دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةدراسات سياسية

نشأة وتطور النظام الفيدرالي الأمريكي: نموذج تقاسم الصلاحيات السياسية وتوازنها عبر مستويات وقضايا الحكم

 من اعداد صادق عبدالحميد مالكي، استاذ مشاركقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والادارة – جامعة الملك عبدالعزيز- جدة – المملكة العربية السعودية

  مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد10 ص 27.

 

  المستخلص:

رغم أن توحيد السياسات والعمل على زيادة مجالات الوحدة الاقتصادية والسياسية بين دول الجوار هو أهم مخرج في عالم تحكمه الدول الكبرى وتخضع فيه الدول الأصغر لمصالح التجمعات الأكثر تماسكاً،[1] فانه من النادر أن نجد بحوث تعالج قضايا تقاسم الصلاحيات وتصميم المؤسسات التي يمكن أن تستوعب عملياً توجهات الوحدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين عدد من الدول. في هذا الشأن فإن التجربة الامريكية التي سوف يركز الباحث على الاستفادة منها كأول تجربة اتحادية في العالم المعاصر ابتداء من عام 1787م، قدمت وتقدم العديد من الحلول المؤسساتية للإشكاليات التي تجئ مع فكرة تقاسم السلطة بين حكومات تشرف على أقاليمها وبين سلطة حكومة مشتركة بين عدد من الدول، وهذه الحلول تشكل في العصر الحديث معين معرفي متخصص[2] يزيد عمره عن قرنين من الزمان، يستحق الدراسة، من منطلق حاجة الأمة العربية الى منظومة فكرية تساعد في وحدة تمكين عادل للعمل المشترك لا وحدة استقواء وهيمنة كتلك التي نجدها في شكل الدولة الموحدة. كذلك فإن العمل في اتجاه التعريف بأساليب الوحدة يتناسب أيضاً مع استمرار تنامي ظاهرة العولمة الاقتصادية والتي تستدعي التقارب الاقتصادي والسياسي بصورة متزايدة حتى بالنسبة للدول التي تعتبر دول كبيرة في عالم اليوم.[3]

انطلاقاً من هذا التوجه العام فإن الباحث يهدف إلى شرح التوازنات والتصميمات المؤسساتية التي جرى تطويرها في ظل النظام السياسي الأمريكي على أساس مبدأ ازدواجية السيادة،[4] وما قد ينشأ عن هذه الازدواجية من قضايا تحتاج الى حلول مبتكرة في مجال تنظيم وتقاسم الصلاحيات السياسية بما يحقق المصلحة المشتركة بين حكومتين أو أكثر ضمن إطار الوحدة.

تمهيد: اشكالية الاستفادة من النموذج الامريكي في ظل السياسة الخارجية للحكومة الأمريكية

 من الصعوبة بمكان أن يتعلم الإنسان ممن يبغض أعماله، فهنالك حواجز نفسية ضد ان نتعلم كعرب من التجربة الامريكية بالذات، ذلك أن الحديث عما هو ايجابي في جهة لا يظهر من أعمالها إلا التعديات وممارسات امتصاص مقدرات الشعوب بطرق مباشرة وغير مباشرة هو ضرب من الافراط في التفاؤل أن لم ينظر اليه على انه تخلي عن صالح الامة وتجاهل لمعاناتها اليومية.

فالغالبية العظمي من العرب لا يعرفون عن الولايات المتحدة إلا أعمالها وممارساتها العدوانية على مستوى العالم بصفة عامة (القنبلة الذرية على هيروشيما ثم نجازاكي[5] وحرب فيتنام والحرب الكورية مثلاً) وعلى مستوى العالم العربي بصفة خاصة (الاعتراف المبكر بإسرائيل والدعم الامريكي غير المحدود لها رغم مخالفاتها للقرارت الدولية بل وحتى للقانون الدولي،[6] وتدمير العراق، ودعم الأنظمة الدكتاتورية). فالعربي الذي لم يزر الولايات المتحدة ولم يعرف مدى الانفصال بين الحكومة الفيدرالية في واشنطن وبين الشعب الأمريكي ومؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر الولايات، يصعب عليه تخطي الحاجز النفسي ليفهم كيف انبثق النظام الامريكي من الارادة الحرة للشعوب في الولايات الأمريكية كما أنه سوف لا يستطيع بالتأكيد  الفصل بين الشعب الأمريكي كأفراد وجمعيات وولايات وبين شبكة المؤسسات في العاصمة الفيدرالية واشنطن (The Institutional establishment) التي تعمل على التأثير على القرار في مجال السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة على أساس مصالح شركات السلاح ودور اللوبي الاسرائيلي اقوى جماعة ضغط في الولايات المتحدة.[7]

رغم ما سبق فإن حاجات الأمة  لقيام نسق وحدوي تستلزم استيعاب الدروس المؤسساتية في النموذج الأمريكي، سواء في نطاق جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو غيرها من محاولات التوحيد والتعاضد العملي في المنطقة، مما يقتضي غض الطرف عن سلبيات الدور الأمريكي في منطقتنا وتخطي الحاجز النفسي، حتى نستطيع سبر غور هذا النظام لتحديد مصادر قوته من خلال التعرف على عوامل النشأة والأبعاد الموضوعية في طرق تقاسم صلاحيات السلطة عبر قضايا ومستويات الحكم.

بكلمة أخرى فما نريد ان نؤكده هنا هو أهمية نموذج النظام الأمريكي في مجال تقاسم السلطة، وأنه قضية مختلفة عما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ويستحق الأمر جهد العناء البحثي من أجل الأمة وكينونتها في وحدة سياسية من نوع أو آخر تكون قابلة للاستمرار والازدهار.

منظور أولي للكتابات حول الفيدرالية[8] باللغة العربية:

يصعب حصر ما قد ينشر عن موضوع عام مثل الفيدرالية والدولة الاتحادية، خاصة ونحن نعلم ان الموضوع مطروق من حيث أنه شكل من أشكال الدول يقابل في ذلك شكل الدولة الموحدة أو البسيطة التي هي الشكل التقليدي للدولة، وفي ذلك نجد عشرات الكتب في مجال مبادئ العلوم السياسية والنظم السياسية المقارنة والتنمية السياسية الى تشير الى موضوع شكل الدولة كموضوع من المواضيع الأساسية في مجال العلوم السياسية.[9]

  لكن وكلمحة سريعة فإن من الكتب المتخصصة باللغة العربية التي ركزت على الفيدرالية كتاب الدكتور عصام سليمان بعنوان الفيدرالية والمجتمعات التعددية ولبنان. في هذا الكتاب يركز الدكتور سليمان على تقديم الفيدرالية كأحد الحلول لأزمة التعايش بين الطوائف في لبنان حيث يبدأ بشرح لمفهوم الطائفية واشكالية التنوع في المجتمعات التعددية وحلول الفيدرالية الإقليمية، وتقاسم السلطة السياسية بين الطوائف من منظور واقع المجتمع في لبنان،[10] ومنها أيضاً كتاب الدكتور أحمد الورتي بعنوان النظام الفيدرالي بين النظرية والتطبيق: دراسة مقارنة (2008، والطبعة الثانية في 2012م)، حيث يعالج موضوع الفيدرالية كحل لتقاسم الصلاحيات بين أطياف الشعب العراقي، وكتاب الدكتور عمر مولود، بعنوان الفيدرالية وامكانية تطبيقها في العراق (2003)، الذي يرى أن الفيدرالية التي تتيح للأعراق والطوائف درجة من الاستقلال لحماية مصالحها هي المخرج اذا كان للعراق أن يبقى كدولة.

 أما عن الكتب التي قدمت للفيدرالية الامريكية بالذات باللغة العربية كأساس لموضوعها فإن هنالك عدد محدود من الكتب ومنها كتاب ريتشارد شرودر (1991 م) بعنوان موجز نظام الحكم الأمريكي، وهو يشرح الفيدرالية من خلال مراجعة التطور التاريخي للتجربة الأمريكية وكيف أسست هذه التجربة التي قامت على اتحاد مجموعة من الدول التي كانت مستقلة (الولايات) في تطوير أساليب ومؤسسات جديده في مجال التنظيم السياسي لحكومة مشتركة عبر وظائف الحكم الاساسية التشريعية والتنفيذية والقضائية كأول تجربة في العصر الحديث.

ومن الكتب الحديثة المترجمة الى اللغة العربية التي تركز على الفيدرالية الأمريكية كتاب الديموقراطية الامريكية الجديدة من تأليف: موريس فيورينا وبير ترام جونسون و بول بيترسون ودي ستيفن فوس، من ترجمة لميس فؤاد اليحيى وصدر عام 2008، وهو يشرح أبعاد تقاسم الصلاحيات السياسية من متخصصين في مجال دراسة النظام السياسي الأمريكي، وكيف نشأت الولايات المتحدة من فرقة حادة، الى تعاون منظم حيث جمعهم أكثر من أي شيء آخر التعنت البريطاني  حينما أصر الملك جورج الثالث على فرض ضرائب دون أن يكون للولايات الأمريكية الثلاثة عشر في ذلك الوقت أي تمثيل في برلمان التاج البريطاني (Kostyal, 2016: 12).

يعالج هذا الكتاب أيضاً التغيرات في العملية السياسية على المستوى الفيدرالي التي نشأت بفعل تزايد دور الإعلام وجماعات الضغط في العمل السياسي للتأثير في القرار السياسي لخدمة مصالح سياسية واقتصادية لفئة محدودة في المجتمع دون أن تكون خاضعة للمساءلة الشعبية.

من زاوية أخرى فان هنالك أيضاً الكتب التي تعالج الانتخابات والأحزاب السياسية الأمريكية كمحور للعملية السياسية في الشكل الفيدرالي الأمريكي على المستوى المحلي ومستوى الولاية والمستوى الفيدرالي، والتداخل بين هذه المستويات، حيث نجد مثلاً كتاب آل ساندي مايسل بعنوان الانتخابات والأحزاب السياسية الأمريكية من ترجمة خالد غريب علي وصدر عام 2014، ويركز على تزايد الارتفاع في تكاليف الحملات الانتخابية في النظام الأمريكي، مما يزيد من دور أصحاب رؤوس الأموال في العملية السياسية، عند المستوى الفيدرالي بالذات.

لكن وفيما يتعلق بفكرة الفيدرالية كحل لمشكلة التفتت التي يعيشها العالم العربي فإن المراجعة الأولية التي قام بها الكاتب لما هو موجود على الانترنت تظهر انتشار البحوث عن الفيدرالية، ولعل ذلك يعود الى المعاناة التي مرت بها الشعوب العربية مع نتائج الحكومات المركزية في شكل الدولة البسيطة في سوريا والعراق واليمن وليبيا حيث كان للتركز الهائل للسلطة في المركز السياسي مع تجريد النطاقات الجغرافية الأخرى والأقليات من صلاحيات المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية أثره في البحث عن البديل، بالإضافة الى تزايد الحديث عن نجاح التجربة الفيدرالية في الامارات العربية المتحدة.[11] في هذا الشأن فإننا نجد كتابات تشير الى الفيدرالية كحل على المستوى القومي العربي مثل كتاب الدكتور عباس علي الذي يقدم للفيدرالية كحل للوحدة العربية وبديل لأي توجهات وحدوية تقوم على شكل الدولة أو الموحدة (أنظر مقدمة الكتاب: عباس، علي عبدالرحمن. نحو فيدرالية عربية. 2014 (www.ekfnl.gove.sa)، والكتابات التي تقدم الشكل الفيدرالي أيضاً كحل للتنوع الثقافي في داخل بعض الدول العربية القائمة (www.aljazeera.net) بدلاً من مصير التفكك السياسي حينما سقطت الدولة الموحدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا لأسباب وعوامل مختلفة ولكنها تجتمع في حدوث مواجهات داخلية بين السلطة وفئات من الشعب بسبب تركز السلطة في مناطق أو فئة بعينها.

بل ان بعض الكتابات الحديثة بدأت تتحدث عن مخاطر الوضع في الدول التي نشأت على أساس المركزية السياسية، وأن مصيرها قد يؤول الى حال الشرذمة السياسية التي تفشت في دول كانت موحدة وذات مظهر متماسك حتى وقت قريب عبر المنطقة العربية.[12]

من وجهة نظر الباحث هنا فإن جزءاً كبيرا من الكتابات السابقة عن الواقع العربي كشفت عن مشكلة الدول العربية مع الشكل الأحادي للسلطة (الدولة البسيطة أو الموحدة) حيث المركزية الهائلة، ولكن لم تراعي أهمية الاستفادة من التجربة الاتحادية الامريكية بالذات بوضعها في سياق معرفي لبدائل الحلول لاتجاه التشرذم سواء على مستوى العالم العربي أو في داخل بعض دوله، رغم ما تتميز به هذه التجربة من ديناميكية متئدة في التطور، ومن توازنات هامة في الصلاحيات الأمر الذي سنقوم بتوضيحه خلال البحث.

منهج البحث:

 أعتمد الكاتب على المنهج الوصفي التحليلي من خلال دراسة التطور التاريخي للنظام الامريكي والاتجاه العام نحو العمل على ايجاد حلول مؤسساتية لتحقيق تقاسم عملي للصلاحيات السياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار دور سمو نصوص القانون الدستوري الأمريكي كمرجع للمبادئ التي يجب الالتزام بها عند الاقدام على تطوير أساليب تقاسم الصلاحيات، حيث شكلت نصوصه المؤسسات الأساسية للدولة الفيدرالية في بداية الأمر، كما أثرت التعديلات في نفس الدستور على استمرارية  الحكومة الاتحادية من جهة وتطور الأنظمة والقوانين في نفس حكومات الولايات من جهة أخرى بسبب كون المبادئ الدستورية ملزمه للحكومة الفيدرالية ولحكومات الولايات بالاضافة للحكومات المحلية بطبيعة الحال داخل الولايات (سيتم توضيح كيف تطور تسلسل هرم القوانين).

أهمية البحث:

إذا كانت الوحدة الاقتصادية والسياسية هي أحد أبعاد قوة المجتمعات ومنعتها في النطاق الدولي، ومادامت قوى العولمة والتكامل الإقليمي في عمليات التفاعل العالمي هي التي تقود العالم المعاصر، حيث لا تستطيع الدول الصغيرة الا ان تلتزم بالقواعد التي تضعها الدول الكبيرة او ان تصبح الدولة الصغيرة شريكة في تجمع أكثر تماسكاً،[13] فإن دراسة الاسس والأساليب والنماذج التي يمكن ان تساعد في تطوير العلاقات بين مجموعه من الدول إلى نوع أو آخر من الوحدة الاقتصادية أو السياسية أو كليهما، هي أمر مطلوب أن لم يكن واجباً. وسواء كان الأمر يتعلق بمجلس التعاون الخليجي أو بجامعة الدول العربية او حتى بمنظمة التعاون الاسلامي فإن قضية أساليب التعاون من خلال تقاسم صلاحيات القرار بين مجموعة من الدول وكيفية تطوير تصميم المؤسسات المشتركة على أساس من العدل بهدف تحقيق المصلحة المشتركة، هي في صلب رسم صورة لمستقبل يأخذ في الاعتبار ضرورة ايجاد حلول جديده لمشكلة الطبيعة التسلطية للدولة الموحدة التي تشكلت وفق نموذجها البسيط أغلب الدول العربية مع الأخذ بعين الاعتبار مخاطر التجاذبات الدولية التي تعيشها المنطقة.[14]

عوامل استمرارية التطور في نظام الولايات المتحدة التي تزيد من أهمية دراسته:

قد يعتقد البعض أن حديثنا عن التجربة السياسية الامريكية وامكانيات الاستفادة منها هو حديث عن نموذج تاريخي ظهر وتشكل في القرن الثامن عشر، وأن العالم انما يستفيد اليوم من التجربة التاريخية لنشأة هذا الاتحاد، لكن الواقع غير ذلك، فالتجربة السياسية الامريكية رغم تعقيدها هي تجربة ديناميكية مستمرة، ومخرجاتها في أسس وطرائق وأساليب الحكم وتقاسم الصلاحيات هي قضية قابلة للتطوير -مما يجعلها أكثر أهمية لدارسي العلوم السياسية- للعوامل التالية:

العامل الأول:

قيام كتبة الدستور الأوائل بتطوير امكانية تعديل الدستور الأمريكي، حيث نجد النص على آلية التعديل في المادة الخامسة من الدستور.  هذا الأمر أتاح امكانية إجراء تعديلات تصحيحية لمسار الحكم بحيث يحافظ على الغايات التي نشأ بهدف حمايتها وبالذات سيادة الشعب فوق الحاكم، وحماية حقوق الإنسان، والحد من احتمالات استبداد السلطة.[15]

هذه الأهداف نراها في مقدمة الدستور الأمريكي التي جرى النص فيها على أن الشعب هو مصدر جميع السلطات (يجري ضمان استمرارية السيادة الشعبية من خلال الانتخابات الشعبية الدورية في انتخاب أعضاء السلطة التشريعية ورئيس السلطة التنفيذية)، وكذلك في التعديل الأول للدستور الذي نص على الحقوق الأساسية للإنسان وصدر عام 1791م، أي بعد أربع سنوات فقط من صدور الدستور الأمريكي، ليقف بذلك في وجه احتمال تعدي الأغلبية على هذه الحقوق.[16]

لقد وصف مايكل كامن (1996) أستاذ التاريخ والثقافة الأمريكية في جامعة كورنيل في كتابه بعنوان: آلة تعمل من تلقاء نفسها: الدستور في الثقافة الأمريكية، هذه الطبيعة التطورية التي يتم بها تعديل النظام الأمريكي عن طريق التعديلات الدستورية، فشبه الدستور وكأنه آلة تعمل من تلقاء نفسها للاستجابة لحاجات اصلاح النظام السياسي بناء على الارادة الشعبية ذاتها. [17]

مع ما سبق فإنه من الضروري ان نشير الى أن واضعي الدستور تعمدوا جعل عملية اجراء التعديلات عملية طويله ومعقده وتستلزم أغلبية ساحقة في مرحلة الاقتراح والموافقة والتصديق،[18] وذلك حتى لا تصبح الوثيقة التي كان المجتمع قد ارتضاها عرضة لنزوات الحزب الذي يملك الأغلبية في الهيئة التشريعية أو محلاً للنزاع السياسي خلال فترات الانتخابات.

 لكن ورغم ذلك فإن نظرة شاملة لهذه التعديلات تظهر تحول قدرة الأغلبية الشعبية الساحقة التي نص عليها الدستور في المادة الخامسة[19] الى قوة عملية قادرة على اصلاح حال الحكم الى حد القول (كما وضح كامن في كتابه) بأنه وكأن هنالك آلة متقدمة تتحرك بشئ من التلقائية لتعديل مفاصل محدده في عمل السلطة استناداً الى روح الدستور ونصوصه.

العامل الثاني:

دور المحكمة العليا في تفسير القوانين الفيدرالية وقوانين الولايات على أساس المبادئ العليا التي وردت في الدستور وبالذات تلك التي وردت في التعديل الأول بخصوص حقوق الإنسان (التعديل الأول للدستور يحوي وحده عشر تعديلات)[20] التي تمتاز باستنادها الى الفكر الانساني العالمي وحقوق الإنسان، من قبل قضاة المحكمة العليا التسعة الذين يتم ترشيحهم من قبل الرئيس ويوافق أو لا يوافق الكونغرس على تعينهم  ليكون التعيين لمدى الحياة، حيث يظهر قضاة المحكمة العليا وكأنهم مجلس من الحكماء حيث تصدر قرارات المحكمة العليا التي تسعى الى توفير أرضية قانونية مشتركة عبر الولايات بالأغلبية من القضاة التسعة بعد مداولات مطولة لعدة أسابيع في قضايا ومنازعات فعلية تنطوي على تطبيق فعلي للقوانين (أوكونور، 1994: 4). خلال مداولات ومناظرات القضاة فإن كل قاضي يقدم منطق الحكمة الذي استند اليه في تحديده لرأيه، بعيداً عن الضغوط والمؤثرات السياسية التي تنشأ في أحياناً كثيره بين أعضاء الجهازين التشريعي المسؤول صنع القاعدة القانونية والتنفيذي المسؤول عن تنفيذها (أوكونور، 1994: 4).

