديمقراطياً بدون أي يكون غربي الولاء، وبدون التضحية باللون الوطني لثقافته.

ومن جهة أخرى تلعب العولمة دوراًُ سلبياً خطيراً من خلال تأثيرها المباشر وغير المباشر في التشكيل البنيوي الاجتماعي الاقتصادي في دول العالم المتخلف، فهي من خلال سيطرتها الاقتصادية ثم هيمنتها تلعب دوراً مهماً في تشكيل البنى الاقتصادية الطبقية في المجتمعات، فمن أهم نتائج نشاطها المهيمن المساهمة في خلق رأسماليات تابعة اقتصادياً، تختلف في جوهر تشكيلها وفكرها وقيمها ورؤيتها السياسية عن الرأسماليات الوطنية، فهي رأسمالية وجدت ونمت على أرضية العلاقات الاقتصادية مع دول المركز ومصالحها مرتبطة بها، وتحاول التماثل معها، وتتبنى برامج سياسية تمليها عليها في الغالب دول المركز الإمبريالي، فهي لا تسعى بسبب خصوصية تكوينها إلى بناء وتطوير القطاعات الإنتاجية الوطنية بل هي على الأغلب وكيلة لشركات صناعية وتجارية وخدمية غربية، ونطاق نشاطها وطموحها محصور باتفاقات تجعل من نشاطها متآلفاً ومنسجماً مع التوجهات التنموية والسياسية لدول المركز الإمبريالية، ولا تستطيع الدخول في تنافس معها أو مواجهتها.

المرجع مقال بعنوان مفهوم الهوية الوطنية: محاولة في التعريف الوظيفي باقر جاسم محمد ،الحوار المتمدن-العدد: 1544 – 2006 / 5 / 8 – 11:59

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى