بقلم عبد الله فيصل علام(**) – مركز دراسات الوحدة العربية
أدّت القوات العسكرية أدواراً حاسمة في معظم التغيرات السياسية الكبرى لعدد كبير من البلدان في جميع أنحاء العالم، فقد حصلت عدة دول على استقلالها من خلال الكفاح المسلح، كما حددت الحروب الأهلية مجرى التاريخ في بلدان أخرى، وأدت حروب دولية إلى كسب أراضٍ أو خسارتها، وإلى المحافظة على السيادة أو فقدانها. وعلى الرغم من انتهاء القتال، واصلَ القادة العسكريون والوحدات التابعة لهم ممارسة السلطة في الحياة السياسية.
وبحسب براين لوفمان «في عام 1979، كان أكثر من ثلثي شعوب أمريكا اللاتينية يعيشون تحت الحكم العسكري»[1]، وخلال تلك الفترة، كانت جيوش غواتيمالا والسلفادور والأرجنتين وحدها مسؤولة بصورة جماعية عن نحو 300,000 حالة وفاة واختفاء[2]. إلا أنه بحلول عام 1993، «لم يبق هناك نظام عسكري واحد في أمريكا الوسطى أو الجنوبية»[3].
ربط هذا التحول الكبير في طبيعة الأنظمة السياسية في أمريكا اللاتينية، مع ما تعانيه الأنظمة العربية من استمرار وجود دور حيوي للجيوش في السياسة الداخلية، يجعلنا نخصص هذه الدراسة للإجابة عن التساؤل حول طرق انتهاء الحكم العسكري المباشر من أمريكا اللاتينية، وعن طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية الجديدة في بلدانها، وطبيعة الدور الحالي الذي تقوم به القوات المسلحة في تلك المنطقة من العالم. وذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسية؛ المحور الأول يناقش مراحل وأنماط التحول عن الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية، والمحور الثاني يهتم بتحديد طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية السائدة في مرحلة ما بعد التحول، أما المحور الثالث فيبحث عن أدوار ومهمات القوات المسلحة في ظل الأنظمة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية. وذلك على النحو الآتي:
أولاً: التحول عن الحكم العسكري: المراحل والأنماط
من المهم أن نبدأ بتوصيف حجم الظاهرة العسكرية في أمريكا اللاتينية حتى نستطيع الوقوف على التغيير الكبير الذي شهدته المنطقة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولعل أبرز ما يمكن أن يوضح حجم تلك الظاهرة، هو تكرار حدوث الانقلابات العسكرية في بلدان تلك المنطقة، كما يبين هذا الجدول.
هذا العدد الكبير من الانقلابات العسكرية الذي تفوقت به أمريكا اللاتينية على غيرها من الأقاليم، حتى الشرق الأوسط وبفارق كبير، يوضح مدى عمق الظاهرة العسكرية في تلك المنطقة من العالم.
وبعيداً من الدخول في أسباب التحول الديمقراطي الذي شمل كلَّ بلدان أمريكا اللاتينية، نقدم فيما يلي وصفاً للتقدم الذي لحق بوضع المؤسسة العسكرية هناك، وذلك بعد أن ترك الجنرالات الحكم المباشر، وحل محلهم طائفة من الرؤساء المثقفين والتكنوقراط ورجال الأعمال الناجحين الذين حملتهم الانتخابات الشعبية إلى سدة الحكم.
النقيض لحكم العسكريين أو ما يُسمى «دولة الثكن» (Garrison State)، هو الحكم المدني، وفيه يكون الجيش خاضعاً لــ «الرقابة الديمقراطية» (Democratic Control)»، من خلال الأدوات التالية[4]:
– سيطرة مدنية: حيث يكون للسلطات المدنية السيطرة على مهمات الجيش وتكوينه، والميزانية والمشتريات العسكرية. وأن تكون الموافقة على سياسة الجيش من قبل القيادة المدنية، مع تمتع الجيش بالحرية في تحديد العمليات المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة العامة التي تحددها السلطة المدنية.
– حكم ديمقراطي: من خلال مؤسسات برلمانية وقضائية ديمقراطية، ومجتمع مدني قوي ووسائل إعلام مستقلة تشرف على أداء الجيش. وهذا يضمن المساءلة أمام كل من المواطنين والحكومة، ويعزز الشفافية في قراراتها وأفعالها.