هنا لا بد ان نشير أن الرأي الذي تصل إليه الأغلبية بين قضاة المحكمة العليا ملزم لكافة المحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات والمحاكم الأدنى، وطالما وصفت هذه الصلاحية للمحكمة العليا في تفسير القوانين على أنها تدخل في عمل السلطة التشريعية وأنها “تشريع من مقاعد القضاء”، لكن دور المحكمة العليا ثبت في النظام الأمريكي كعامل مساعد في استقرار النظام،[21] رغم احتدام الجدل من فترة لأخرى حول هذا الدور للمحكمة كما لاحظنا مؤخراً في قضية تجميد الأوامر التنفيذية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب من قبل المحكمة الفيدرالية في ولاية واشنطن ثم من محكمة الاستئناف الفيدرالية في كاليفورنيا والسماح بدخول ليس فقط الذين تم احتجازهم في مطارات الولايات الأمريكية، بل وايضا السماح بسفر من يحملون فيزا سارية المفعول من خارج الولايات المتحدة اليها.[22]

العامل الثالث: الحقوق الأصيلة لحكومات الولايات في التقرير والحكم ضمن إطار الولاية مادام الأمر لا يتعارض مع الدستور أو القوانين الفيدرالية، حيث تعمل حكومات الولايات بطريقة مستقلة عن بعضها البعض وعن الحكومة الفيدرالية، مما يتيح لحكومات الولايات والحكومة الفيدرالية نفسها معين من التجارب السياسية والقيادات التي تكون قد تمرست على أنماط مختلفة من الحكم، حيث تستطيع حكومات الولايات الاستفادة من تجارب بعضها البعض في مجال التعليم والتطوير الاجتماعي والاقتصادي والبحث العلمي وغيرها.

 العامل الرابع: تطور مجال دراسة النظام السياسي الأمريكي بطريقة تختلف عن مجال العلوم السياسية في أوروبا كفرع مستقل من فروع العلوم السياسية في أغلب أقسام العلوم السياسية الموجودة في جامعات الولايات المتحدة الامريكية، مما يدعم الحراك الفكري في تطوير المؤسسات السياسية على أساس البحث الأكاديمي.

هذا التخصص العلمي الحديث نسبياً حقق ويحقق ارتباط نادر بين طريقة قيام المؤسسات السياسية بعملها وبين مؤسسات البحث العلمي، خاصة مع وجود الحرية الأكاديمية التي تتيح تعريض مؤسسات الحكم والشخصيات العامة والنظام الديموقراطي برمته الى تحليل ونقد مستمرين، مع استجلاء للبدائل والأفكار الجديدة نحو تطوير النظام من خلال المقارنة بالأنظمة والتجارب في أوروبا بالذات.[23]

كيف ظهرت الفيدرالية الأمريكية:

كان البريطانيون الذين يشكلون الغالبية العظمى من المهاجرين الاوائل الى أمريكا الشمالية[24] يفتخرون بكونهم من بريطانيا وأصولهم من الانجلوساكسون حيث كانت المستعمرات خاضعة صوريا للتاج (شرودر، 1991: 73)، ولكن وفي عام 1760م تولى الملك في بريطانيا ملك شاب وهو جورج الثالث (George III) عمره اثنا وعشرين عاماً، ليس لديه خبرة كافية في الحكم حيث بدأ عهده بإقصاء الوزراء من اصحاب الخبرة وتعيين المقربين منه من حزب الأحرار(Kostyle 2016, 10). كانت للملك الشاب رغبة جامحة في اثبات نفسه وبدأ بفرض أنواع مختلفة من الضرائب على المستعمرات في أمريكا ورأي أن على هذه المستعمرات ان تدفع ثمن الحماية البريطانية لها وأن تكون في خدمة التاج البريطاني.[25]

لكن ومع استمرار تزايد أنواع الضرائب التي بدأ الملك الشاب بفرضها، والتشدد في عمليات التحصيل والملاحقة فقد تجرأ المجلس القاري الرابع للولايات الأمريكية في يوليو 1776 اعلان استقلال الولايات عن بريطانيا على أساس انه ليس من حق بريطانيا أن تفرض ضرائب وليس للولايات الأمريكية تمثيل في برلمان التاج البريطاني (أنظر: متولي، 2013، :216).

 رفضت بريطانيا هذا الاستقلال من حيث المبدأ، وقامت بالرد عملياً بإرسال قواتها من كندا الى نيويورك وبوسطن لتأديب القائمين على الانتفاضة ضد اوامر التاج  وهكذا بدأت الحرب الثورية ضد بريطانيا. في ظل هذا الوضع المتأزم وأمام رفض الناس في العديد من الولايات دفع الضرائب اضطرت حكومات الولايات الأمريكية الى زيادة التعاون العسكري فيما بينها (ثلاثة عشر ولاية في ذلك الوقت)، لمواجهة التحركات العسكرية البريطانية، حيث كشفت معركة ساراتوجا بالذات (Saratoga) عام 1777م (ساراتوجا هي محافظة من محافظات ولاية نيويورك) عن دور التكاتف بين حكومات مستعمرات أمريكا الشمالية في هزيمة العدو المشترك.[26]

كانت بداية الاتحاد تقوم على تعاون محدود بين دول مستقلة تختلف في هيكل الحكم في كل منها (مايسل، 2014: 20)، وتم بالفعل انشاء اتحاد كونفدرالي كحل يتيح أكبر قدر من الاستقلال للولايات، وكان ذلك عام 1783، لكنه لم يثبت اي جدوى في تحقيق الوحدة الاقتصادية أو السياسية، بسبب عدم وجود سلطة مشتركة لديها صلاحيات فوق سلطة الولايات فكان فشله الذريع خلال الأزمة الاقتصادية الخانقة في تلك الفترة.

حالة التفكك في الاتحاد الكونفدرالي قبل وخلال الأربع سنوات من عمره كشفت عن وضع خطير عاشته الولايات الامريكية بعد بداية الثورة الأمريكية ضد الحكم البريطاني. “ففي عام 1783 (عند انشاء الاتحاد الكونفدرالي)، أي بعد الحرب الثورية، دخلت الأمة مرحلة اتسمت بظروف سياسية وتجارية غير مستقرة…..وقد رسم بعض المؤرخين صورة قاتمة للمشكلات التي كانت تواجهها البلاد الفتية. لكن لاشك أن الوضع بدأ يسوء بشكل مطرد بعد عام 1783. لقد كانت كل ولاية تتصرف وكأنها دولة مستقلة، ورفضت المجالس التشريعية في الولايات الوفاء بالديون التي ترتبت عليها خلال الحرب الثورية (ضد الاحتلال البريطاني). كما أن العديد من الولايات سن قوانين تمكن الدائنين من التهرب من تسديد ديونهم، والأسوأ من هذا كله انه بدأ بعض الناس في التفكير مرة أخرى باللجوء إلى السلاح لحل مشكلاتهم. ففي غربي ولاية ماسيتشوتس في عام 1786 تمرد آلاف المزارعين بزعامة الكابتن دانيال شيز ضد حكومة ولاية بوسطن، وتمكنت قوات الحكومة في آخر الأمر من سحق التمرد. وتساءل جورج واشنطن وزعماء آخرون ما إذا كانت المستعمرات قد ثارت ضد بريطانيا العظمى دون جدوى”.[27]

في ظل هذه الازمة الخانقة ظهرت ضرورة إيجاد حل للحد من الصراع بين الولايات وعدم التزام بعضها بما تعهدت به، يقوم على قيام سلطة مشتركة تقبل بها الولايات للتخفيف من ميل هذه الولايات للاستقلال من جهة والتعامل مع القضايا المشتركة بطريقة أفضل من جهة أخرى، وهذا الحل تطور فيما بعد الى شكل النظام الفيدرالي مع اعلان الدستور الفيدرالي عام 1787، الذي يمكن ان نعتبره تاريخ نشأت الولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفها اليوم.

أساس الميل نحو تقاسم السلطة: اعتراف له عوامله التاريخية بأن السلطة تنبثق من أسفل الى أعلى: مستويات الحكم في النموذج الأمريكي

نلاحظ هنا أن الاختلاف في التنظيم السياسي بين النظام السياسي الامريكي وأنظمة الحكم في العالم يتكشف لنا ليس فقط في سابقة تنظيم ازدواجية السيادة بين الحكومة الفيدرالية في واشنطن وبين الحكومات في عواصم مختلف الولايات (فيورينا 2008: 61)، ولكن أيضا في  الدور التاريخي للوحدات المحلية التي كان بعضها قد نشأ قبل ظهور حكومات الولايات نفسها،[28] وبالتالي  تأصل في وقت مبكر في العقل الجمعي عبر الولايات الأمريكية حق انبعاث السلطة بصور مختلفة عن طريق الحوار العام من أسفل (سكان النطاق الحضري من المواطنين) إلى أعلى (المجالس المحلية المنتخبة وعمد المدن والمحافظات وحكام الولايات)، فنتيجة لتجارب الحكومات المحلية في المدن ومحافظات الولايات[29] (التي كانت قد ظهرت كمستوطنات ومستعمرات متناثرة تسعى لتنظيم نفسها للدفاع عن نفسها ضد سكان البلاد الأصليين وتوفير مقومات الاستمرارية للمستعمرات –أنظر مثلاً: Kostyal, 2016: 12 to 14)، وكونها قد سبقت في نشأتها حكومات الولايات، ظهرت مستويات مختلفة للحكم بعيداً عن أي شكل من أشكال التنظيم المركزي فكانت البدايات في حكومات محلية متنوعة مستقلة بصور مختلفة قبل مرحلة تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية (وذلك نتيجة لانتشار المستعمرات على رقعة واسعة من الأرض وحاجة كل منها لتنظيم نفسها ذاتيا).

نتيجة لهذا التطور التاريخي فإن المبدأ الأساسي الذي يسيطر على فكرة الحكم هو اعتراف مسبق بأن السلطة السياسية تنبثق من القاعدة الى أعلى وليس كمنحة من المستوى الأعلى الى المستوى الأدنى (اوزبون، 1992م: 17)، وتصبح السلطة عند ذلك (في تجلياتها عبر المستويات الثلاث الاتحادية وحكومات الولايات والحكومات المحلية)[30] هي قضية تفعيل للإرادة الشعبية عند القاعدة بإعطاء الناس عند كل مستوى حق تحديد أولويات النشاط العام حسب أولويات الناس وبناء على الحوار العام بينهم، وانتخاب المسؤولين العموميين (بطرق ونظم تختلف من ولاية الى أخرى)[31] لفترات زمنية محدودة لإنجاز ما كانوا قد أعلنوا الالتزام بتحقيقه، او دفع ثمن الفشل في الانتخابات القادمة.

هذه الحقيقة عن النظام السياسي الأمريكي هي اختلاف آخر لهذا النظام الذي تنتشر فيه اللامركزية السياسية والحق في الحوار العام بطرق مختلفة منذ مرحلة نشأت الدولة، حيث يشير الى ذلك مدير مركز جولد فارب للشئون العامة والمشاركة المدنية بجامعة كولبي آل ساندي مايسل مفيداً الى أن “الأمريكيون ينتخبون أكثر من 500 ألف (خمسمائة ألف) مسئول عمومي، أي أكثر ممن ينتخبون في أي ديموقراطية أخرى…..وينتخب كثير من هؤلاء في وقت واحد”. على سبيل المثال يذكر مايسل ادلاء أن مواطني مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا سوف يدلون بأصواتهم في يوم واحد “لانتخاب رئيس الجمهورية ونائب الرئيس، ولانتخاب عضو بمجلس الشيوخ الفيدرالي، وعضو بمجلس النواب (الفيدرالي)، ولانتخاب حاكم الولاية ونائب الحاكم وسبعة مسئولين آخرين بالفرع التنفيذي على مستوى الولاية، وخمسة قضاة على مستوى الولاية، وعضو بمجلس الشيوخ بالولاية، وعضو بمجلس النواب بالولاية، ولانتخاب متسابقين على مجموعة متنوعة من المناصب بالمقاطعات أو المحليات” (مايسل، 2014: 19). قائمة الاقتراع الطويلة كما يشير تطورت في فترة مبكرة من نشأة الولايات الأمريكية كطريقة للاستجابة لدور الناس، لكن هنالك من يشير الى ان في ذلك اسراف في الديموقراطية رغم حسناتها كما يشير مايسل (ص19).

لمعرفة أثر هذا التوجه في تشكيل معالم النظام السياسي الأمريكي ونفس أنظمة الحكم والادارة في الولايات فإن الكاتبين ديفيد اوزبون وتيد غايبلر في كتابهما الذي ترجم للعربية عام 2010[32] يختصران لنا الموضوع بالإشارة إلى الخطأ الشائع في فهم التنظيم السياسي الأمريكي، وأنه لا يكمن فقط في دراسة الحكومة الفيدرالية في واشنطن حيث يشيران الى أنه:

  “على الرغم من أن أجهزة الإعلام تتسلط عليها فكرة الحكومة الفيدرالية، فإن معظم أعمال الحكومة في أمريكا تحدث فعلياً خارج واشنطن. فهنالك 83000 وحدة حكومية في الولايات المتحدة، وحكومة اتحادية واحدة (عدد موظفيها ثلاثة ملايين موظف فيدرالي)، وخمسون حكومة ولاية، وألوف المدن، والمقاطعات، والمناطق المدرسية، والمناطق النائية، ومناطق النقل والمواصلات، وغالبية خدماتنا توصلها الحكومات المحلية- في المدن، والمقاطعات، والبلدات، والمناطق. ثم إن أكثر من 12 مليوناً من موظفي الخدمة المدنية العامة، البالغ مجموعهم 15 مليوناً من المتفرغين، يعملون عند حكومة الولاية أو الحكومة المحلية بدوام كامل”.[33]

هنا علينا أن نلاحظ أن المواطن الأمريكي يشارك في الثلاث مستويات للحكم من خلال حوارات عامة مفتوحة ومناظرات حادة بين المرشحين لمختلف المناصب العامة.[34] فالمواطن يؤثر في تنظيم النطاق الذي يسكن فيه من خلال مشاركته في انتخابات مجلس مدينته أو المنطقة البلدية التي يقيم فيها، وهي ما تسمى أحيانا بالحكومة المحلية أو حكومة المدينة أو المحافظة، كما يشارك في انتخابات رئيس الولاية وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الخاصين بالولاية[35] التي يقيم بها (يعطى حق التصويت والترشيح بناء على فترة اقامة الفرد في الولاية لمدة محدده تختلف من ولاية الى أخرى)، بالإضافة الى حقه في المشاركة في انتخابات الرئاسة الامريكية وأعضاء الكونغرس الفيدرالي (مجلسي الشيوخ والنواب على المستوى الفيدرالي).

لرسم صورة أولية لهذا المنحى العام في بناء السلطة من القاعدة الشعبية الى أعلى فقد قام الكاتب بإعداد الشكل (الشكل 1) لتوضيح الدور التأسيسي للفرد في تشكيل ومساءلة السلطة في مستوى الحكومة المحلية (عنوان اقامة الفرد) وحكومة الولاية (الولاية التي يقيم فيها) والحكومة الفيدرالية.

الشكل (1)[36]

تحديد أسس ومعالم نظام تقاسم الصلاحيات السياسية في النظام الفيدرالي الأمريكي:

في ضوء المختصر السابق حول تاريخ النشأة وتعدد مستويات الحكم في النظام السياسي الأمريكي، ومن خلال معرفة الكاتب بالتجربة السياسية الامريكية بالذات،[37] فسوف تكون مهمة الباحث فيما يلي هي توضيح القواعد والقضايا التي كان لا بد من حلها حتى يصبح التنظيم المشترك بالذات بين مستوى الولاية والمستوى الفيدرالي قابل للعمل والاستمرار في الواقع العملي:

في هذا الشأن فهنالك قاعدتين دستوريتين اساسيتين حكمت وتحكم العمل الاتحادي منذ المرحلة الأولى لنشأة النظام السياسي الأمريكي، ولا بد من توضحيها قبل معالجة أساليب تقاسم الصلاحيات:

 القاعدة الأولى: أن يجري ادارة القضايا المشتركة من قبل الحكومة الفيدرالية:

المبدأ الأساسي هو أن تقوم الحكومة الاتحادية (الفيدرالية) التي يجري تشكيل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية من سكان مختلف الولايات، بكافة الصلاحيات المشتركة عبر الولايات ويترك لكل ولاية الحق في ادارة شئونها الداخلية.

بناء على هذا التوجه العام فإن من القضايا المشتركة التي أصبحت من اختصاص الحكومة الفيدرالية فقط الحق في صك العملة، والحق في ادارة العلاقات الخارجية، والحق في إدارة الطرق العابرة للولايات، والحق في ادارة التجارة عبر الولايات، وكذلك ادارة البريد الفيدرالي، وعشرات القضايا المشتركة الأخرى، ويبسط الجدول (1) من حيث المبدأ[38] فكرة تقاسم الصلاحيات بين حكومات الولايات وبين الحكومة الفيدرالية.

صلاحيات الحكم والإدارة أولية اختصاص الولاية اختصاصات السلطة الفدرالية
الجيش
الصحة
التعليم
العلاقات الخارجية
الأمن الداخلي
صك العملة
القضايا المشتركة عبر الولايات

الجدول (1)

من شروط التقسيم التي جرى تأكيدها ابتداء من بداية القرن التاسع عشر هو ان تكون الحكومة الفيدرالية من حيث القوة العسكرية المحضة أقوى من أي ولاية من الولايات الامريكية منفردة، علماً بأن لكل ولاية قوة دفاع تخضع لحاكم الولاية،[39] ولكن الجيش الذي يتحرك عبر الولايات هو فقط الجيش الفيدرالي التابع للحكومة الفيدرالية، ولا يحق للولايات ان تمتلك عوامل القوة الجوية أو البحرية إلا بإذن من الكونغرس الفيدرالي الذي له الحق أيضا في تقرير مدى الحاجة لإنشاء قواعد عسكرية في أي ولاية من الولايات تحت اشراف السلطة الفيدرالية.[40]

أما بالنسبة للشؤون الأمنية داخل كل ولاية فإن للولايات الحق في انشاء قوة شرطة قادرة على الحفاظ على الأمن في نطاق الولاية، ولا يحق لجهاز الشرطة في أي ولاية العبور الى ولاية أخرى.

القاعدة الثانية: التأكيد على حق حكومات الولايات في ادارة شئونها الداخلية:

مع ما سبق من قوة الحكومة الفيدرالية وحقها في التدخل بالتنظيم لكل ما هو مشترك عبر الولايات (المادة السادسة من الدستور) فلا بد ان نشير ان هنالك قاعدة أساسية تطورت في مرحلة نشأت الولايات المتحدة الامريكية ساعدت وتساعد في الحد من تدخل الحكومة الفيدرالية في عمل حكومات الولايات، وهذه القاعدة هي أن كل ما سكت عنه الدستور فهو ابتداء من اختصاص حكومة الولاية، ففي الفترة الأولى للاتحاد كان هنالك قلق بين حكومات الولايات بأن الحق التشريعي للحكومة فيدرالية قد يعني تعطيل قدرة هذه الحكومات في تنظيم الحياة والعمل داخل الولايات[41] بما يتلاءم مع حقيقة اختلاف الحاجات التنظيمية من ولاية لأخرى، والحاجة الى سرعة اتخاذ القرار فيها، ولذلك جاء التعديل الأول للدستور عام 1791 أي بعد أقل من أربع سنوات على اعلان الدستور الامريكي ليحوي في مادته العاشرة النص التالي:

  “أن السلطات التي لا يوليها الدستور للولايات المتحدة ككل ولا يحجبها عن الولايات افراديا تحفظ لكل من هذه الولايات أو للشعب”

 وقد تم اعتماد هذا التعديل بالذات كما يشير الى ذلك كتاب: دستور الولايات المتحدة الامريكية مع ملاحظات توضيحية “بهدف طمأنة الناس في الولايات إلى أن الحكومة القومية (الحكومة الفيدرالية) لن تبتلع الولايات، وتؤكد ايضا ان الولايات او الشعب يحتفظون بجميع السلطات التي لم تمنح لتلك الحكومة” (أنظر: دستور الولايات المتحدة الامريكية: ملاحظات توضيحية ص48).

تطور الحلول العملية للقضايا الأساسية في الحكم أمام مشكلة تعدد الحكومات:

رغم القاعدتين السابقتين في تنظيم العمل الحكومي بين مستوى الحكومة الفيدرالية ومستوى حكومات الولايات فإن مما نعرفه عن طبيعة الصراع في العمل السياسي،[42] ادى الى ظهور قضايا وتناقضات سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة، واحتاج الأمر الى مواجهة هذه التناقضات بإيجاد حلول عملية للحفاظ على الوحدة الوطنية في ظل حقيقة الاستقلال شبه الكلي لحكومات الولايات بصلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية لكل منها.  من أهم هذه القضايا التي كان لا بد من حلها لتحقيق الانسجام والاستمرارية للنظام الأمريكي:

 أولاً: حل مشكلة احتمال تناقض القوانين، وتطور النظام القضائي:

فيما يتعلق بالاختصاص الأصيل للدولة في صنع القواعد الملزمة لتنظيم حياة الناس (القوانين)، فإننا نجد أن في الشكل الفيدرالي جهتين لهما الحق في صنع القاعدة القانونية وهاتين الجهتين هما الحكومة الفيدرالية في واشنطن العاصمة من جهة وحكومات الولايات في عاصمة كل ولاية من جهة أخرى حيث يوجد مجلس تشريعي منتخب (كونغرس) في كل ولاية، ولذلك فهنالك احتمال قائم في تناقض القانون الذي قد تصدره هذه الولاية أو تلك مع القانون الفيدرالي، كما أن قوانين الولايات نفسها قد تتناقض مع بعضها البعض.

 كحل لهذه المشكلة المحتملة فقد حدثت تطورات في تاريخ  النظام الفيدرالي الأمريكي افضت إلى قيام ترتيب للقوانين المختلفة في هرم يعلوه القانون الأسمى للدولة (الدستور الفيدرالي) ثم القوانين الفيدرالية، ويلي ذلك قوانين ونظم الولايات، فلا يحق لقانون الولاية ان يخالف الدستور او القانون الفيدرالي، وكذلك لا يحق للقانون الفيدرالي أن يخالف الدستور، أماعن احتمال تعارض قوانين الولايات، فهي أمر وارد ولكنها مشكلة محدودة نظراً لتباعد الولايات عن بعضها البعض في أغلب الحالات، ووجود القانون الفيدرالي كعامل توحيد مشترك يمكن التدخل عن طريقة في حل اشكاليات التناقض الكبيرة  بين هذه قوانين، مما يحد من توسع أثر هذه التناقضات على التنظيم السياسي للمجتمع.

ان قبول الولايات بهذا الترتيب له أيضا مبرر موضوعي يرتبط بحقيقة ان هنالك ممثلين عن كل ولاية يشاركون في عمليات صنع القواعد القانونية على المستوى الفيدرالي، فكل ولاية تقوم على انتخاب نواب عنها في مجلس الشيوخ (شيخين عن كل ولاية بغض النظر عن عدد سكانها) ومجلس النواب (عدد الأعضاء في هذا المجلس حسب عدد سكان الولاية) إلى الكونغرس الفيدرالي، وهم بذلك شركاء في عمليات التشريع على المستوى الفيدرالي.[43]

 

شكل يبسط ترتيب القوانين الذي أستقر كحل لتنازع القوانين مع نهاية الحرب الأهلية عام 1865م (من اعداد الكاتب).

 

كيف تطور هذا التنظيم القانوني في حل احتمال مشكلة التناقض بين القوانين:

من الضروري ان نشير هنا إلى ان هذا الترتيب للقوانين الذي وضحناه في التسلسل الهرمي أعلاه لم يكن مقبولاً من قبل العديد من الولايات، وإنما جاء كتطور مؤسساتي من خلال أحكام هامة للمحكمة العليا من جهة ونتائج الحرب الأهلية خلال الأعوام 1861-1865 من جهة أخرى. فخلال القرن الثامن عشر رأى بعض المؤيدين لحقوق الولايات (يطلق عليهم أحياناً مسمى الكونفدرالين) أن سيادة الولاية يجب ان تبقى كاملة، وأيدوا في ذلك مبدأ سمي بمبدأ “الاحباط” الذي ينص بأن هيئة الولاية التشريعية يمكن ان تحبط (تبطل) قوانين الكونغرس (الفيدرالي) التي تهدد حريات الولاية أو الفرد، واستخدم هذا المبدأ فعلاً ابتداء من عام 1798م ضد الحكومة الفيدرالية. تم اسقاط الاعتراض الأكثر أهمية عام 1819م[44] والاعتراض الثاني عام 1828م وتم ذلك بصعوبة بالغة من قبل المحكمة العليا التي تعرضت لنقد شديد من قبل ممثلي الولايات.[45]

لكن قضية تنازع القوانين بين المستوى الفيدرالي ومستوى الولاية لم تحسم بصورة نهائية وأستمر الأمر كمشكلة كبرى للاتحاد الأمريكي، فكانت الحرب الأهلية عام 1861 بين زعماء الولايات الجنوبية[46] الذين ناصروا مبدأ “الاحباط” وحقهم في الحفاظ على نظام العبودية في ولاياتهم (في ذلك الوقت فقد كانت العبودية أساس للاقتصاد الزراعي في الولايات الجنوبية)، لكن الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن أصر على الغاء العبودية نهائياً (لتعارضه مع الدستور وبالذات التعديل الأول للدستور) باستخدام القانون الفيدرالي. هنا حدث ما تنبأ به هويبز في نشوء صراع بين السيادتين (فيورينا، 2008 :62) المتنافستين (سلطة حكومات الولايات من جهة وسلطة الحكومة الفيدرالية من جهة أخرى)، فكانت الحرب الأهلية التي شارك فيها من الطرفين أكثر من ثلاثة ملايين جندي وقتل خلالها أكثر من 620000 شخص، وتم تدمير الريف الجنوبي بالكامل (Kelso, 2005: NG map)، ليسقط بعد ذلك مبدأ الاحباط نهائيا مع انتصار القوات الفيدرالية (فيورينا، 2008: 63)، ولم يعد من حق هيئات التشريع أو المحاكم في الولايات أن تخالف أو أن تعلن عن إلغاء القوانين أو القرارات الفيدرالية، وصدر في ضوء ذلك (في نهاية الحرب عام 1865م) التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكي بإلغاء العبودية بصورة نهائية، ثم صدر التعديلين الرابع عشر والخامس عشر لينصا على حقوق المعاملة المتكافئة بين السود والبيض، وعلى حقهم في التصويت في الانتخابات (Kelso, 2005: NG map)، كما هو الحق للبيض.

هذا التطور الهام نحو اقرار “علوية” القوانين الصادرة عن الحكومة الفيدرالية على القوانين الصادرة عن حكومات الولايات لم يكن القضية القانونية الوحيدة التي كان لا بد من ايجاد حل لها كي يتماسك الاتحاد ويستمر، بل ظهرت قضايا قانونية أخرى تتعلق بتطبيق القانون، وكان أهمها:

1-ظهور اشكالية تقاسم اختصاص من يقوم على انشاء المحاكم:

كجزء لا يتجزأ من مبدأ سيادة القانون فهنالك ضرورة لوجود محاكم للقضاء بين الناس وفق القانون. لكن مرة أخرى فإن وجود ازدواجية السيادة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات ادت الى ظهور اشكالية أخرى فيمن هو المسئول عن انشاء وإدارة هذه المحاكم.

في هذا الشأن فقد ثار جدل كبير في مرحلة نشأت الولايات المتحدة الأمريكية “حول ما إذا كان هناك داع لإنشاء نظام محاكم فيدرالية… وتم التوصل الى حل وسط قضى باستمرار وجود المحاكم الولائية (محاكم الولايات)، على أن يقوم في نفس الوقت قضاء فيدرالي ذو صلاحيات محدودة” (شرودر، 1991: 64 و65).

هذا الحل ضمن للولايات حق انشاء محاكمها لتطبيق القانون داخل الولاية، وبالفعل فإن 99 في المائة من القضايا القانونية تنشأ في محاكم الولاية حيث يتألف هيكل القضاء في أغلب الولايات على أساس محاكم ابتدائية ومحاكم استئناف ومحكمة المحاولة الأخيرة (المحكمة العليا للولاية) –أنظر فيورينا 2008: 397-.

فوق هذه المستويات الخاصة بمحاكم الولايات تأتي مستويات القضاء الفيدرالي. في هذا الشأن فقد حددت المادة الثالثة من الدستور الجهة المسئولة عن إنشاء المحاكم عند المستوى الفيدرالي حيث نجد النص في هذه المادة:

“تناط السلطة القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية بمحكمة عليا واحدة ومحاكم أدنى درجة حسبما يقرر الكونغرس ويقضي بذلك من حين إلى آخر”.

بناء على هذه المادة فقد تطور النظام القضائي الفيدرالي الى ثلاث مستويات للقضاء، هذه المستويات الثلاث من أعلى مرتبة الى الأدنى هي:

المحكمة العليا وهي أعلى محكمة فيدرالية في البلاد ولا يستطيع الكونغرس أو الرئيس الأمريكي الغاءها لأن الدستور نص على انشاءها،[47] وتحتها نجد المحاكم التي قرر الكونغرس انشاءها في مراحل مختلفة منذ نشأت الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الفيدرالي وهي محاكم الاستئناف الفيدرالية (يوجد منها حالياً 13 محكمة استئناف طوافة في مسار ثابت عبر الولايات، وفي كل منها ثلاث قضاة فيدراليين، حيث يصدر الحكم فيها على أساس الأغلبية بين الثلاث قضاة) ثم محاكم فيدرالية أدنى تنتشر عبر الولايات الأمريكية ويوجد منها حالياً 94 محكمة فيدرالية (فيورينا 2008: 407 و 408).

2-تحديد الجهة التي عليها مهمة تفسير القانون عند قيام المحاكم بتطبيق القانون:

لأن المحاكم موكلة بتطبيق القانون فقد أصبح لزاما على القضاة القيام بعملية تحديد ما هو مقصود بالقانون ومدى توائمه مع الدستور الذي هو القانون الأعلى للبلاد، حتى يستطيعون اصدار أحكامهم في القضايا المطروحة. “وهكذا يفسر القضاة أحكام القانون العام (أي المبادئ التي تجمعت نتيجة لقرارات المحاكم السابقة)، لكي يطبقوها في قضايا محددة، كما يفسرون أحكام الدستور ويطبقونها” (أوكونور، 1994: 5) تطور هذه الحق للقضاء الى ما يعرف اليوم بالحق في المراجعة القضائية (Judicial Review) للقوانين الصادرة عن الكونغرس والقرارات الرسمية في ضوء مبادئ الدستور.

هنا علينا أن نشير الى أنه لا يوجد نص مباشر على هذا الدور للقضاء في الدستور، ولكن نشأ كتطور على أساس منطق الحكمة الذي وضحه جيمس ماديسون أحد واضعي الدستور بأنه “لا يمكن لأي إنسان أن يكون قاضياً في قضية تخصه” لذلك لا يمكن للكونغرس الذي يقوم على وضع القوانين أن يبت في مدى دستوريتها (أوكونور، 1994: 5)، علماً بأن القضاة لا يقومون بعملية تفسير القانون هذه إلا عند وجود حالات عملية يستلزم الحكم فيها. .

على أية حال فإن أول قرار للمحكمة العليا مارست فيه المحكمة صلاحية المراجعة القضائية هذه هو قرار المحكمة عام 1803م في قضية ماربيري ضد ماديسون حيث “استغل رئيس المحكمة العليا جون مارشال جدالاً حول وظائف مسندة على أساس المحسوبية كمناسبة لتأكيد صلاحية المحكمة في إعلان قوانين الكونغرس لاغية” (فيورينا، 2008: 400)، وعندها فقط استقر حق المحكمة العليا في مراجعة قرارات السلطتين التشريعية (القوانين التي قد يصدرها الكونغرس) والتنفيذية (مثل القرارات التنفيذية للرئيس كتلك التي أصدرها الرئيس ترامب مؤخراً) من حيث مدى توائمها مع الدستور.

3-كيفية تطوير بيئة قانونية متشابهة في ظل الاستقلال القانوني للولايات: تطور دور المحاكم الفيدرالية:

من يسكن في الولايات المتحدة القانونية يلاحظ تشابه البيئة القانونية عبر الولايات، مما يسهل عملية انتقال الأشخاص والبضائع ورؤوس الأموال من ولاية الى أخرى، فما الذي أدى الى هذا التشابه الملحوظ رغم تعدد الحكومات. في هذا الشأن نجد الزام المحاكم عبر الولايات  بقاعدة ما يعرف بمبدأ السابقة القضائية، فلا تكون أحكام القضاء في من قبل المحاكم الفيدرالية (هنالك 93 محكمة فيدرالية و13 محكمة استئناف فيدرالية ومحكمة فيدرالية عليا واحدة) مجرد فصل في خصومة بعينها بين جهتين متقاضيتين أمام المحكمة الفيدرالية في ولاية من الولايات، ولكن تصبح أحكام المحكمة الفيدرالية (على أساس الترتيب الذي يتدرج من المحاكم الفيدرالية الموجودة في الولايات الى محاكم الاستئناف الفيدرالية ثم المحكمة الفيدرالية العليا في واشنطن ) ملزمة للمحاكم الأدنى في كافة الولايات وكأنها قانون فيدرالي، فلا تستطيع أي محكمة من المحاكم الأدنى عبر الولايات المتحدة الأمريكية (بما فيها المحاكم العليا التابعة لحكومات الولايات) أن تخالف في أحكامها في أي قضية مشابهة ما قضت به محكمة من المحاكم الفيدرالية، مع ملاحظة أن المحكمة الفيدرالية الأعلى يصبح حكمها هو الملزم للمحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات الأدنى بطبيعة الحال.

هذه القاعدة القضائية ساعدت وتساعد الولايات المتحدة الأمريكية في توحيد البيئة القانونية عبر ولاياتها، فمهما اختلفت المحاكم العليا التابعة لحكومات الولايات فإن الزامية قرارات وأحكام المحاكم الفيدرالية تقلل من هذه الاختلافات لأن جميع أجهزة التشريع والتنفيذ والقضاء (عند مستوى حكومات الولايات وكذلك مستوى أجهزة الحكومة الفيدرالية) تصبح ملزمة بنفس الأحكام التي صدرت عن المحاكم الفيدرالية.[48]

ثانياً: حل مشكلة من يقوم على تحصيل المال العام ومن يقوم بدفع تكاليف الحكومات والخدمات العامة:

 لتقديم الخدمات العامة فإن للعمل الحكومي تكاليفه التي تشمل دفع رواتب الموظفين والإيجارات بالإضافة للمشاريع العامة والأنشطة الأمنية وغير ذلك من واجبات الحكومات، ولكن وفي ظل التعددية في الحكومات في النظام الأمريكي، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يجري دفع تكاليف مختلف الخدمات العامة في بلاد ذات عدة حكومات (شرودر، 1991م: 73)، وما هو أسلوب الإدارة المالية في تنظيم العمل المالي لهذه الحكومات بصفة عامة.

كباقي الحكومات في العالم فإن أغلب دخل الحكومات المختلفة في الولايات الأمريكية وكذلك الحكومة الفيدرالية يأتي من الضرائب والرسوم الحكومية. مبدأ أساسي ملزم عبر اجراءات تقرير الضرائب على مختلف مستويات العمل الحكومي هو أنه لا ضرائب بدون تمثيل (No Taxation Without representation)،[49] حيث كان الاصرار على هذا المبدأ هو الذي أدى في الواقع الى قيام الثورة الأمريكية ضد التاج البريطاني حينما تم رفض الضرائب التي فرضها التاج البريطاني دون أن يكون للولايات الأمريكية تمثيل في مجلس العموم البريطاني في المؤتمر القاري الأول عام 1774 (Kostyal, 2016:10).[50]

في ضوء هذه القاعدة (لا ضرائب بدون تمثيل)، وأمام تعدد الحكومات فقد تطورت الفيدرالية الأمريكية في مجال في التنظيم المالي على النحو التالي:

1-تطوير نظام لتقاسم أوعية الدخل الضريبي:

للحكومة الفيدرالية في واشنطن الحق في فرض الضرائب على الدخل (Income tax) وتحصيل  رسم الضمان الاجتماعي وذلك عن طريق جهاز فيدرالي يملك صلاحيات واسعة في المتابعة والملاحقة في تحصيل هذه الضريبة،[51] كذلك للحكومة الفيدرالية الحق في فرض ضرائب على دخل الشركات العاملة عبر الولايات، كما تقوم بتحصيل الضرائب على التركات والسجائر والبنزين واطارات السيارات. كذلك تحصل خزانة الحكومة الفيدرالية على كافة الرسوم التي يتم تحصيلها كجمارك عند المنافذ البحرية والجوية والبرية، حيث يتولى عملية ادارة هذه المنافذ موظفين تابعين للحكومة الفيدرالية. [52]

أما بالنسبة لأوعية الدخل الضريبي الذي يتأتى منه دخل حكومات الولايات وما قد يتواجد فيها من حكومات محلية ومجالس وبلديات المدن وغيرها الخاضعة للتنظيم السياسي لحكومة الولاية، فإنها تحصل على الضرائب على الممتلكات داخل الولاية (Property tax)، والضرائب على المبيعات (Sales tax – الضرائب على عمليات البيع التي تتم داخل النطاق الجغرافي) والضرائب على الامتيازات وأماكن الترفيه بالإضافة الى تحصيلها للضرائب على دخل الشركات العاملة في داخل الولاية،[53] ومن حقها أيضاً أن تفرض ضرائب محدودة على الدخل (شرودر،1991 :93). كذلك تقوم بتقاسم ما يجري تحصيله من رسوم على الخدمات العامة مع الحكومات المحلية داخل النطاقات السكانية المختلفة (حكومات المدن والقرى والمناطق المدرسية وغيرها).

وتختلف الولايات في طريقة تقاسم الدخل الضريبي مع الحكومات المحلية حيث نجد أن هنالك تعاون واسع بينهم على أساس أن تعمل حكومة الولاية كجامع للضرائب والرسوم (Tax Collector)، ومن ثم تقوم حكومة الولاية بدفع نسبة صغيرة مما تجمعه للحكومات المحلية في النطاقات الجغرافية (المدينة أو المحافظة أو القرية) ، مع الأخذ في الاعتبار أن حكومة الولاية تدفع عادة جزء من الخدمات الأساسية المقدمة داخل نفس مناطق الحكومات المحلية من الميزانية العامة للولاية كما سنوضح، ويوجد اليوم أكثر من مئتي نوع من هذه الرسوم والضرائب على مجالات مختلفة من الخدمات العامة، حيث تختلف في انواعها وأساليب تقاسم الناتج الضريبي من ولاية إلى أخرى.

هنا علينا أن نشير أن قضية فرض الضرائب عند المستوى المحلي داخل الولايات الأمريكية تخضع لقاعدتين أساسيتين:

القاعدة الأولى هي قاعدة لا ضرائب بدون تمثيل (NO TAXATION WITHOUT REPRESENTATION) التي كنا قد أشرنا اليها والتي تؤكد من حيث المبدأ أنه ليس من حق أي حكومة فرض الضرائب إلا بعد سؤال الناس ممن سوف تقتطع الضرائب من جهدهم واقناعهم  بمبررات رسم هذه الخدمة أو تلك لحياتهم.

القاعدة الثانية هي قاعدة تقاسم الدخل من الرسوم والضرائب (REVENUE SHARING) التي تطورت قبل أكثر من أربعين سنة ضمن اطار أنظمة حكومات الولايات الأمريكية في علاقتها بالحكومات المحلية في كل ولاية.

هنا نلاحظ أن قرب الحكومات المحلية في المدن والقرى والمناطق المدرسية والنطاقات السكانية الأخرى يجعلها في الواقع الأقرب في التعامل مع الحاجات الخاصة بكل منطقة، وبالتالي الأقدر على اقناع المجالس البلدية المنتخبة من سكان هذه النطاقات (على أساس القاعدة الأولى) على فرض ضرائب تتلاءم مع الحاجات والخدمات المطلوبة في كل نطاق.

يعمل نظام تقاسم الدخل الضريبي  والرسوم (REVENUE SHARING) على أساس أن تقوم المجالس المنتخبة بالحصول على موافقة السكان في النطاق الحضري على نوع ونسبة الضريبة أو الرسم، ثم تتولى حكومة الولاية عبر أجهزتها سلطة جمع تلك الضريبة أو الرسم، حيث يعطى جزء منها للحكومة المحلية والجزء لأكبر لحكومة الولاية (مع ملاحظة ان حكومة الولاية تشارك أيضاً بنسب متفاوتة في تغطية النقص في بعض الخدمات الأساسية في النطاق – راجع الجدول رقم 2 فيما يلي كمثال لكيف يتم تغطية خدمة التعليم في الحكومة المحلية لمحافظة مدينة بلتمور)، لكن وابتداء من عام 2010 فقد أخذت حكومات بعض الولايات في خفض مستحقات الحكومات المحلية من مستحقات نظام تقاسم الدخل الضريبي بصورة متزايدة مما دعى حكومات المدن والقرى لتشكيل جماعات للضغط على الحكومات في الولايات، وفي نفس الوقت الحصول على حق الحكومات المحلية في فرض ضرائب خاصة بها ( قام الكاتب بمراجعة العلاقة بين حكومات الولايات والحكومات المحلية في مدن كليفلاند ودايتون وسبرينغ فيلد بولاية أوهايو، ومدينة ألكساندريا بولاية فيرجينيا، وولايات ميين (Maine) وميتشجان وماساشوتس (Massachusetts) وجميعها تشير الى توتر العلاقات بين حكومات الولايات والحكومات المحلية بصور مختلفة، لكنها تعكس في  النهاية حقيقة أن تناقص ميزانيات حكومات الولايات يسبب الضغط المتزايد على دخل الحكومات المحلية التي تحتاج الى فرض رسوم جديده لتغطية تكاليف الخدمات العامة فيها).[54]

2-الادارة المالية: تطبيق نظام الميزانية السنوية للحكومة الفيدرالية ولحكومات الولايات وللحكومات المحلية:

للحكومة الفيدرالية وحكومة كل ولاية ولأغلب الحكومات المحلية كما هي العادة في باقي حكومات العالم نظام في تخطيط المسار المالي لكل حكومة يقوم على ميزانية سنوية تظهر فيها نفقات الحكومة المتوقعة في سنة كاملة في ضوء الدخل المتوقع  (Financial Projection) وما يترتب على ذلك من فائض أو توازن أو عجز.

 بطبيعة الحال فإن عناصر ميزانية الحكومة الفيدرالية في واشنطن وحكومات الولايات  والحكومات المحلية داخل الولايات تختلف في مدخلاتها (مصادر الدخل المتوقع) ومخرجاتها (النفقات العامة والمشاريع)، ولكنها تتشابه في عمليات وضع الميزانية (BBudgeting Process) بصفة عامة، حيث يقوم رئيس الدولة (الرئيس الامريكي في حالة الحكومة الفيدرالية وحاكم الولاية في حالة الولايات، والعمدة أوالرئيس التنفيذي في مجالس المدن والمناطق البلدية بصورها المختلفة) بعرض اقتراحه المالي للميزانية السنوية على المجالس المنتخبة على اساس اقتراح قانون، ثم يقوم أعضاء اللجان المختصة في هذه المجالس المنتخبة (مجلس النواب الفيدرالي في حالة الحكومة الفيدرالية، ومجلس نواب الولاية والمجلس التشريعي في حالة المدينة وغيرها من الحكومات المحلية) بمناقشة بنود الميزانيات واجراء التعديلات التي يرونها مناسبة للصالح العام في النطاق تحت سيطرة هذه الحكومة أو تلك، ثم يعرض الموضوع على المجلس المنتخب للتصويت النهائي بالموافقة أو التعديل أو الرفض لمقترح الميزانية.[55]

في حالة وجود عجز فان الحكومة الفيدرالية تتدخل بدعم الولايات الفقيرة بمنح مالية وفق معايير فيدرالية صارمة في الحقول الأساسية مثل المواصلات والتعليم والمساعدات الاجتماعية والاسكان ووفق برامج فيدرالية تنظم عمليات التوزيع على أساس شروط تضعها الهيئة الفيدرالية المختصة (عدم التزام حكومة الولاية بهذه الشروط يعني أنها سوف تخسر الدعم للسنة المالية التالية حيث تتابع الأجهزة المختصة في الحكومة الفيدرالية مدى التزام حكومة الولاية)، كما تقوم حكومة كل ولاية بدعم ميزانيات الحكومات المحلية بأشكالها المختلفة وفق معايير تضعها حكومات الولايات.

كمثال لتوضيح صورة التداخل بين عمل الحكومة الفيدرالية (من خلال هيئاتها وبرامجها المتخصصة) وحكومة الولاية والحكومات المحلية في داخل نفس الولاية فسوف نقتصر في الجدول التالي (2) على توضيح التداخل المالي في طريقة تغطية ميزانية المدارس العامة (Public Schools) وذلك تحت اشراف الحكومة المحلية في محافظة مدينة بلتمور بولاية مريلاند، حيث كان الكاتب قد عمل كمترجم وباحث اجتماعي غير متفرغ في هيئة التعليم في حكومة ولاية ميرلاند، وذلك عام 2008 خلال فترة التفرغ العلمي التي قضاها الكاتب كأستاذ زائر في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة بالقرب من مدينة بلتمور.[56]

مصادر دخل ميزانية التعليم المدرسي العام (Public School) في محافظة مدينة بلتمور لعام 1996

مبالغ من نفس المحافظة (Local Funds) 69%
مبالغ من حكومة الولاية (State Funds) 29%
مبالغ من الحكومة الفيدرالية (Federal Funds) .6%
مصادر أخرى (Others)

.8%

الجدول (2)

هنا نلاحظ أن الدعم المالي عبر ميزانيات حكومات الولايات والحكومات المحلية يتزايد معه حق الحكومة في المستوى الأعلى في التدخل في المستوى الأدنى ووضع شروط لاستمرار الدعم، حيث تسعى مختلف الأطراف في هذه العلاقات المالية المعقدة (حكومات الولايات والحكومات المحلية) المحافظة على استقلالها عن طريق الاجتهاد في تطوير مواردها المالية الذاتية.

3-الاستقلال الديناميكي الفعال للحكومات المحلية داخل الولايات انطلاقاً من القاعدة السكانية:

التنظيم المالي وطريقة اعداد الميزانيات يجب ان لا يبعدنا عن حقائق الفاعلية الاقتصادية في تقاسم الصلاحيات الحكومية بين مستوى حكومة الولاية والحكومات المحلية في هذه الولاية أو تلك، كجهات تريد ان تكون حرة في تقرير حياة سكانها عن طريق النواب المنتخبين للمجالس المحلية من نفس سكان النطاق الحضري، فسواء كان الأمر بالنسبة لحكومات المدن أو القرى أو الحكومات المحلية الأخرى، فإن هذه النطاقات الحضرية لا ينظر لها كعبء على حكومة الولاية (أو الحكومة الفيدرالية)، وانما كخلية اقتصادية عاملة عليها أن تدبر موارد دخلها وتطور طرق زيادة العوائد المالية من استثمارات تتلاءم مع طبيعة وموقع النطاق الحضري، بالبحث عن دعم ومساعدات من رجال الأعمال أو حكومة الولاية أو حتى الحكومة الفيدرالية فيما هو متاح من برامج تنموية للاقتصاد،[57]حيث نلاحظ أن لدى الحكومات المحلية المنتخبة صلاحيات هائلة في ادارة النطاق الحضري ما دامت لا تخالف قوانين الولاية أو القوانين الفيدرالية، وقادرة في نفس الوقت على تغطية تكاليف الخدمات العامة فيها ونفقات الادارة العامة (تكاليف الجهاز البيروقراطي).

هذا الواقع خلق تنافس بين مدن الولايات والنطاقات الحضرية الأخرى كخلايا انتاج وجذب للاستثمارات للرواد من مبدعين ومخترعين من مختلف الولايات، حيث تعمل كل ولاية وكل مدينة على تطوير القوى البشرية والتعليم والبنية التحتية وخدمات الثقافة والرياضة والترفيه ومن ثم الترويج للولاية على هذا الأساس،[58] وفي نفس الوقت الحد ما أمكن من الضرائب ليكون النطاق الحضري جاذب للاستثمارات وللكفاءات.

بطبيعة الحال فإن فشل حكومة الولاية في الإدارة المالية (وجود عجز في الميزانية السنوية) أو قيامها برفع الضرائب، يؤدي الى قيام الناس بالعمل على تغيير حكومة الولاية من خلال الانتخابات، وبنفس المنطق تتأثر الحكومات المحلية للمدن والقرى بأي ارتفاع للتكاليف أو فشل في تقديم الخدمات العامة، مما يجعل قضية تطوير المجتمع ونموه الاقتصادي والتعليمي والثقافي وخفض تكاليف الادارة العامة قضية محلية أكثر من أي شيء آخر، لها نتائجها وعواقبها السياسية على اصحاب القرار عند مستوى الولاية ومستوى الحكومات المحلية فيها.[59]

نشأ عن هذا المنطق القول أن “السياسة” برمتها في الشكل الأمريكي للحكم تستند في نهاية الأمر على ما يحدث على المستوى المحلي أكثر من أي شيء آخر. في هذا الشأن كتبت الباحثة جيسيكا ترونتن في مقال متميز بعنوان (All Politics is Local) أشارت فيه إلى أن المعيار الحقيقي للحكومات ليس النجاحات التي تحققها هذه الحكومة أو تلك على المستوى الكلي، بقدر ما هو مدى نجاح الحكومات عند مستوى مدن ومحافظات وقرى هذه الولاية أو تلك في تقديم الخدمات العامة وتوفير عوامل الحياة الكريمة للسكان من سكن وتعليم ومكتبات وأمن وسلامة ومشاريع تنموية وغيرها عند المستوى المحلي الذي تقدم عنده الخدمة، وأن نسبة الفشل أو النجاح عند هذه المستويات الجزئية في داخل الولايات هو ما يحدد في نهاية الأمر مستقبل السياسيين في حكومة الولاية والحكومات المحلية داخلها،[60] وهذا الأمر أدى الى تطور تكامل ديناميكي حساس “يحاذر من تركيز النفوذ عند المستوى الوطني وفي الوقت ذاته يسمح بنوع من المرونة في توجيه الأولويات المحلية” (سيفل، 2006: 39) مما يدفع أجزاء النظام نحو الارتقاء بجودة الحياة عبر مختلف مستويات الحكم.

بكلمة أخرى فإن هذا التداخل بين وحدات سياسية شبه مستقلة الذي يشوبه الكثير من الصراع السياسي على الدخل المتأتي من الضرائب والرسوم ومسؤولية كل جهة عما تقرره، أدى في الواقع الى تحويل التجمعات السكانية من المدن والقرى وغيرها عبر الولايات الأمريكية الى خلايا انتاجية متنافسة يسعى كل منها لتنويع مجالات العمل من صناعة وسياحة وتعدين وصيد وغيرها بما يحقق أقصى فائدة لمصلحة سكان النطاق قبل أي جهة أخرى، وفي نفس تغطية نفقات الخدمات العامة من أمن وتعليم ومكتبات عامة وإسكان ودفاع مدني وخدمات الإسعاف وكليات المجتمع والمنتزهات العامة وغيرها مما يمكن ادارته عند ادنى مستوى ممكن.[61]

هنا علينا أن نلاحظ أنه مقابل هذا الحق في استقلال الحكومات المحلية في ادارة نفسها فإن قيام حكومة الولاية بدعم أي حكومة محلية في نفس الولاية يأتي معه حق حكومة الولاية في ممارسة اشراف مباشر على أنشطة المدينة لكشف أسباب تخلفها في تغطية نفقات سكانها أو تغطية ديونها، حتى لا تكون عالة على باقي المدن في الولاية، فكل نطاق حضري اداري في داخل الولاية له مجلس منتخب لا بد ان يعمل على تطوير النطاق الذي يديره ليصبح خلية انتاجية قادرة (من خلال الضرائب التي للمجلس الحق في فرضها) على التنشيط الاستثماري لثروات النطاق والاستفادة من مساعدات أبناء المجتمع[62] في تغطية جزء من نفقات الخدمات العامة في المنطقة، وإلا خسرت المدينة أو النطاق الحضري جزءاً من استقلالها.[63]

ثالثاً: منهج لكيفية معالجة القضايا التنفيذية عبر الولايات:

تتداخل بعض اختصاصات أعمال الولايات في مجالات بعينها مثل الطرق عبر الولايات، والبريد وتنظيم الطيران المدني وقضايا هروب المجرمين من ولاية لأخرى. هذه القضايا وغيرها تتطلب حلول تنظيمية لإدارتها عبر الولايات.

كحل لمثل هذه القضايا عبر الولايات فقد تطور النظام الفيدرالي الأمريكي في المجالات التي تحتاج الى تنظيم مشترك على أساس إنشاء هيئات تابعة للحكومة الفيدرالية ذات صلاحيات أعلى من صلاحيات الولاية تعمل عبر الولايات، فمثلاً لمعالجة مشكلة هروب المجرمين من ولاية الى أخرى، وحيث أنه ليس من حق شرطة أي ولاية العمل خارج حدود الولاية فقد تم حلها عن طريق إنشاء هيئة شرطة على المستوى الفيدرالي لها الحق في العمل عبر الولايات كسلطة أعلى من شرطة الولايات تحت مسمى مكتب او هيئة التحقيقات الفيدرالية  (Federal Bureau of Investigation)، حيث تتولى هذه الهيئة ملاحقة المجرمين الذين يعبرون من ولاية لأخرى وذلك بهدف القبض عليهم وإرجاعهم الى الولاية التي ارتكبت فيه الجريمة للمحاكمة وفق اشتراطات معينة، كما تقوم أيضاً بالتدخل في القضايا الجنائية التي تفشل خلالها شرطة الولاية في الكشف عن الفاعلين. هنا نلاحظ أنه ورغم التوتر الذي يشوب العلاقة بين مستويي الشرطة الفيدرالية وشرطة الولاية فإن هذا النظام ساعد ويساعد في الحد من فساد البوليس المحلي في الولايات لأنهم يعلمون أن فشلهم في حل هذه القضية أو تلك سيؤدي الى تدخل الشرطة الفيدرالية.

هذا الاتجاه العام نحو تطوير مؤسسات فيدرالية للقضايا المشتركة العابرة للولايات نشأت على أساسه عشرات الهيئات الفيدرالية مثل الهيئة الفيدرالية لضمان الايداعات (Federal Deposit Insurance Corporation -FDIC) والهيئة الفيدرالية لإدارة الطرق (Federal Highway Administration-FHA) والهيئة الفيدرالية للطيران (Federal Aviation Administration -FAA)

والهيئة الفيدرالية للتجارة (Federal Trade Commission-FTC) والهيئة الفيدرالية للغذاء والدواء (Food and Drug Administration-FDA). (لمعرفة المزيد عن هذه الهيئات وغيرها من الهيئات التي تعمل على تنظيم القضايا عبر الولايات أنظر الموقع: USA.Gov).

رابعاً: حل عام لقضية علاقة النظام السياسي بالدين حتى لا تصبح قضية الدين عامل تفرقة من ولاية لأخرى:

تعدد واستقلالية الحكومات في الشكل الأمريكي قد يكون لها نتائج وخيمة لو أن بعض هذه الحكومات قررت التشدد في قضية المعتقدات الدينية داخل الولاية خاصة في شعب تتعدد فيه المذاهب والخلفيات الدينية، فقد يلجأ البعض ايماناً منهم بأن ما يدينون به هو الحق الى العمل على فرض معتقدهم على الآخرين.

لكن نلاحظ هنا أن من الخصائص المميزة للتجربة الأمريكية هي محاولة دستورية في وقت مبكر من التجربة السياسية الأمريكية في فصل السياسة عن الدين، وبالتالي الحد من احتمالات استخدام الدين كوسيلة للتفريق بين الناس.

في الحالة الأمريكية بالذات فان الصراع الديني الذي دام لقرون بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا ألقى بظلاله على تطوير المنظور الأمريكي العلماني، في محاولة لإخراج الصراع الديني من ميدان السياسة ما أمكن الى ذلك سبيلا، خاصة أن المهاجرين الأوائل وصلوا الى أمريكا هرباً من الاضطهاد الديني للبروتستانت.[64] كذلك فان تنوع مذاهب وديانات المهاجرين الى الولايات الجديدة كان من أهم أسباب توجه الحكومة الفيدرالية نحو تحييد الدين عن السياسة بحيث تترك قضية اختيار الدين للشخص وليس لهذه الحكومة أو تلك.

هذا التوجه الذي تمتد جذوره في أقوال توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين[65] نجد توضيح دقيق له في مقدمة كتاب الدين في السياسة الأمريكية من تأليف فرانك لامبرت وترجمة عبد اللطيف موسى أبو البصل (2008) حيث يوضح لنا الكاتب أنه:

منذ ولادة الجمهورية الأمريكية، كان الدين والسياسة يعمل كل منهما في معظم الأوقات في نطاق منفصل عن الآخر خوفاً من انتشار الفتنة الطائفية في مجتمع يتسم بالتعددية، حيث آثر الأعضاء المفوضون لاعتماد الدستور في المؤتمر الدستوري عام 1787م، عدم إنشاء مؤسسة دينية اتحادية، وذلك بحرمان الحكومة من أي سلطة على الدين، وحرمان الدين من أي دور في الدولة، وكان الفصل بين الدين والدولة حقاً من أهم الملامح الفريدة للثورة الأمريكية”.[66]

لكن الكاتب يشير في نهاية مقدمة الكتاب ان العلمانية الأمريكية لا تعني أبداً اخراج الدين من الحياة العامة للأفراد لأن الدين هو جزء لا يتجزأ من قواعد الأخلاق، وإنما محاولة ابعاده عن عالم السياسة حتى لا يستخدم في تأجيج المشاعر في الصراع على السلطة.

وقد سرى هذا التوجه العام نحو جعل الدين قضية شخصية وليس قضية سياسية، الى باقي حكومات الولايات في مرحلة مبكرة من تاريخ الولايات المتحدة بسبب ضرورة التزام هذه الحكومات بما ورد في التعديل الأول للدستور عام 1791 الذي نص على أن:

 “الكونغرس سوف لا يصدر أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان او يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الاجحاف”.[67]  فهذا النص الدستوري يعتبر ملزماً لحكومات الولايات وبالتالي لا تستطيع أي ولاية اصدار ما يمنع او يساعد في نشر أي دين بعينه.

مع ما سبق فلا بد أن نشير الى ان هنالك موجة متزايدة للأصولية المسيحية والمسيحية التبشيرية يصعب تحديد مداها في خرق قاعدة الفصل بين الدين والسياسة، حيث حذر منها الرئيس كارتر، ووصل به الأمر الى مقاطعة المؤتمر العام للكنيسة التي ينتمي اليها وهي البابتست (Baptist Church), لأنه فشل في اقناع قادة الكنيسة بضرورة الحد من التوجهات الاصولية التي يرى أنها تتناقض مع القيم المسيحية في التسامح وضرورات الفصل بين السياسة والدين للحفاظ على وحدة المجتمع الأمريكي بطوائفه المختلفة (Carter, 2006: 58).

خامساً: نظام لتجزئة السلطة بهدف الحد من احتمالات ظهور الاستبداد على أساس فكر مونتسكيو:

مع ما سبق من أساليب تقاسم وتفتيت الصلاحيات السياسية بين المستوى الفيدرالي ومستوى حكومات الولايات، فقد كان هنالك خوف من تركز السلطة السياسية في العاصمة الفيدرالية بالذات، وأنها قد تصبح من القوة بمكان بحيث أنها قد تستبد وتجور.

هنا فقد لجأ الآباء الأوائل[68] الذين قاموا على وضع تصور لنظام حكم أقل خطرا على الحريات، بالعمل على تطوير نظام السلطة في العاصمة الاتحادية وفي حكومات الولايات بطريقة تحد ما أمكن من احتمالات الاستبداد. في هذا الشأن فلعل أهم ما يميز النظام السياسي الأمريكي كنظام جرى بناءه في ضوء التجربة النيابية البريطانية، مع تطبيق نظام مستقل في انتخاب رئيس السلطة التنفيذية[69] عن أعضاء السلطة التشريعية، هو استفادته مما توصل اليه المفكر الفرنسي تشارلز مونتسكيو في كتابه روح القوانين حول العلاقة بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) حيث صدر هذا الكتاب عام 1748م قبل ارهاصات الثورة الامريكية بحوالي ثلاثين عاماً.

 فمن خلال تحليل دقيق لكيف تتطور أنظمة الحكم من منظور مشكلة الجمع بين وظائف التشريع والتنفيذ والقضاء التي كان قد أشار لها جآن لوك، وجد مونتسكيو أن ميول الاستبداد موجودة في جميع الأنظمة السياسية، ولكن يمكن الحد من هذه الميول عن طريق الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعدم السماح لأي منها بالسيطرة على الأخرى (بالذات في عمليات التعيين والترقية والاقالة)، وعندها فقط تنخفض احتمالات الاستبداد.[70]

بالإضافة الى نظام الفصل بين السلطات في الشكل الامريكي فان الترتيبات المؤسساتية بين السلطات الثلاث تحوي أيضاً نظام يساعد كل سلطة على الاشراف على السلطة الأخرى بطريقة منتظمة (systematic) توازن بين حجم السلطة وبين مدى قدرتها على التدخل، ولذلك يعرف هذا الترتيب المؤسساتي بنظام:

فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، والتدقيق والموازنة بين هذه السلطات

(Separation of Powers and Checks and Balances)

لاختصار شرح هيكل العلاقة بين السلطات الثلاث بما يحقق الفصل بين السلطات من جهة والتوازن بينها من جهة اخرى أنظر الرسم من اعداد الكاتب في التذييل النهائي.[71]

هنا لا بد ان نشير ان أنظمة حكومات الولايات الأمريكية تحوي أيضاً نظم تحقق بأساليب مختلفة شرط استقلال السلطات الثلاث في التعيين والترقية والإقالة، وكذلك في مجال تفعيل الاشراف المتبادل بينها، ولكن يبقى الشرط الأساسي في جميع أنظمة الولايات هو الابقاء على نظم الانتخابات في الولايات كجمهوريات تلتزم بالسيادة الشعبية كمصدر أساسي للشرعية للسلطات الثلاث.[72]

وأخير فالمنظور الكلي التالي من اعداد الكاتب يختصر تداخل مستويات وقضايا العمل العام ويظهر في نفس الوقت هرم ترتيب القوانين في التنظيم الأمريكي لتصب العملية في مجملها في تنسيق خدمة الحاجات الحياتية اليومية للفرد مع ترك القضايا الكلية بعيدة المدى لحكومة الولاية والحكومة الفيدرالية.

 

الخاتمة:

قد نستطيع القول بشئ من الصحة أن التأسيس الأولي للشكل الأمريكي على أساس القبول بفكرة تقاسم صلاحيات السلطة السياسية بين أكثر من سيادة (فيورينا، 2008م :61) والالتزام في نفس الوقت باشتراطات السيادة الشعبية استلزم منذ البدء العمل على تطوير توازنات مؤسساتية للحد من الشد بين أجزاء النظام، إذا ما اريد لهذا النظام أن يعمل ويستمر. في هذا الشأن فإن أهم هذه التوازنات هي:

أولاً:

على المستوى الكلي  للمجتمع نلاحظ أن قوة الدولة التي تتمثل في مؤسسات السلطة يوازنها الحق الدوري للمجتمع في اقصاء او اعادة انتخاب المسئولين من جهة وحق الناس في التكتل وتشكيل الجماعات القادرة على التحرك سلمياً ضد من هم في السلطة من جهة أخرى.[73] في هذا الشأن فقد جرى النص على حماية حق أفراد المجتمع في تشكيل جماعات مدنية حرة غير خاضعة للسلطة السياسية (مؤسسات المجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب السياسية) في صلب التعديل الأول للدستور، وترك أمر الدفاع عن هذا الحق والحقوق الأخرى للأفراد لسلطة مستقلة عن سلطتي  التشريع والتنفيذ وبعيدة نسبياً عن تجاذبات العملية السياسية خلال فترات الانتخابات ألا وهي السلطة القضائية المتمثلة في المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية. في هذا الشأن فإن المحكمة العليا تعتبر بحق “المؤسسة التي يستند اليها النظام الأمريكي كله”.[74]

هذا التصور في النظر الى العملية السياسية كمواجهة بين قوى الدولة من جهة وقوى المجتمع (متمثلاً في مؤسسات المجتمع المدني بالذات) من جهة أخرى، وضرورة وجود توازن من نوع أو آخر بينهما يستند على الإرادة الشعبية، يندرج ضمن الدراسات التي يطلق عليها بصفة عامة دراسات الدولة في مواجهة المجتمع (State verses Society)، وتشير هذه الدراسات الى أنه وحتى في ظل النظام الديموقراطي فإن المجتمع لا بد أن يبقى قادراً على التكتل لردع الأجهزة العامة التابعة للحكومة من خلال الجماعات السياسية وغير السياسية التي يشكلها الأفراد بحرية،  وذلك لضمان استمرارية عدالة النظام السياسي. [75]

بكلمة أخرى فقوة الأغلبية المنتخبة للحكم في السلطة التشريعية التي تتمثل في مجلسي الشيوخ والنواب (الكونغرس) وفي السلطة التنفيذية (الرئيس المنتخب) تتوازن عملياً مع هيئات ومنظمات المجتمع المدني التي تحمي حقها في الظهور والتكتل والعمل المحاكم الفيدرالية والمحكمة العليا من خلال دورهما في مراجعة القوانين والأعمال التي تقوم بها هاتين السلطتين (التشريعية والتنفيذية)، للتأكد من أنها لا تخالف المبادئ التي نص عليها الدستور.

 ثانياً:

وجه آخر لفكرة التوازن في النظام الأمريكي نجده على المستوى الكلي لتنظيم الولايات المتحدة، ففكرة الفيدرالية في أساسها أنما نشأت بهدف تحقيق توازن بين قوة الحكومة المشتركة (السلطة الفيدرالية) في وسط الاتحاد من جهة وبين حقوق وصلاحيات استقلال حكومات الولايات عن الحكومة الفيدرالية وعن بعضها البعض من جهة أخرى (فيورينا، 2008: 57).

لقد أشار الى خاصية التوازن هذه، التي تحد من التراكم السلطوي في العاصمة الفيدرالية  (وهو ما يحدث كما نلاحظ في ظل الأنظمة التي يقوم فيها التنظيم السياسي على أساس أحادية السلطة في مركز واحد– سيفل، 2006: 39)[76] في وقت مبكر من التجربة الامريكية المفكر الفرنسي  أليكسي توكفيل بعد زيارته للولايات المتحدة عام 1830م، فرغم قلق توكفيل مما أسماه “احتمالات ظهور دكتاتورية الأغلبية إلا أنه كان مبهوراً بالنظام الفيدرالي الذي أعطى الصلاحيات اللازمة لجعل الحكومة المشتركة قادرة على التصرف لخدمة المصالح القومية المشتركة، وفي نفس الوقت حفظ للولايات مصالحها الخاصة”.[77] كذلك أشار توكفيل الى هذا الجانب عندما قارن النظام الفيدرالي في تحقيق الوحدة السياسية الذي استحدث فكرة التوازن بالمحاولات الأوروبية المبكرة نحو أشكال مختلفة من الوحدة التي باءت جميعها بالفشل كما يشير توكفيل في معرض شرحه لنشأة النظام الأمريكي (Woll 1987, 75).

فالنزعة الطبيعية لدى حكومات الولايات في الحالة الأمريكية نحو الدفاع عن حقها في تحقيق مصالح سكانها الذين يقومون على انتخاب حاكم الولاية ونوابها على مستوى الولاية، تجعل النظام الأمريكي في حالة مستمرة من الشد الايجابي بين حقوق حكومات الولايات التي نص عليها الدستور (المادة السادسة) من جهة وبين المصلحة القومية التي تمثلها الحكومة الفيدرالية في العاصمة المشتركة من جهة أخرى، نحو الوصول الى حلول جديده وتوازنات تحقق مصالح الطرفين، مع ملاحظة أن الحقوق التي نص عليها الدستور لحكومات الولايات هي حقوق سياسية أصيله وغير قابلة للإلغاء، كما أن المحكمة العليا مرة أخرى سوف تتدخل للتأكد من مدى الالتزام بنصوص الدستور الذي نص على فكرة تقاسم الصلاحيات بين الطرفين.[78]

ثالثاً:

بعد آخر لفكرة التوازن نجده داخل نفس نظام الحكومة الفيدرالية في العلاقة بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية القضائية، حيث عمل واضعو الدستور على ايجاد توازن حساس بين قوى السلطتين الأساسيتين وهما السلطتين التشريعية المسئولة عن صنع القاعدة القانونية والتنفيذية التي تنفذها، ثم تطور النظام الأمريكي لاحقاً بتقوية كفة السلطة القضائية من خلال اعطاءها صلاحية مراجعة أعمال السلطتين الأساسيتين من حيث مدى التزامهما ببنود وروح القانون الأعلى (الدستور).[79]

 جاءت الاضافة التي لم تكن موجودة في النظام الأمريكي من قبل قضاة المحكمة العليا فيما يعرف اليوم بحق السلطة القضائية في المراجعة القضائية (Judicial Review) التي لم ينص عليها الدستور الأمريكي صراحة، حيث تطورت عملية المراجعة في الفترة الأولى من نشأت النظام الأمريكي خلال قيام المحكمة العليا  بالنظر في قضية ماربوري ضد ماديسون (Marbury  verses Madison) عام 1803،[80]  وكان أهم تبرير قدم من قبل القاضي مارشال (أحد القضاة التسعة في المحكمة العليا) خلال مراجعة القضية هو أن الدفاع عن الدستور ضد التعديات المحتملة من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية خلال قيامهم بمهامهم  يجب أن يكون من اختصاص السلطة القضائية، لأن سلطة التشريع ورغم كونها منتخبة إلا أنها هي التي تقوم على وضع القوانين وبالتالي لا نتوقع منها أن تعود وتحكم بمخالفة قانون ما للدستور.

 هذا المنظور المنطقي الذي طوره القاضي مارشال حول تضارب المصالح في ضوء ملاحظات جيمس ماديسون (أوكونور، 1994: 4) أدى فيما بعد الى ثبات حق المحكمة العليا في القيام بالمراجعة القضائية في ضوء الدستور، وهو ما يظهر أيضا أن قضية التوازن وليس التركز السلطوي (تقوية السلطة المركزية) كانت في حد ذاتها هدف في وقت مبكر من تاريخ تطور النظام السياسي الأمريكي.

مجمل هذا التوازن في الصلاحيات بين السلطات الثلاث داخل نفس تنظيم الحكومة الأمريكية على المستوى الفيدرالي تطور في وسط عمل نظام الحكم الأمريكي فيما يعرف اليوم بنظام الفصل بين السلطات والتدقيق والموازنة بينها (Separation of Powers & Check and Balance) حيث كان أساس هذا التطور في العلاقة بين مؤسسات السلطة هو الخوف من الاستبداد الذي قد ينجم عن تركز صلاحيات الحكم التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد سلطة واحدة.

في هذا الشأن فقد كان المفكر المفكر الفرنسي تشارلز مونتسكيو هو أول من وضح عمليا في كتابه روح القوانين (The Spirit of the Law) سنة 1748م (أي قبل حوالي 40 سنة من كتابة الدستور الأمريكي) كيف يمكن أن يتحول التركز في صلاحيات الحكم الى الاستبداد بالسلطة، ليتغير دور السلطة بسبب تركز الصلاحيات الثلاث في يد فئة محدودة إلى ازهاق روح القانون نفسه الذي كانت قد نشأت لحمايته.[81]

الحل الذي قدمه مونتسكيو كما أشرنا لا يقوم على الغاء السلطة الذي سيتحول إلى فوضى يسود فيها قانون الغاب، ولكن أن يجري تجزئة صلاحيات الحكم الى وظائفه الأساسية، ومن ثم تنظيم العلاقة بينها على أساس نوع من التوازن في الصلاحيات مع استقلال كل منها عن الأخرى في عمليات التعيين والترقية واحتمالات الإقالة ( لشرح مختصر لهذا التوازن بين السلطات الثلاث أنظر الرسم من اعداد الكاتب في التذييل النهائي رقم – iii).

رابعاً:

مظهر آخر لهذه التوازنات يندر الاشارة اليه هو توازن الصلاحيات عند المستوى المحلي، وهو ذلك التوازن الذي تطور بين حكومات الولايات من جهة وبين الحكومات المحلية المنتخبة عبر النطاقات الحضرية في المحافظات والمدن والقرى داخل كل ولاية من جهة أخرى (أوزبون، 2010: 17، مايسل، 2014: 19)، حيث تتولى في الواقع الحكومات المحلية الادارة الفعلية اليومية لهذه النطاقات السكانية داخل الولاية مع شرط عدم مخالفة قوانين الولاية،[82] استناداً الى حق السكان في تحديد أولويات عمل السلطة المحلية والموافقة أو عدم الموافقة (من خلال مجالسهم المحلية المنتخبة) على الضرائب والرسوم اللازمة لتغطية تكاليف الخدمات العامة في كل نطاق السكاني.

هذا التنظيم كما أشرنا يجعل قضية تطوير النطاق الحضري في الواقع بما فيها تنشيط الاقتصاد (الذي تدفع من خلال نجاحه الضرائب والرسوم) قضية محلية قبل أن تكون قضية الولاية أو قضية الحكومة الفيدرالية.

من نتائج هذا التنظيم الذي يفعل دور الارادة الشعبية عند أدنى مستوى ممكن عبر النطاقات السكانية المختلفة، هو تحويل هذه النطاقات الى خلايا ادارية حية نشطة في زيادة منفعة سكانها (تنشيط الاستثمارات وزيادة نسبة التشغيل) وفي نفس الوقت الحد من أي ضرائب أو رسوم قد لا يكون لها عائد يقبله نفس سكان النطاق.[83]

مما سبق فإننا نستطيع القول أن العمل بفكرة التوازنات بأساليب مختلفة عبر المستويات الثلاث للحكم (المستوى المحلي ومستوى الولاية والمستوى الفيدرالي) تشكل عملياً (عن طريق تجزئتها للسلطة) المضاد الوقائي ضد احتمالات ظهور تركز السلطة الذي يجئ معه الاستبداد السياسي، هي في الواقع أهم ما يمكن ان نستفيده من النموذج الأمريكي في مجال تقاسم الصلاحيات، فالقضية ليست فقط في التقاسم الذي شرحنا بعض أبعاده عبر بحثنا، ولكن في تحقيق توازن في الصلاحيات أيضاً، مما يضمن استمرارية عدالة النظام في الداخل الأمريكي، مع اعترافنا بأن النظام الأمريكي كأي نظام آخر له عيوبه التي نحتاج أيضا لدراستها، فالبحث له بقية وما توفيقي إلا بالله.[84]

 

[1] حول أثر التكامل الإقليمي بين عدد من الدول مقارنة بانفراد الدولة وحدها في المجتمع الدولي أنظر مثلا: ليونارد، مارك الذي قام بمقارنة مدى تأثير نجاح دولة أيرلندا في حماية مصالحها في النطاق الدولي والتأثير في المجريات الدولية كعضو في الاتحاد الأوروبي مع الدور دولة النرويج كدولة أوروبية لم تنضم للاتحاد، وأظهر بأن ايرلندا ومن خلال حقها في التصويت على سياسات الاتحاد الأوروبي في مجلس الوزراء الأوروبي والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية لديها امكانيات أكبر للتأثير من تلك المتاحة لدولة النرويج رغم أنهما متشابهتان من حيث الحجم. أنظر (ليونارد، مارك (2009). لماذا سيكون القرن الواحد والعشرون قرناً أوروبياً، ترجمة أحمد عجاج. الرياض: العبيكان، ص81). أنظر أيضا كتاب بيتر كاتزستين في كتابه الدول الصغيرة في السوق العالمية حول ضعف الوضع الذي تجد فيه الدول الصغيرة نفسها مقارنة بالتجمعات والدول الكبيرة في الاقتصاد العالمي، وكانت دراسته عن مقتصرة على السويد والنرويج وسويسرا والنمسا قبل اتفاقية ماستريخت عام 1992م حيث تزايد تماسك الاتحاد الاوروبي

Katzestein, Peter (1985). Small States in World Market. New York:  Cornel Uni. Press

[2] على سبيل المثال لا الحصر انظر كيف استفاد الاتحاد الأوروبي من التجربة الفيدرالية الامريكية في مجال السياسة النقدية:

Henning, Radall and Martin Kessler. Fiscal Federalism: US History for Architects of the European Fiscal Union. Brussels: Bruegel, 2012 page3

[3] يتزايد ضعف الدول الصغيرة مع تسارع وتيرة العولمه وسيطرة الاقتصاديات الكبيرة (Economies of scale) التي تستفيد بطريقة اقتصادية من امكانيات الانتاج الكبير (mass production)، وهكذا تصبح قضية التكامل الاقتصادي قضية حياة او موت. فحتى الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وايطاليا تعمل اليوم على زيادة تماسكها الاقتصادي والسياسي من خلال الاتحاد الاوروبي كأداة للتضامن الاقتصادي. يلخص هذا الميل الذي أصبح من حقائق العصر وزير مالية الألماني حينما وقف ليدافع عن سياسة حكومته في مساعدة اليونان مالياً أمام المحكمة الدستورية الألمانية، مؤكداً على انه لا يوجد في عالم العولمه دولة اوروبية كبرى، بما في ذلك جمهورية ألمانيا الاتحادية:

“Every single European country, also the German Federal Republic – we are all too small to assume our interests and responsibilities in a globalized world”.. (From a published speech by Steven V Anackere –Deputy Prime Minister, Belgium-. Europe in the World: Contemporary Challenges and Opportunities for Improvement. The Global Governance Institute, Brussels, 2012, page: 8

[4] لشرح دقيق لكيف تطور مفهوم السيادة المزدوجة وتناقض فكرته مع الفكر السياسي الذي كان سائداً قبل ظهور الفيدرالية الامريكية انظر: الديموقراطية الامريكية الجديدة من تأليف: موريس فيورينا وبي ترام جونسون و بول بيترسون ودي ستيفن فوس من ترجمة لميس فؤاد اليحيى. عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، وصدر عام 2008، حيث يشير الكتاب الى أن “معظم المجادلة القانونية حول الفيدرالية تاريخياً تعنى بمبدأ السيادة المزدوجة، الذي ينص على أن الحكومة القومية والحكومات في الولايات تمتلك السلطة النهائية على ميادينها السياسية. وكمبدأ قانوني فإن السيادة المزدوجة هي اختراع أمريكي يتحدى حجة توماس هويبز القوية التي تصرح بأنه كان يمكن أن يوجد حاكم واحد فقط، وأنه لو تم تقسيم السلطة الحكومية، قال هويبز، فإن الحكام المتنافسين سوف يصلون حتماً الى التنازع مع بعضهم البعض، دافعين الدولة إلى حالة حرب أهلية”، ص61.

[5] الولايات المتحدة في حربها على اليابان “قتلت عمداً نحو تسعمائة ألف مدني في الأشهر الأخيرة الخمسة من الحرب العالمية الثانية، لا لخوفها من الهزيمة في الحرب، بل لأنها أرادت ان تكسب الحرب من دون غزو الأراضي اليابانية. وقد صرح الجنرال كيرتس لومي، الذي كان مسؤولاً عن حملة القصف القاتلة حينذاك: لو كنا خسرنا الحرب، لكنا سنحاكم جميعاً كمجرمي حرب”. أنظر: ميرشيمر، جون جي (2016). لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية. ترجمة غانم النجار. الكويت: عالم المعرفة (عدد الاصدار 443). ص96.

[6] بعد خروجه من السلطة أصبح جيمي كارتر الرئيس السابقة للولايات المتحدة نشطاً في كشف العنصرية الاسرائيلية وعلاقتها بالنظام السياسي الأمريكي، فنجد كتابه عن جدار الفصل العنصري بعنوان (Palestine: Peace Not Apartheid)، وصدر عام 2006. من أوائل مقالاته حول التعنت الاسرائيلي مقاله في جريدة نيورك تايمز (Carter, Jimmy. America Can Persuade Israel to Make a Just Peace. The New York Times, April 21, 2002 ) حيث يشير فيه الى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع من خلال القانون الأمريكي الذي يمنع السلاح عن الدول التي تستخدمه ضد المدنيين الحد من الممارسات الاسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

[7] من المقالات الاكاديمية القليلة داخل الولايات المتحدة التي كشفت عن مدى انحياز الادارة الامريكية الى المصالح الاسرائيلية مقال كل من ميرزهايمر، جون وستينفن والت (2006). اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية، ويوضح المقال للأستاذين من جامعة شيكاغو وجامعة هارفارد أن السياسة الامريكية في الشرق الأوسط ليست فقط منحازة تماماً لإسرائيل ولكنها تضر بمصالح الولايات المتحدة وأمن سكانها (مجلة المستقبل العربي، العدد 327، في 5 مايو 2006، من 27 إلى 58).

[8] تعرف الفيدرالية أو الشكل الاتحادي للدولة كنمط من أنماط التنظيم السياسي والمؤسساتي للدول تتحد بموجبه مجموعة وحدات سياسية مستقلة (امارات، ولايات، كانتونات… إلخ) في دولة فيدرالية واحدة، وتتمتع فيه الوحدات السياسية باستقلالية واسعة في تدبير شؤونها وبهياكل مؤسساتية مستقلة عن الحكومة الفدرالية، مع أن العلاقة بين الطرفين يجب أن تبقى محكومة بمبدأ تقاسم السلطة والسيادة.

من الضروري أن نؤكد هنا على أن الفيدرالية وُجدت على أرض الواقع في العصور الماضية بصور مختلفة قبل أن يُنظر لها الفلاسفة في كتاباتهم، وقبل ان تستلهم فكرة تقاسم الصلاحيات وضرورتها الثورة الأمريكية، لأن قدرة الدولة في الماضي في السيطرة والإدارة المباشرتين من مركز بعينه (أو ما نسميه بالدولة الموحدة في العصر الحديث) كانت محدودة للغاية بسبب ضعف وسائط النقل والاتصال، وبالتالي ضعف قدرة المركز على حكم النواحي والمدن البعيدة.  من هذا المنطلق فإن الحكم الذاتي للفروع الذي هو في وسط فكرة الفيدرالية هو تجربة سياسية واجتماعية قديمة أكثر منها نظرية فلسفية ألهمت خيارات سياسية لاحقا، لكن ما يميز التجربة الأمريكية بالذات هو تطوير منهج لتقاسم الصلاحيات وتنظيمات مؤسساتية وقانونية مبتكرة في مجال التنسيق المنظم. للتعريف أنظر:

 (http://www.aljazeera.net/encyclopedia/conceptsandterminology/2015/11/30)

[9] من الكتب الحديثة التي تعالج الموضوع نقتصر هنا على ذكر ثلاث أمثلة:

روسكن، مايكل وآخرون، (2014) مقدمه في العلوم السياسية (Political Science: An Introduction). ترجمة محمد صفوت حسن. القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع. 2015  (97  الى ص 107)، وكتاب فتح الباب، ربيع (2013 م) النظم السياسية: السلطة، الدولة، الحكومة صورها وأساليبها…. بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية (أنظر مثلا ص 210 الى 217)، وكتاب مقداد، محمد (2016)  دراسات نظرية وتطبيقية في الاصلاح والتنمية السياسية. أربد: عالم الكتب الحديث ص15 الى 18.

[10] صدر عام 1991 عن دار العلم للملايين. أنظر تحت اسم الكاتب في: www.neelwafurat.com

[11] لوصف النظام الفيدرالي في دولة الامارات وكيف نشأت عام 1971 بعد أن أعلنت بريطانيا نيتها الخروج من منطقة الخليج عام 1968م أنظر: الكتاب السنوي لدولة الامارات (2007)، لندن: مطبعة ترادنت. من ص47 الى 72

[12] أنظر مقدمة موضوع ملف العدد في مجلة الفيصل بعنوان: بلاد الأقليات الهائلة العدد 483-484 الذي احتوى على احدى عشر مقالاً عن مشكلة الأقليات في العالم العربي واستمرار تشظي الدولة عبر المنطقة العربية، 2017. في مقدمة العدد نجد شرح حول الجمود في شكل الدولة الموحدة السائد في العالم العربي وعدم الاعتراف بالأقليات في الكيانات السياسية الموجودة حالياً انظر ص18 و 19 كجزء أساسي من مشكلة التفكك السياسي.

[13]. أنظر مثلاً: (ليونارد، مارك (2009). لماذا سيكون القرن الواحد والعشرون قرناً أوروبياً، ترجمة أحمد عجاج. الرياض: العبيكان، ص81)، حول ما يتيحه الاشتراك في تجمع أكبر للدول الصغيرة مقارنة بالدول الصغيرة المنفردة بذاتها.

[14]  مناقشة بعض جوانب الضعف في شكل الدولة الموحدة:

شكل الدولة البسيطة أو الموحدة هو الشكل التقليدي المعروف للدولة حيث تتركز من حيث المبدأ كافة صلاحيات ممارسة السلطة في العاصمة السياسية  دون أن يكون هنالك أي صلاحيات أصيلة للمناطق أو الأقليات خارج العاصمة. من هذا المنطلق فإن  الشكل الاتحادي (الفيدرالي) يشكل نقيض لهذا التبسيط في تركيز السلطة حيث لم يعرف الشكل الاتحادي بمعناه الحديث إلا مع ظهور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787م.

 نلاحظ هنا أن هذا الشكل يتسم بالبساطة، اذ أنه يختزل قضية سلطة وحقوق ادارة الأقاليم بما فيها من أقليات وطوائف وثقافات وموارد وأراضي عامة ليجري تركيزها في يد سلطة واحدة في المركز السياسي للدولة (العاصمة السياسية).

فيما يتعلق بهذا بالتركز السلطوي في شكل الدولة الموحدة أو البسيطة السائد في العالم العربي فإن هنالك عدد من المفكرين ممن لاحظوا غرابته على تاريخ الأمة فلم تعرفه بشكله الجامد إلا مع طلائع الاستعمار الغربي للمنطقة (Ayubi 2006, 12)، وأنه لا  أصل له في تاريخ الأمة، لأن المراكز السياسية لم تكن تستطيع من حيث القدرة على السيطرة المباشرة إلا على نطاقات محدودة في محيطها، بينما كانت تتولى كل منطقة ادارة نفسها عن طريق الوالي الذي يعينه الخليفة من المركز ليدير منطقته مع أهلها، حيث يكون الالتزام الأساسي للوالي هو ارسال الخراج الى مقر الخلافة، فلم يكن هنالك مركز واحد تسيطر منه السلطة على كافة مناحي الحياة والعمل وأنظمة الرخص المختلفة.

اما نريد أن نؤكده هنا أن لأخذ بهذا التوجه المغرق في المركزية في العالم العربي جاء في الواقع مع دخول الاستعمار الأوروبي للمنطقة (Ayubi 2006, 12)  حيث ظهرت وتطورت فكرة الدولة المركزية بجهازها البيروقراطي والعسكري.

أشار الى ذلك المفكر الشيخ راشد الغنوشي الذي وضح خلال محاضرة له “ان الدولة المركزية التي ظهرت في نهاية حقبة الاستعمار هي ظاهرة شاذة في التاريخ الاسلامي حيث كان السلطان في الماضي مقتصراً على المراكز ولم يكن له سلطة على النواحي والأطراف، ولا على مرافق الحياة الأساسية للسكان مثل التعليم او حركة انتقال الناس أو على التجارة أو عمليات الوقف  وأساليب إدارته، فكان المجتمع الأهلي في المدن قويا (كما يقول الغنوشي) مكتفيا بذاته الى حد بعيد، وكثيرا ما كان مزدهرا، بينما كانت الدولة في المركز مضطربة منشغلة في صراع الأنداد على السلطة والثروة” (محاضرة مطبوعة للشيخ راشد الغنوشي، في الخامس من عيد الفطر لعام 1427، مجلس البسام، جده).

 يؤكد هذا الرأي أيضاً الدكتور عدنان زيتون الذي يرى أن قوة النشاط الخيري الوقفي الذي كان بعيداً تماماً عن يد الدولة عبر المناطق التي انتشر فيها الإسلام كان من اسرار ازدهار الحضارة الإسلامية، وأن  توسع السلطة المركزية في أعمالها وتزايد استحواذها على ادارة المجتمع ومقدراته ومؤسساته بطرق مختلفة (مثل وزارات الأوقاف التي نشأت لتدير أوقاف الناس عن طريق سلطة الدولة بعد أن كانت تدار ذاتياً) كان أساس تدهور هذه الحضارة، وسقوط مراكز إشعاعها في النهاية (زيتون، عدنان. الحضارة الإسلامية: قراءة في قصة التدهور والانحطاط. مجلة العربي (الكويتية)، العدد 605، أبريل 2009، ص62-67.)

هنا علينا ان نشير أن شكل الدولة الموحدة بالذات في الدول ذات المساحات الواسعة التي تتعد فيها الثقافات يقوم على عدد من الافتراضات الضمنية التي قد لا تتناسب احياناً مع منطق العدالة بين المناطق وضرورة المساواة في التعامل داخل الدولة الواحدة، والحل الفيدرالي ظهر في الواقع للتعامل مع اشكاليات المركزية السياسية في الدولة الموحدة أو البسيطة. من هذا المنطلق ونظراً لانتشار شكل الدولة الموحدة في العالم العربي فسوف نناقش فيما يلي بعض الافتراضات في شكل الدولة البسيطة.

مناقشة موجزه للافتراضات الضمنية التي يقوم عليها شكل الدولة الموحدة:

اذا اتفقنا أن المهمة الاساسية لعمل السلطة هي ادارة شؤون الناس بما يحقق مصالحهم عبر أقاليم الدولة ضمن اطار من العدل والمساواة، فان شكل الدولة الموحدة الذي تتركز فيه كافة صلاحيات عمل السلطة (الحماية الامنية وتشريع وتنفيذ القوانين وادارة الموارد الاقتصادية ووضع خطط التعليم والتنمية وغيرها)  في العاصمة المركزية التي تكون عادة في اقليم بعينه، يقوم على عدد من الافتراضات الضمنية التي لا بد لنا ان نتأكد من مدى صحتها في ضوء التعريف المعاصر للسياسة على أنها قضية تدور حول التوزيع، حيث نجد تعريف هارولد لاسال بأن السياسة هي من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ (Lass well 1936: 298)، وتعريف دايفيد آستون (1965) بأن السياسة هي التوزيع السلطوي لكل ما هو ذا قيمة في المجتمع.

 من هذه الافتراضات الضمنية ما يلي:

الافتراض الاول: ان المشاكل التي تواجهها أقاليم الدولة متشابهة وبالتالي يمكن للمركز ان يضع سياسات وحلول موحدة من خلال اجهزته المركزية لحل هذه المشاكل.

الافتراض الثاني: ان مجالات العمل والحياة عبر اقاليم الدولة متشابه ولذلك فانه يمكن للجهاز المركزي المختص بالتعليم مثلاً القيام بإلزام المدارس العامة عبر أقاليم الدولة بنفس المناهج المدرسية.

الافتراض الثالث: ان المركز قادر عبر الأقاليم على تلمس أولويات التطوير والاصلاح اللازمة، ومن ثم تكييف السياسات العامة الصادرة من المركز على خدمة واقع كل أقليم من أقاليم الدولة يما يتلائم مع احتياجاته.

الافتراض الرابع: فيما يتعلق بقضية توزيع الثروة ومدى العدالة في تقسيمها مما تحصله الدولة من ثروات أراضي الأقاليم ومن الرسوم المختلفة، فان الأجهزة المركزية في اقليم العاصمة التي تتركز فيها كافة صلاحيات جمع المصادر وادارتها وتوزيعها قادرة على تحويل هذه الاموال العامة عبر الاجهزة المركزية وفروعها الى الاقاليم بكفاءة وعدالة.

الافتراض الخامس: ان الثقافة العامة متشابهة عبر اقاليم الدولة ولذلك تستطيع السلطة السياسية في المركز إلزام الناس عبر هذه الاقاليم على تطبيق قواعد ثقافية موحده وذلك مثل الزي الرسمي، واساليب الاحتفال في الاعياد، والمنظور الديني بصفة عامة.

الافتراض السادس: أن جهاز الادارة العامة في مركز الدولة المسئول عن صناعة وتطبيق السياسات العامة هو جهاز محايد ولا مجال للمحاباة في القرارات العامة عبر المناطق

لكن في ضوء القاعدة التي اشرنا اليها بان هدف الحكم هو خدمة مصالح الناس بما يحقق مصالحهم على اساس القسمة بالسوية والعدل بين الرعية، يمكن بسهولة ملاحظة ان النقاش الموضوعي للافتراضات السابقة يكشف لنا عن خلل جذري في الفكرة الاساسية للدولة الموحدة وبالذات في الدول ذات المساحات الكبيرة، لأن المشاكل والأولويات عبر أقاليم الدولة لا تكون عادة متشابهة، وبالتالي لا بد من اختلاف من يفكر في الحلول، كما ان الثقافة العامة والمنظور الديني قد يختلفا بنسب متفاوتة من اقليم الى آخر وهذا يعني ان قيام الاقليم المركزي بتطبيق سياسات ثقافية معينه هو نوع من الهيمنة الثقافية التي قد تؤدي الى الرغبة من الانفلات من الوحدة السياسية. كذلك الأمر بالنسبة لافتراض العدالة الاقتصادية في القرارات المركزية في عمليات استخلاص وادارة وتوزيع الدخل من ثروات الأقاليم، حيث قد تظهر المحاباة الاقتصادية للإقليم المركزي بفعل الصلاحيات السياسية الواسعة في العاصمة وقرب سكان الاقليم من مركز القرار الاقتصادي والسياسي.

أما بخصوص الافتراض السادس فإن دراسات تحليل السياسات العامة تظهر لنا اليوم ان المشكلة الكبرى لدى صانعي السياسات العامة هو ضعف قدرتهم على استيعاب أهمية قضايا اساسية تدور حول توزيع الموارد والانتماء ومدى عدم المساواة في الدخل وقضايا الهجرة. حول الاشارة لهذه القضايا أنظر مثلاً:

Reinicke, Wolfgang (2016). Offering a Global Learning Environment at the Frontier of Pressing Public Policy Debates. FOREIGN AFFAIRS. V 95, No. 5. Sep.\Oct 2016. Page 23.

 وكذلك: إديث ستوكي وريتشارد زكهاوزر. أساسيات تحليل السياسات العامة. ترجمة أحمد مداوس اليامي. الرياض: جامعة الملك سعود. 2009 ص35 الى 49. حيث يشير الكاتبان الى ان دالة التفضيل عند النظر في بدائل  اتخاذ القرار تحوي أشياء ملموسه (قابلة للقياس) وأخرى غير ملموسه (ميول شخصية) لكن محصلتهما في النهاية تأثر على نوعية القرار الذي يجري اتخاذه.

هنا تجدر الاشارة الى ان الاشكاليات السابقة التي يمكن بسهولة الكشف عن مثالبها السياسية على المدى البعيد في الدولة الموحدة يجري الحد منها عن طريق أنظمة اللامركزية الادارية التي تسعى الى تفويض الصلاحيات الى مجالس منتخبة من سكان كل أقليم، وهذا الأمر لا ينطبق إلا في الدول الموحدة التي تطبق أنظمة انتخابات عند المستويين القومي والمحلي لضمان قيام مجالس تعكس رغبات سكان كل أقليم عند المستويين.

ففرنسا مثلاً هي دولة موحدة حيث تتركز صلاحيات القرار السياسي في باريس، ولكن ظهرت اللامركزية الادارية بفعل النظم الانتخابية التي تقرر من يقوم على ادارة الاقليم “حيث ان المدن الفرنسية في الداخل وما وراء البحار تمتلك مديرية ومجلساً منتخباً لادارتها ولها شخصية اعتبارية . وتلك المجالس بها رؤساء منتخبون، ورئيس المجلس في المدن الكبيرة يسمى العمدة الذي يتمتع بصلاحية المحافظ ورئيس البلدية” (الدليمي، 2001: 67) علماً بان “الوحدات الادارية المحلية لها اختصاصات واسعة وتتفرع منها الخدمات الضرورية –الاجتماعية والصحية والزراعية والاسكان…..الخ- الا ان الوحدات الادارية الفرنسية تتبع السلطة المركزية في الشؤون السياسية، أما الأمور المحلية والخدمات الضرورية فتتم بأساليب لا مركزية” (الدليمي، 2001: 67).

كذلك الأمر في المملكة المتحدة التي تعتبر دولة موحدة، لكن الحكومة في لندن سمحت لنشأة حكومات ومجالس محلية عبر بريطانيا. ففي عام 1998  اعترف البرلمان البريطاني بحكومة أيرلندا الشمالية، مانحاً إياها جمعية تشريعية مستقلة. كما أنشأ البرلمان جمعيات تشريعية لاسكوتلندا وويلز، (نلاحظ هنا أنه يمكن للبرلمان في لندن، إذا ما رغب بذلك، أن يلغي في أي وقت حكومات المقاطعة لويلز واسكوتلندا وأيرلندا الشمالية….” (فيورينا، 2008: 58)، فبريطانيا لا تزال دولة موحدة).

بكلمة أخرى فانه وللتخفيف من مشكلة التركز السلطوي في شكل الدولة الموحدة فان الأمر يعتمد في الواقع على مدى وجود او عدم وجود نظم انتخابية  لتمثيل الميول الشعبية في الأقاليم والعمل على استيفاءها من خلال ومجالس جمعيات تشريعية منتخبة من سكان الأقليم داخل نفس الأقاليم، وكذلك على حجم الصلاحيات الادارية التي جرى تفويضها للأجهزة المنتخبة نفسها. في حالة ضعف أو عدم وجود مثل هذه النظم والمبادرات فان تركز الصلاحيات في أقليم العاصمة السياسية يؤدي بسبب طبيعة السياسة الى  الهيمنة الاقتصادية والادارية بل والثقافية لأقليم المركز، كما أن المسار السياسي وصناعة القوانين سوف تنحاز بنسبة تزايدية (بفعل تراكم وتركز السلطة) الى مصالح اقليم العاصمة السياسية بطريقة قد تؤدي الى التذمر السياسي مما قد يفتح الباب للتفكك سواء بقوة العوامل الداخلية او بسبب التدخل الخارجي الذي يسعر اجندة الانفصال لخدمة مصالحه (عن أسباب التفكك السياسي وعلاقتها بالمركزية السياسية أنظر مثلاً: مجلة الفيصل، 2017: 19).

[15] فيما يتعلق بالحد من احتمال استبداد الرئيس المنتخب أنظر مثلاً التعديل الثاني والعشرون الذي نص على أنه “لا يجوز انتخاب أي شخص لمنصب الرئيس لأكثر من دورتين……” وقد تم اقتراح هذا التعديل في 24 مارس 1947 وتمت المصادقة عليه من قبل الهيئات التشريعية في الولايات في 27 فبراير 1951، أنظر: دستور الولايات المتحدة الأمريكية: ملاحظات توضيحية. صادر عن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ص56 (بدون تاريخ –  www.america.gov/publication/books/the-constitution.html)

[16] حدد أول كونغرس أمريكي فيما عرف ب” وثيقة الحقوق” في التعديل الأول للدستور (يحوي عشر تعديلات) عام 1791 الحريات والحقوق الأساسية للإنسان، “وتخلى بذلك إلى الأبد عن صلاحيته في التدخل فيها، فحد بصورة نهائية من قدرة الأغلبية على التعدي على بعض الحريات أو التدخل في بعض الميادين” (أوكونور 1994، 14).

[17] كامن، مايكل (1996). آلة تعمل من تلقاء ذاتها: الدستور في الثقافة الأمريكية. ترجمة أحمد ظاهر. عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع. أنظر بالذات ص 181.

[18] لقد درس الكونغرس حتى الآن أكثر من سبعة آلاف اقتراح لتعديل للدستور لكنه لم يقترح اعتماد سوى أربعة وثلاثون منها بإحالتها للهيئات التشريعية في الولايات. ومن أصل هذا العدد لم تتم المصادقة الا على سبعة وعشرين منها (ستة وعشرون عن طريق حصول اقتراح التعديل على تصديق ثلاثة أرباع الهيئات التشريعية في الولايات، وتم اعتماد اقتراح تعديل واحد فقط عن طريق مؤتمرات عقدت في الولايات). أنظر: دستور الولايات المتحدة الأمريكية: ملاحظات توضيحية. مرجع سابق ص40، كذلك يمكن مراجعة الموقع المتخصص الأكثر حداثة (.Jurispedia.orgar) بالبحث تحت “عدد تعديلات الدستور الأمريكي”.

[19] تنص هذه المادة على آليتين يمكن ان يتم تعديل الدستور بهما، حيث على أن “يقترح الكونغرس، كلما رأي ثلثا أعضاء المجلسين ضرورة لذلك، تعديلات لهذا الدستور، أو يدعو بناء على طلب الهيئات التشريعية لثلثي مختلف الولايات، الى عقد مؤتمر لاقتراح تعديلات، تصبح في كلتا الحاليتين قانونية من حيث المقاصد والغايات كجزء من هذا الدستور عندما تصادق عليها الهيئات التشريعية لثلاثة أرباع مختلف الولايات، أو مؤتمرات تعقد في ثلاثة أرباع الولايات ……” (أنظر المادة الخامسة من الدستور الأمريكي).

[20] تشير القاضية ساندرا أوكونور (كانت أول امرأة يتم تعينها في المحكمة العليا، ورشحها للمنصب الرئيس رونالد ريغان عام 1981) إلى أنه “ازداد الاهتمام كثيراً بالحماية التي يوفرها القضاء لحقوق الفرد وحرياته بعد الحرب العالمية الثانية، “لأن الحرب برهنت أنه لا يمكن التعويل دائماً على المجالس التشريعية المنتخبة من قبل الشعب لكي تحمي حقوق الإنسان وحريته، ولذلك فإن الدساتير التي تبنتها كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية تنص الآن على حماية الحقوق الفرد وتعطي بعض المحاكم الخاصة صلاحية النظر في دستورية القوانين والقرارات.” على نفس نمط المحكمة العليا(أوكونور، 1994: 3).

[21] أنظر مثلاً: حقي، محمد (1991) في مقاله عن المحكمة العليا بعنوان: المؤسسة التي يستند إليها النظام الأمريكي كله. مجلة المجال العدد 248، نوفمبر 1991، ص26.

[22] الزوبعة التي أثارها دونالد ترمب ضد القضاء الأمريكي ووصفه للحكم القضائي من المحكمة الفيدرالية (هنالك 94 محكمة فيدرالية تنتشر عبر الولايات) في ولاية واشنطن بتجميد قرار حظر السفر للقادمين من 7 دول اسلامية من قبل القاضي الفيدرالي جيمس روبارت بأنه “سخيف وسيتم إلغاءه” (الشرق الأوسط، 5\2\2017 ص1)، ليست غريبه على النظام الأمريكي في الشد الذي يمكن أن يحصل بين السلطات الثلاث، اذ تقول القاضية ساندرا أوكونور بانه “لا يدهشنا أن تكون المحكمة أحياناً موضوعاً مثيراً للجدل لأنها سلطة غير منتخبة ولا يوجد عليها مسؤولية سياسية مباشرة” وحدث ذلك كما تشير القاضية مرات عديده “….فخلال الخمسينات حينما قضت المحكمة بعدم دستورية نظام التمييز العنصري في مدارس العديد من الولايات، وجب ارسال جنود الحرس الوطني لتنفيذ بعض أحكام المحكمة” وذلك بخصوص اختلاط السود مع البيض في المدارس وفي النقل المدرسي، وكذلك حينما حكمت المحكمة خلال السبعينات بعدم دستورية القيود التي وضعتها بعض الولايات على الاجهاض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل (اوكونور، 1994: 4).

[23] عن اختلاف التطور العلمي لمجال العلوم السياسية في الولايات المتحدة عنه في أوروبا أنظر:

 Stockemer, Daniel, E. Rashkova, J. Moses and A. Blair. American Political Science Association: Proceeding of the Symposium on The Discipline of Political Science in Europe: How different is it from Political Science of  North America. See PS Journal report  (24 October 2016 by APSA). P 3& 4.

[24] بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة (1620-1635) والصراع على حرية الممارسة الدينية في إنجلترا، تتابعت ستة هجرات من الانجليز الى العالم الجديد (أول سفينة وصلت هي سفينة “ماي فلاور” التي وضع المستعمرون منها أول وثيقة حكم تقوم على حق الأفراد في المشاركة في حكم أنفسهم بأنفسهم وشكلوا فيما بعد إنكلترا الجديده –New England-)،  وبدأ التاج البريطاني في السيطرة على الأرض من خلال شركة لندن عن طريق العمل على منح اقطاعيات كبيرة لبعض النبلاء من العائلات الانجليزية التي استثمرت أو هاجرت الى أمريكا الشمالية أنظر مثلاً (www.Aldouman.com).

[25] بالإضافة لفرضه لضرائب جديده واعتراض الولايات الأمريكية على أساس انها غير ممثلة في البرلمان البريطاني، فقد قام الملك الشاب أيضاً بإصدار قرار يلزم فيه الولايات الأمريكية بأن لا تصدر عدد من المنتجات ومنها الحديد والخشب إلا للدولة الأم (بريطانيا). أنظر:

  1. M., kostyal (2016). Founding Fathers: American Great Leaders and the Fight for Freedom. Washington, D.C., page 10

[26] أهمية هذه المعركة ونجاح القوات الأمريكية في هزيمة القوات البريطانية في معركتين بينهما ثمانية عشر يوماً في منطقة نيورك تكمن في أنها اقنعة الفرنسين بالدخول كحلفاء ضد البريطانيين ثم تعاونت أسبانيا أيضا ضد القوات البريطانية. فيما يتعلق بالدور الفرنسي فقد كان للمدفع الفرنسي نوع دي فاليري دور كبير في هزيمة القوات البريطانية. للمزيد عن المشاركة الفرنسية والاسبانية في الصراع ضد بريطانيا أنظر:The American Revoltion www.History.com،

[27]  أنظر الشرح في كتاب مقدمة لدستور الولايات المتحدة الامريكية:  ملاحظات توضيحية. صادر عن حكومة الولايات المتحدة الامريكية باللغة العربية ص4، أنظر كامل الكتاب أيضاً على الموقع: (www.america.gov/publication/books/the-constitution.html). .

[28] مثلا محافظة بلتمور في مدينة بلتمور الكبرى احد محافظات المدينة نشأت عام 1659 أي قبل أكثر من مئة سنة من نشأت الولايات المتحدة الأمريكية، أنظر: Know Your County Handbook. Baltimore County. Baltimore. Maryland. 1996 pages 22 to 24

هذا الكتيب هو دليل شامل لحكومة محافظة بلتمور وميزانية مختلف الجهات المسؤولة عن الخدمات وكذلك تقسيم المحافظة الى مقاطعات انتخابية حسب عدد السكان في كل مقاطعة، ويبدأ دليل المحافظة الذي يتألف من 50 صفحة بعبارة لها دلالتها: “أن المصلحة العامة سوف يتم خدمتها بطريقة أفضل حينما يعمل المواطنون والحكومة كشركاء في خدمتها”

[29] انظر المقال الهام في مجلة منظمة العلوم السياسية الأمريكية الذي تؤكد فيه جيسيكا ترونستين أن منطلق السياسة في الواقع هو محلي قبل أن يكون قومياً لأن المقياس الحقيقي لنجاح أو فشل الدولة إنما يكون يرتبط بمدى قدرة الأجهزة العامة في تقديم الخدمات الأساسية عند المستوى المحلي وبها يخلص الناس الى حكمهم على ما تفعله الدولة كل بمقدراتهم:

Trounstine, Jessica (2009). All Politics is Local. Perspective on Politics Journal, volume7 no. 3, Sep. 2009. P614

[30] من الضروري أن نشير الى أن الحكومات المحلية التي يجري انتخابها في المدن والمقاطعات والمحافظات عبر الولايات ليست وحدات أساسية في الدستور الأمريكي، كما هو الحال بالنسبة لحكومات الولايات، فحسب رأي القاضي جون ديلون “فإن الحكومات المحلية بلغة قانونية هي مجرد وسائل للولاية، ويمكن لهيئة الولاية التشريعية، في أي وقت أن تغير الصلاحيات لأي حكومة محلية، وأن توسع أو تقلص سلطاتها أو تلغيها تماماً” (فيورينا، 2008: 57)، رغم ذلك فإن السبق التاريخي للحكومات المحلية، يجعل فكرة الحكم للامركزي قضية راسخة في نفس الولايات.

[31] أنظر: مايسل، إل ساندي (2014). الانتخابات والأحزاب السياسية الأمريكية. ترجمة خالد غريب علي. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص18

[32] اوزبون، ديفيد وتيد غايبلر(1992) إعادة اختراع الحكومة: كيف تحول روح المغامرة القطاع العام من مبنى المدرسة إلى المدرسة إلى مقر الولاية ومن قاعة البلدية إلى البنتاغون. ترجمة  محمد توفيق البجيرمي . الرياض مكتبة العبيكان.  2010م  ص17.

[33] تختلف تنظيمات الحكومات المحلية من ولاية لأخرى، ولكن وبصفة عامة فان أغلب الحكومات المحلية في الولايات المتحدة تعمل بنظام مجلس تنفيذي يرأسه مدير أو عمده منتخب، ويشرف عليه مجلس منتخب أيضا ذا اختصاصات تشريعية من نفس سكان النطاق الحضري، ويشرفان بطريقة تكاملية على أغلب خدمات النطاق الحضري ومنها التعليم والصحة والمكتبات والمنتزهات العامة والشرطة والتطوير الاقتصادي للنطاق (Trounstine, 2009: 614)، والشرط الأساسي هنا هو عدم مخالفة قوانين الولاية أو القوانين الفيدرالية. في هذا الشأن فان افضل مصدر للمعلومات في الوقت الحالي عن نظم الحكومات المحلية والتنوع في أساليب ادارة المدن والسياسات العامة هو منظمة الهيئة العالمية لإدارة المدن ومقرها واشنطن، حيث تعمل هذه المنظمة الخاصة على نشر المعلومات وتبادل الخبرات في أساليب الإدارة المحلية والسياسات المحلية وتقديم حلول لمشكلات التنمية الحضرية (الكاتب عضو في هذه المنظمة وقام بدعوة عضوين لزيارة المملكة وقاما بإلقاء محاضرات في المجلس البلدي وأمانة مدينة جده عام 2014)، انظر: (International City Management Association (www.ICMA.COM)

[34] حول أهمية الحوار العام الحر كأساس لفكرة العدالة في النطاق العام يؤكد أمارتيا سن الحائز على جائزة نوبل في مجال اقتصاديات الرفاه، على أن مدى وجود العدالة في النطاق العام يرتبط بمدى وجود الحق في النقاش المفتوح للقضايا العامة، وأن النقص في هذا الحق قد يؤدي الى تفشي كوارث بحجم كارثة المجاعة في اقليم البنغال بسبب منع الحكومة البريطانية عام 1943م مناقشة موضوع القضية على أساس أنها قد تعيق المجهودات الحربية لبريطانيا. أنظر: سن، أمارتيا (2010). فكرة العدالة. ترجمة مازن جندلي. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون. 2010، ص478.

[35] يشتمل تنظيم الحكم في الولايات الامريكية على وجود مجلس للنواب ومجلس للشيوخ يمارسان السلطة التشريعية في كل ولاية باستثناء ولاية نبراسكا التي يوجد بها مجلس واحد منتخب هو مجلس النواب

[36] كما سيتم التوضيح لاحقاً فأنه مقابل الصلاحيات المتاحة للنطاقات الحضرية (المدن أو المحافظات أو المقاطعات أو غيرها) في ادارة نفسها فهنالك مسؤوليات تتحملها الوحدات المحلية، تتمثل في ضرورة قيام هذه الوحدات المحلية بتغطية تكاليف الجزء الأكبر من الخدمات العامة ذاتيا، وإلا دفعت الثمن بأن تخسر الحكومة المحلية للنطاق جزء من استقلالها الإداري لصالح حكومة الولاية بالذات.

[37] الكاتب متخصص في مجال دراسة النظام السياسي الأمريكي كأحد المجالات الأساسية الثلاث التي تم امتحانه فيها لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة واشنطن بمدينة سانت لويس (Washington Uni.- St. Louis) وهو لا يزال عضو في منظمة العلوم السياسية الامريكية American Political Science Association  التي تعد أكبر منظمة في العالم في مجال العلوم السياسية.

[38] قام الكاتب بإعداد هذا الجدول بالرجوع جزئياً الى: شرود، ريتشارد (1991). موجز نظام الحكم الأمريكي. واشنطن: وزارة الخارجية الأمريكية. ص73-74

[39]  لا بد ان نشير هنا إلى أن القوة العسكرية للولايات المتحدة الامريكية كانت تعتمد في بداية الأمر على المليشيا العسكرية للولايات، ولذلك فلكل ولاية تقريباً قوة دفاع (State Defense Forces) أو ما يعرف بحرس الولاية أو احتياط الحرس الوطني وهو تحت سيطرة حاكم الولاية (تجدر الاشارة هنا أن هذا الحرس يختلف عن الحرس الوطني التابع للجيش الامريكي).  ويقوم حرس الولاية بحماية الجسور والمصانع والشواطئ والأماكن الحساسة في الولاية كما يتولى مقاومة أي عصيان مدني، ويمكن في حالة الحاجة تحويل جزء من احتياط الحرس الوطني للولاية الى قوة تابعة للحكومة الفيدرالية (في الوقت الحالي عدد الولايات التي لديها قوة دفاع فعالة هو 22 ولاية) علما بأن تطور القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية بدأ في الواقع مع حاجات الصناعة العسكرية التي فرضتها الحرب العالمية الثانية (أشار الى هذا النمو المطرد للصناعات العسكرية الأمريكية الرئيس دوايت ايزنهاور في خطاب الوداع الذي ألقاء عام 1961م، وحذر فيه من خطورة التوسع في الصناعات العسكرية نمو العلاقة بين القطاع العسكري وقطاع الأعمال فيما اسماه ايزنهاور –Military-Industrial Complex- ). أهمية هذا الخطاب تكمن في التحذير المبكر من رئيس أمريكي من نمو القوة العسكرية الأمريكية، وأنها قد تتحول الى قوة في غير محلها، وخطر على الحرية. أنظر:

 (National Archives: Eisenhower’s Military-Industrial Complex Speech: Origin and Significance).

[40] انظر الفقرة العاشرة من الدستور الامريكي: السلطات المحظورة على الولايات

[41] في هذه الفترة بالذات فقد كانت الولايات دول مستقلة سياسياً وليس لديها استعداد للتخلي عن سيادتها، وفكرة الفيدرالية ظهرت كحل وسط بين الاستقلال الكلي الذي يصعب معه التنسيق في اتخاذ القرار لخدمة المصالح المشتركة، وبين التماسك الكلي للسلطة (في شكل الدولة الموحدة) ومركزيتها حيث المركزية التي سوف تخسر معها الولايات حريتها بالكلية (أنظر فيورينا، 2008: 57).

[42] بصفة عامة فإن التعريف المعاصر للسياسة يكشف عن جانب الصراع الذي يكتنف السياسة أكثر من أي شئ آخر، فمثلاً نجد تعريف الرئيس السابق لجمعية العلوم السياسية الأمريكية هارولد لاسال الذي عرفها بأنها: من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ (Lasswell, Harold (1936) Politics: Who gets What, When and How). كذلك نلمس نفس الأمر بالنسبة لتعريف دايفيد آستون (David Eston, 1965, A Frame For Political Analysis) في كتابه عن التحليل السياسي حيث عرف السياسة بأنها التوزيع السلطوي لكل ما هو ذا قيمة (The authoritative allocation of value).

[43] السلطة التشريعية على المستوى الفيدرالي هي السلطة التي لها حق سن القوانين والموافقة على النفقات العامة ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية، وتتألف من مجلسين منتخبين من شعب كل ولاية على حده وتتألف هذه السلطة من مجلسين يسميان سوية بالكونغرس:

المجلس الاول: مجلس النواب ويجري فيه تمثيل سكان كل ولاية بالتناسب مع عدد سكان الولاية ويزيد عدد النواب في هذا المجلس في الوقت الحالي على 435 نائباً، ويجري إنخاب النائب لمدة عامين.

المجلس الثاني: مجلس الشيوخ ويتألف من شيخين منتخبين عن كل ولاية بغض النظر عن عدد سكان الولاية (العدد الاجمالي 100شيخ), ويجري انتخاب الشيخ لمدة 6 سنوات.

ويتجلى استقلال هذه السلطة عن السلطة التنفيذية التي يرأسها الرئيس الامريكي في أن الرئيس لا يستطيع طرد او إقالة اي عضو من أعضاء الكونغرس.

[44] أنظر دراسة الحالة القانونية في هذه القضية التي أسست لرفض اعتراض الولايات على التشريعات الفيدرالية في:

McCulloch v. Maryland (1819). The Supremacy of the National Law.  In American Government edited by Peter Woll: Reading and Cases. Boston: Little Brow & Company. 1987, pages 80 to 84.

[45] تعرض قرار المحكمة العليا بإعلاء القانون الفيدرالي فوق قوانين حكومات الولايات “لنقد وتذمر قبيح وتهجم شخصي على رئيس المحكمة جون مارشال. حتى أن الجمهوريين والديموقراطيين، وهما حزبي جفرسون وماديسون ومنرو، ارتفعت أصواتهم يملأها الغضب يعلنون انتهاك حقوق الولايات…” كامن، مايكل (1996). آلة تعمل من تلقاء ذاتها: الدستور في الثقافة الأمريكية. ترجمة أحمد طاهر. عمان: دار الفارس للنشر، ص84.

[46]كجزء من حالة الغليان الشامل الذي عم الجنوب الأمريكي قامت احدى عشرة ولاية من الولايات الجنوبية باعلان الاتحاد الكونفدرالي الأمريكي عام 1861م وأعلنت استقلالها عن الولايات المتحدة الأمريكية. لمزيد من التفاصيل أنظر:

Kelso, Nathaniel (2005). A Nation Transformed by War (a research supported with maps).  National Geographic Society . Washington, DC.

[47] كما يشير فيورينا وزملاءه فقد أتضح أن المحاكم عند مستوى حكومات الولايات تتأثر بشكل أكبر بالصراعات السياسية بسبب كون 37 ولاية من أصل 50 يخضع فيها القضاة للانتخاب (فيورينا، 2008: 398)، أما بالنسبة للمحكمة الفيدرالية العليا في واشنطن فإن اختيار قضاة المحكمة العليا يتم باشتراك السلطة التنفيذية (الرئيس الأمريكي) في اقتراح اسم القاضي ثم يقوم مجلس الشيوخ بمناقشة القاضي المرشح لتقرير مدى أهليته للمنصب. في حال حصول المرشح على الموافقة من الكونغرس فإن تعينه ضمن قضاة المحكمة التسعة يكون لمدى الحياة، مما يبعد القاضي عن الصراع السياسي الذي يشوب الانتخابات، ويجعله بعيداً نسبياً عن ضغوط السلطة التي كانت قد رشحت اسمه (الرئيس) أو تلك التي قامت بالموافقة على تعينه (الكونغرس).

[48] دراسة حالة: تتيح لنا القضية التي طرحت على القضاء الأمريكي بخصوص قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بإصدار أمر تنفيذي بمنع دخول مواطني سبع دول دارسة حالة في كيف يسري حكم القضاء الفيدرالي على باقي الولايات وكذلك في مجال التوازن بين السلطات (Check and Balance).

من حيث المبدأ علينا ان نشير هنا الى أن قضية دخول او عدم دخول مواطني دول من خارج الولايات المتحدة تخضع لاختصاص السلطة التنفيذية، لأنها السلطة المخولة بقضايا العلاقات الخارجية، ورغم ذلك تدخلت المحاكم بتجميد القرار وليس الغاءه على أساس أن المحاكم هي الجهة المسؤولة عن التأكد من أن كل من يدخل الى أرض الولايات المتحدة يعامل وفق قواعد الدستور الأمريكي بغض النظر عن عرقة او لونه أو دينه.

هنا نلاحظ أيضا أن اختصاص المحاكم الفيدرالية في الحكم في الموضوع وليس محاكم الولايات جاء على أساس اتفاق قديم في أن كل ما يثار من قضايا في مجال العلاقات الدولية للولايات المتحدة هو من اختصاص المحاكم الفيدرالية (شرودر، 1991: 64 و65)..

ضمن اطارهذا الاتفاق القديم فإن قضية من هذا النوع تبدأ دائماً من المحاكم الفيدرالية التي يوجد منها اليوم 94 محكمة فيدرالية تنتشر عبر الولايات، ويليها في الاختصاص بعد ذلك محاكم الاستئناف الفيدرالية وعددها اليوم 13 محكمة، وهي محاكم تنتقل من ولاية الى أخرى للنظر في القضايا التي يريد أصحابها الاستئناف ضد أحكام المحاكم الفيدرالية، وينتهي الأمر بالمحكمة الفيدرالية العليا في واشنطن (اذا ما رفعت القضية أمامها، علماً بأن من المحكمة العليا توافق على دراسة عدد محدود من القضايا التي تصل اليها) كأعلى محكمة في البلاد.

فيما يتعلق بالقرار التنفيذي للرئيس ترمب (Executive Order) آنف الذكر فقد رفعت قضية ضد القرار من قبل بعض هيئات حقوق الانسان، وحكمت المحكمة الفيدرالية في ولاية واشنطن بتجميد القرار التنفيذي للرئيس. في ضوء ذلك قامت السلطة التنفيذية على أساس أنها الجهة المخولة بالقضايا في العلاقات الخارجية برفع قضية استئناف ضد حكم المحكمة الفيدرالية، وتم فعلاً عرض القضية في محكمة الاستئناف الفيدرالية في ولاية كاليفورنيا، وصدر حكم بإجماع قضاة محكمة الاستئناف الثلاثة باستمرار تجميد قرار الرئيس بمنع دخول مواطني السبعة دول التي كان الرئيس قد حددها.

في ضوء هاذين الحكمين فإن ما بقي للرئيس الأمريكي حتى يستطيع تطبيق قراره التنفيذي هو بديلين اثنين:

البديل الأول: أن يرفع قضية أمام المحكمة الفيدرالية العليا في واشنطن ضد حكم محكمة الاستئناف الفيدرالية، وعليه ان ينتظر موافقة أو عدم موافقة المحكمة العليا للنظر في القضية حيث ان المحكمة العليا لا تنظر الا في عدد محدود للغاية من القضايا التي ترفع اليها.

البديل الثاني: أن يقوم بتعديل نفس القرار التنفيذي ليكون أكثر دقة في تحديد المخاطر المحدقة على الولايات المتحدة الأمريكية جراء دخول مواطني الدول السبعة وفي نفس الوقت تحديد أدق لمن يشملهم المنع بدلاً من القرار الحالي بالمنع الكلي لمواطني هذه الدول، ثم يقوم بإصداره في شكل قرار تنفيذي جديد.

[49] بمعنى مناقشة موضوع وحجم الضريبة أو الرسم في المجالس المنتخبة التي تمثل الناس بطريقة علنية قبل تقريرها, تطور هذا المبدأ ضمن إطار النظام البرلماني البريطاني في العلاقة بين النبلاء والملك حيث أجبر الملك على التوقيع على وثيقة تعهد فيها بأنه سوف لا يفرض أي ضرائب اضافية على النبلاء إلا بعد سؤالهم، وعرفت هذه الوثيقة منذ صياغتها الأولى عام 1215 بالعهد العظيم (Magna Carta) وأصبح لهذه الوثيقة تطبيقات أكثر ديموقراطية، حيث نجدها مطبقة بطرق مختلفة في مختلف الدول الديموقراطية في العالم اليوم فلا تجرئ أي حكومة على فرض ضرائب على الناس إلا بعد سؤال النواب المنتخبين منهم، أو حتى العودة للناس مباشرة بالسؤال في استفتاءات عامة (للنظر في الأسس الموضوعية لهذا المبدأ: انظر مثلاً: المالكي، 2014: ص80 و119).

[50] المؤتمر القاري الأول عقد في مدينة فيلادلفيا عام 1774 بين اثنا عشر ولاية (حيث لم يحضر ممثل عن ولاية جورجيا) لتدارس تقديم احتجاج موحد للولايات ضد الضرائب التي فرضها التاج البريطاني عام 1773 لمساعدة شركة الهند الشرقية في مواجهة الأزمة المالية الخانقة التي كانت تعصف بالشركة، ولذلك فقد كان الرد الأعنف على الضرائب البريطانية هو حادثة رمي الشاهي من على ظهر ثلاث سفن بريطانية كانت راسية في ميناء مدينة بوسطن، وأصبحت هذه الحادثة رمز رفض التدخل الحكومي فيما يعرف (The tea party) حيث أدت هذه الحادثة الى ثورات مشابهة عبر الولايات الأمريكية الأخرى (Kostyal, 2016: 18 & 19).

[51] هذا الجهاز هو هيئة خدمات الدخل (Internal Revenue Service) ومقرها واشنطن وانشئت عام 1862 وهي تابعة لوزارة الخزانة الأمريكية أنظر: (WWW.IRS.gov)

[52] نلاحظ هنا أنه وفيما يتعلق بالضريبة على الدخل فإنها أحدى أدوات الحكومة في عملية توزيع الثروة بين الولايات الغنية والولايات الفقيرة، عن طريق تطوير نظام الضرائب التصاعدية، التي تقوم على أساس أنه كلما زاد دخل الفرد كلما ارتفعت نسبة الضريبة المستقطعة من دخله  لصالح الحكومة الفيدرالية، مما يعنى ان الولايات التي يرتفع فيها عدد الاغنياء سوف تدفع مبالغ أكبر من الولايات التي يقل فيها عدد الاغنياء، حيث تقوم الحكومة الفيدرالية لاحقاً بتمويل الأنشطة العامة في الولايات الفقيرة بطريقة تساعد على ردم الفجوة بين الولايات الفقيرة والولايات الغنية عبر البرامج الفيدرالية وتغطية النقص في الخدمات الأساسية.

[53] هذا الفارق في دخل حكومات الولايات من الضرائب المحصلة على الممتلكات والمشتريات داخل الولاية هو ما يجعل بعض الولايات فقيرة وأخرى غنية.

[54] أنظر:

 Maciag, Mike and J.B.Wagan (2017), With Less State Aid, Localities Look for Ways to Cope. www.governing.com (Local Intergovernmental Revenue Data), February, 2017 (page 1 to 5).

Sullivan, Patricia (2017). www.Washingtonpost.come/local/virginia-politics/alexandria-school. March 13 2017.

[55] كما هو الحال مع الكونغرس الاتحادي (المجلس التشريعي للحكومة الفيدرالية) الذي يتألف من مجلسين هما (مجلس النواب (تعرض عليه القضايا المالية اولاً)، ومجلس الشيوخ (تعرض عليه قضايا العلاقات الدولية أولاً)، فان المجالس التشريعية في حكومات الولايات تتألف أيضاً من مجلسين باستثناء ولاية نبراسكا التي لها مجلس نيابي واحد فقط  (أنظر شرودر 1991 ص77 )، أما في حالة الحكومات المحلية التي تتنوع في طريقة تشكيلها وعدد الأعضاء المنتخبين فيها فإن، المجالس المنتخبة  تتولى دراسة الميزانية مباشرة  قبل اعادتها للمجلس التنفيذي للنطاق الحضري.

[56] يقوم على ادارة محافظة مدينة بلتمور مجلس تشريعي منتخب ويعمل تحته رئيس تنفيذي منتخب أيضاً، وللمجلس الحق في تشريع رسوم وضرائب على الخدمات والأعمال في المحافظة ضمن إطار قانون الولاية بعد الحصول على موافقة المجلس المنتخب من سكان المحافظة. للجدول أنظر:

Know Your County Handbook. Baltimore County. Baltimore. Maryland. 1996 p: 35.

[57] بالإضافة للتعاون بين الحكومات المحلية وحكومات الولايات والحكومة الفيدرالية في توفير المبالغ الخاصة بالخدمات الأساسية فإن  هنالك ما يطلق عليه مسمى المشاريع المشتركة (المشاريع البين حكومية) بين حكومة الولاية والحكومة الفيدرالية التي يجري تمويلها من قبل حكومة الولاية من جهة والحكومة الفيدرالية من جهة أخرى (المشاريع النموذجية تكون 50% من الحكومة الفيدرالية) عن طريق ادارة إشرافية يتم تشكيلها على المستوى الفيدرالي ويكون التنفيذ بكوادر محلية من الولايات وحكوماتها المحلية، وقد ارتفعت المخصصات الفيدرالية لمثل هذه المشاريع من حوالي 97 مليون دولار عام 1930م لتصل الى 166 بليون دولار بحلول عام 1982، وعادة ما تكون هذه المشاريع محل صراع دائب بين ممثلي الولايات في الكونغرس الفيدرالي ( فيورينا، 2008م: 70).

[58] تقوم حكومة كل ولاية بعمل نشرات وكتب تسوق للولاية وتاريخها وثرواتها ومعالمها وما يتوفر فيها من بنية تحتية وقوى بشرية. كمثال أنظر الكتاب السنوي لولاية جورجيا وولاية ميتشيجان:

H Stechschculte, Pattie (2001). GEORGIA.  New York: Scholastic.In.

Hintz, Martin (1987) MICHIGAN – Michigan Bureau of Statistics.

[59] فاعلية هذا المنطق هنا تعكس ببساطة حقيقة أن لكل ظاهرة كلية (فشل أو نجاح حكومة الولاية) روافد جزئية (ما تقرره الحكومات المحلية داخل الولايات)، يتشكل منها في نهاية الأمر حال الولاية وأوضاع سكانها، وهكذا فإن الولاية الناجحة تتألف من مدن وقرى نجحت في ادارة وتطوير نفسها من خلال حكوماتها المحلية المنتخبة بالتعاون مع حكومة الولاية والحكومة الفيدرالية.

[60] انظر المقال:  Trounstine, Jessica (2009). All Politics is Local. Perspectives on Politics Journal, volume7 no. 3, Sep. 2009. P611 to 617 (one of the Journals of the American Political Science Association)

[61] لمراجعة التقسيمات المختلفة التي يجري بها تغطية هذه الخدمات أنظر مثلاً ميزانية محافظة مدينة بلتمور التي تعتبر من المحافظات الكبيرة:

Know Your County Handbook. Baltimore County. Baltimore. Maryland. 1996 pages 22 to 35

[62] على سبيل المثال أنظر قيام ممثلي الهنود الحمر من قبيلة ساجي ناوى تشيباوى (Saginaw Chippewa) في مدينة ماونت بليزنت في ولاية ماساشوست (MOUNT PLEASANT, MI) بالتبرع بمبلغ 3 ملايين دولار لنظام التعليم في المنطقة، وذلك رغبة منهم في دعم التعليم في منطقتهم. (www.ICMA.org)

[63]  على سبيل المثال فقد قامت حكومة ولاية نيوجرسي برئاسة حاكم الولاية كريس كريستي بالسيطرة على ادارة مدينة أتلانتك (Atlantic City) لأن حكومة المدينة لم تعد قادرة على دفع الديون التي عليها وتكاليف الخدمات العامة، وقد شمل القرار السيطرة على كافة مؤسسات اتخاذ القرار لهذه المدينة، وتستطيع حكومة الولاية بناء على هذا القرار البيع من أصول المدينة، بما فيها مطار المدينة وهيئة ادارة مياه المدينة وأراضي المدينة. المصدر: (THE ASSOCIATED PRESS, November 9, 2016, (WWW.ICMA.org

[64] عن الصراع الديني في أوروبا وكيف نشأت البروتستانتية في مواجهة الكاثوليكية أنظر مثلاً: هندريكس، سكوت (2014). مقدمة قصيرة جداً: مارتن لوثر. ترجمة كوثر محمود محمد. مؤسسة كلمات للترجمة والنشر. أنظر الصفحات من 17 الى 19.

[65] أنظر أحد أهم كتب الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر ونجد فيه قول توماس جيفرسون الشهير الذي أعلن فيه خوفه من قيام الحكومة باختطاف حريات الناس باسم الدين (ص58)، لكن الرئيس كارتر عاد فحذر في نفس الكتاب من تزايد تدخل تنظيمات الأصوليين المسيحين في السياسة (انظر الصفحات حول التغيرات ضد الحرية الدينية 41 و42) وتزايد دور الأصولية المسيحية في السياسة (31 الى37).

Carter, Jimmy (2006). Our Endangered Values: America Moral Crisis. New York: Simon & Schuster.

[66] لامبرت، فرانك. الدين في السياسة الأمريكية. ترجمة عبداللطيف موسى أبو البصل. الرياض: نمو النشر، 1436 (النسخة باللغة الانجليزية صدرت عام مطبعة برنستون عام2008).

[67] أنظر التعديل الأول للدستور الامريكي. هذا النص الدستوري ساعد ويساعد المسلمين من المهاجرين ومن الامريكان في انشاء المساجد والتنظيمات والمدارس وعقد المؤتمرات التي تنظم حالهم، وقد بلغ عدد المساجد المسجله رسمياً في الولايات المتحدة الامريكية  اكثر من 2200 مسجد، مما يثير حفيظة الأصوليين من المسيحين الذين يتزايد عداءهم للمسلمين ولليهود بصور مختلفة (Carter, 2006: 39)  لكن لا بد أن نؤكد من واقع تجربة الكاتب أن العلمانية الامريكية ساعدت بلا شك في انتشار الإسلام رغم المعاناة، بسبب مزايا التنزيه في معنى الواحد الأحد. أنظر:

Malk, Sadig & Robert Stucky (2012). Reductionism, Globlization and Faith. Vienna: New Impact. P. 11.

[68] لشرح مفصل حول الشخصيات من مختلف طبقات المجتمع التي شاركت في عملية تشكيل الأفكار واقناع سكان الولايات الثلاثة عشرة الأولى بفكرة الاتحاد، وفي نفس الوقت تأجيج الثورة ضد الانجليز، انظر العدد الخاص الصادر عن:

  1. M., kostyal (2016). Founding Fathers: America’s Great Leaders and the Fight for Freedom. Washington, D.C., National Geographic Society.

[69] في النظام البرلماني وهو النظام السائد في أغلب الدول الديموقراطية اليوم، فإن السلطة التنفيذية تنبثق من انتخابات أعضاء البرلمان (السلطة التشريعية)  ولذلك فإن الاستقلال ليس كلياً بين السلطتين،  والحزب أو الائتلاف الفائز بالأغلبية المطلقة (51%+) من مقاعد المجلس النيابي (البرلمان) يصبح لرئيسه الحق في تشكيل مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية)، ويتولى ادارة البلاد لمدة  تتراوح بين 4 الى 6 سنوات(في النظام البريطاني خمس سنوات)، الى حين الانتخابات القادمة، إلا اذا ما خسر خلال هذه الفترة رئيس الوزراء ثقة النواب بخسارته لتأييد الأغلبية أو ان يستقيل لسبب أو آخر، فعندها يجري حل البرلمان، واجراء انتخابات جديده.

[70] أنظر سيفل، ستيفن (2006) و م. وينستين و م. هالبرين. لماذا تتفوق الديموقراطيات. مجلة الثقافة العالمية العدد 137، يوليو 2006، ص 39، كذلك نلاحظ أن فكرة الفصل بين السلطات التي شرحها المفكر الانجليزي جون لوك ووضح مدى اهميتها ضد الاستبداد المفكر الفرنسي تشارلز مونتسكيو هي جزء من تطور النظام السياسي الياباني أيضا ففي مجلة اليابان التي تصدر باللغة العربية  نجد الاشارة التالية: “وقد انتهز المثقفون اليابانيون فرصة بدء نهضة ميجي من أجل القضاء على النظام الاقطاعي القديم وتأسيس حكومتهم الجديده على أساس مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على النمط الغربي“، مجلة اليابان، الاحتفال بمرور 100 عام على إنشاء الدايت، مايو 1990 ص5

[71]

[72] على سبيل المثال لا الحصر فإنه حتى بالنسبة للسلطة القضائية فإن اختيار القضاة في أغلب الولايات يتم على اساس انتخابهم، ومنها ولاية جورجيا حيث يجري انتخاب قضاة محكمة جورجيا العليا ومحكمة الاستئناف لمدة ستة سنوات (Stechschulte, 2001: 44).

[73] عن هذا التوازن بالذات والدور المحلي والعالمي الذي تلعبه اليوم العديد من مؤسسات المجتمع المدني في الغرب أنظر اطروحة الدكتوراه للدكتوره ريهام أحمد خفاجي في  مقدمة الكتاب الذي نشر بناء على الأطروحة. خفاجي، ريهام (2017). مؤسسات المجتمع المدني الغربية: قراءة في الأدوار المحلية والدولية. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات. ص9 مشيرة الى أن “تضطلع مؤسسات المجتمع المدني الغربية بتحقيق التوازن بين المجتمع والدولة من خلال قيامها بأدوار اجتماعية وسياسية واقتصادية بارزه”.

[74] أنظر: حقي، محمد. المؤسسة التي يستند اليها النظام الأمريكي كله. مجلة المجال. العدد 248، نوفمبر 1991 ص26 ، حيث يشير الكاتب الى قوة دور القضاء الفيدرالي في الترافع لصالح المجتمع للتحقق من استمرارية اعلاء مبادئ الدستور (ص27).

عدد من القضايا التي وقفت فيها المحكمة ضد  الكاتب نظام الض

[75]  انظر مثلاً: :  Piattoni, Simona. The Theory of Multi-level Governance. Oxford: Oxford Uni. Press, 2017 page 65)

ويمكن أيضا مراجعة الفصل في صلب الموضوع  بعنوان الدولة في مواجهة (State versus Society)على الموقع: www.Oxfordscholarship.com

كذلك أنظر: سيفل، ستيفن (2006) و م. وينستين و م. هالبرين. لماذا تتفوق الديموقراطيات. مجلة الثقافة العالمية العدد 137، يوليو 2006 ص38.

[76] الى حقيقة انتشار الشكل الأحادي للسلطة يشير موريس فيورينا وزملاءه في كتابهم الحكومة الأمريكية الجديده (2008)، انه “حتى اليوم فإن الغالبية العظمى من الدول في العالم اليوم لها حكومات وحدوية (احادية)، والتي يسيطر فيها على كامل السلطة من قبل حكومة قومية منفردة. وفي الأنظمة الوحدوية، “فإن الحكومات المحلية هي ببساطة قواعد أمامية إدارية للحكومية القومية. على سبيل المثال، في بريطانيا يمتلك البرلمان السلطة لإلغاء جميع الحكومات المحلية” (فيورينا، 2008: 57) .

[77] قام الكاتب بالترجمة من النص:

“He (Tocqueville) was sanguine about the future of democracy, yet was also concerned about the possible tyranny of the majority. He particularly admired the federal system, which gave the national government the necessary powers to act for the nation while preserving the interest of the states.” Tocqueville, Alexis (1830) Democracy in America. In American Government edited by Peter Woll: Reading and Cases. Boston: Little Brow & Company. 1987, page 75.

[78] عن الشرح المبكر لفكرة التوازن بين صلاحيات الحكومة الفيدرالية وبين صلاحيات الحكومات في الولايات للتهدئة من خوف الولايات على استقلالها أنظر كتابات الآباء الأوائل (The Founding Fathers) بالذات مقالات كل من ألكسندر هاملتون الورقة 16 و17 وجيمس ماديسون الورقة 39. أنظر:  (Kostyal, The Founding Fathers, National Geographic. Washington D.C.: 2016 Pages 96 and 97 & 108 and 109)

[79] النص على “علوية” نصوص الدستور وهو أمر جديد في حد ذاته في مجال التقنين ورد في المادة السادسة “هذا الدستور، وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر تبعاً له تشكل القانون الأعلى للدولة”.  

[80] حول موضوع تطور مفهوم المراجعة القضائية أنظر مثلاً:

 Robertson, David (1985). The Penguin Dictionary of Politics. Penguin Books. P169.

[81] أنظر الأجزاء الأساسية من كتاب مونتسكيو الذي عاش في الفترة من 1689 إلى 1755م في :

Stanford Encyclopaedia of Philosophy (www.plato.Stanford.edu)

[82] يعود هذه الميل للاستقلال المحلي الى مراحل نشأة التجمعات السكانية في أراضي أمريكا حيث تناثرت المستعمرات، وظهرت حاجة كل منها ان تقوم على تدبير أمورها ذاتياً في مواجهة السكان الأصليين وفي مواجهة العوامل المناخية وحقيقة الانقطاع عن العالم الخارجي.

[83] بالنسبة للمناطق محدودة السكان، أو المناطق الفقيرة للغاية فإن حكومة الولاية والحكومة الفيدرالية تتكفلان بطرق مختلفة من نفس ميزانية الولاية بالذات بتكاليف الخدمات الأساسية كالتعليم والشرطة والدفاع المدني.

[84] صدرت مئات الكتب التي تسعى لكشف جوانب القصور في النظام السياسي الأمريكي، وأنه في الواقع نظام نخبوي أكثر منه نظام ديموقراطي بسبب عدد من العوامل اهمها دور المال الخاص في عمليات الانتخابات، ودور جماعات المصالح في توجيه السياسات العامة، وكذلك اعتماد نظام الأغلبية البسيطة في تقرير الفائز (في هذا النظام فإن الحزب الفائز بالأغلبية البسيطة من الأصوات يحصد كافة مقاعد الدائرة الانتخابية) بدلاً من نظام التمثيل النسبي الأكثر عدلاً المستخدم في القارة الأوروبية ( النظام النسبي يقوم على تقسيم المقاعد على أساس النسب التي حصل عليها كل حزب من الأصوات)، وهذا الخلل في عمليات التمثيل في هيكل السلطة يؤدي الى خلل في مجال مسئولية العاملين في النظام السياسي نفسه، أنظر:

(American Political Science Association: Proceeding of the Symposium on The Discipline of Political Science in Europe: How different is it from Political Science of  North America. See PS Journal  report written by Stockemer, Daniel, E. Rashkova,  J. Moses and A. Blair.  (24 October 2016 by APSA) pages 2 and 3.

من الكتب التأسيسية في نقد النظام الأمريكي أنظر على سبيل المثال لا الحصر كتب: روبرت دال (1961) من الذي يحكم؟ (Who Governs) وكتاب دافيد ماهيو (1957) الصلة الانتخابية (The Electoral Connection) وكتاب دافيد ترومان(1951)  العملية السياسية: المصالح السياسية والرأي العام (The Governmental Process: Political Interest & Public Opinion) .

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى