دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

منظور عقلاني لجوهر التغيير السياسي في العالم العربي: رؤية تفكيكية لترشيد آليات ومآلات التحول الديمقراطي

لقد تحررت الشعوب العربية لكنها لم تحصل على الحرية بعد، ومن الصعب جدا الفصل بين الأمرين في ظروف تاريخية معينة، فتحصيل بعض الحريات نتيجة التحرر لا يعني مطلقا اكتمال قصة الحريات كلها، فلقد دخل العالم العربي مع بدايات الألفية الثالثة مرحلة تغيرات متفاوتة المستويات تم خلالها ممارسة شتى أنواع الضغط الإجتماعي والسياسي على الأنظمة القائمة، وكنتيجة حتمية للتراكمات ولكثرة المدخلات وغياب الحلول وانسداد تام تقريبا في مخرجات الأنظمة العربية كانت النتيجة الطبيعية تفجر الوضع وخروج الشعوب في مظاهرات عارمة انتهت لأن تكون انتفاضات جارفة ارتفع سقف مطالبها من مجرد المطالبة بفتح الحوار إلى المطالبة برحيل تلك الأنظمة نهائيا.

ومع النجاحات الأولى تيقنت الشعوب العربية أن زمن الإضطهاد والتسلط والظلم قد ولّى إلى غير رجعة؛ وتفاوتت ممارسة السياسة بثوب جديد من مجتمع عربي لآخر، لكن مع مرور زمن ليس بالطويل امتصت الدولة العميقة في بعض الأنظمة الصدمة الأولى وبدأت تدريجيا في ترصيص صفوفها والعودة إلى المشهد السياسي من جديد لتستولي على السلطة مرة أخرى في ظل اندهاش وتفسيرات غير عقلانية؛ في حين أن باقي المجتمعات العربية دخلت في مراحل تطور خطيرة للغاية أفضت إلى تحارب أهلي شتت القوى الفاعلة والتي كان الرهان عليها عاليا في قيادة المرحلة الجديدة.

وعليه يُطرح التساؤل التالي:

 ما المطلوب حتى يتم تجاوز أخطاء المرحلة الأولى ليتم هندسة نموذج عقلاني لإحداث تغيير سياسي فعلي يراعي متطلبات المرحلة ويؤسس فعلا لتحول ديمقراطي يفضي إلى بناء دولة مؤسسات وقانون وحامية للحريات ؟

محاور المقالة:

  • أولا: دعوة لإعادة التفكير من أجل استنطاق المعالم الصامتة لفهم جوهر التغيير.
  • ثانيا: نحو نموذج جديد لإحداث تغيير فعلي (هندسة السلوك التغييري).
  • ثالثا: مأسسة وحوكمة مخرجات التغيير الفعلي.

تمهيد: يسود قدر غير قليل من اللبس والغموض معظم المصطلحات والمفاهيم في العلوم السياسية والإجتماعية، ويرجع السبب إلى أن أغلب هذه المصطلحات تدخل في اللغة اليومية التي يستعملها الناس والفاعلون السياسيون، لهذا تهمل المعاني والدلالات الدقيقة للمفاهيم فتظهر وكأنها مترادفات أو ذات معان متشابهة يمكن استبدال الواحدة بالأخرى من دون ضرر كبير. وينطبق هذا كثيرا على مفهوم التغيير الذي شغل اهتمام الباحثين في علمي الإجتماع والسياسة، حيث تضاربت الآراء حول دلالاته والعوامل التي تنتجه مما أدى إلى اهتمام نظري بالموضوع أفضى إلى إنتاج كم هائل من النظريات والدراسات والأبحاث، ولم يكن العالم العربي استثناءا بحيث يحتل مفهوم التغيير حيزا مهما في النقاشات العلمية أو حتى على مستوى التفاعلات السياسية العملية وهذا بحكم التحولات الإجتماعية والسياسية التي عرفتها أقطاره، أو حتى بحكم النتائج المترتبة عن التغييرات التي تحدث جراء محاولات التحول الديمقراطي.[1]

وعلى الرغم من كون التغيير والمطالبة بالديمقراطية هو مطلب أساسي تسعى إليه جميع القوى السياسية في المنطقة إلا أن هناك اختلافا جوهريا حول الكيفية، فما زالت النخب الحاكمة والفكرية ترى أن الديمقراطية النخبوية أفضل من الجماهيرية بحكم أن تلك النخب تملك درجة عالية من الإلتزام الفكري والقدرة التنظيمية والمهارات اللازمة للحكم.[2]

أولا: دعوة لإعادة التفكير من أجل استنطاق المعالم الصامتة لفهم جوهر التغيير

بعيدا عن العواطف والتخندق الأيديولوجي والفكري يجب قراءة التغيير في العالم العربي قراءة تحليلية صلبة حتى نستطيع استنباط تفسيرات سليمة وعقلانية للأحداث وللعمليات السياسية. هذه القراءة يجب أن تستنطق المعالم الصامتة للتغيير الفعلي من خلال البحث في التكوينات الأولى لكشف معالم الحقيقة، لذلك يجب توظيف التقصي العميق بوصفه الأداة التي تسمح للتنظير بأن يلتقي بالواقع من أجل التخلي عن المنطلقات المثالية والمزيفة، والدفع بالبحث الجاد للإهتمام بما يحدث فعلا في المجتمع من أجل تقويض التنظير الواهم باعتباره منتجا للحقيقة.

  • أهمية القراءة العقلانية:

كما تظهر أهمية البحث العقلاني للتغيير الفعلي في العالم العربي في وصفه للواقع الإنساني، كواقع يتشكل من الصراعات والمصالح، ومن ثمة الهيمنة، والرغبة في التملك، إذ لا مجال للقفز على هذا الواقع من خلال إنشاء مفاهيم مجردة تنشئ عالما ينوب عن العالم الواقعي، عالما تنتفي فيه الصراعات والمصالح. فالأمر هنا يتعلق بمسألة المصير التي تظهر في طبيعة الرهان الذي تضعه ثقافة مجتمع ما كأفق تحدد بواسطته تطلعاتها، وتؤكد على المميزات الخاصة التي تطبع ذاتيتها.[3]