– خبرة مدنية: بأن يتوافر للمدنيين الخبرة اللازمة للإدارة والإشراف على المسؤوليات الدفاعية، ويحد من ذلك احترام المدنيين للخبرة المهنية للعسكريين.
– الحياد الأيديولوجي وعدم التدخل في السياسة الداخلية: حيث لا يؤيد الجيش أو أي من أفراده أي أيديولوجية أو توجه بخلاف الولاء للدولة.
– حد أدنى من الدور الاقتصادي: للجيش دور اقتصادي في القطاعات المرتبطة بالدفاع، لكنها يجب ألا تؤدي إلى تمييع ولاء الجيش للقيادة المدنية الديمقراطية، أو أن يدخل الجيش بمنافسة غير متكافئة مع القطاع الصناعي المدني[5].
تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية بضوابط السيطرة الديمقراطية السابقة بشكل كامل، كما أن هناك الكثير من الأصوات المطالبة بتطبيق هذا النموذج في عدد من بلدان الشرق الأوسط، على أساس أنه النموذج المتعارف عليه للسيطرة على القوات المسلحة. لكن الحال في بلدان أمريكا اللاتينية ليس على هذا النحو، فالسيطرة على القوات المسلحة لا تتسم بهذا النمط الذي ميز الديمقراطيات الغربية الراسخة، لأن المنطقة تعرف أشكالاً متنوعة من السيطرة، مع المحافظة على جوهر العملية الديمقراطية.
ومن خلال البحث في أدبيات العلاقات المدنية – العسكرية في أمريكا اللاتينية، نجد أنها تميز بين دول المنطقة من خلال درجة وأساليب سيطرتها على قواتها المسلحة، فنجد وندي هانتر في دراسته عن «الدولة والجندي في أمريكا اللاتينية» يضع ثلاثة مستويات للسيطرة المدنية، المستوى الأول تتحكم فيه الدولة والسلطات المدنية في قواتها المسلحة، بدرجة مقاربة للنموذج الغربي، وتحصر دورها في مهمة الدفاع التقليدية وفي مهمات حفظ السلام الدولية بشكل شبه مطلق، ومثال لذلك النموذج الأرجنتيني. والمستوى الثاني الذي تكون فيه القوات المسلحة تابعة للسلطات المدنية مع تمتعها بقدر من النفوذ للمحافظة على قيامها بالأدوار التي تفضلها والتي لا تنحصر في الدور الدفاعي ومهمات حفظ السلام كما في النموذج السابق بل تشمل مهمات الأمن الداخلي وبعض الأدوار المدنية الأخرى، وهو ما يمثله النموذج البرازيلي. أما المستوى الثالث وفق دراسة هنتر، فتتمتع المؤسسة العسكرية فيه بدرجة كبيرة من الاستقلالية في اختيار الأدوار التي تود القيام بها، كأن تقوم بتقليل دورها في مهمات حفظ السلام الدولية، والتركيز على المهمات الدفاعية التقليدية والمهمات الداخلية، وهكذا تُدار الأمور في دولة تشيلي[6]. إن الاختلاف حول درجة السيطرة المدنية على القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية راجع بالأساس للاختلافات في أنماط التحول من الحكم العسكري إلى المدني، فالأصل في تراجع درجة السيطرة المدنية هو ما حظيت به المؤسسات العسكرية من امتيازات في مفاوضات ترك السلطة السياسية للمدنيين في البلاد.
وفي دراسة له عن القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية، يسرد براين لوفمن قائمة من الامتيازات العسكرية التي بقيت بعد التحول من الحكم العسكري إلى الديمقراطي، حيث تتضمن: (1) الاستثناءات كعنصر أساسي في دساتير أمريكا اللاتينية، (2) تعليق الحماية القضائية للحريات والحقوق المدنية خلال حالات الطوارئ، أو عند تطبيق قوانين الأمن القومي، (3) تعريف الأمن الداخلي والأدوار السياسية للقوات المسلحة في الدستور الذي جعل من القوات المسلحة – افتراضياً – الفرع الرابع للأوصياء الحكوميّين على الأمة، (4) قوانين أساسية «بنيوية» تزيد من ترسيخ الدور السياسي والاستقلال النسبي للقوات المسلحة في الأسس القانونية للدولة، (5) المحاكمات العسكرية على المدنيين بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الأمن الداخلي»، «الإرهاب»، أو حتى إهانة الضباط، (6) تمثيل رسمي للقوات المسلحة في صنع السياسات؛ على سبيل المثال، في الكونغرس والقضاء والأجهزة التنفيذية، والإدارة العامة، والمؤسسات العامة، (7) الاستقلال الذاتي – الجزئي – للقوات المسلحة في ميزانيتها، مثلاً: حدٌّ أدنى للميزانية ثابت دستورياً، ونسب مئوية من عائدات التصدير، أو عائدات شركات معينة، أو الضرائب العامة، وغير خاضعة للرقابة – من السلطة التشريعية – قد تستخدم لدعم أجهزة الاستخبارات أو وظائف عسكرية خاصة، و(8) الاستقلال الذاتي الدستوري والقانوني الواسع للجيش من الرقابة على المسائل المهنية الداخلية مثل التعليم العسكري، والترقيات، والتقاعد[7].
بالتأكيد تراجعت تلك الامتيازات خلال السنوات التالية للتحول الديمقراطي. لكن لم يكن من السهل أن تنتهي الظاهرة العسكرية في أمريكا اللاتينية بمجرد أن وصلت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي إلى بلدانها. فهناك دول اختارت جيوشها أن تعود إلى ثُكَنِها كالأرجنتين وأورغواي، أو حتى تسريح جيشها مثل كوستاريكا، ودول أخرى ظل الجيش فيها منخرطاً في العملية السياسية بطريقة أو بأخرى، لعدد من السنوات بعد التحول الديمقراطي.
إذاً، هكذا تم التحول، الذي لم يُنهِ الظاهرة العسكرية بين عشية وضحاها، بل ظل العسكريون يمارسون بعض الأدوار السياسية خلال السنوات الأولى من التحول للحكم الديمقراطي. ولتفسير عملية التحول عن الحكم العسكري بدرجة أكبر، يلزم الإشارة إلى أنماط التحول التي تمت في بلدان تلك المنطقة من العالم، والتي شملت ثلاثة نماذج رئيسية:
1 – الانقسامات داخل الحكومة العسكرية، الناجمة عن الخلافات بين مكوناتها المختلفة.
2 – اتفاق/معاهدة بين النخب: وهو مسار أسهل وأكثر إنجاحاً للديمقراطية، ويُؤسس لصيغة تبادل السلطة المُتفق عليها، وكيفية توزيع المناصب القيادية في الدولة.
3 – التفاوض بين الحكومات العسكرية والمدنيين: لضمان استمرار دورهم في العملية السياسية وحماية أنفسهم من المحاكمة عن الجرائم التي ارتكبت خلال حكمهم، كما حدث في تشيلي والبرازيل. وتمتاز هذه الصيغة الانتقالية بتقليل الصراع بين المدنيين والعسكريين، ولكن التقدم في الحالة الديمقراطية يكون ضعيفاً[8].
التحول الديمقراطي: من الحكم العسكري إلى الديمقراطية
المصدر: Juan Emilio Cheyre, «Characteristics of and Influences on the Armed Forces during Democratic Transition in Latin America,» in: Dennis Blair, ed., Military Engagement: Influencing Armed Forces Worldwide to Support Democratic Transitions (New York: Brookings Institution Press, 2013), vol. 2, p. 14.
بعد عقود طويلة من سلطة حكومات شمولية ذات طبيعة عسكرية، استطاعت جمهوريات أمريكا اللاتينية أن تلحق «تدريجاً» بركب الديمقراطية ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين، مع الاختلاف حول مدى كفاءة تلك الأنظمة الديمقراطية(*)، إذ مست حركة الانتقال التاريخي من الدكتاتوريات العسكرية إلى الديمقراطيات كلّ دول القارة وحل محل الجنرالات طائفة من الرؤساء المثقفين والتكنوقراط ورجال الأعمال الناجحين الذين حملتهم الانتخابات الشعبية إلى سدة الحكم. ويمكن القول إن استمرار الحياة الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية منذ أن شملتها الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي في ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، تُعد مؤشراً مُهماً على قدرة تلك الأنظمة – على ما فيها من اختلال في طبيعة السيطرة المدنية – على الحفاظ على مدنية الدولة وعلى تداول السلطة فيها، وعلى إبقاء القرار السياسي ملكاً للمدنيين بالدرجة الأولى.
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة ورقياً في مجلة المستقبل العربي العدد في شباط/فبراير 2016.
(**) عبد الله فيصل علام: مدرّس مساعد في العلوم السياسية، جامعة أسيوط – مصر.
البريد الإلكتروني:faisal.allam@yahoo.com
(***) لمزيد من القراءات حول تصنيف الأنظمة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، انظر: Daniel H. Levine and Jose E. Molina, «The Quality of Democracy in Latin Amrica: Another View,» The Helen Kellogg Institute for International Studies, Working Paper; 342 (November 2007).
[1] Brian Loveman, «Protected Democracies and Military Guardianship: Political Transitions in Latin America, 1978-1993,» Journal of Interamerican Studies and World Affairs, vol. 36, no. 2 (Summer 1994), p. 105.
[2] Jennifer N. Ross, «The Changing Role of the Military in Latin America,» The Canadian Foundation for the Americas, Policy Paper (November 2004), p. 2.
[3] Loveman, Ibid., p. 105.
[4] «Democratic Control of Armed Forces,» Centre for the Democratic Control of Armed Forces (Geneva), DCAF Backgrounder Series, 05 (2008), p. 2.
[5] المصدر نفسه، ص 2.
[6] Wendy Hunter, «State and Soldier in Latin America: Redefining the Military’s Role in Argentina, Brazil, and Chile, United State Institute of Peace,» Peaceworks, no. 10 (October 1996).
[7] Loveman, «Protected Democracies and Military Guardianship: Political Transitions in Latin America, 1978-1993,» pp. 123-124.
[8] Juan Emilio Cheyre, «Characteristics of and Influences on the Armed Forces during Democratic Transition in Latin America,» in: Dennis Blair, ed., Military Engagement: Influencing Armed Forces Worldwide to Support Democratic Transitions (New York: Brookings Institution Press, 2013), vol. 2, p. 15.
[9] Dirk Kruijt y Kees Koonings, «Fuerzas Armadas y política en América Latina: Perspectivas futuras,» Iberoamericana, vol. II, no. 8 (2002), p. 15.
[10] المصدر نفسه، ص 16.
<*>حزب التجديد الوطني (RN: National Renewal)، والاتحاد الديمقراطي المستقل (UDI: Independent Democratic Union).
[11] Leiv Marsteintredet, Mariana Llanos and Detlef Nolte, «Paraguay and the Politics of Impeachment, National Endowment for Democracy and The Johns Hopkins University Press,» Journal of Democracy, vol. 24, no. 4 (October 2013).
<**>الانقلاب الذاتي (Self-coup)، هو شكل من أشكال الانقلاب الذي يقوم به رئيس الدولة، على الرغم من وصوله إلى السلطة من خلال الوسائل القانونية، لكنه يحلّ الهيئة التشريعية الوطنية أو يجعلها عاجزة، ويفرض بصورة غير قانونية صلاحيات استثنائية، لا تُمنح له بموجب الظروف العادية. ويمكن أن تشمل التدابير الأخرى المتّخذة إلغاء دستور الأمة وتعليق المحاكم المدنية وفي معظم الحالات رئيس الدولة يصبح دكتاتوراً.
[12] المصدر نفسه، ص 16.
[13] Manpreet Sethi, «Changing Role of Military in Latin America: Some Approaches and Interpretations,» IDSA Journal, vol. 21, no. 10 (January 1998), p. 1553.
[14] Hunter, «State and Soldier in Latin America: Redefining the Military’s Role in Argentina, Brazil, and Chile, United State Institute of Peace,» p. 4.
[15] Coletta A. Youngers and Eileen Rosin, «Drugs and Democracy in Latin America: The Impact of U.S. Policy,» A WOLA Special Report, vol. 3, no. 4 (November 2004), p. 5.
[16] Ross, «The Changing Role of the Military in Latin America,» p. 10.
[17] المصدر نفسه، ص 10.
[18] أوغستو فاراس، «إصلاح قطاع الأمن: التحولات الديمقراطية وجيوش أمريكا اللاتينية،» مبادرة الإصلاح العربي (11 آذار/مارس 2011)، <http://www.arab-reform.net/ar>.
[19] Hunter, «State and Soldier in Latin America: Redefining the Military’s Role in Argentina, Brazil, and Chile, United State Institute of Peace,» p. 27.
[20] David Pion-Berlin, «Unexpected Civil-Military Relations in 21st Century Latin America,» Nueva Sociedad Journal, no. 213 (February 2008), pp. 6-7.
[21] Kristina Mani, «Military Entrepreneurs: Patterns in Latin America,» Latin American Politics and Society Journal, vol. 53, no. 3 (Fall 2011), pp. 45-46.