الثقافة بصفة عامة ظاهرة ملازمة لعالم الاجتماع، تعمل كمتغير مستقل وتابع في نفس الوقت، من حيث أن الإنسان يصنعها وتؤثر في إدراكاته وسلوكياته بشكل متزامن؛ على افتراض أن البشر في كل الوضعيات يفكرون ويتصرفون ككائنات ثقافية. وطالما أنهم كذلك، فإنه لا يمكن فهم طريقة البشر في التفكير، مضمون الإدراكات التي يحملونها إزاء أنفسهم والآخرين، وتوقع الخيارات السلوكية التي سوف يتبنونها إزاء البيئة المحيطة بهم؛ إلا عن طريق فهم الثقافة التي يحملونها عبر عمليات التنشئة الاجتماعية، الاتصال، التعليم والمحاكات السلوكية. إن الثقافة في النهاية المطاف هي طريقة سلوكية وأسلوب حياة تعطي معنى للوجود الإنساني، وتوفر مرجعية لتوجيه وتقييم السلوك، وحتى تأكيد الذات الاجتماعية للفرد والمجتمع على حد سواء؛ بحيث أنها تمثل مصدر إشباع لحاجات لا نستطيع تحديدها بدقة لكننا نشعر بها ونسعى وراءها، وفي أحيان أخرى نضحي بالكثير من الأشياء المادية من أجلها.
اتّخذت المعاني الثقافية السابقة كأرضية نظرية لبلورة مفهوم جديد في حقل علم الإستراتيجية، من قبل جاك سنايدر أطلق عليه اسم “الثقافة الإستراتيجية”، لتفسير الجوانب المهملة من قبل النظرية التقليدية في تفسير السلوك الإستراتيجي للدول خلال الحرب الباردة، واتخذ من الاتحاد السوفياتي كحالة للتحليل. يقضي الافتراض العام الذي بني عليه هذا الاتجاه الجديد في التحليل الإستراتيجي بأن الثقافة الإستراتيجية للدولة هي المتحكمة في توجيه سلوكياتها وطريقة ترتيب أولوياتها في عملية صناعة القرار، وتوفر البنية المعيارية في تصنيف الفواعل الأخرى وتشخيص مصالحها الإستراتيجية.
وإذا كان لسنايدر فضل يجب أن يذكر، فإنه وضع الأساس الأول لانطلاق اتجاه جديد في التفكير الإستراتيجي، يركز على العلاقة المحتملة بين العناصر الثقافية (الأفكار، الاتجاهات، والاعتقادات..) والشؤون الإستراتيجية؛ خاصة في ما يتعلق بدوافع شن الحرب، طريقة استخدام الأسلحة، وبناء السلم في العلاقات الدولية. اتخذ أنصار النظرية التكوينية من هذه الأرضية قاعدة لبيان الدور الكبير للثقافة في تحليل وفهم الشؤون الأمنية المركبة، من خلال افتراض أن التحليل المتكامل للشؤون الإستراتيجية والأمنية لا يستوفي شروطه ما لم يأخذ في الحسبان العناصر الثقافية إلى جانب العناصر المادية في تفسير سلوك الجماعات والدول إزاء القضايا الدولية.
بناءً على الأهمية التي تتمتع بها الثقافة الإستراتيجية في فهم وتفسير الشؤون الأمنية والإستراتيجية في العالم المعاصر، قمنا بتقسيم هذا الكتاب إلى ستة فصول، تضمّن الفصل الأول الجانب المفاهيمي الخاص بالثقافة الإستراتيجية والمصطلحات ذات العلاقة التحليلية بها؛ تناول الفصل الثاني تطور الفكر في الثقافة الإستراتيجية عبر الأجيال الثلاثة والحوارات الإستراتيجية بينها؛ عالج الفصل الثالث الجوانب النظرية في تحليل الثقافة الإستراتيجية؛ في حين تناول الفصل الرابع المسائل المنهجية في تحليل موضوعات الثقافة الإستراتيجية؛ تم تخصيص الفصل الخامس لتفسير طريقة القتال كأحد الموضوعات الرئيسية في تحليل الثقافة الإستراتيجية للدول؛ وأخيرا عالج الفصل السادس بعض حالات الثقافة الإستراتيجية عبر العالم، لتقديم نماذج توضيحية حول أهمية الثقافة الإستراتيجية كأحد مجالات البحث في علم الإستراتيجية المساهمة في تطور هذا الحقل.
تعريف الثقافة الإستراتيجية
عند استقراء تراث الثقافة الإستراتيجية، نجد أن هناك آراء كثيرة حول تحديد مضمون هذا المصطلح، البعض منها متقارب والآخر متباين بشكل شديد، إلى درجة أن المنظّر الواحد اقترح أكثر من تعريف؛ لكن في كل الأحوال الغاية النهائية من كل التعاريف مفيدة من الناحية النظرية والمنهجية، لأنها ساهمت في إبراز أهمية موضوع الثقافة الإستراتيجية كأحد أجندة البحوث الأكاديمية والدراسات الإستراتيجية الحديثة، ولهذا السبب سوف نعرض الكثير من هذه التعاريف المقترحة. في هذا الصدد، عرّف روبرت باثيرستRobert Bathurst الثقافة الإستراتيجية بأنها: “تلك الأنماط البارزة للسلوك الإستراتيجي الذي يؤشر على الطرق الاجتماعية في رؤية والاستجابة للواقع”. ويرى دنيس كافنافDennis Kavanagh أن الثقافة الإستراتيجية هي: “ثقافة سياسية في الأصل كتعبير مختصر في إعطاء البيئة العاطفية والاتجاهية ضمن النظام السياسي لجماعة الدفاع [معنى ذي قيمة إستراتيجية]”.
وهناك من يرى أن الثقافة الإستراتيجية تتضمن: “الاعتقادات، القرارات، المعايير، وقيم صناع القرار الرئيسيين وقادة الدول .. تؤثر الثقافة على الأفراد، والقادة فرادى الذين يصنعون السياسة”؛ أو هي: “الاعتقادات الفلسفية، الافتراضات والبديهيات التي تصنع من قبل فاعل ينظر إلى عالم السياسة والنزاعات السياسية”.
تعرّف وكالة خفض التهديد الأمريكية الثقافة الإستراتيجية بأنها: “مجموعة من الاعتقادات، الافتراضات، ونماذج السلوك المشتركة، المشتقة من التجارب المشتركة والتراث المقبول (الشفهي والمكتوب)، التي تشكل الهوية الجماعية والعلاقة بالجماعات الأخرى، والتي تحدد الأهداف المناسبة والأدوات من أجل إنجاز الأهداف الأمنية”.
اتجاهات التفكير في تحليل الثقافة الإستراتيجية
بدأت البحوث في تحليل الثقافة الإستراتيجية من خلال طرح التساؤلات حول العلاقة بين الثقافة والسلوك الإستراتيجي للدول في التعامل مع بعضها البعض على المستوى الدولي، أو في التعاطي مع التحديات الأمنية الداخلية والمقاربات المناسبة لتثبيت الاستقرار الأمني والمحافظة على تماسك المجتمع؛ وذلك بناءً على افتراض عام أن كل سلوك إستراتيجي له امتداداته الغائرة في التاريخ الإستراتيجي، وبالتالي تظهر حاجة الباحثين في الشؤون الإستراتيجية والعسكرية بحاجة لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا من أجل تطوير إطار نظري حول الخلفية التاريخية للسلوك الإستراتيجي. لا يتناول البحث في الثقافة الإستراتيجية فقط الجذور التاريخية للسلوك، وإنما أيضا تحليل الثقافة كسياق لتطور الأفكار الإستراتيجية، وفي نفس الوقت كبعد لرسم وتنفيذ وتقييم الإستراتيجية.
وإذا أردنا تصنيف مجالات البحث في الثقافة الإستراتيجية، فإنه يمكن تقسيمها إلى مجموعة من الاتجاهات الرئيسية: 1)الاتجاه الأنثربولوجي وعلم الاجتماع الثقافي، الذي يبحث في تطور الثقافة عبر الزمن من الحضارات القديمة إلى الدول الحديثة؛ ورصد حالات الاستمرارية والقطيعة، وتحديد جسور الترابط الثقافي وتأثيرها على السلوك الإستراتيجي الحالي. تندرج في هذا الصدد دراسة ابن خلدون الذي حلل خلالها ثقافات الأمم الغابرة قبل الميلاد مثل عاد وثمود والحضارة الفرعونية وعلاقتها بالسلوك القتالي في الأمم الحاضرة (تحليل العلاقة بين الرياسة والعصبية وديناميكية قيام الملك[1])، والدراسات الثقافية لعلماء الأنثروبولوجية وعلم الاجتماع التي تضمنت تحليل الأنماط الثقافية وتأثيرها على السلوك عبر الزمن[2].
2) تحليل الثقافة كسياق لتطور الأفكار الإستراتيجية، المذاهب، فن العمليات والتكتيكات القتالية؛ وهي المحاولات التنظيرية التي وردت في أعمال كولن جراي ضمن ما أسماه بالإطار النظري “للنزعة السياقيةContextualization ” في التحليل الإستراتيجي.
3)تحليل الثقافة كأحد أبعاد الإستراتيجية، وهي الأفكار التي ظهرت جزئيا في عمل مايكل هاورد Michael Haward عام 1979، وقام كولن جراي بإثرائها لاحقا في عمله المشهور “الإستراتيجية الحديثة Modern Strategy”.[3] 4)الاتجاه التكويني الذي ظهر حديثا في الدراسات الأمنية الدولية من قبل ألكسندر واندت Alexander Wendt[4] ومايكل وليامز Michael C. Williams، اللذان ركزا اهتمامهما على تحليل العلاقة بين الأفكار والهوية والسلوك الإستراتيجي والأمني. الحقيقة أن هذا الاتجاه نال اهتماما واسعا في الدراسات الإستراتيجية خلال فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة، بسبب انتشار الحروب الأهلية والصراعات الإثنية وعمليات التطهير العرقي والطائفي وحتى الديني في عدد من الدول عبر العالم، والتي كانت محرّكة بواسطة الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية والأزمات الاقتصادية والأمنية داخل المجتمع الواحد، في مقابل ضعف ملحوظ في قوة الدولة.
5) الاتجاه الخامس الذي ساهم في تطوير دراسات الثقافة الإستراتيجية هو الذي ركز اهتمامه على تحليل العلاقة بين الإدراك الإستراتيجي والسلوك الفعلي لصناع القرار في الحكومة، وأحد المساهمين في تطوير هذا الاتجاه ستيفن كوفينجتن Stephen R. Covington. لكن من ناحية الامتداد المعرفي، يرجع الفضل في طرح مقاربة الإدراك في فهم وتفسير العلاقات الدولية إلى روبرت جيرفيز Robert Jervis، الذي حاول تفسير تأثير الإدراك وسوء الإدراك لصناع القرار على توجهات السياسة الخارجية للدولة، ونقل مجال الاهتمام والتحليل إلى البنية المعرفية/الإدراكية لصناع القرار؛ بناءً على افتراض عام أن الحرب أو السلم يصنعان في عقول صناع القرار قبل أن يتجسدا على البيئة الفيزيقية للعلاقات الدولية.
6)يتمثل الاتجاه السادس الذي ساهم في إثراء وتطور الدراسات في موضوعات الثقافة الإستراتيجية -ولو بطريقة غير مباشرة- في تلك الأعمال الأكاديمية التي بحثت موضوع الثقافة السياسية وتأثيرها على سلوك الأفراد، الجماعات، والدول؛ سواء على المستوى الوطني أو الدولي. يقضي الافتراض العام الذي يقوم عليه تقدير أهمية الثقافة السياسية في توجيه السلوك بأنها تتضمن: “التعهد بقيم [معينة] مثل المبادئ الديمقراطية والمؤسسات، الأفكار حول الأخلاق واستخدام القوة، حقوق الأفراد أو الجماعات، والميول نحو دور الدولة في السياسة العالمية”. هناك الكثير من المنظّرين والباحثين الذين ركزوا اهتمامهم على بحث الثقافة السياسية من أجل فهم وتفسير سلوك الدولة في البيئة الداخلية والخارجية، يقودهم علماء الاجتماع من أمثال ماكس فيبرMax Weber ، تالكون بارسونز Talcott Parsons وآن سويلدرAnn Swidler ، قدّم هذا الأخير “نموذجا أكثر تعقيدا للترابطات بين الثقافة وسلوك الدولة، تتوسطها الإستراتيجيات الثقافية للفعل”.
الجيل الأول: التأثير الثابت
كل الاتجاهات المشار إليها آنفا في تحليل الثقافة الإستراتيجية قامت على الأرضية الأولى التي طرحت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين (الجيل الأول في تحليل الثقافة الإستراتيجية) في تحليل تأثير الثقافة على السلوك المجتمعي بصفة عامة، المصنفة تحت عنوان عام “دراسات الخاصية الوطنيةNational Character Studies “، التي عملت على تحليل وفهم العلاقة بين الثقافة وسلوك الدولة في النظام الإستراتيجي الدولي، أو بمعنى آخر تأثير الثقافة في رسم التوجهات العامة للسياسة الخارجية الأمنية والعسكرية للدولة؛ بناءً على افتراض أن لكل دولة هوية ثقافية، سياسية، دينية، إيديولوجية، ولغوية. ومن ثم، سوف تكون اللغة، الدين، التقاليد، التنشئة الاجتماعية، والذاكرة المشتركة، كمتغيرات مستقلة في تحليل الخاصيات الوطنية للدولة التي تشكل محتوى الثقافة الوطنية. إن السياق الإستراتيجي والسياسي الذي أجريت خلاله هذه الدراسات هو تهديدات الحرب العالمية الثانية واستمرار آثارها المأساوية في تقويض الأمن الدولي خلال خمسينيات القرن العشرين. إذ في هذا السياق، لا يمكن فهم السلوك الإستراتيجي لألمانيا في تلك الفترة بدون تحليل الإيديولوجية النازية وجذورها الفلسفية والثقافية في الفكر الاجتماعي الألماني؛ وكذلك لا يمكن فهم السلوك السوفياتي بدون فهم الإيديولوجية الشيوعية وجذورها في الفلسفة السياسية والفكرية خلال القرن التاسع عشر.
استمر البحث حول دور الثقافة الإستراتيجية في توجيه سلوك الدول خلال فترة الحرب الباردة، خاصة فيما يتعلق بتحليل العلاقة بين الثقافة والإستراتيجية النووية. أحد المنظرين الذين تناولوا تفسير هذه العلاقة جاك سنايدر في نهاية سبعينات القرن العشرين عند تفسيره لدور النخبة في تصميم الإستراتيجية النووية الأمريكية والسوفياتية، ثم ظهر لاحقا أنصار النظرية النقدية الجديدة[5] خلال فترة تسعينيات القرن العشرين الذين ركزوا على نقد الثقافة الإستراتيجية التقليدية بسبب أنها مجرد تبرير لهيمنة القوى العظمى الليبرالية على النظام الدولي.
تؤكد الكثير من الدراسات الإستراتيجية على أن البحث الجدي والمنظم في موضوع الثقافة الإستراتيجية، قد بدأ في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين بقيادة جاك سنايدر Jack Snyder، وبالتالي يعتبر رائد الجيل الأول من الباحثين في تحليل الثقافة الإستراتيجية، بواسطة عمله المشهور حول “الثقافة الإستراتيجية السوفياتية: مضامين العمليات النووية المحدودةThe Soviet Culture : Implications for Limited Nuclear Operations “، الذي نشر عام 1977. قام جاك سنايدر في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين من خلال عمله في مؤسسة راند -كمنظمة تفكير أمريكية-، بدراسة الثقافة الإستراتيجية السوفياتية من خلال دراسة الحالة لمذهب القتال النووي السوفياتي المحدود، بناءً على افتراض وجود علاقة محتملة بين الثقافة السوفياتية وميل القادة السوفيات نحو التهديد باستخدام الأسلحة النووية؛ وهذا يعني من ناحية أخرى، أن دوائر التفكير في الولايات المتحدة كانت تنظر آنذاك إلى إمكانية لجوء السوفيات للأسلحة النووية في نزاعهم مع الغرب كمسلّمة عالية الاحتمال. في هذا الصدد، ذهب فورست مورغان Forrest E. Morgan إلى الاعتقاد بأن سنايدر هو من أطلق واستخدم مصطلح “الثقافة الإستراتيجية Strategic Culture” في تحليل الشؤون الإستراتيجية كمقاربة مغايرة للاتجاهات العامة القائمة على تغليب العناصر المادية والعملياتية في فهم السلوك الإستراتيجي للقوى العظمى؛ وكان بذلك تأسيس لنهج جديد يهدف إلى “تفسير مجموعة من الاتجاهات والاعتقادات التي توجه وتحدد التفكير حول المسائل الإستراتيجية، والمؤثرة في طريقة صياغة القضايا الإستراتيجية، ومجموعة الكلمات والمعلمات الإدراكية في الحوار الإستراتيجي”.
لقد كانت بحوث الجيل الأول حول الثقافة الإستراتيجية مدفوعة بواسطة تأثير الحرب الباردة، خاصة خلال الفترة التي اقترب فيها الاتحاد السوفياتي من التوازن الإستراتيجي المتطابق مع الولايات المتحدة في مجال الأسلحة النووية والتقليدية على حد سواء، ومن ثم كان البحث مركزا حول احتمال نشوب حرب نووية بين القطبين والتساؤل حول ما إذا هناك عوامل ثقافية تدفع السوفيات لشن حرب نووية ضد قوات الحلف الأطلسي في أوربا. تندرج بحوث الثقافة الإستراتيجية ضمن جهود التوقع المستقبلي للسلوك الإستراتيجي والبحث في الأسباب القبلية غير المادية، التي من المحتمل أن تكون مسئولة عن نشوب حرب شاملة. السؤال الجوهري في هذا الصدد، هل توجد أسباب ثقافية لنشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفياتي والقوى الغربية؟ وذلك فقط من أجل اتخاذ الإجراءات القبلية لأي نزاع محتمل وتحضير الإستراتيجيات الوقائية لاحتواء هذا النوع من التهديدات الأمنية. لذلك، حاول سنايدر تحليل العناصر الثقافية لفهم السلوك الإستراتيجي السوفياتي بالاستناد إلى التاريخ، القيم، المنظومة المعيارية، الهوية، الإدراكات الإستراتيجية نحو الذات والآخرين، نظم تشخيص التهديدات ودور الأسلحة النووية في إنجاز أهداف السياسة السوفياتية العليا، وتأثير الأفكار القيصرية القديمة المتجذرة في الثقافة الروسية القديمة على السلوك الإستراتيجي السوفياتي في العصر النووي.
الجيل الثاني: توسيع أجندة البحث
يعتبر روبن لوكهام أكثر المنظرين البارزين في الجيل الثاني الذين كتبوا حول نظرية الثقافة الإستراتيجية، من خلال تركيزه على موضوع جديد وهو ثقافة التسلح والنظم الاعتقادية في تقديس الأسلحة، كأسلوب مميز في التفكير الإستراتيجي، مشتق من الفكر الغربي حول التفوق بواسطة زيادة التسلح على الخصم. فهو ينظر إلى أن الكثير من العمليات الإستراتيجية (سباق التسلح، المنافسة الأمنية، المساعدة الذاتية، التعبئة العسكرية[6]) ناتجة عن ثقافة تقديس الأسلحة التي تجعل صناع القرار في الدوائر المختلفة يميلون إلى تأييد برامج التسلح وتخصيص نفقات كبيرة للقطاعات العسكرية، انطلاقا من افتراض عام بأن الأسلحة والجيوش الكبيرة تمثل ضمانة كبرى للمحافظة على البقاء القومي، والسيطرة على الآخرين أو التأثير على سلوكهم. إن مثل هذه السلوكيات ليست مجرد وظائف إستراتيجية أو ردود أفعال سلوكية إزاء مواقف الآخرين، وإنما هي متجذرة ثقافيا في نظم التعليم التربوي وأنماط التفكير التي يحملها الأفراد والجماعات؛ أو بطريقة أخرى، هي عملية ثقافية تصنع وتتبلور ضمن البنية الاجتماعية للمجتمع، ويتم تعزيزها بواسطة نظم التعليم، البحث الأكاديمي، الحملات الإعلامية والدعاية السياسية.
من ناحية أخرى، لم يذهب بعيدا الجيل الثاني من المنظرين في الثقافة الإستراتيجية عن الافتراضات الأولية التي طرحها على وجه التحديد جاك سنايدر، بالرغم من اتساع دائرة المهتمين بهذا الموضوع في فهم الشؤون الإستراتيجية خلال فترة الحرب الباردة. لقد اهتمت هذه الطبقة من الباحثين بما أسماه فروست مروغان “بالوصف الواسعBroad Descriptive “[7] لأبعاد وخصائص وعناصر الثقافة الإستراتيجية، اعتمادا على الأرضية النظرية المطوّرة في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الثقافي، وكذلك توظيف تراث التاريخ الإستراتيجي القديم والحديث لعدد من دراسات الحالة (الاتحاد السوفياتي، الصين، ألمانيا مثلا)؛ فقط من أجل اختبار العلاقة المحتملة بين المتغيرات الثقافية والسلوك الإستراتيجي للحكومات، والمقاربات الإستراتيجية التي تتبناها في مواجهة التهديدات أو إسقاط الهيمنة على العلاقات الإقليمية أو الدولية؛ وصولا إلى رسم سيناريوهات للمستقبل خاصة في ما يتعلق بسلوك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو في أي نزاع محتمل مع الغرب.
الهدف الأساسي من وراء هذه التحاليل هو خلق أنماط التوقع الصحيح وتفادي الوقوع في التنبؤات الخاطئة حول السلوك المستقبلي للقوى الأخرى، بناءً على الافتراض الشائع بأن الأعداء سوف يتصرفون دائما بنفس الطريقة التي تصرفوا بها في الماضي؛ أو افتراض أنصار الواقعية/الواقعية الجديدة الذي يقضي بأن الدول تتصرف بطريقة متشابهة في البحث عن مصالحها الوطنية، وكما ادعى كنيث ولتز أنها تتصرف بطريقة متشابهة بسبب تأثير البنية الفوضوية للنظام الدولي التي تدفع كل الوحدات نحو خيارات المساعدة الذاتية والمنافسة الأمنية. بالرغم من هيمنة أطروحات الواقعية/الواقعية الجديدة على التفكير الإستراتيجي، إلا أن المنظرين في الثقافة الإستراتيجية لم يلتزموا بالحتمية السلوكية المطروحة من قبل الواقعيين، وأخذوا يبحثون في مقاربات أخرى. صحيح أن كلا الاتجاهين محفزان بواسطة أسباب موحدة والملخصة في الخوف من نشوب حرب شاملة بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو التي من المحتمل أن تستخدم فيها الأسلحة النووية، لكن طبقة الجيل الثاني من المنظرين وسّعوا البحث في الثقافة الإستراتيجية لتشمل التاريخ الإستراتيجي، البنية المعيارية والقيمية للمجتمعات، التقاليد الإستراتيجية السابقة، وتأثير العوامل الجغرافية في صياغة أنماط التفكير الإستراتيجي.
الجيل الثالث: النقد، المراجعة، والتحديات المنهجية
تعتبر فترة تسعينيات القرن العشرين بداية لظهور أفكار الجيل الثالث من المنظّرين في الثقافة الإستراتيجية، يتقدمهم ألستار جونستونAlastair Johnston من خلال عمله المشهور الذي يحمل عنوان “الواقعية الثقافية: الثقافة الإستراتيجية والإستراتيجية الكبرى في التاريخ الصينيCulture Realism : Strategic Culture and Grand Strategy in Chinese History”، الذي نشر عام 1995؛ وكولن جراي Colin S. Gray الذي ناقش بطريقة نقدية المنهجية التي اتبعها جونستون والأفكار التي طرحها، وذلك من خلال عملين أكاديميين الأول يحمل عنوان “الإستراتيجية والتاريخ: مقالات حول النظرية والتطبيق Strategy and History : Essays on Theory and Practice”، والثاني يحمل عنوان “الإستراتيجية الحديثة Modern Strategy”؛ يندرج ضمن قائمة الجيل الثالث أيضا عمل توماس بيرجرThomas Berger حول “الثقافات المضادة للعسكرتارية: الأمن القومي في ألمانيا واليابانCultures of Antimilitarism : National Security in Germany and Japan ” الذي نشر عام 1998؛ وبالطبع تبقى القائمة طويلة من الباحثين الذين تبنوا أفكار النظرية التكوينية في مراجعة مفاهيم الأمن والإستراتيجية في ضوء التطورات السياسية والأمنية الدولية خلال تلك الفترة من تاريخ العلاقات الإستراتيجية الدولية. على عكس السياق الدولي الذي كان سائدا خلال ظهور الجيل الأول والثاني، فإن تسعينيات القرن شهدت تغيرات راديكالية في النظام الدولي وعلى رأسها انهيار الثنائية القطبية، وانتقال الاهتمام الإستراتيجي إلى مخاوف حيازة واستخدام أسلحة الدمار الشامل من قبل دول العالم الثالث والجماعات المسلحة؛ ومن ثم، كان محور البحث الأكاديمي مركزا حول العلاقة بين أسلحة الدمار الشامل والثقافة الإستراتيجية، وكذلك بحث العلاقة بين الثقافة والأمن كجزء من الاهتمامات الأكاديمية الجديدة التي تزعمها أنصار النظرية التكوينية[8] والنظرية المعيارية[9] في تحليل العلاقات الدولية. بالنسبة لجونسون، تمثل الثقافة الإستراتيجية “نظاما مترابطا من الرموز التي هي اللغة، التناظرات، المجازات، بنية المحاججة”،[10] الذي شكّل أرضية لتحليل القضايا الإستراتيجية المتعلقة بإعادة ترتيب السلم واستعادة الأمن في المناطق التي تعاني من اضطرابات وحروب داخلية وتصاعد حدة العنف، كنتيجة لاختفاء الاتحاد السوفياتي من معادلة النظام الدولي.
نتيجة لمجالات القضية الملّحة في الشؤون الإستراتيجية –الانتشار النووي، السيطرة على التكنولوجية النووية العسكرية، أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، والتمرد-، شاعت البحوث حول الثقافة الإستراتيجية التي قادها عدد كبير من المنظّرين في الجيل الثالث، من أمثال إليزابث كايرElizabeth Kier ، جيفرو ليقرو Jeffrey Legro، ألكسندر واندتAlexander Wendt ، بيتر كاتزنستين Peter Katzenstein؛ وهذه الأسماء هي مجرد أمثلة عن طبقة من الباحثين المهتمين بتحليل العلاقة بين الثقافة والشؤون الإستراتيجية والأمنية. الحقيقة أن جهود البحث أخذت مسارين أساسيين ومتكاملين، يتمثل الأول في التركيز على بحث والتحقق من افتراض وجود علاقة بين الثقافة الإستراتيجية والسلوك الإستراتيجي؛ والاتجاه الثاني ركّز على نقد المنظور المادي في تحليل العلاقات الإستراتيجية الدولية الذي طرحه أنصار النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة، خاصة فيما يتعلق بثنائية الهجومية/ الدفاعية المتحكمة في السلوك الإستراتيجي للدولة. لم يكن أنصار “النظرية التكوينية Constructivism Theory” متطرفين في أطروحتهم مثل الواقعيين الذين بالغوا في تمجيد دور العناصر المادية في تشكيل الإستراتيجية، وإنما على العكس من ذلك نادوا بضرورة الاعتدال في التحليل بإضافة العناصر الثقافية إلى جانب نظيرتها المادية في تحليل الشؤون الإستراتيجية والأمنية؛ خاصة فيما يتعلق بدور الأفكار في صياغة الأفعال الإستراتيجية، سواء كسلوكيات في عمليات صناعة القرار، التقييم الإستراتيجي، أو كتصرفات عملياتية فوق حقل المعركة.
من الناحية العملية بالنسبة للتكوينيين، لا يمكن مثلا فصل العملية العسكرية للحلف الأطلسي ضد صربيا في حرب كوسوفو عام 1999 عن جهود استعادة السلم وبناء مؤسسات الدولة ودعم الأفكار الديمقراطية، التي تجعل الجماعات المختلفة تقبل بمبدأ أحقية الآخر في الوجود بسلام واحترام حقوق الإنسان وأهمية الأمن الإنساني؛ كما جاءت متضمنة في أفكار أنصار نظرية الجماعة الأمنية[11] حول دور المعايير، الهوية، الثقافة، وحقوق الأقليات في الشؤون الأمنية والإستراتيجية. الفكرة الأساسية للتكوينية هي نسبية أهمية العناصر المادية في التأثير على السلوك الإستراتيجي، وإنما تتشاطرها العناصر الثقافية غير المادية؛ ظهر ذلك بجلاء من خلال حربي الولايات المتحدة في أفغانستان 2001 والعراق 2003، بحيث أن السيطرة العسكرية المادية لم تخلق الاستقرار والسيطرة الإستراتيجية، وإنما كانت بحاجة إلى فهم وتوظيف العناصر الثقافية. لقد حدد جانا أورليكا Jana Orlick دور التكوينية في توسيع البحث ومجال التنظير في العلاقات الإستراتيجية الدولية ليشمل العناصر غير المادية المهملة من قبل أنصار الواقعية/الواقعية الجديدة، انسجاما مع الافتراض التقليدي في بحوث الثقافة الإستراتيجية بأن هذه الأخيرة مسئولة إلى حد ما عن توجيه السلوك الإستراتيجي لصناع القرار والمقاتلين فوق حقل المعركة.
[1] Alexander Wendt, «Four Sociologies of International Politics,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 446-58.
[1]Mark J. Hoffman, “Normative Approaches,” In International Relations: A Handbook of Current Theory, ed. Margot Light and A. J. R. Groom (Great Britain: Frances Pinter (Publishers) Limited, 1985), pp. 17-23.
[1] Jana Orlicka, «Strategic Culture as an Important Way of Security,» Nauka –Praktyka- Refleksje 21(2016), p. 193.