فالباحث العقلاني ينتقل في تفكيكه السليم لمسببات وآليات ونتائج التغيير من الداخل إلى الخارج بهدف إظهار الشروط التاريخية التي تمثل أشكال الإقصاء والهيمنة التي تلجأ إليهما ثقافة مجتمعية أو سلطوية ما؛ إما بهدف إبراز الإختلافات الظاهرية، وهذا هو شكل التحولات من الخارج، وإما بتحديد التمايز البنيوي داخل المجتمع بكل أبنيته، وهذا هو جوهر التحول الفعلي وذلك بالبحث في المجالات التي تشكل تحول بداية وأصل التغير من خلال الإهتمام بمسألة القطيعة والتغيير الفعلي الذي ينشده الإنسان العربي. لهذا ينبغي التحذير من الإعتقاد بأن التغيرات التي طرأت على المنطقة العربية تمثل حالة انفصام في الشخصية التاريخية للمنطقة أو انقطاع عن سيرورتها التاريخية حتى وإن كان يوجد ما يوحي بذلك باعتبار أننا نشهد قطيعة مع تقاليد سياسية طال أمدها، لهذا يجب النظر إلى التاريخ على من منظور طويل وغير متسارع.[4]

  • جوهر القضايا بين التضليل والحقيقة:

ولذلك لا يجب مطلقا اختزال الحاضر في القضايا المدوية التي تبدو بفعل الضجيج الذي تحدثه (خاصة الإعلامي) أنها الأساسية التي يجب التفكير فيها كقضايا جوهرية، وإنما القضايا الخفية هي الأساسية والتي هي مجموعة من البؤر المتشتتة والمتباينة، لأن هذه القضايا هي التي تشكل في حقيقة الأمر ما هو جوهري ومركز للنقاشات وأفقا للتفكير بامتياز وحتى مدعاة للتجريب الفعلي، إذ أن الباحث الذكي لا يؤسس الحقيقة من تأملاته، بل بالإهتمام بما يقع فعلا،[5] وأهمية كشف الحقيقة تكمن في كونها تبرز علاقة الحقيقة بالسلطة، فما ندعوه الحقيقة أو الواقع، هو نتاج لصراع القوى، ودخول قوة في علاقات مختلفة تتسم بالصراع، ومن ثمة بالهيمنة والسيطرة، لأن ما يسمى بالواقع ليس ذلك المجال الساكن والهادئ الذي ينتظر فاعلا أو تحفيزا من الخارج لكي يؤثر فيه، بل الواقع يعج بالصراعات التي لا تنتهي. إذ حينما يلتقي فعل بفعل آخر ينتج عنه صراع القوى، فتنزع كل قوة إلى الهيمنة والسيطرة بغض النظر عن مصدر تلك القوة؛ لهذا من العبث إقامة تفاسير للواقع دون الاهتمام بصراع القوى؛ فما يسمى عادة حقيقة ما هو إلا تجسيد لقوة انتصرت على قوة أخرى. وفي هذا السياق تبدو عملية التغيير غير محكومة بدقة ولن تتم وفقا لمتتالية يسهل وصفها، وعلى الرغم من هذا فإن من يريدون إنجاز ما يريدونه من تغيير خاص بهم مضطرون إلى أن يكون لديهم مخطط عام مشترك بينهم مع توفر قدر من الفهم الواضح للمكونات الضرورية للنهوض بالتغيير، كما يتعين أن يتوفر لديهم نطاق واسع من المهارات والإستبصارات في مجالات كثيرة.[6]

وبالتالي فإن نواتج التصدعات السلطوية والإجتماعية هي هيمنة وسيطرة قوة على أخرى، هذا ما يجعلها تأتي من كل مكان، وتنتج بمجرد بلوغ النقطة الذروة المفجرة للتغيير التي قد تحدث في أي زمان أو أي مكان، إذ أن كل فاعل أو متغير اجتماعي، سياسي أو فكري في الواقع قادر على إنتاج السلطة، فالتفكيك السليم لكتلة الصراعات المختلفة يتأسس قطعة قطعة، ومن عناصر مختلفة ومتباينة؛ وبالتالي فما يتم الرفع من قيمته على أنه فاعل حقيقي هو ما جعل المختلف والمتشتت مركزا للتفكير، ومجالا للصراع وحتى لفهمه وإطارا لتحديد قيمة القيم المادية والمعنوية المتصارع عليها. لأنه تاريخيا نشأت المؤسسات السياسية من التفاعل والإختلاف بين القوى الإجتماعية ومن التطور التدريجي للإجراءات والوسائل التنظيمية لحل هذه الخلافات، فعملية التخلص من طبقة حاكمة صغيرة ومتجانسة، وتنوع القوى الإجتماعية، والتفاعل المتزايد بين هذه القوى، هي كلها شروط مسبقة لبروز واستحداث التنظيمات والمؤسسات السياسية.[7]

فالإهتمام إذن بالحدث المهمل والمنسي أو الجزئي، ليست الغاية منه التماهي مع الحدث كما وقع، بل الوقوف عند التجربة التي أدت بالحدث ليصبح واقعا. وتحت مفهوم التجربة لا يجب أن نفهم، فقط، السلوك العملي الذي يسلكه الناس في مرحلة تاريخية، بل كذلك التوصيف الذي يمنحه هؤلاء الناس لوضعية تاريخية خاصة. لهذا تصبح التجربة في هذا المنحى، باعتبارها حدثا، هو ما يجسد موضوع الصراع بامتياز. لذلك يجب الوقوف جيدا عند المسببات البسيطة للتغيرات الكبرى، لأن “الأحداث الجزئية” هي علامة على أن ثقافة ما تضع ما تملك من قيم موضع تساؤل، بهدف تحديد رهان جديد لها. لهذا ندرك لماذا يجب أن يوجه الباحث العربي نظره، بشكل خاص، إلى ضرورة إعادة فهمه لنمطية التغيير وهذا التوجه هدفه إبراز حدود الحقيقة التي تدعيها ثقافة ما من جهة، وبيان من جهة أخرى، عن طريق البحث الرصين أن تغيرا أساسيا، يلوح في الأفق، وأن ما كان موضوعا للصراع كحقيقة تحولت رهاناته وتصاعدت سقف المطالب فيه.

وهناك علاقة وطيدة بين البحث العقلاني والإنغماس في القضايا الحقيقية للمجتمع، فما هو عقلاني وغير مرتبط بالشعب يجب أن يصبح من الشعب بأن يشارك في نضالات وكفاح الشعب، وهذا ما فعله مثلا كارل ماركس عندما أصبح عضوا عقليا في البيروليتاريا بحيث أن انغماسه هذا أزاح القضايا الزائفة.[8]

  • أوهام التغيير:

لقد اهتم الباحث العربي في بداية الإحتجاجات بالقضايا الكبرى وتناسى جزئيات الأحداث التي كانت في النهاية هي السبب في تراجع التغيير، لأن الموجة الأولى الحادة للإنتفاضات الشعبية في العالم العربي حملت معها تصورات وهمية ضخمة عن التغيير والتفائل ومشبعة بكم عاطفي هائل ينذر بأن التحول الديمقراطي سيحدث في أقرب وقت، وكان ذلك أكبر خطأ من طرف الجماهير وهي غير ملامة على ذلك لاعتبارات عدة، بل كانت خطيئة من طرف نُخب بذاتها لم تقم بدورها من أجل تنوير تلك الجماهير؛ فنمطية التغيير الفعلي تختلف كلية عن ذلك، فهي مفصل تاريخي حاسم يُبنى ويتم تسييره من خلال عقلانية متناهية في ممارسة الضبط بأشكاله ومؤطرة من طرف كتلة معينة لها القدرة على قراءة كل التفاعلات والأحداث وحتى جزئيات الجزئيات، وتلين وتتصلب حسب تطورات المرحلة، لأن المسؤول عن الإخفاق الإجتماعي ليست الجماهير الشعبية بل هو التفكك والإنحلال العقلي للنخبة القائدة للمجتمع التي لم تستطع الإستفادة من التجارب المختلفة وهو ما أدى إلى إخفاق للنظام السياسي والإجتماعي والإقتصادي والأهم من ذلك أدى إلى إخفاق فكري[9].

ويبقى من المهم جدا الحذر من قضية استخدام المفاهيم والمنظورات الفكرية خاصة التي لها أبعاد سياسية أو التي قد تُوظف لاستخدامات سياسوية أو تخدم أغراض معينة وليس الصالح العام، ذلك أن التنظير السياسي لا يقوم سوى بصياغة الظواهر السياسية ذاتها وبهذا فهو يبقى محدودا على مستوى قراءة القضايا الإنسانية التي تحتاج إلى صياغة أطروحات معينة، ومن تلك المصطلحات مصطلح الثورة أو النظرية الثورية التي غالبا لا تبحث إلا في تسويغ العنف لأن هذا التسويغ يُعتبر حدّها السياسي، وإذا وصلت عوضا عن ذلك إلى تمجيد العنف أو تسويغه بوصفه عنفا فإنها لا تعود نظرية سياسية، بل نظرية مضادة لما هو سياسي.[10] وما يلاحظ في الإحتجاجات الجماهيرية التي قامت في بعض البلدان العربية أن مفردة الثورة هي من أكثر المصطلحات التي تم التلاعب بها خاصة على المستوى الإعلامي سواء بوعي أو دون وعي، وهو الأمر الذي أدى إلى نتائج وخيمة خاصة على المستوى السياسي والإجتماعي بفعل التحريض المبالغ فيه، فقد تم اختزال جميع أنماط الحراك الجماهيري في ذلك الإندفاع العنيف مباشرة نحو الثورة خاصة العنيفة منها دون مراعاة للفروقات الجوهرية بين الحركات الإحتجاجية والمظاهرات والإضرابات والثورة في حد ذاتها. لهذا يجب أن يكون الضبط المفهومي عملا مشروعا ومضبوطا، فبهذه الطريقة يمكن لنا الحد من مزالق المرونة الدلالية في استخدام المصطلحات ذات الرواج الكبير كمصطلح “الثورة” وما يشتقّ من جذرها بعد الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية منذ سنوات، فالثورة مفهوم يستخلص من الواقعة التاريخية وأحيانا تكون الثورة فكرة أو مشروعا يسبق التاريخ وهي بالتالي حصيلة تفاعل جدلي بين الإستقراء والتأمل الفكري من جهة وبين الممارسة والفعل من جهة أخرى.[11]

ولعل أفضل من عبّر عن وهم التغيير الذي تقع فيه المجتمعات هو هنتغتون عندما سرد أربعة حالات تعبر عن حالات الوهم والنتائج المترتبة عن ذلك، فالحالة الأولى هي اعتزال السياسة أو ازدرائها أو الإنسحاب وهو ما يتمثل في تدني مستوى المشاركة بعد تكرار الإنتخابات في الديمقراطيات الناشئة وهذا أمر غير مرغوب فيه في النظرية السياسية، أما الحالة الثانية فيتمثل في رد الفعل ضد تولي حزب أو جماعة ما دفة السلطة ويفضلون الحزب الحاكم بدلا من التغيير المفاجئ، أما الحالة الثالثة فتتمثل في رد فعل معاد لكل من الجهة الحاكمة بالإضافة إلى الجهة البديلة ويفضلون إعطاء صوتهم لمتمرد سياسي ما،[12] أما الحالة الرابعة فتتمثل في إظهار السخط السياسي الذي يكون موجه إلى الديمقراطية نفسها حيث أن القوى المؤثرة ترفض التحول الديمقراطي بالأساس لأنه يهدد مصالحها. وغالبا ما تكون محصلة هذه الحالات كلها هي صحوة الجماهير من أوهامها وتيقنها من فشل الحكومات الديمقراطية بل فشل العملية الديمقراطية نفسها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الإرتداد نحو النظم غير الديمقراطية من جديد.[13]

ثانيا: نحو نموذج جديد لإحداث تغيير فعلي (هندسة السلوك التغييري)

بغض النظر عن تجارب المجتمعات المتحولة غالبا ما يحدث التغيير وفق نمطية تقريبا تكاد متشابهة من حيث سيرورتها وآلياتها، فهي لن تخرج عن أربع آليات مع وجود بعض التفرعات لها، وذلك إما عن طريق حدوث ثورة أو يتم اللجوء إلى الإصلاح أو يحدث إنقلاب أو الإنهيار الذاتي، ومع موجة التغيير التي عصفت بالمنطقة العربية توفرت كل الآليات إلا سيناريو الإنقلاب الذي حدث بعد التغيير الجزئي في المرحلة الأولى من موجات التغيير الأولى التي كان من أهم نتائجها سقوط بعض الأنظمة ظاهريا، وتحرر المجتمعات من الخوف، كما حدثت بعض التغييرات الشكلية عن طريق إصلاحات لجأت إليها بعض الأنظمة مثل الجزائر والمغرب.

  • التغيير الزائف:

في خضم كل التغيرات بقيت الدولة العميقة تترصد وتتحين الفرصة لتعود من جديد، وقد عادت بالفعل في مصر وجزء منها عاد كذلك في تونس، والسبب المباشر لحدوث هذا هي أوهام التغيير التي عششت في أذهان المجتمعات وبعض النخب التي فشلت في قراءة الأحداث. وكانت مآلات التغيير وخيمة العواقب في كل من ليبيا وسوريا واليمن التي دخلت في حروب أهلية بفعل التدخلات أو نتيجة الثورة المضادة التي استغلت التحول الصعب بفعل منطق الصراع والمصالح الناتج عن التصدعات الإجتماعية المعقدة جدا في المجتمعات العربية، خاصة التصدع على أسس دينية ومذهبية في كل من اليمن، العراق وسوريا حيث أنتج التغيير دولا فاشلة.*

وقد يكون السبب هي أزمة التعبير أو عدم وجود قنوات اتصال تسهل عملية التغيير الديمقراطي السلمي خاص لدى الشباب باعتبار أنهم دائما يشكلون حطب الثورات، فهم مجبرون إما على الصمت أو الذهاب نحو التطرف وكلاهما غير سليم، حيث كان لابد من وجود وسيلة للتعامل والتواصل مع الشباب بالإعتماد على الحجة والإقناع والمناقشة الموضوعية الواعية بمشكلاتهم.[14] وهناك عدة أسباب أدت إلى التغيير الزائف، وقد لعبت الفواعل الدولية تأثيرا لا يستهان به في تحوير طموحات التغيير نحو مصائر غير التي أرادتها المجتمعات بل كانت هناك ارتدادات نحو سلوكات سياسية خطيرة هددت بنيان الدولة وفككت التماسك المجتمعي، وهذا بفعل انفجار المشاعر القومية والطائفية والدينية والعرقية ودفعها نحو تفتيت المجتمعات السياسية القائمة وهو الأمر الذي أدى إلى فشل التحولات السياسية في حين بقيت الآلة الإعلامية تنفخ وتنشر ثقافة وعي مخادع أن التغيير تمّ وما يحدث هو مجرد عراقيل مرحلية لا بد أن يشهدها أي تحول، وهنا يتعاظم الإحساس المجتمعي الجماعي بأنه في مرحلة انعطاف تاريخي لكنه في حقيقة الأمر هو مجرد إحساس زائف بالتغيير.[15]

2- التغيير الجزئي:

الذي حدث في المنطقة العربية هو تغيير جزئي أو غير فعلي أو حتى فاشل في بعض جوانبه، وحتى نكون منصفين ولا نبخس حق الدماء التي أريقت في سبيل التخلص من الأنظمة التسلطية، لنقل أن الإنتفاضات قدمت للمجتمعات العربية أهم نتيجة وهي سقوط القدَرية السياسية. لكن على الرغم من السلبيات الكثيرة لنمط التغيير الذي حدث في السنوات الأخيرة، إلا أن أهم نتيجة على الإطلاق هي سقوط وانهيار “القدَرية السياسية” التي فرضتها معظم الأنظمة العربية على شعوبها أكثر من نصف قرن، فبسقوط صنم الجبْر السياسي التي جعلت المواطن العربي إنسان مقيد بطوق نفسي رهيب جعله مقتنع نهائيا باستحالة حدوث موجة تغيير، بل حتى النخب تكبلت عقولها وأصبحت منتجة فقط لفكرة كيفية مساومة السلطة لانتزاع جزء يسير من الحقوق، أما الحديث عن تغيير الأنظمة وسلوكاتها المتسلطة فكان يتم دائما بطريقة يائسة وغير متيقنة نهائيا من أنه سوف يأتي يوم وتنهار فيه بعض الأنظمة في ظرف قياسي للغاية. وانطلاقا من نتيجة سقوط الخوف وتلك القدَرية السياسية يتم نسيان الخيبات التي لحقت بالإحتجاجات ويُنطلق في بناء نموذج مغاير للتغيير مبني على أسس سليمة متجنبة أخطاء الماضي عن طريق تصميم وتطوير تحول بنيوي يُفضي فعلا إلى تحقيق الأهداف المسطرة.

  • التغيير الحقيقي:

إن التغيير الفعلي هو تغيير شامل يمس أبنية المجتمع والسلطة ككل ويعمل على تبديلها ظاهريا وجوهريا من خلال نقلها من بنية سائدة إلى بنية جديدة تتوافق مع مبادئ وقيم أيديولوجية وأهداف تم تسطيرها منذ بداية عملية التغيير، فهو عبارة عن حركة شاملة لها فلسفة معلومة وأهداف واضحة، وهي لا تقتصر على تغيير الحكام كأفراد بل تغيير راديكالي يشمل نظام الحكم وفلسفته، فهي حركة تجديدية ووسيلة فعالة عندما تعجز آليات التطور الطبيعي على تلبية طموحات وحاجات المجتمع، والتغيير بهذا المفهوم الفعلي هو ظاهرة اجتماعية ذات بعد سياسي وظاهرة سياسية ذات أبعاد مختلفة.[16]

والهدف النهائي ليس فقط إزالة نظام سياسي واستبداله بآخر مثلما كان حال موجة التغيير في العالم العربي، بل الهدف الأسمى هو إعادة تنظيم المجتمع وتنظيم ممارسة التوزيع السلطوي للقيم المادية والمعنوية بين أبنية المجتمع المختلفة بطريقة عادلة. كما أن التغيير الفعلي لا يعني الإنفصال النهائي عن الماضي أو الدعوة لإهمال ما أنتجته أبنية المجتمع من أفكار وفنون وأساليب وسلوكات معينة، بل إن التغيير الفعلي هو نتيجة حتمية للتطور التاريخي العام في مجتمع ما أو بيئة معينة، إما لأن البنيات الإجتماعية وأطر الإنتاج والسلطة انحلّت وتفككت، وإما لأنها تضخمت وازدهرت وقفزت قفزات أبعد واكتسبت وسائل أفضل وأصلح.[17]

ولفهم إشكالية التغيير الفعلي من حيث أصوله وديناميات تطوره والعلاقة بينه وبين نواتج الفكر وسلوكات المجتمع والسلطة يجب التمييز بين مرحلتين، الأولى هي مرحلة النقد التي هي عبارة عن هجمات مبعثرة ومتقطعة لمرجعية كيان سلطوي ما، وهو الأمر الذي يؤدي إلى توالد ضخم لنقد الأشياء والمؤسسات والممارسات مما يمهد الطريق إلى نوع من التفكك العام في الأرضية الأصلية التي تستمد السلطة أو النظام السياسي قوته منها، وهذا لا يعني نوع من المواجهة الساذجة بل هو ميزة أساسية تشير واقعيا إلى نوع من الإنتاج النظري غير المركزي وحركية مجتمعية تبدأ عفوية ومبعثرة وتنتظم تدريجا في عمل بنيوي له أهداف واضحة؛ والمرحلة الثانية هي ما يمكن تسميته مفصل التحول، وما يحدث وينتج هو عبارة عن انتفاضة أبنية المجتمع الخاضعة قهريا والتي هي جملة وكتلة من تكوينات مختلفة لكل شرائح المجتمع بما فيها جزء من البناء السلطوي سواء كانت حاضرة أو مختفية ومقنّعة داخل تلك البنية والتي أظهرها النقد والمواجهة[18].

ولكي يحدث التغيير بهذه الطريقة يجب البحث في المجالات التي تشكل تحوّل بداية وأصل التغيير من خلال الإهتمام بمسألة حتمية اللاإستمرارية، هذه الأخيرة هي مزاوجة بين الإدراكات العميقة التي هي من إنتاج النخب الفكرية وبين الديناميات الحية والمؤثرة لسلوكات المجتمع الرامية للتغيير، وهذه المزاوجة لا يمكن لها أن تنجح إلا ضمن شرط أساسي هو إزاحة ورفع طغيان السلوكات السلطوية العنيفة والقاهرة عن طريق النقد المتواصل، مع ضرورة الإبقاء على أبنية السلطة مع تراتبيتها وأفضلياتها مؤقتا حتى لا يدخل المجتمع في فوضى تلغي نهائيا فرصة التغيير الفعلي.*

وحتى نفهم سلوك السلطة، يجب الإهتمام بالكيفية التي يعتمدها الفرد للإلتفاف على السلطة التي تواجهه في كل مكان، والتي تقيم سياجا من الضبط يحيط بكل سلوكاته، و لمواجهتها لا يجب التوهم أن هناك واقعا لا سلطة فيه، بل يجب الإقرار أن التحرر الفعلي من السلطة لا يتم، إلا عندما يتم تفتيت القوة من أجل امتلاكها لتأسيس مشهد منطقي يكرس ويبرر سلوك المواجهة، لكن بشرط تجنب بناء سلطة قاهرة مثل الأولى أو حتى سلطة موازية لها القدرة على الإكراه المادي والمعنوي؛ لأن ذلك سوف يؤدي لا محالة إلى لجوء السلطة الأولى إلى تفعيل قدرتها على مواجهة الأشكال الموازية لها. بل على العكس من ذلك يجب تفتيت سلوك السلطة وليس أبنيتها بطرق عقلانية متدرجة بطريقة تؤدي إلى التفكك التراتبي لبنية الإخضاع المتسلطة. ويمكن القول أن الوضعية الحالية تفسر إلى حد ما المشاعر العدائية التي يعيشها الفرد العربي في المرحلة الحالية والتي تنعكس صورتها على المشهد السياسي، بحيث يبحث هذا الفرد عن وسيلة للتخفيف من حدة الإضطراب الذي يعيشه خاصة عن طريق العنف، وهنا تكمن أزمة المجتمعات العربية في هذا الصراع النفسي الثقافي بين تنشئة تقليدية وأخرى سلطوية وحديثة والتي تنعكس آثارها على السلوك السياسي، ولهذا السبب، يتسم السلوك في المنطقة العربية حاليا بشحن هائل للعواطف وغياب أو تغييب كل للعقلانية.[19]

ولا يمكن فهم نمطية التغيير الفعلي في العالم العربي إلا من خلال السيطرة على هرمية بنية معينة تشمل آليات التغيير الفعلي، نتائجه المتوقعة، مآلاته وآفاقه. وهذه الهرمية يجب أن تؤسس لنموذج جديد في التحول بعيدا عن نماذج التحول التي حدثت سابقا في أزمنة ومناطق جغرافية متعددة، بحيث أنه يراعي طبيعة العلاقة التي تربط بين متغيرات أبنية المجتمع والسلطة في العالم العربي.

وآليات التغيير الفعلي كثيرة ومتعددة منها ما هو مرحلي ومنها ما هو تدرُجي كالضغط الإجتماعي المتواصل، المساومة والإذعان، تأطير النخب للحراك المجتمعي، توحُّد التوجهات المعارضة، تأطير ومواكبة إعلامية رشيدة، تجنب التأدلج، تجنب ممارسة العنف السياسي بأشكاله المختلفة. ويمكن القول أن النتائج المتوقعة تتمثل بداية في بعض تنازلات النظام يليها تفكك تدريجي لطغيان الخطاب السلطوي، وهو الأمر الذي سوف يُحدث أزمة داخل النخب الحاكمة بسبب تشتت وتشرذم الزبائنية السياسية التي كانت موالية لها، وفي هذه الحالة يصبح من العبثية ممارسة القمع السلطوي لأن مرحلة التطور تكون قد تجاوزت السلطة بكثير. وسوف تكون المآلات واقعية ومتقبلة من طرف مختلف الفواعل، بداية بانهيار الدولة العميقة معلنة بداية تمأسس السلوك السياسي بسبب انهيار تدريجي للقوى التقليدية، لكن يجب أن تؤطر هذه المرحلة نخبة واعية وعقلانية تخدم مصلحة التغيير العليا في ظل انتقال سلس بعيدا عن التأدلج والتمذهب السياسي إن صحّ التعبير.* أما الآفاق فسوف تكون تحصيل حاصل بفعل التمأسس الطبيعي الذي تم البناء له بشكل صحيح، وهو الأمر الذي سوف يفضي إلى تحصيل الحرية فعلا بسبب حدوث تحول وترسيخ ديمقراطي فعلي بفضل بناء دولة المؤسسات والقانون التي تم تشييدها وبالتالي سوف يتم دمقرطة الحياة السياسية.

وهناك مسألة في غاية الأهمية وهي قضية التداول على السلطة أو المناصب وليس التدوير، لذلك لا يجب ارتكاب نفس الأخطاء السابقة، فتراجع دور القيادات التاريخية وفتح الآفاق أمام قيادات أصغر يُعتبر ضمان للتحول الديمقراطي وهذا الأمر يمكن أن يكون فيه خليط من التفاؤل والحذر، فعمليات الإنفتاح السياسي المحدود الذي شهدته بعض البلدان العربية في مرحلة سابقة تشير إلى أن القيادات الجديدة تريد أن تؤسس شرعيتها على أساس الإصلاحات السياسية التي تقدمها. بيد أن الإفراط في التفاؤل ليس له ما يبرره. فهذه القيادات لم تنتقل بمجتمعاتها إلى ديمقراطيات ليبرالية وإنما إلى مجتمعات أقل تسلطية، بل وفي بعض الدول العربية تحولت بعض القيادات الجديدة إلى ممارسات تسلطية مختلفة لعل أبرزها رفض التنازل عن المناصب التي يحتلونها وليس أقلها عدم التنازل عن رئاسة الأحزاب التي أسسوها.

وفي هذا المقام فقذ عوّل المفكر الإيطالي”أنطونيو جرامشي” كثيرا على أثر تغير القيادات السياسية في طرح رؤى جديدة وأفكار مبتكرة للتعامل مع المشكلات التقليدية، لأن الانتقال من نظام حكم إلى آخر قد يوفر فرصا لتحولات سياسية قد تساعد على تحول ديمقراطي حقيقي وفعلي على المدى الأطول. ولكن تبقى المشكلة في العالم العربي هي عدم وصول قيادات عن طريق أساليب متفق عليها من طرف مختلف مكونات المجتمع. فخلال السنوات الماضية حدث تغير بيولوجي في القيادات في العالم العربي نحو قيادات لا تستدعي مصادر شرعية تاريخية من كفاح ضد محتل أو أمر آخر، كما أن الكثيرين منهم قد تلقوا تعليمهم في مجتمعات ديمقراطية بما يجعلهم يدركون على الأقل أن الإستقرار يمكن أن يتحقق مع درجة أعلى من احترام الحقوق والحريات السياسية، كما يمكن أن يتحقق من خلال العمل على بناء ثقافة سياسية ترسخ مفاهيم ومعايير المواطنة التي يمكن لها أن تحقق الإجماع حول القيادات الجديدة.

ثالثا: حوكمة ومَأسسة مخرجات التغيير الفعلي

إن تسلسل البنية الهرمية السابقة يجب أن تأخذ بعين الإعتبار خصوصية كل نظام ومجتمع عربي على حدى، فالتمأسس السلطوي يبدأ من سلوك الأفراد السياسي نهاية إلى أعلى المستويات، فالمنظورات العقلانية تركز على التأثيرات والسلوك من حيث الخيارات المقصودة والسببية المبنية على مجموعة من التفضيلات أو الفوائد[20]، كما يجب مراعاة المعاني والرموز المشتركة والأطر الكلية للجماعات، فالمصالح الفردية والفواعل الجماعية في العالم العربي لا يمكن فهمها بمعزل عن بعضهما، فهذا الفهم الكلي للثقافات والمجتمعات العربية بإمكانه الإلتحام وتحليله كوحدة واحدة تخضع للتفسير بالإرتكاز على تفاعلات أجزاء البنية الكلية للنظام الإجتماعي والسياسي ككل، وهو الأمر الذي يفضي إلى قراءات واقعية للمشهد السياسي العربي.

وهذا يعكس مستوى الإجتماع السياسي الذي يصل إليه المجتمع من خلال العلاقة بين مؤسساته السياسية والقوى الإجتماعية التي تشكلها، والتي قد تكون جماعة عرقية، دينية، إقليمية، إقتصادية أو سواها، ويشتمل التغيير بدرجة كبيرة على مضاعفة القوى الإجتماعية وتوظيفها في المجتمع في مقابل التنظيم السياسي الذي يعمل على المحافظة على النظام  وحل الخلافات واختيار القادة الموثوقين، وقد يكون الإتفاق هو نتاج لاجتماع سياسي بسيط بين قوتين أو أكثر من القوى الإجتماعية ولا يكون في حاجة إلى وجود مؤسسات سياسية ذات درجة عالية من التطور، لكن إذا ازداد المجتمع تعقيدا كان إحراز الإجتماع والإتفاق السياسي متوقفا على أعمال المؤسسات السياسية.[21]

وهذا هو حال أغلب المجتمعات العربية التي تتميز بشدة التعقيد على مستوى البنية الإجتماعية في مقابل هشاشة المؤسسات السياسية القائمة، وهو الأمر الذي حال دون بناء اتفاق مجتمعي حقيقي على المستوى السياسي، وهذا واضح جدا على مستوى الممارسة السياسية حيث لا أغلبية تحكم ولا أقلية تُحترم بل الطاغي هو فقط ممارسات فئوية بغض النظر عن امتداداتها المجتمعية سواء كانت قبلية أو عرقية أو مذهبية أو غير ذلك من التكوينات التي تتميز بها المنطقة العربية، ويمكن تدارك هذا الإختلال من خلال العمل على تقوية الأداء المؤسساتي دون الرضوخ للضغوطات الممارسة من طرف مختلف تكوينات المجتمع بغض النظر عن حجمها وتأثيرها في مختلف جوانب الحياة الإجتماعية والسياسية.

وحتى تكون هناك علاقة بين الدولة وشركائها الإجتماعيين يمكن لها أن تعمل بالشراكة مع المجتمع المدني، بحيث يسهل كل منهما للآخر شئونه ويعمل في نفس الوقت على مراقبته فموضوع الشراكة موضوع جوهري بالنسبة للسياسة الجديدة، ولكن ليس كشعار فارغ مجرد خاصة مع نمو ظاهرة العولمة التي تجعل التركيز على دور المجتمع المدني أمرا لازما وممكنا في نفس الوقت، وذلك بسبب الضغط الذي تمارسه من أعلى، ولا يعني التركيز على المجتمع المدني محاولة لبعث الصور البالية للتضامن والتشارك الداخلي فليس هناك حدود دائمة بين بينهما فالدولة تحتاج تبعا للظروف إلى أن تتغلغل في نطاق المجتمع المدني وقد تحتاج في أحيان أخرى للإبتعاد عنه والمهم هو العمل على تحقيق أفضل نتائج للشراكة والتعاون، لأنه بات من المعروف حاليا أهمية ودور مؤسسات المجتمع المدني في لعب أدوار غير تقليدية على جميع المستويات في إطار تكامل مع أبنية الدولة الرسمية.[22]

  • ترشيد السلوك السلطوي:

لا يوجد مجتمع بدون صراع اجتماعي، وإلا فما الحاجة إلى السلطة أو المؤسسات السياسية، وتخف حدة الصراعات كلما كانت بنية السلطة منبثقة من قوى اجتماعية محدودة وغير مؤثرة؛ وهذا غير واقع حال كل المجتمعات العربية التي تتسم بقوة التعقيد البنيوي، لذلك من المستحيل أن تقوم قوة اجتماعية واحدة دينية، عرقية، إثنية، أيديولوجية بفرض نفسها على باقي مكونات أو قوى المجتمع، فاحتمال قيام اجتماع سياسي في هذه الحالة غير وارد إلا إذا تم مأسسة السلوك السلطوي، بحيث أنه يحق لكل أبنية المجتمع ممارسة السياسة عن طريق قنوات معينة، حيث تمارس كل بنية سلطتها عبر المؤسسات المتفق حولها. وهذه المأسسة ضرورية جدا لانخراط كل القوى الإجتماعية في العالم العربي في الحياة السياسية، لأن هذا شرط ضروري لاستكمال نمطية التغيير الفعلي مستقبلا، فبدون شرط المأسسة سوف يتم تكرار نفس الأخطاء السابقة الذي أنتج دول الأفراد والجماعات بدل دولة المؤسسات والقانون.

  • الإنسجام المجتمعي وبناء دولة المؤسسات والقانون:

يجب أن تنصهر العلاقة التي تربط بين مختلف مكونات المجتمع العربي في أي دولة في قالب يربط بين كل الفواعل، فحتى وإن تم مأسسة السلوك السياسي يبقى ذلك غير كافي، لأن ذلك يطرح تسائل جوهري عن مصير البناء السليم في حال ما إذا وصلت للسلطة جماعة اجتماعية أو سياسية بعينها ولو عن طريق إجراءات نزيهة، ولكن فيما بعد أصابها الإنحراف وتبدأ بممارسة السلطة بنفس الأسلوب الذي تم الثورة عليه. في هذه الحالة يجب الإتفاق أو بناء وهيكلة شكل معين مسبقا يصبح بمثابة مرجعية سامية يخضع لها الجميع ويحترمها، وأنا هنا لا أقصد الدستور بقدر ما أقصد بنية عُرفية يستوعبها المخيال الجماعي للمجتمع ككل مثل مفهوم المصلحة المشتركة والمصالح الوطنية قبل كل شئ، من أجل الإتحاد في مجتمع معقد على جميع المستويات. ومن الملاحظ أن إحدى السمات الأساسية للمأزق العربي الراهن تكمن في بروز تبدلات جذرية للبنى الإجتماعية دون أن تترافق تلك التبدلات مع تغيير نوعي في البنى السياسية التي حافظت على جل مظاهر الجمود، فالإستقرار الإجتماعي ينتج عن توازن دقيق بين المستويات الإقتصادية، السياسية والإجتماعية في سيرورة تبدلاتها المستمرة.[23]

هناك أيضا نقطة في غاية الأهمية يجب أن تراعَى من طرف فواعل المجتمع العربي لترسيخ مخرجات التغيير الفعلي مستقبلا، وهي العمل على بناء دولة المؤسسات والقانون من خلال ضرورة احترام الحقوق المدنية والسياسية كمحدد رئيسي لبناء هيكلية قوامها تحقيق أكبر قدر من العقلانية في التسيير لتحقيق كل الحاجات الأساسية للمجتمع كمرحلة أولى ولتحقيق دولة الرفاه كمرحلة نهائية، ولا يتم ذلك إلا عن طريق تثمين الكفاءة والإستحقاق ورفض كل أشكال الرداءة السياسية من فساد ومحسوبية مقيتة. كما يجب تعزيز الثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية لخلق حركية حوار دائم له القدرة على احتواء الأزمات قبل أن تفضي إلى تصدعات اجتماعية وسياسية عنيفة، وذلك حتى نتلافى آثار الإقصاء غير المبرر لأي بنية اجتماعية مهما كان نوعها وحجمها.

ومما لاشك فيه أن الوضع العربي الراهن أحوج ما يكون اليوم إلى قيام كتلة تاريخية قوية تلتقي فيها جميع التيارات الفكرية والسياسية من أجل محاصرة الإستبداد وتهيئة الوضع والثقافة العربية لتجربة ديمقراطية متدرجة وتراعي النهج السلمي في تغيير واقع تطبّع بالإستبداد، وتكون هذه الجبهة هي ذاتها وسيلة من وسائل الصراع مع الخارج الممانع للديمقراطية وهذا بعدم ترك ثغرات له يدخل منها ويوظفها في تحقيق مآربه.[24]

خاتمة:

هي إذن رؤية ونمطية تنشد إحداث التغيير الحقيقي مغايرة لتلك النمطية التي ميزت اندفاع الجماهير وما تبع ذلك من تحولات. نعم، التغيير الفعلي والحقيقي في العالم العربي ممكن ليس فقط حين تصبح الظروف ملائمة، على العكس من ذلك يجب تهيئة تلك الظروف المناسبة وهندستها من طرف أفكار عقلانية وواعية وذات بصيرة استراتيجية في تسطير وبناء الأهداف العليا الواجب تحقيقها. وذلك يتطلب أيضا مشاركة من طرف جميع الفواعل المعنية ولا أعتقد أنه يوجد من لا يعينه التغيير، ربما فقط من لا زال يعاني من تبعات القدرية السياسية وجبر السلوك السياسي والإجتماعي ومكبل بفعل قيود سيكولوجية لا أكثر ولا أقل.

موجة التغيير انطلقت ومن المستحيل الرجوع إلى ما قبلها على الرغم من انتكاساتها وارتداداتها السلبية والمخيبة لآمال المجتمعات العربية. ويمكن إعادة النظر بروية وقراءة جديدة تقدم حلولا لكل مشاكل التغيير التي حدثت سواء لتلك الأنظمة التي تجاوبت مع مطالب شعوبها وقدمت تنازلات ولو شكلية، أو تلك الأنظمة التي انهارت جزئيا ودخلت في أتون اقتتال أهلي فظيع أفضى إلى تفكك رهيب لأبنية المجتمع التي كانت متماسكة لمئات السنين.

إن الهدف النهائي من التغيير الفعلي هو نقل المجتمع العربي الما بعد دولة الإستقلال من بنية قيدته وحيّدت إبداعاته ومحاولاته في خلق انبعاث حضاري وحداثي وبنية خاضعة تماما للوصاية إلى بنية تربط بين متغيراتها المختلفة شبكة عقلانية تخدم الصالح الخاص والعام في دولة مؤسسات وقانون وحريات، تكون الديمقراطية فيها نمط عيش وليست فقط مجرد إجراءات وآليات قانونية وسياسية.

[1] محمد كولفرني، (التغيير الإجتماعي والسياسي: دراسة تأصيلية نقدية للمفاهيم)، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 20 خريف 2008. ص  139.

[2] حافظ أبو سعدة، (الصراعات الكامنة في الشرق الأوسط: الديمقراطية النخبوية أم ديمقراطية الجماهير)، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 14 ربيع 2007، لبنان، ص 60.

[3] ميشال فوكو، حفريات المعرفة، (ترجمة: سالم يفوت)، الطبعة الأولى، 1986، ص 09.

[4] تقرير اجتماع المائدة المستديرة، الديمقراطية والتجديد في العالم العربي، 21 جوان 2011، مقر منظمة اليونسكو، ص 22.

[5] هنا تجدر الإشارة إلى الدور الذي يجب أن تلعبه النخبة المفكرة في المجتمع وهو دور منطلق من قراءات واقعية للظواهر السياسية والإجتماعية، لا يجب أن يكون الباحث أو المفكر منقطع الصلة عن واقعه وإلا سوف تكون مجمل قراءاته مجرد تأملات مثالية لا تخدم ولا تحل مشاكل وقضايا المجتمع، وهذا بالضبط ما حدث للعلوم السياسية في الأكايديميات الغربية عندما انهارت الفلسفة السياسية أو الفكر السياسي في القرن العشرين ليتجه علماء السياسة بعدها لتوظيف المقاربات والمنظورات الإمبريقية والواقعية بعدما تيقنوا أن التوجهات المثالية لم تعد في خدمة لا العلم ولا المجتمع.

[6] صموئيل هنتغتون، الثقافات وقيم التقدم، (ترجمة: شوقي جلال)، المركز القومي للترجمة، لبنان، 2009، ص 456.

[7] ــــــــــ ،ــــــــــــ،  النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، (ترجمة: سمية فلو عبود)، لبنان: دار الساقي، 1993، ص 20.

[8] جورج لارين، الأيديولوجيا والهوية الثقافية: الحداثة وحضور العالم الثالث، (ترجمة: فريال حسن خليفة)، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2002، ص 133.

[9] برهان غليون، مجتمع النخبة، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986، ص 10.

[10] حنة أرندت، في الثورة، (ترجمة: عطا عبد الوهاب)، لبنان: المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص 24.

[11]  مرشد القبي، قراءة في قراءات الثورة التونسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تقييم حالة، أكتوبر 2011، الدوحة، ص 03.

[12] صمويل هنتغتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في القرن العشرين، (ترجمة: عبد الوهاب علوب)، الكويت: دار سعاد الصباح، 1993، ص 353.

[13]  المرجع نفسه، ص ص 357-358.

* في هذا الصدد كانت مآلات محاولة تغيير بعض الأنظمة السياسية كارثية على جميع المستويات، حيث أن النتيجة لم تتمثل فقط في فشل مؤسسات الدولة في تأدية مهامها بل وصل الأمر إلى حد انهيار الدولة تحت تأثير عدة متغيرات جديدة على رأسها أن أدوات الإكراه المادي لم تعد حكرا على المؤسسات الرسمية وهذا بفعل ازدياد حجم الميليشيات التي قوضت كثيرا فرص التغيير السلمي، حيث أن البعض من تلك الميليشيات أطاحت بالنظام القائم واستلمت زمام السلطة كحال “جماعة الحوثيين” باليمن، وهناك ميليشيات أصبحت توازي الجيش الرسمي بل وتتحداه كحال ميليشيا “الحشد الشعبي” بالعراق، كل هذا بالإضافة إلى ولادة الجماعات المتطرفة التي عصفت بطموحات التغيير الديمقراطي كما حدث بسوريا وليبيا.

[14] سيد صبحي، الشباب وأزمة التغيير، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2002، ص 09.

[15] محمد السيد سعيد، مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)، 1990، ص 2015.

[16] زايد مولود الطيب، علم الإجتماع السياسي، ليبيا: منشورات السابع من أبريل، 2007، ص 102.

[17] محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فيصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، (ترجمة:هاشم صالح)، بيروت: دار الساقي،1995، ص07.

[18] ميشال فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، (ترجمة: الزواوي بغورة)، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2003، ص 34.

* يتعلق الأمر هنا بمفهوم ميشال فوكو حول المعرفة وكيفية تطورها وعلاقتها بالسلطة، وقد درس بعمق معرفة السلطة وعلاقتها بسلطة المعرفة وتأثير ذلك على المجتمع بصفة عامة.

[19] سويم العزي، السلوك السياسي في المجتمع العربي، مصر: دار الألفة، 1992، ص 17.

* لغاية الآن ومع بداية انفراط العقد الثاني من الألفية الثالثة لم ينجح أي نظام سياسي أو مجتمع عربي في تحقيق انسجام لمختلف القوى في أبنية المجتمع، والسبب لا يمكن فقط في تعقد تلك البنية بل هو الفشل في ترسيخ ثقافة وقيم المواطنة.

[20]Todd Landman, Issues and methods in comparative politics: An Introduction, second Edition, London, Rutledge, 2005, p 224.

 [21]صمويل هنتغتون، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، مرجع سبق ذكره، 1993، ص 17.

[22] أنتوني جيدنز، الطريق الثالث:تجديد الديمقراطية الإجتماعية، (ترجمة: أحد زايد ومحمد محي الدين)، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص 118.

[23] مسعود ظاهر، الدولة والمجتمع في المشرق العربي، لبنان: دار الآداب، 1991، ص 420.

[24]  نور الدين العويديدي، شروط التحول الديمقراطي ومعوقاته في الوضع العربي، قضايا ودراسات، العدد الثاني ماي / جوان 1999، تونس، ص 11.

الأستاذ: بلخضر طيفور

الرتبة:  أستاذ مساعد صنف “أ”

المؤسسة: كلية الحقوق والعلوم السياسية / جامعة ابن خلدون – تيارت 

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى