نظرية العلاقات الدولية

ملامح تشكُّل النظام العالمي في ظل الصعود الصيني

عرض: آية بدر – باحثة في العلوم السياسية

ثمَّة إرهاصات تاريخية لنشأة النظام العالمي الليبرالي، الذي تبلورت أسسه واستقرَّت قواعده فيما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا النظام قد تعرض للعديد من الديناميكيات والاضطرابات والمتغيرات؛ ما انعكس على حالة النظام العالمي الليبرالي المتراوحة بين الازدهار والانتكاس.

وتطرأ على الساحة العالمية عددٌ من التغيرات مؤخرًا، أثرت سلبًا على بنية وقواعد النظام العالمي الليبرالي القائم على سيادة القيم وقواعد القانون الدولي، وتعزيز التحالفات والمؤسسات الدولية، فتتهدد تلك الأسس وتتقوض في ظل توغل المد الشعبوي، وصعود التيارات القومية المناهضة للتكامل الإقليمي.

ومن ثم، يقف النظام العالمي الليبرالي في مفترق طرق، وتُثار التساؤلات حول مستقبل هذا النظام في ظل تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة، وصعود القوى الدولية الأخرى، خاصةً الصين. وفي هذا الصدد، نشرت دورية “سرفيفال”، دراسة تتناول مستقبل النظام العالمي الليبرالي، عبر تحليل نشأته وأسسه، وما يواجهه من متغيرات وتحولات وتحديات، خاصةً في ظل الصعود الصيني.

تحفيز التهديدات

بالنظر إلى نشأة وتطور النظام العالمي، ومن خلال ملاحظة دورات صعود وتراجع النظام الليبرالي، يمكن استخلاص التناقض المتعلق بالتهديدات والمخاطر؛ فهي بمنزلة روح ذلك النظام والدافع الرئيس لاستمراريته وقوته، وبغيابها وفي ظل الهدوء النسبي والاستقرار، تتراجع قوة النظام وتماسكه، ويصبح أكثر قابليةً للانهيار.

فالتهديدات والمخاطر هي ما تدفع القوى الدولية نحو تعزيز قوة التحالفات والمؤسسات الدولية، وتخصيص الموارد لهذا الغرض، وحشد التأييد الشعبي الداخلي، وبغيابها تتراجع أولوية الاهتمام بالنظام العالمي، وتحمُّل تكلفة تعزيز التحالفات والمؤسسات، ويتزايد الاهتمام بأولويات الشأن الداخلي. ومن ثم يصبح النظام الليبرالي ضحية لنجاحه في ذروة نجاحه واستقراره.

لكن الإشكالية تكمن فيما إذا كان ما يقدمه النظام العالمي الليبرالي كافيًا للدول كي تتحمل تكلفة حمايته وإيلائه الأولوية على حساب الاحتياجات الداخلية.

وبرغم التناقضات والممارسات غير الليبرالية التي انتهجتها الولايات المتحدة، التي تمثل خروجًا عن القيم الديمقراطية وقواعد القانون الدولي – مثل دسائس تغيير النظم، والتدخلات الانتخابية، والاغتيالات، وشن الحروب الأحادية الطرف، وتعزيز الصلات بالنظم السلطوية – فإنه وبوجه عام، يمكن وصف النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بأنه ليبرالي مقارنة بالعهود السابقة؛ فقد شهدت تلك الحقبة تعزيز الديمقراطية، وتأسيس المؤسسات الدولية، وتقليل الحواجز التجارية، وهو ما يتسق مع رؤية مناصري النظام الليبرالي المؤمنين بمقاربات السلام الديمقراطي، وإمكانية إرساء السلام والاستقرار بسيادة الديمقراطية وحرية التجارة وتعزيز دور المؤسسات الدولية.

الدور الأمريكي

الدافع الرئيسي للتحرك الأمريكي إزاء تعزيز النظام الليبرالي، هو بروز منافس أو تهديد جسيم لهيمنتها، وليس مجرد وجود التهديدات في المطلق، حينها تتحرك الولايات المتحدة من أجل حشد التأييد الداخلي، وكذلك التأييد الخارجي من قبل حلفائها، عبر الترويج للمخاطر المشتركة، وهو ما يتيح لها تحقيق بعض المكاسب، بل قد يعزز هيمنتها على الدول الأضعف تحت ذريعة الحماية من التهديدات، وتتسق تلك الدوافع مع السردية الأمريكية للسياسة الخارجية القائمة على وجود صراع بين الخير المتمثل في الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين، والشر المتمثل في القوى المعادية.

وفي مثل هذا السياق المحاط بالمخاطر المهددة للولايات المتحدة ومكانتها الدولية؛ تصبح الأولوية للسياسة الخارجية على حساب القضايا الداخلية، ويتراجع التحزب، ويتحد الصف الداخلي، وتتعزز شرعية السلطة الحاكمة، وتتزايد الثقة بالنخب والمؤسسات الوطنية، وتتزايد سلطة الحكومة الفيدرالية وتصرُّفها بالموارد. وتجدر الإشارة إلى أن التيار المحافظ هو الأكثر حساسيةً للتهديدات الخارجية عن نظرائهم الليبراليين.

وتتسق حدة الدور الأمريكي القيادي مع درجة المخاطر التي يواجهها النظام الدولي؛ فيزدهر النظام العالمي في حالة مواجهة عدو يمثل تهديدًا جسيمًا لكنه لا يفوق قوة الولايات المتحدة؛ حيث يمكن حينها للولايات المتحدة أن تعزز النظام العالمي، وتتخذ التدابير اللازمة لمواجهته. أما لو كانت المخاطر ضئيلة فلن تبالي الولايات المتحدة بها، ولن تعطي الأولوية للتصدي له، وهو ما قد ينطوي على خطر دفين عبر تلك التهديدات الضئيلة التي قد تعمل حثيثًا على تقويض أركان النظام العالمي تدريجيًّا بمعدل لا تدركه الولايات المتحدة إلا متأخرًا. أما إذا كانت التهديدات الجسيمة تفوق قدرات الولايات المتحدة، فإن النظام الدولي يتهدد ويكون أكثر عرضةً للانهيار والتغيير.

النظام الليبرالي العالمي  

لم تكن الولايات المتحدة تستشعر الخطر اللازم لدفعها إلى الانخراط في النظام العالمي قبل الحرب العالمية الأولى؛ فقد أمَّنت نفوذها الإقليمي عبر مبدأ مونرو. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى وتصاعد الخطر البلشفي والمد القومي في أوروبا، بدأت الولايات المتحدة تضع بعض الأسس الليبرالية لضبط المشهد العالمي وتحديد الدور الأمريكي استنادًا إلى المبادئ الأربعة عشر الشهيرة للرئيس وودرو ويلسون، الرامية إلى إقرار حق تقرير المصير ونزع التسلح وتحقيق الأمن الجماعي من خلال عصبة الأمم. وقد لاقت تلك الأفكار تأييدًا داخليًّا بسبب استشعار التهديدات. ولكن بنهاية الحرب وزوال التهديدات، انتكس النظام العالمي الليبرالي، وتراجع التأييد الداخلي للانخراط الخارجي من جديد، وزادت توجهات الانعزال، ورفض مجلس الشيوخ الانضمام إلى عصبة الأمم.

واستعاد النظام الدولي رونقه خلال الحرب العالمية الثانية من جديد بفعل التهديدات المصاحبة للصعود السوفييتي والشيوعي والقومي الفاشي والنازي. وبنهاية الحرب، عززت الولايات المتحدة دورها القيادي، ولم تنسحب بسبب استمرار الخطر السوفييتي بعد الحرب، وأسهمت في تأسيس قواعد لعبةِ ما بعد الحرب، وأطلقت نظام بريتون ووذز، وأسست العديد من المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، وحلف الناتو، وغيرها. وعملت الولايات المتحدة على احتواء أعدائها السابقين بتأسيس نظام عالمي يحول دون اندلاع حرب عالمية جديدة، ويعالج الأسباب الجذرية للحرب، مثل القومية المفرطة، والحمائية الاقتصادية، فضلًا عن احتواء الخطر السوفييتي عبر تعزيز التحالفات وعبر خطة مارشال.

سقوط الشيوعية  

كان الخطر الشيوعي هو الأبرز من وجهة نظر الولايات المتحدة، وبنهاية الحرب الباردة وانتصار الديمقراطية، بدأ النظام الليبرالي يتآكل، وتقوَّضت أسسه، وانقضى العداء بين معسكَري الخير والشر، ولم تستشعر الولايات المتحدة وجود مخاطر كافية تدفعها نحو دعم المؤسسات والقواعد الليبرالية. وتنامت التوجهات القومية الرافضة لخضوع الجيش الأمريكي للأمم المتحدة وغيرها من الأحلاف الدولية، بل بدأت الولايات المتحدة ترفض الانضمام إلى العديد من المعاهدات الدولية، مثل اتفاقية قانون البحار وغيرها، وهو النهج الذي استمرَّ حتى عهد أوباما وصولًا إلى عهد ترامب.

وانقضت المحركات والدوافع الأمنية التي يقوم عليها النظام الليبرالي، وترتَّب على ذلك تنامي الانقسامات داخل المعسكر الغربي حول المكاسب وتكلفة الانخراط في النظام العالمي، وعمل حلف الناتو على استيعاب خصومه السابقين.

كما أصبح الجمهور الأمريكي أكثر حساسيةً تجاه الانخراط في النظام العالمي، وزاد اهتمامهم بالأولويات الداخلية عن السياسة الخارجية، وزادت حدة الانقسامات والتحزب داخليًّا، وتقلَّصت الثقة بالمؤسسات الوطنية وبالحكومة والنخب، وجاء رؤساء أقل خبرةً فيما يتعلق بأمور السياسة الخارجية وآخرهم ترامب.

وبرغم المحاولات الروسية لاستعادة النفوذ الإقليمي، فإن الولايات المتحدة لا تبالغ في تقدير الصعود الروسي، ولا تراه مهددًا لهيمنتها الدولية على غرار عهد الحرب الباردة؛ فهي –من وجهة النظر الأمريكية– تقتصر على المناوشات الإقليمية، ومحاولات للتأثير الإعلامي، وشن هجمات سيبرانية، خاصةً في ظل محدودية الموارد والمُقدَّرات الروسية، إلا أن سوء التقدير الأمريكي للخطر الروسي، قد يؤدي تدريجيًّا إلى تقويض النفوذ الأمريكي؛ بسبب عدم اتخاذ رد الفعل المناسِب لتلك التهديدات الحثيثة.

النهج الأحادي

بالمخالفة للنظريات والخبرة التاريخية بشأن أهمية التهديدات لتعزيز النظام الليبرالي، فقد أدَّت هجمات 11 سبتمبر إلى نتيجة مغايرة، وعزَّزت التحركات الأمريكية الأحادية بدلًا من تعزيز دور المؤسسات والتحالفات الدولية، وتجلَّى ذلك في التحرك الأمريكي المنفرد لغزو العراق في 2003.

ويُعزى ذلك إلى محدودية الخطر الإرهابي من وجهة نظر القيادة الأمريكية، الذي لم يكن يستدعي تكوين حلف عسكري لشن الحرب على الجماعات الإرهابية التي لا تمثل خطرًا مناظرًا للخطر الشيوعي أو النازي إبَّان الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال.

تنامت في صفوف التيار المحافظ، التوجهات الترامبية المناهضة للعولمة وحرية التجارة؛ فقد كان معروفًا بأنه “رجل التعريفة الجمركية”، وكان انتخابه بمنزلة الطامَّة الكبرى للنظام العالمي الليبرالي، وكافة القيم والأسس التي يستند إليها، بتأييده النظم السلطوية، ومعارضته المؤسسات والتحالفات واتفاقات حرية التجارة وغيرها من الاتفاقات الدولية. وقد تجلى ذلك في سياسة “أمريكا أولًا”، وإيلاء الأولوية للمصالح القومية الأمريكية، التي دفعت الناخبين الجمهوريين إلى الانقسام بشأن مغادرة حلف الناتو على سبيل المثال.

الصعود الصيني

يتوقَّف مستقبل النظام الليبرالي على آلية التعامل مع الصعود الصيني، ومدى إمكانية استيعابها في النظام الليبرالي، ومدى إمكانية التزام الصين بالقواعد الرئيسية، سواء فيما يتعلق بالديمقراطية أو ما يتعلق بقواعد السوق والمنافسة وحرية التجارة.

فإذا تعاملت الولايات المتحدة مع التهديد الصيني باعتباره ضئيلًا، فقد يؤدي ذلك إلى التآكل الحثيث والتدريجي للنظام الليبرالي العالمي؛ بفعل عدم اتخاذ الولايات المتحدة ردَّ فعلِ قويًّا لحمايته وتعزيزه. وبالتبعية، يمكن للصين التعويل على ذلك من أجل تحقيق مآربها، من خلال الالتزام بضبط النفس، واستهداف تقويض النفوذ الأمريكي تدريجيًّا دون اللجوء إلى تكتيكات كبرى تثير حفيظة الطرف الأمريكي وحلفائه، وتدفعهم إلى اتخاذ رد فعل قوي لردع الصين، مع استهداف تغذية الانقسامات الأمريكية الداخلية.

أما لو زادت حدة التهديدات الصينية، فقد يؤدي ذلك إما إلى تعزيز النظام الليبرالي؛ بسبب استشعار الولايات المتحدة الخطر الصيني فتعمل على حشد الداخل الأمريكي ووحدة الصف ضد الخطر الصيني، فضلًا عن تعزيز المؤسسات الدولية وحشد الحلفاء الغربيين، بالتعويل على المخاطر الصينية ضد القيم الديمقراطية –شأن الانتهاكات في هونج كونج والإيجور– وكذلك التهديدات لحرية التجارة، أو قد يؤدي إلى تقويض النظام العالمي بأكمله في لحظةٍ ما إذا تمادى صعود النفوذ الصيني.

وختاماً، فإن الصعود الصيني يمثل فرصة وتحديًا للولايات المتحدة لاستعادة قوتها ودورها القيادي العالمي، واستعادة رونق المؤسسات الدولية والقيم الليبرالية، ولكنَّ ذلك يتوقف على نتاج المواجهة الصينية الأمريكية، وما إن كانت ستتطور إلى حرب باردة أو مواجهة، أم سيتم احتواؤها.

المصدر:

Dominic Tierney, Why Global Order Needs Disorder, Survival, Volume 63, Issue 2, pp.115-138

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى