نظرية الأمن الإسرائيلي

هل يعتبر مفهوم الأمن القومي حقيقة أم مجرد خيال؟ وهل الأمن القومي الفلسطيني من أولويات فكر المسؤولين وصناع القرار في السلطة الوطنية التي لم تكتمل سيادتها بعد على الأراضي الفلسطينية؟


لقد حددت إسرائيل أولويات أمنها القومي منذ نشأتها، بل إن قادتها قد وضعوا فرضيات هذه النظرية قبل قيام إسرائيل، ليتوصلوا لاحقاً إلى وضع الإستراتيجيات ورسم السياسات للرد على تلك الفرضيات.


إن هذا الموضوع يتعرض لمسألة الأمن القومي الإسرائيلي بالتحليل والدراسة، ويتتبع تسلسل تطورها حسب الظروف والأحوال في محاولة متواصلة من القادة السياسيين والعسكريين ونخبة من المفكرين لتصور احتمالات الأخطار التي قد تهدد إسرائيل في وجودها أو في تقدمها وإزدهارها.


وفي هذا السياق يتتبع الكتاب تطور مفهوم الأمن القومي الإستراتيجي الإسرائيلي الواسع، بدءاً من الأمن العسكري إلى الأمن الغذائي، وهدف هذه الدراسة هو تحفيز الفكر الفلسطيني أولاً والعربي عامة على الشروع الفوري في التفكير في المستقبل والتحديات التي تواجهنا، بدءاً بوضع المفهوم العام والإطار الفكري لنظرية الأمن القومي، من خلال وضع الفرضيات التي تهدد الأمن القومي الفلسطيني الخارجية والداخلية، وصولاً إلى النظرية والإطار العام، مع إعطاء الأولوية لجعل هذه العملية دائمة ومستمرة تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات والمستجدات على الساحة الداخلية والخارجية، فالنظرية الأمنية ليست نظرية جامدة مقدسة بل هي رؤية واقعية متجددة ونظرة شاملة، تحدد الأخطار وتضع الحلول وتسعى لتوفير الإمكانيات اللازمة لهذه الحلول.
فإذا كان مفهوم الأمن القومي هو ما تقوم به الدولة من إجراءات في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات المحلية والدولية، فأين يقع مفهوم الأمن القومي في الفكر الفلسطيني؟ هل يدخل في إطار المبادئ فيكون متماهياً مع المفهوم العربي للأمن القومي؟ أم يقع في إطار القيم فيكون متماهياً مع مفهوم المصلحة الوطنية؟


من خلال هذين الموقعين فإنه يتوجب على الفكر الأمني الفلسطيني أن ينظر للأمن القومي كتطبيق مؤقت للأمن القومي العربي وليس بديلاً عنه. إن الأمن القومي العربي يدور في مفهوم يتضمن قدرة الدول العربية على حماية الكيان الذاتي للدول العربية من أية أخطار ناتجة أو محتملة، مما يعني أن الأمن القومي العربي يتخطى المفهوم العام لتحقيق الفكرة القومية الجماعية، ويهتم بمفهوم التجزئة والقطرية، حيث تهتم كل دولة بأمنها ومصالحها الذاتية. لذلك نجد أن كل دولة عربية ترسم سياستها الإقليمية والدولية وتنفذها على المستوى الأحادي، ففي عقد الأربعينيات والخمسينيات كان طموح العرب هو التحرر من المحتل الأجنبي وتحقيق الوحدة العربية، وفي الستينيات ومطلع السبعينيات كان طموح العرب تحقيق التضامن العربي، وبعد ذلك أصبح الطموح هو وقف حالة الإقتتال والتنازع والصراع .


فأين يقع الطموح الفلسطيني في تحقيق الأمن القومي للكيان الفلسطيني؟
إن المعنيين بالأمن القومي الفلسطيني يتوجب عليهم الأخذ بعين الإعتبار أهم التحديات التي تعترض وتواجه أمن ومستقبل هذا الكيان، ومن أهمها:


1. وجود إسرائيل القائم على الأرض الفلسطينية، وخطرها لا يكمن فقط في احتلالها للأرض الفلسطينية والعربية، بل في الأهداف العليا للحركة الصهيونية، القائمة على التوسع واحتلال المزيد من الأراضي العربية، ويمكن أن نضيف إلى التهديدات العسكرية الإسرائيلية المباشرة، تهديدات أخرى تتمثل في تضييق الخناق على المصالح والأهداف الوطنية الفلسطينية.
2. في المجال السياسي: يعاني الكيان الفلسطيني من مظاهر التوتر وعدم الاستقرار الداخلي الناتج عن الصراع الحزبي وعدم التوصل إلى سياسة إستراتيجية موحدة للمواجهة مع إسرائيل، وهذا ينعكس أيضاً على العلاقات مع الدول العربية ودول العالم بشكل عام.
3. في المجال الإقتصادي: يعاني الوضع الإقتصادي في فلسطين من غياب التخطيط التنموي المتكامل مع الأخذ بعين الإعتبار قلة الموارد وتبعية الإقتصاد الفلسطيني للإقتصاد الإسرائيلي، بل الأخطر من ذلك تبعيته للأمن الإسرائيلي. ناهيك عن البطالة وتدمير القطاع الزراعي نتيجة السياسات الإسرائيلية وخاصة سياسة العقاب الجماعي، كما أن الوضع في القطاع الصناعي أشد تعقيداً وسوءاً.
4. في المجال الإجتماعي: تعرض النسيج الإجتماعي في السنوات الأخيرة إلى تهديد داخلي نتيجة التجاذبات السياسية والأوضاع الإقتصادية.
5. لعل أهم هذه التحديات التي تواجه وضع إستراتيجية أمن قومي فلسطيني هو غياب صفة الدولة عن هذا الكيان، والتحدي الآخر يكمن في غياب الهدف الإستراتيجي الموحد للحركة الوطنية الفلسطينية، فكل فصيل يحاول أن يملي رؤيته ويفرضها. وفي غياب هذا المفهوم الواضح يضيع الجهد المبذول لإيجاد إستراتيجية قومية للأمن الفلسطيني.

يندرج المفهوم الأمني في التقاليد العسكرية الإسرائيلية ضمن مجموعة من العناصر التي تُعبّر عن ذاتها في إطار عام من المبالغة، لم تعهدها دول العالم قديماً أو حديثاً، وهذا الإطار العام يهدف أول ما يهدف إلى مجابهة أية محاولة عربية لإتخاذ بعض التدابير الدفاعية، ضد أسلحة الدمار الشامل التي تنفرد إسرائيل بامتلاكها في المنطقة، أو حتى إتخاذ بعض الإجراءات لإعادة ترتيب البيت العربي في مسيرة السلام. وعلى النقيض من ذلك، فإن إسرائيل تسارع إلى وضع العراقيل والمتاهات وافتعال الأعذار لكي تحبط مساعي العرب والفلسطينيين لتحقيق السلام الشامل والعادل، وفي الوقت ذاته تضع إسرائيل إمكاناتها الإعلامية والعسكرية لإحباط نهوض أية قوة عسكرية عربية، الأمر الذي من شأنه أن يشحذ الهمم لتغيير الخيار الإستراتيجي العربي الوحيد، ألا وهو خيار السلام إلى خيار أو خيارات أخرى قد تمثل منعطفاً خطيراً بالفعل على الدولة العبرية.


كما يندرج ذات المفهوم ضمن سياق مرتبط بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات ونظرة اليهود إلى غير اليهود، فالنظرة إلى الذات تعني ذلك الشعور النفسي الداخلي للإنسان اليهودي القادم من الخارج بحثاً عن تحقيق الذات بعيداً عن “موروث الهولوكست”، و الاغتراب في أرض الميعاد في أجواء دولة عسكرية تعتمد على القوة – في المقام الأول – لاستمرارية وجودها والحفاظ على ما سلبته من الأراضي العربية، وهي بذلك تكون نظرة مستغرقة في البحث عن الأمن أولاً وقبل كل شيء، وبالمقابل نجد نظرة اليهود إلى غير اليهود نظرة تشوبها مقومات الإستعلاء الحذر وعدم الثقة انطلاقاً من دوافع دينية صرفة أو من دوافع أفرزتها دواعي احتلال أراضي الغير، واستيطان الأرض وإبادة شعبها أو تهجيره في سياق يُذكّر بالمعتدي النازي، وذلك إلى الحد الذي يعبر عنه مصطلح “الصهيونازية” أصدق تعبير عن هذا التوحد.


وفي ضوء ذلك لا يمكن النظر إلى نظرية الأمن الإسرائيلي باعتبارها أداة للحماية الذاتية كما عبرت عن ذلك تاريخياً تلك التقاليد السياسية الثابتة، التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إنما يمكن التعامل معها كونها المنطق الفكري الذي يراد به تبرير سياسة السيطرة وفرض الهيمنة الكاملة على الأرض ومن حولها من دول الجوار، بهدف ردع أية محاولات لاختراقات أمنية محتملة لاستعادة الحقوق المسلوبة.


وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الأمن الإسرائيلي يرتبط دراماتيكياً بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات ونظرة اليهود إلى أنفسهم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى توظيف التفوق العسكري لتحقيق التوازن والاستقرار كما تراه المؤسسة العسكرية الحاكمة في إسرائيل. “غادة كنفاني، نظرية الأمن الإسرائيلي”. وتحديداً فهو يربط مفهوم الاستقرار بالردع والقدرة على التهديد به ومن ثم إجبار الطرف الآخر (دول الجوار العرب) على الاستجابة لما تراه إسرائيل مناسباً لأجوائها.
كما يمكن أن يتشكل مفهوم الأمن الإسرائيلي بصورة تعتمد على تفوق قدرته العسكرية في المنطقة، الأمر الذي يفرز حالة من عدم التفكير (من قبل دول الجوار والدول العربية مجتمعة) في محاولة اختراق هذا التفوق والتسليم بالأمر الواقع واتخاذ خطوات وقائية، بدلاً من التفكير في حشد القوات العسكرية العربية لاختراق ذلك التفوق العسكري الإسرائيلي الذي يشكل قوة ردع ضاربة في المنطقة بأسرها. “صلاح إبراهيم، إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي”.

وإذا ما علمنا أن دولة إسرائيل قد نشأت “وسط بحر من الأعداء” كما يقول الكاتب الاسرائيلي هارون باريف في مقالة له نشرتها “المنار للصحافة والنشر”، فإن تمتع دولة إسرائيل بمساحة جغرافية صغيرة يفقدها العمق الإستراتيجي، لذلك فإن نظرية الأمن لديها تخضع للتغيير والتجديد والتطور باستمرار مقارنة بما يحدث من تطورات داخلية أو إقليمية وعالمية تجري ضمن ظروف تاريخية معينة، أي أن موضوع الأمن مصدر قلق دائم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية وهو يمثل بؤرة إهتمام قصوى تسبق أياً من الأولويات الأخرى.
يقول شمعون بيريز فى كتابة “الشرق الأوسط الجديد” حول هذه المسألة: “إن موضوع الأمن لا يمكن اعتباره موضوعاً قابلاً للنقاش أمام أي رئيس حكومة إسرائيلية، إنه موضوع حياة أو موت بالنسبة لنا جميعاً، وعليه فإن النظر للأمن الاسرائيلي يجب أن يتقدم سلم الأولويات قبل تنفس الهواء، فبقدر ما نضغط أمنياً على أعدائنا بقدر ما تتوفر فرص البقاء والوجود”.
كما يشير أحمد بهاء الدين في كتابه “إسرائيليات” إلى أن مفهوم الأمن الإسرائيلي قد تنامى وأصبح من أهم ضرورات البقاء، وذلك يعود إلى عاملين أساسيين داخل إطار الدائرة الدينية والتي تؤكد أولاً أن إسرائيل هي “وعد الرب لنبيه إبراهيم”، وهي حلم صهيون، وأن هذا الحلم الذي توارى في سنوات الشتات والاضطهاد بفعل ظلم وطغيان قوى القهر والبغي لم يكن غائباً عن وجدان بني إسرائيل، والثاني ينبع من كون إسرائيل أقيمت فوق أراضي فلسطين التاريخية وسط موجة من العداء المستحكم والمفروض فرضاً على أرض الواقع، ففي الإعتقاد الإسرائيلي: “إن تقديم تنازلات من أراضي إسرائيل الكبرى يجب ألا يمس بجوهر الأمن الإسرائيلي بأي حال من الأحوال.”بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس”.


ويرى “إيغال الون” أن مفهوم الأمن الإسرائيلي – حتى قبيل إنشاء الدولة يعتمد على ما ورد في التوراة من نصوص، حيث ذكر أن من يصادر أحلام أو طموحات بني إسرائيل إنما يصادر حقاً شرعه الرب، كما أنه يصادر القوة الروحية الجبارة التي تدفع اليهود دفعاً للعمل والمثابرة والتضحية، بالإضافة إلى أن حلم صهيون وأرض الميعاد ما هي إلا عوامل ربط يهود الشتات بأرض يهود إسرائيل، وكل من تجرأ على حلم صهيون فإنه يجرد الصهيونية من مقوم الوحدة بين يهود العالم وبين أرض صهيون، وهو ما يقوض أركان الأمن الإسرائيلي.
وعلى الرغم من هذه النظرة لمفهوم الأمن نجد إتساع رقعة التوجه استراتيجياً فى السنوات التى تلت إعلان الدولة، في الوقت الذي ربحت به إسرائيل بقرار التقسيم عام 1947. وقد اكتفت بالحدود الضيقة التى منحها القرار لها، ووجدناها عام 1967 تجاوزت تلك الحدود الأمنية وانطلقت لتهديد أمن ثلاث دول عربية مجتمعة، بدعوى الحفاظ على الأمن وإجبار تلك الدول على التسليم بسياسة الأمر الواقع الأمنية، والتي سرعان ما تراجعت في حرب أكتوبر عام 1973 ، لترسم صورة مغايرة لمفهوم الأمن بامتلاكها للقوة النووية الضاربة بعد ذلك، وإن كان المشروع النووي الإسرائيلي قد بدأ بالفعل قبل ذلك.


وعليه فإننا نحاول من خلال هذا الموضوع – أن نرصد ونحلل التطورات المختلفة فى نظرية الأمن الإسرائيلي، وما تنطوي عليه من مضامين سيكولوجية، وذلك وفق مفاصل الحروب التي خاضتها الدولة العبرية ضد العرب، فمن مرحلة “العمق الاستراتيجي” و“الضربة المضادة الاستباقية” كما أشار شمعون بيريز، إلى “استراتيجية الردع النووي” منذ العام 1975 ، وإلى “استراتيجية الهجوم الاستباقي” المتبعة حالياً في الأراضي المحتلة وغيرها من الإستراتيجيات الأخرى.


ومثال على ذلك التأرجح والتغير فى مفهوم الأمن الإسرائيلي ونظريته، نجد أن الدولة العبرية قبيل إندلاع حرب 1967، قد شددت على ناحيتين إيجابيتين في وضع الحرب، أولهما إيجاد خطوط دفاعية مثالية جغرافية على طول خطوط المجابهة مع الجيوش العربية، وثانيهما امتلاك فترة مطولة من الإنذار المبكر، وخاصة بالنسبة للجبهة الجنوبية في شبه جزيرة سيناء، وقد نجم عن هذا الوضع الجديد تبنّي إسرائيل “نظرية الحدود الأمنية” لحرص الدولة العبرية على إيجاد مسوغ تبرر بواسطته الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، تحقيقاً “لنظرية العمق الإستراتيجي” المطلوب تحقيقها للأمن. لذلك فإن المبدأ الأمني القديم الداعي إلى “نقل الحرب إلى أراضي العدو” لم يعد ملزماً بالنسبة للجيش الاسرائيلي. “هيثم الكيلاني – نظرية التفوق الإسرائيلي”.
ومن هنا يمكن القول إن مفهوم الأمن الإسرائيلي، وكذلك نظرية الأمن الإستراتيجي الإسرائيلي قد عبرت مراحل مختلفة متناقضة تبعاً للظروف الإقليمية والدولية، وفي ضوء تعاقب حكومات إسرائيل نفسها، وتباين أهدافها الانتخابية والمرحلية، إلا في قواسم مشتركة أبقت على معيار هام جداً لا يمكن الحيدة عنه بأي ثمن، ألا وهو أن مقولة الأمن، أو الهاجس الأمني في الدولة العبرية لا بد أن يظل طوقاً للبقاء والنجاة أولاً وقبل كل شيء. وحتى مع تغيرات هذا المفهوم وتلك الاستراتيجية عبر تواريخ تأسيس الدولة العبرية، ومروراً بحروبها مع الدول العربية، خاصة حرب 1973، وانتهاء بالإنتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وبما حققتاه من اختراق واضح وتاريخي لمفهوم الردع الاسرائيلي، ظلت مفاهيم الأمن واستراتيجياته تدور في فلك عملية البحث الدؤوب عن الصورة المثلى، لإبقاء الدولة العبرية متفوقة على العرب جميعاً في جميع مناحي التفوق العسكري، والتكنولوجي، والاقتصادي.
إن التقلبات التى طرأت على مفهوم الأمن الإسرائيلي، قد ارتكزت على أطر وتحليلات سيكولوجية لموقف هذه الدولة منذ بنائها التأسيسي، الذي أفرزته وقائع دولية أبرزها شعور أوربا بما لحق من ضيم بالشعب اليهودي، نتيجة لما حدث فى “الهولوكوست” النازية وما سببه شتات اليهود من مخاوف لتلك الدول الأوروبية، أبرزها شعور اليهود بالإحباط والرغبة الجامحة في الإنتقام، وهو الأمر الذي جعل تلك الدول مجتمعة تسعى للبحث عن موطئ قدم لليهود أو “مكان تحت الشمس” كما قال نتنياهو (رئيس وزراء إسرائيل الأسبق) في معظم صفحات كتابه الذي حمل العنوان نفسه.

الفصل الأول الأمن القومي
القسم الأول: مفهوم الأمن القومي
القسم الثاني: الأمن القومي الإسرائيلي
القسم الثالث: تحديات الأمن القومي الإسرائيلي


الفصل الأول الأمن القومي
القسم الأول: مفهوم الأمن القومي


في الحقيقة لا يوجد مفهوم فضفاض في مجال العلوم الاجتماعية بصفة عامة وعلم السياسة بصفة خاصة، أكثر من ذلك المفهوم الذي اصطلح على تسميته بالأمن القومي، إذ إنه من المفاهيم التي يصعب على أي مؤلف الإمساك به، أو تحديد عناصره ومقوماته. كما أنه من المفاهيم الزئبقية التي لا تقبل الصياغة في قوالب ونظريات ثابتة، وذلك هو السبب الرئيس وراء تخلف الحقل الأكاديمي في مجال دراسات الأمن القومي واعتباره من أكثر الفروع إخفاقاً وإحباطاً في مجال العلوم الاجتماعية. “حامد ربيع – نظرية الأمن القومي العربي”.
إن “الأمن القومي” لأية دولة هو الدفاع والوقاية ضد الأخطار الخارجية مثل وقوع الدولة تحت سيطرة دولة أخرى أو معسكر أجنبي أو اقتطاع جزء من حدودها، أو التدخل في شؤونها الداخلية لتحقيق مصالح دولة خارجية على حساب تلك الدولة. وفي حالة الحرب يحدد الأمن القومي أعضاء التحالف المشترك في الحرب بقصد تحقيق الهدف السياسي لها، وهو الذي يخطط للسلم الذي يعقب الحرب. وبهذا المعنى، فمفهوم الأمن القومي مفهوم متعدد الأبعاد يمثل نواحي عسكرية واقتصادية واجتماعية.
ويتفرع من كل هذا ما يُسمّى “العقيدة العسكرية” وهي تعبر عن تصورات القيادة السياسية – العسكرية العليا لطبيعة الحرب التي تتوقع خوضها في المستقبل سواء من ناحية النتائج السياسية أو العسكرية.


فالمفهوم فى معناه الواسع – أي الأمن – يعتبر قديماً قدم الحضارة الإنسانية، ولا يكاد يخلو أي نص تاريخي أو أدبي من الإشارة أو التلميح إليه، حتى في كتب الوحي الإلهي والرسالات السماوية الــمُنزّلة يمكن أن نجد دلائل مفهوم الأمن القومي المعاصر، ولا سيما في مرحلة مبكرة، أي من خلال ارتباطه بمفهوم القوة العسكرية والحرب.
ويمكن أن نجد جذوره في الفكر اليوناني في كتابات كل من سقراط وأفلاطون وكذلك في الفكر الروماني والفكر الإسلامي، ولا يوجد تعبير أوضح عن الأمن القومي في معناه الحديث من نص تلك الآية القرآنية الكريمة “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”، صدق الله العظيم. “سورة الأنفال – الآية رقم 60”. فهي وإن كانت تعبر عن ارتباط مفهوم الأمن بالقوة في معناها التقليدي، إلا أنها تشير إلى أهم النظريات المعاصرة وهي أن اقتناء القوة ليس فقط بهدف القتال، ولكن بهدف الردع الذي يُعّد احد أوجه التعبير عن مفهوم الأمن القومي، فيما يعرف بنظرية الردع التي ترى أنه يمكن تحقيق الأمن لا من خلال الاستخدام الفعلي للقوة بل من خلال إقناع الخصم أو العدو المحتمل بعدم إمكانية الاستخدام الفعلي لها، ومدى فداحة الخسائر التي تقع من جرائها.


وإذا ما تفحصنا “سفر يشوع” في العهد القديم من الكتاب المقدس “الأصحاح التاسع”، نجد ما يشير إلى مفهوم الأمن القومي في معناه التقليدي، ومحاولة تنفيذه من خلال الغزو أو التهديد بالحرب، أو من خلال قيام الدول القوية بقطع عهد مع الدول الضعيفة التي تتشارك معها في الحدود لتأمن شرها، أو لضمان حمايتها لها والإبقاء عليها، يقول نص الإصحاح التاسع من سفر يشوع فى هذا الشأن:
“إن سكان جعبون لما سمعوا بما عمله يشوع بأريحا ويقصد إنزال الهزيمة بها (ساروا إليه فى المحلة”الحلجال“) المكان الذي يجتمع به الجيش، وقالو له ولرجال إسرائيل من أرض بعيدة جئنا، والآن إقطعوا لنا عهداً، فعمل لهم يشوع صلحاً، وقطع لهم عهداً لاستحيائهم وحلف لهم رؤساء الجماعة.”جمال كمال- الأمن القومي المصري”.
وبالرجوع إلى الحضارة الفرعونية فإن المخطوطات تشير إلى أقدم معاهدة عثر عليها كاملة، وهي المعاهدة التي أبرمت حوالى العام 1280 قبل الميلاد بين رمسيس الثاني وملك الحبشيين “خاتسيير”khatisir ، وهذه المعاهدة كانت بمثابة عهد دولي أو صلح أبرم بعد حرب قامت بين رمسيس الثاني وملك الحبشيين، وتشكل أيضاً حلفاً دفاعياً وهجومياً دائماً، وذلك عن طريق تجديد معاهدات الصداقة التي كانت قائمة بين الدولتين والتي كانت تقضي بالامتناع عن الحرب.
وإن كانت هذه الإشارات تدور حول مفهوم الأمن القومي بمعناه التقليدي بالتركيز على القوة العسكرية، لتأمين سلامة البلاد فى مواجهة الغزو الخارجي ولا سيما في المراحل الأولى من تطوره وبدايات ومحاولات التأصيل النظري، ومن ثم فإن وجود مفهوم الأمن القومي بمعناه الواسع يُعّد قديماً قدم وجود الإنسان على سطح البسيطة، ويعبر عن غريزة البقاء في مواجهة قوى الطبيعة أو غيرها.


وبالرغم من صعوبة التأصيل النظري لمفهوم الأمن القومي على المستوى الأكاديمي والبحثي، إلا أنه قد أصبح على مستوى الممارسة حقيقة لا يمكن إنكارها، وواقعاً معاشاً يتغلغل فى كافة مناحي الحياة، ويطبق بشكل كبير وعلى مدى واسع من قبل رجال السياسة، وعلماء الاجتماع والعسكريين، ومن ثم فهو قد يشمل الموضوعات فى أعلى مستويات الدولة، والتي تمس كيانها وبقاءها، وكذلك بعض الأمور البسيطة التي تتعلق بمستوى العامة أو رجل الشارع، فقد يصبح انتشار وباء أو مرض معين في الخارج مسألة تهم الأمن القومي، ناهيك عن تحركات الجيوش والحشود على حدود البلد، وكافة عمليات تأمينها وحماية حدودها، وهو المجال الواضح والبارز للأمن القومي، وهو ما يدل على سمة الشمولية التي يتسم بها مفهوم الأمن القومي.
ومن الخصائص الأخرى التي يتسم بها مفهوم الأمن القومي، خاصية الدينامية والتطور، بمعنى أنه مفهوم يستجيب لكافة التطورات والتغيرات التي تقع في المجتمع بصفة خاصة، والبيئة الدولية بصفة عامة.


ومن الملاحظ أن موضوعات الأمن القومي في مرحلة مبكرة قد ارتبطت بالأمور التي تدور حول القوة العسكرية، وتوازن القوة والحدود، وكيفية تأمين كيان الدولة في مواجهة الدول المحيطة بها، وقد تطور نطاق هذه الموضوعات والأمور فيما بعد بفعل التطورات التكنولوجية ولا سيما في مجال التسلح النووي، وبروز مفهوم الردع النووي، حيث بدأ التركيز على الأبعاد الإجتماعية والإقتصادية لمفهوم الأمن القومي، وبداية الحديث عن مفهوم الأمن العالمي والأمن الجماعي الذي وصل إلى حد القول بارتباط الأمن القومي لدولة ما بتحقيق التنمية والإستقرار في دولة لا ترتبط معها حدودياً، ولا تملك مصادر التهديد لأمنها بالمعنى التقليدي وهو ما عبر عنه روبرت ماكنمارا (Robert macnomara) في كتابه الشهير “جوهر الأمن” عندما رأى أن أمن الولايات المتحدة يرتبط بتنمية دول العالم الثالث.


النقطة الأخرى التي تزيد من صعوبة الإمساك بمفهوم الأمن القومي هي خاصية النسبية بالنسبة للموضوعات والمسائل التي يتضمنها الأمن القومي، فما قد يعتبر من قبيل المسائل التي تدخل في إطار الأمن القومي بالنسبة لبعض الدول، قد لا يعتبر كذلك بالنسبة لبعض الدول الأخرى. وهذه النسبية قد تكون على مستوى الدولة ذاتها، فما قد يعتبر من قبيل الموضوعات والمسائل التي تدخل في نطاق الأمن القومي في فترة معينة، قد لا يكون كذلك في فترة زمنية أخرى من حياة الدولة.
حتى الآن لا يوجد اتفاق حقيقي بين الدارسين والمتخصصين في مجال الأمن القومي على حدود الإطار الفكري الذي يجب أن يتضمنه مجال تفكيرهم في هذا الصدد، وهناك بعض الأبحاث التي تتعلق بإستراتيجية الردع والعلاقات العسكرية والمدنية، التي يجمع الجميع على ضرورة دخولها ضمن ذلك الحقل، هذا في الوقت الذي يُقترح فيه أيضاً إدخال بعض الأبحاث الحديثة مثل النظرية العامة للعنف السياسي، والثورة والقهر السياسي الداخلي والتي ما زالت محل إختلاف حتى الآن.
ويمكن إدراج التعريفات المختلفة للأمن القومي تحت رمزين كبيرين، أو مدرستين رئيسيتين، يُعّبران عن مرحلتين من مراحل تطور المفهوم، فمعظم التعريفات في المرحلة الأولى كانت تدور حول القيم والمصالح المحورية بإعتبارها هدفاً وجوهراً للأمن القومي، والتي ارتبطت بمفهوم القوة وضرورة توفير الأداة العسكرية لتحقيقها. أما في المرحلة الثانية فقد ركزت التعريفات بقدر أكبر وأعمق على الأبعاد الإجتماعية والإقتصادية، وبالتالي إتخذت العديد من الوسائل والأدوات الأخرى غير العسكرية لتحقيق الأمن القومي، وهاتان المدرستان هما:


المدرسة القيمية
تندرج معظم التعريفات في إطار هذه المدرسة تحت تلك التعريفات التي تركز على القيم، وفي ظل هذه المدرسة يتسم تعريف الأمن القومي بالغموض والتجريد أكثر من اتسامه بالوضوح، ومنها تعريف موسوعة العلوم الإجتماعية التي تُعرّفه على أنه قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من التهديدات الخارجية، وما يُرَدُّ على ذلك من بعض الانتقادات التي سيرد التعرض لها بقدر من التفصيل عند التعرض لدراسة بعض التعريفات في الفقه الغربي وتناول أوجه القصور فيها. “عبد المنعم المشاط الأزمة الراهنة للأمن القومي العربي”.


المدرسة الإقتصادية
ينصب إهتمام أنصار هذه المدرسة على كيفية تأمين الموارد الاقتصادية، والحيوية والتأكيد على الوظيفة الإقتصادية للحرب، والتنمية كجوهر للأمن ومنها تعريف “كروز وناي kruse and nye” للأمن القومي الإقتصادي بأنه “التهديد بالحرمان من الرفاهية الإقتصادية”، وهما يريان أن هدف الأمن القومي الإقتصادي يصبح واضحاً عندما تختار الدولة عن وعي عدم الكفاءة الإقتصادية لكي تتجنب أية ضغوط إقتصادية من الخارج
( kruse, Lawrence, & Begrten, Fled, Miler, Benjamin).
ويتبوأ روبرت ماكنمارا (Robert Macnamara ) وزير الدفاع الأمريكي السابق المكانة الرئيسية في المناداة بالتنمية الإقتصادية كجوهر الأمن، وذلك في كتابه الذي نشر عام 1968 تحت عنوان “جوهر الأمن” The essence of security والذي بدأه بانتقاد الإتجاه التقليدي، فهو يرى أن الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية لا يكمن بصورة أولية في القوة العسكرية فقط، ولكنه يكمن بشكل مماثل في تنمية النماذج المستقرة من النمو السياسي والإقتصادي في الداخل، وفي الدول على مستوى العالم أجمع، ويصل في النهاية إلى أن الأمن يعني التنمية.
فالأمن لا يعني تراكم الأسلحة، بالرغم من أن ذلك قد يكون جزءاً منه، وهو ليس القوة العسكرية بالرغم من أنه قد يشتمل عليها، وهو ليس النشاط العسكري التقليدي بالرغم من أنه قد يضمه. إن الأمن هو التنمية ودون التنمية لا مجال للحديث عن الأمن. “عبد المنعم المشاط”.


القسم الثاني: نظرية الأمن القومي الإسرائيلي


استمد الفكر الأمني الإسرائيلي شرعيته السياسية من الأفكار والتعاليم التي جاءت بها الديانة اليهودية، وذلك في إطاره العام الذي صاغه ديفيد بن غوريون أحد مؤسسي دولة إسرائيل وأول رئيس وزراء للدولة العبرية، وذلك إلى الحد الذي يمكن القول فيه إن الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية ما هي إلا الإطار الفكري والتطبيقي للعقيدة الدينية، سواء في الدعوة للإستيلاء على الأرض “تنفيذاً لوعد الرب”، أو من خلال القناعات اليهودية الصهيونية.
وقد مر مفهوم الأمن الإسرائيلي بأربع مراحل أساسية: مرحلة القاعدة الإستيطانية، ثم مرحلة تحويل القاعدة إلى دولة، ومرحلة التوسع، ومرحلة الهيمنة، ومن هنا ندرك أسباب هذا التغيير والحراك في المفهوم الأمني لما تقتضيه السياسة التوسعية التي تنتهجها إسرائيل، فهو مفهوم متحرك يتبدل بتبدل الظروف السياسية والعسكرية المحيطة، كما أنه لا يعني الدفاع عن أرض محدودة، بل يتحقق على أساس ردعي يمنع بمعطياته نشوب حرب أخرى، إلى حين إتاحة الظروف التي تراها إسرائيل مناسبة لنشوب حرب تخدم مصالحها وتحقق أهدافها.
ورغم المتغيرات والحراك في مرتكزات مفهوم الأمن الإسرائيلي، إلا أنه يمكن تحديد بعض ثوابت وركائز هذا المفهوم.


أولاً: نظرية الردع التي تبنتها إسرائيل في إطار عقيدتها الأمنية بهدف التقليل من احتمالات اندلاع الحرب بينها وبين العرب، ودفعهم إلى التسليم بها كأمر واقع عن طريق إقناعهم بأن أية مجابهة معها ستكون باهظة الثمن.
ثانياً: إستراتيجية الحرب الإستباقية وهي صفة اتسمت بها معظم الحروب التي شنتها إسرائيل ضد العرب، وتشكل أحد أنماط التعبير عن مصداقية الردع.
ثالثاً: مفهوم الحدود الآمنة، وهذا المفهوم يعد وفق هذه الإستراتيجية مفهوماً متغيراً وقابلاً للتمديد بما يتماشى مع متطلبات الأمن الإسرائيلي.
رابعاً: العمق الإستراتيجي، والذي يعتبر غيابه من التحديات الرئيسة للنظرية الأمنية الإسرائيلية “نظراً لوضع إسرائيل الجغرافي”، ومن هنا اعتقد مخططو نظرية الأمن الإسرائيلي أن من شأن أية حرب شاملة أن تهدد وجود الدولة، وهو ما دفعها إلى تجنب أي حرب من هذا النوع على أراضيها، مما استوجب بلورة مفهوم نقل المعركة إلى أرض العدو لإيجاد عمق إستراتيجي مصطنع.
إن نظرية الأمن الإسرائيلي لا تستهدف فقط تحقيق الأمن عبر ضمانات دبلوماسية وسياسية دولية، بل تستهدف إيجاد الوسائل العملية الداخلية لدى إسرائيل القادرة على تجسيد نظرية الأمن الإسرائيلي، وفي هذا المجال تقول غولدا مائير: إن ما نريده ليس ضماناً من الآخرين لأمننا، بل ظروفاً مادية وحدوداً في هذه البلاد تضمن بشكل أكيد عدم نشوب حرب أخرى. وبذلك نرى أن نظرية الأمن الإسرائيلي تقوم على مبدأ الحقائق الملموسة، بتعبير آخر تستند إلى قوة فعلية تتجسد في وجود جيش عسكري قوي يشكل سياجاً حقيقياً للأمن الإسرائيلي، في مرحلة معينة، ووسيلة لتحقيق نظرية الأمن التي تتضمن في إطارها مظاهر التوسع في الأرض العربية أيضاً.


ونظرية الأمن الإسرائيلي ترتكز على جملة من العوامل المتداخلة المترابطة، والتي تشمل مختلف مجالات النشاط والفعاليات الحيوية في إسرائيل، ومن هنا فإن نظرية الأمن الإسرائيلي هي ظاهرة مركبة تتكون من القوة العسكرية، والهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتوسيع عمليات الاستيطان، وتخفيف الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى الخارج، وتقوية القاعدة الاقتصادية، وتأمين تحرك سياسي دبلوماسي خارجي يوظف لصالح تأمين متطلبات الأمن، وتوفير المعلومات اللازمة عن الدول العربية، وفي النهاية استخدام العوامل السابقة من أجل التوسع قدر الإمكان وضمن المناطق الحيوية والاستراتيجية المحيطة بإسرائيل، لذلك تتضمن الاستراتيجية الإسرائيلية مخططات شاملة للتوسع في جنوب لبنان، والضفة الغربية، والجولان.
والسؤال الحائر الذي يواجه نظرية الأمن الإسرائيلي يتمثل في كيفية التعامل مع مصادر التهديد الداخلي والخارجي وتحديداً أيهما يجب أن يحظى بالأولوية.
ومن الملاحظ أن وجود نظرية الأمن الإسرائيلية واستمرارها مرتبط بشكل أساسي بتأمين متطلبات القوة اللازمة بكل أشكالها وأبعادها السياسية والعسكرية والإقتصادية والتكنولوجية، التي تشكل أحد الأسس والمرتكزات الهامة للإستراتيجية الإسرائيلية، وعملية تأمين استمرارية الدعم المختلف والمتعدد الجوانب شكلت أيضاًَ عاملاً أساسياً في قيام إسرائيل وفي الحفاظ على ديمومتها واستمراريتها وتأمين وسائل ومتطلبات تطورها وتوسعها أيضاً.


وقد ركزت الحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل على الدعم السياسي، كعامل هام للمساعدة على إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وبعد قيام إسرائيل استمر مخططو الاستراتيجية في إسرائيل في التركيز على استمرارية تأمين الدعم اللازم أيضاً لإسرائيل لتحويلها إلى حقيقة قائمة والاعتراف بها من جانب العرب، وأن هذا الاعتراف عملية تحتاج إلى علاقات متعددة متداخلة بين إسرائيل والمجتمع الدولي، وعبر هذه العلاقة تؤمن إسرائيل اعترافاً دولياً واسعاً بها. كما يمكنها هذا الإاعتراف من إقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية تؤمن لها عوامل القوة والاستمرار أولاً، وتحول هذه العلاقات إلى عوامل ضاغطة من قبل المجتمع الدولي وإسرائيل على العرب باتجاه القبول بالوجود الإسرائيلي إلى جانب الأمة العربية.


البعد الزماني والمكاني للأمن الإسرائيلي
وتُعَد نظرية الأمن القومي في إسرائيل ذات مركزية خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني. فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني مبني على نقل كتلة بشرية لتحل محل الفلسطينيين وتغيبهم، وتلغي تاريخهم وتستولي على أرضهم، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال العنف والقوة العسكرية وخلق الحقائق الإقتصادية والسياسية والاستيطانية من وجهة نظرهم، وهذا هو الإطار الحقيقي الذي تدور داخله نظرية الأمن الإسرائيلي. وما عقلية الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنيوي، أي أن نظرية الأمن الإسرائيلي والهاجس الأمني يفترض أن الصراع حالة دائمة وعلى دولة إسرائيل ديمومة الاستعداد والتخطيط للحرب القادمة.


هذا الإدراك يعبّر عن نفسه عبر المفاهيم التي تشكل ركائز نظرية الأمن في إسرائيل التي تدور جميعها حول فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان. فهناك فكرة الأمن السرمدي، أي أن أمن إسرائيل مهدد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية. وقد عبّر حاييم أرونسون عن هذه الرؤية في إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه “حرب المائة عام (1882-1982)”، أي الحرب الدائمة بين العرب والصهاينة. وهو يذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويُفسّر هذا الاستمرار على أساس أن إسرائيل بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي لا يزال يخوض عملية التحديث، ومن ثم فهو معرّض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه. ويتوقع أرونسون أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حين الإنتهاء من تحديث العالم العربي. وقد تحدّث موشيه ديان عن (إين بريرا) وهي كلمة عبرية تعني “لا خيار”، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع إلى ما لا نهاية. “د. عبد الوهاب المسيري”.


وقد استخدم إسحق رابين تعبير “الحرب الراقدة” لوصف العلاقة القائمة بين إسرائيل والمحيط العربي، كما استخدم الكثير من القيادات الإسرائيلية تعبيرات مشابهة مثل تعبير “الحرب منخفضة الحدة”، حيث تشير كلها إلى غياب الحدود الواضحة بين الحرب وحالة السلم في علاقة الدولة الصهيونية بمحيطها.
ويرى كثيرون من أعضاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن التوجه نحو السلام مجرد مرحلة انتقالية يلتقط العرب فيها أنفاسهم ليعاودوا القتال، وهو ما أثبته تاريخ الصراع عبر الأعوام المائة السابقة . من ثم يصبح من الضروري محاصرة العنصر الإنساني الفلسطيني وقمعه بضراوة كما حدث أثناء الانتفاضة، وكما يتبدّى من المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي. أما بالنسبة للعرب فلا بد من ضربهم باستمرار لبث روح اليأس فيهم وإقناعهم بأن الاستمرار في تبنّي الصراع العسكري كوسيلة لاستعادة الحقوق غير مجدٍ .


وإذا كان الزمان تكراراً رتيباً لا يأتي بالسلام أو بالتحولات الجذرية، فإنه لا يبقى سوى المكان الثابت الذي لا يعرف الزمان. “د. عبد الوهاب المسيري، الموسوعة اليهودية”. وبالفعل نجد أن الأرض تشكل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية وفي نظرية الأمن الإسرائيلية، فالأرض الخالية من العرب، أي من الزمان العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه وتحويله إلى عنصر استيطاني يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية. ومن دون الأرض سيظل الشعب اليهودي شعباً شريداً طريداً، بلا سيادة سياسية أو اقتصادية. والأرض التي يستولي عليها الصهاينة لا بد أن تُعقَّم من زمانها التاريخي العربي، لكي تصبح أرضاً بلا زمان، أي أرضاً بلا شعب.
ولذا فنظرية الأمن الإسرائيلي تدور داخل فكرة الحدود الجغرافية الآمنة ذات الطابع الغيتوي التي تستند إلى معطيات جغرافية مثل الحدود الطبيعية: نهر الأردن، هضبة الجولان، قناة السويس. وقد اقترح حاييم أرونسون ما سماه “الحائط النووي”، أي أن تقبع إسرائيل داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية. وهي فكرة بسيطة مجنونة، تتجاهل العنصر الإنساني الملتحم بالجسد الصهيوني نفسه، ولا تختلف فكرة المستوطنات – القلاع المحصنة كثيراً عن الحائط النووي، وهي سلسلة من المستوطنات التي تحيط بحدود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والنقب، وهي مستوطنات أمنية مختلفة عن تلك التي أقيمت لأسباب دينية أو إقتصادية.


وإزاء مشكلة غياب العمق الإستراتيجي للكيان الصهيوني يُحدّد الفكر العسكري الإسرائيلي ما يُسمّى “ذرائع الحرب” على نحو فريد. فالدولة الصهيونية تعتبر كل دولة عربية مسؤولة عن أي نشاط فدائي ينطلق من أراضيها، وازدياد هذا النشاط يُعدّ ذريعة من ذرائع الحرب. ويضاف إلى هذا الذرائع التالية:
لقد حددت الحركة الصهيونية فكرة الأمن بشكل جغرافي وأسقطت العنصر التاريخي، وتصوّرت أنه عن طريق الاستيلاء على قطعة ما من الأرض أو على هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك وعن طريق التحالف مع الولايات المتحدة والقوة العسكرية، فإنها تحل مشكلة الأمن وتصل إلى الحدود الآمنة، ولكن الانتصارات الإسرائيلية التي كانت ترمي لتحقيق الأمن كانت تؤدي إلى نتيجة عكسية، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار عام 1967، وكان لا بد أن تُحسم هذه التناقضات، وهو الأمر الذي أنجزت القوات المصرية والسورية يوم 6 أكتوبر 1973 جزءاً منه، ثم اندلعت الانتفاضة لتبين العجز الصهيوني. “د. عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق”.
ومع هذا تجدر الإشارة إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسكر الصهيوني في مدى هيمنة مقولة الأرض ، ويمكن القول إن صهيونية الأراضي الليكودية تعبير عن هذا التمركز الشرس حول الأرض وإهمال الزمان والتاريخ. أما الصهيونية الديموغرافية أو السكانية العمالية فهي تعبير عن إدراك الوجود العربي والزمان العربي وربما استعداد للتعامل معه، وإن كان التعامل يظل في إطار المنطلقات الصهيونية، وهي أن أرض فلسطين، أي (إرتس يسرائيل) في المصطلح الصهيوني، هي ملك خالص للشعب اليهودي وحده كما تنص على ذلك لوائح الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي .ولكن إن اختلف الصهاينة بشأن بعض التفاصيل فثمة إجماع صهيوني راسخ بأن أمن إسرائيل يتوقف على الدعم الغربي لها، وبخاصة الدعم الأمريكي، ولذا لا يوجد أي اختلاف بشأن هذه النقطة.


والحقيقة التي فاتت الزعامات الصهيونية أن أمن إسرائيل يمثل مشكلة كيانية، لأن إسرائيل كيان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل يهود الغرب والدول الغربية، لا يتفاعل مع الواقع التاريخي العربي المحيط به، ولكي تُدافع إسرائيل عن أمنها، أي كيانها، يضطر الكيان الاستيطاني الشاذ إلى أن يعسكر نفسه عسكرة تامة ليتحول إلى المجتمع/القلعة الذي تجري العسكرية في عروقة والذي لا توجد فيه أية فواصل بين الشعب والجيش. وما تنساه الزعامات الصهيونية أنه بغض النظر عن مقدار الأمن الذي سيصل إليه هذا المجتمع وبغض النظر عن حجم انتصاراته، فإن عليه أن يخوض الحرب تلو الحرب ليدافع عن أمنه “المهدد” وذلك بسبب الحركة الطاردة في المنطقة. “فهمي هويدي، الموسوعة الصهيونية”.


القسم الثالث: تحديات الأمن القومي الإسرائيلي


الحقيقه أن مسـألة الأمن الخاصة بإسرائيل تتأثر بعدة عوامل يأتي في مقدمتها:
عامل الجغرافيا السياسية، وكما تشير المعطيات فإنه يحتشد حوالى 80 -90% من سكان إسرائيل في منطقة تمتد نحو 120 كلم على طول الشاطئ بين حيفا وأسدود، وهذا يشكل تهديداً أمنياً حقيقياً لإسرائيل نتيجة العمق الإستراتيجي الضيق الذي يجتمع فيه غالبية السكان هناك، وما يشكله ذلك من خسائر بشرية فادحة في حال تعرضت إسرائيل لهجمات تطول تلك المنطقة الجغرافية من إسرائيل، الأمر الذي يحد كثيراً من قدرة إسرائيل على المناورة والحركة.
ويأتي عاملا نسب القوى والموقف العربي العام في سياق تهديد الأمن الإسرائيلي، إلا أن مراقبين يرون أن هذين العاملين لم يعودا يشكلان تهديداً مباشراً لاسرائيل، التي ترتبط بعملية سلام مع الأردن ومصر ورغم ذلك فهي لا تزال تواجه سوريا في وضع قلق على جانبي مرتفعات الجولان، وهذا ما يبقي الهجوم على الجبهة الشمالية لإسرائيل أكثر احتمالاً بنظر العديد من الخبراء الاستراتيجيين، نظراً لعدم تحقيق أي تقدم على طاولة المفاوضات السورية الإسرائيلية، كما أن استمرار عمليات حزب الله في مزارع شبعا وتحميل إسرائيل دمشق مسؤولية استمرار هذه الهجمات، يبقيان حالة التوتر العسكري قائمة في ظل إجماع غالبية الخبراء الإسرائيليين على أن سوريا ستستمر بالتسلح ودعم حزب الله، وستستغل أول فرصة تسنح لها لشن هجوم مباغت لاسترجاع هضبة الجولان أو جزء منها، بالمقابل لم تعد هذه الهضبة تشكل أهمية كبيرة في مفهوم السياسة الدفاعية الاسرائيلية، كما أنها لم تعد حاسمة في توفير الأمن لإسرائيل بعد التقدم الكبير في تكنولوجيا الصواريخ والمدافع التي اختصرت جغرافية المكان والزمان، سيما وأن الصواريخ الباليستية التي تدّعي اسرائيل بأن سوريا تمتلك العديد منها سيتم استخدامها بكثافة اذا ما قررت سوريا ضرب أو صد أي هجوم اسرائيلي عليها، وهذا يعني أن هضبة الجولان فقدت أهميتها كعمق جغرافي لاسرائيل، وستحل محلها الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية التي ستقوم بالدور الأساسي في حماية عمق الدولة العبرية، مع ترسخ قناعة لدى الخبراء الإسرائيليين بأن التكنولوجيا الصاروخية لا يمكن أن توفر حماية وأمناً لإسرائيل بنسبة مئة بالمئة وخصوصاً ضد صواريخ الكاتيوشا.


أما زئيف شيف المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” الاسرائيلية فيرى أن هذه المبادئ تتجسد في الاستراتيجية الدفاعية، الردع النووي الغامض ونقل الحرب الى أرض العدو، وبالمقابل يرى محللون أن ثمة سلسلة مشكلات ستظل تضع اسرائيل امام تحديات أمنية بعيدة المدى هي:

  • صغر اسرائيل وقلة مواردها.
  • انعزال اسرائيل من الناحية الجغرافية وضعف عمقها الاستراتيجي.
  • حساسية الإسرائيليين للخسائر المدنية والعسكرية.
  • رفض مجموعة من الدول العربية والاسلامية الاعتراف بشرعية إسرائيل ووجودها كدولة يهودية في المنطقة، على الرغم من أن المعطيات الراهنة تغيرت، حيث أبدى كثير من تلك الدول استعداداً للإعتراف باسرائيل، لا بل إن بعضها يقيم علاقات سرية سياسية أو تجارية معها.
  • بعض دول المنطقة ترى في قدرات إسرائيل العسكرية تهديداً لأمنها ومصالحها.
  • وعلى الرغم من أن هناك تطورات قلصت أو حدّت من مستويات التهديد الموجهة لاسرائيل مثل معاهدة السلام مع مصر ومعاهدة أوسلو مع الفلسطينين واتفاقية السلام مع الأردن، والنتائج المترتبة على حرب الخليج عام 1991 من تدمير البنية العسكرية العراقية التي كانت تشكل خطراً على الوجود الاسرائيلي، إلا أن إسرائيل ما زالت ترى أن هناك تهديدات متزايدة لأمنها، لأن الأمن هو الهاجس الذي تعيش فيه اسرائيل وتعتبر نفسها في تهديد دائم نتيجة صغر مساحتها الجغرافية وقلة سكانها، وترى في ذلك نقاط ضعف لا تجعلها قادرة على المجازفة بخسارة معركة واحدة خوفاً من انهيارها أو زوالها.
    وكما هو معروف لدى الخبراء في الشأن الإستراتيجي فإن التحولات العميقة التي طرأت على تكنولوجيا الأسلحة العسكرية أو ما يطلق عليها “الثورة في الشؤون العسكرية”، أخذت تسبب تحدياً آخر للأمن الإسرائيلي، فمثل هذه الأسلحة المتقدمة المزودة بتكنولوجيا رفيعة وأساليب حديثة جعلت الحديث عن الدفاع والأمن القومي الإسرائيلي ومهدداته موضوع جدل سياسي عام، يجري في سياق يسود فيه قلق كبير لدى الساسة الإسرائيليين من امتلاك جماعات متطرفة أو أفراد لمثل هذه التكنولوجيا المتطورة التي تهدد أمن اسرائيل، من هنا بات الحديث عن النظرية الأمنية الإسرائيلية في سياق مختلف عما كان سائداً من قبل، في ظل ازدياد ملحوظ لكثير من الإسرائيليين حول نظرتهم للأمن سيما مع ازدياد عدم الاستقرار العالمي نتيجة تهديد الارهاب أو خطر الهجمات التي تشن بالصواريخ، وقد يكون أقلها صواريخ محلية الصنع التي تستخدمها الفصائل الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية، فقد أعربت إسرائيل عن خشيتها من حصول الفلسطينيين على صواريخ تهدد ملاحتها الجوية، وحسب مصادر أمنية اسرائيلية فإن هناك إمكانية تهريب الصواريخ الروسية المضادة للطائرات من طراز “ام إي 18”، التي ستزود بها سوريا الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أن اسرائيل تعتبر وصول هذه الصواريخ للضفة الغربية تحديداً يمثل تهديداً بالغ الخطورة لملاحتها الجوية .وحسب المصادر العسكرية الاسرائيلية، فإن هناك خوفاً من أن تقوم سوريا بتزويد حزب الله بهذه الصواريخ، والذي يقوم بدوره بتهريبها لحركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة .وكانت إسرائيل قد اتهمت حزب الله بتهريب أسلحة ووسائل قتالية لحركات المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع. وتحذر المصادر العسكرية الإسرائيلية من إمكانية أن يؤدي حصول الفلسطينيين على مثل هذه الصواريخ إلى تقليص قدرة سلاح الجو الإسرائيلي على العمل بحرية في أجواء الضفة الغربية وقطاع غزة. ويذكر أن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق “شاؤول موفاز” قد ادّعى في وقت سابق أن حركات المقاومة قد حصلت مؤخراً على صواريخ مضادة للطائرات من طراز “ستريلا”، وشددت المصادر العسكرية الإسرائيلية على أن مستوى التهديد الذي تمثله صواريخ “إم إي 18” أكبر بكثير من الخطر الكامن في صواريخ “ستريلا”.
    ونتيجة هذه العوامل التي تهدد الأمن الإسرائيلي بدأت العقيدة الأمنية الإسرائيلية في تبني سياسة التسلح في إطار يتوافق والتهديدات والمخاطر الجديدة التي تواجه إسرائيل، مركزة على المنظومة الدفاعية “صواريخ وسلاح جو” مع تجاوز لمفهوم الأرض التي لم تعد من وجهة نظر المفكرين الإستراتيجيين الإسرائيليين ذات أهمية في توفير أمن إسرائيل، بقدر ما لفتت الصواريخ بعيدة المدى أنظار الإسرائيليين وزادت من قلقهم، في ظل مخاوف المخططين العسكريين الإسرائيليين من اقتراب خطر الصواريخ الإيرانية. وبحسب هؤلاء فإن لهذه الصواريخ تأثيراً جوهرياً في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي، لذا فقد أثارت تجربة إطلاق الصاروخ الإيراني (شهاب 3) والكشف عنه في عرض عسكري في طهران عام 1998 ردود فعل إسرائيلية قوية، ولا سيما التحذيرات التي صدرت عن وزير الدفاع الإيراني آنذاك بالرد على أية اعتداءات قد تشنها إسرائيل، وظهرت دعوات لتوجيه ضربات رادعة لإيران من قبل “افرايم سنيه وعوزي لنداو” عضوي لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، وتقول تقديرات عسكرية اسرائيلية إنه ستتوافر لإيران خلال السنوات القليلة القادمة صواريخ ذات مدى أطول بإمكانها حمل رؤوس نووية وضرب العمق الإسرائيلي، وقد زادت التخوفات الإسرائيلية من القدرة الإيرانية على إنتاج قنبلة نووية يوماً بعد يوم، حتى أن إسرائيل تتحرك دولياً لعرض الملف النووي الإيراني على مجلس الأمن، في وقت لم تستبعد مصادر سياسية أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية لمحطات إيران النووية. من هنا فإن خطر الصواريخ بعيدة المدى أضاف تحديات جديدة إلى النظرية الأمنية الإسرائيلية من منطلق أن العدو القادر على مهاجمة العمق الإسرائيلي قد لا يكون بعد الآن على حدود إسرائيل .لذا واستباقاً لأية حرب ممكنة الوقوع ووفقاً للمفهوم الذي تبلور في سنوات ما بعد حرب الخليج الثانية، والتجارب الصاروخية التي تجريها إيران، رفع الجيش الإسرائيلي درجة استعداده لمواجهة خطر هذه الصواريخ عن طريق منظومة صواريخ دفاعية لاعتراض الصواريخ قبل وصولها إلى عمق إسرائيل.

الفصل الثاني : مراحل تطور نظرية الأمن القومي الإسرائيلي
المرحلة الأولى: من قيام الدولة وحتى حرب أكتوبر عام 1973
المرحلة الثانية: من حرب أكتوبر عام 1973 وحتى حرب الخليج
المرحلة الثالثة: من حرب الخليج عام 1990 وحتى انتفاضة الأقصى عام 2000
المرحلة الرابعة: من انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى اليوم
الإطار التحليلي لنظرية الأمن الإسرائيلي في وثيقة هرتسيليا


الفصل الثاني مراحل تطور نظرية الامن الاسرائيلي


المرحلة الأولى: الفترة من قيام الدولة وحتى حرب 1973
افترضت نظرية الأمن الإسرائيلية دائماً وأبداً بأن الدولة تواجه خطراً يهدد وجودها من جانب الدول العربية، وأنه لا يوجد لإسرائيل حلفاء مخلصون تستطيع الإستعانة بهم لمواجهة هذا الخطر.
وانطلاقاً من هاتين الفرضيتين أسس المسؤولون عن الأمن في إسرائيل نظريتهم الأمنية على مبدأ الإعتماد أولاً وقبل كل شيء على قدرة الجيش الإسرائيلي، وليس على التسويات السياسية أو الحلفاء الخارجيين، وأن مكانة الجيش في تأمين إسرائيل ضد المخاطر لها الأهمية الخاصة في النظرية الإستراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي.
ومنذ حرب 1948 تم رسم الإستراتيجية الأمنية على مبدأ الدفاع، أي المحافظة على الوضع الراهن وردع الطرف الآخر عن الحرب، ولكن في المستوى التكتيكي عند اقتضاء الأمر، توجد لدى هذه الإستراتيجية نظرية عسكرية هجومية، أي نقل الحرب إلى أرض الأعداء، وشن هجوم مسبق بقدر الإمكان، وفي ذلك يرى ديفيد بن غوريون “أن أخطر عدو لأمن إسرائيل هو الروتين الفكري لدى المسؤولين عن هذا الأمن”، وما عناه بن غوريون في هذا القول هو أن إسرائيل إذا ما اضطرت للحرب مرة ثانية فعليها أن لا تحارب في الماضي، بل في المستقبل، وأن ما نجح في الماضي ليس بالضرورة أن ينجح وأن يتلاءم مع المستقبل. إن ما دفع بن غوريون إلى هذا الرأي هو إدراكه أن بعض قادة الجيش في إسرائيل يفضلون التعايش مع إرث انتصاراتهم، ولا يرون ما يتطلبه الوقت الراهن، حيث رد عليهم في إحدى اجتماعاته بهم قائلاً: “إن الدفاع المحلي الثابت لم يعد الشيء المهم في دفاعنا، لذا يجب علينا أن نرى مشكلة الأمن وأسلوب دفاعنا بعين جديدة، ليس دفاعاً محلياً بل إقليمياً، ليس دفاعاً ثابتاً بل دفاعاً ديناميكياً، ليس أمن النقاط وإنما أمن المستوطنات والمواصلات … إن كل مصطلحات الدفاع التي كانت متبعة لدينا في الماضي أصبحت الآن قديمة ومضى وقتها … لقد تغيّر الوضع من أساسه، وإذا كنا لا نشعر بهذا التغيير فهذا ناجم فقط عن التفكير الروتيني … نحن بحاجة إلى نظرية جديدة نرى من خلالها الوضع الراهن وجميع التغييرات التى تطرأ عليه في كل آن.”آرئيل لفيتا، النظريه العسكرية الإسرائيلية: دفاع وهجوم”.


مصادر النظرية الأمنية
أعتقد أن علينا أن نتناول في هذا الفصل الدوافع المادية الأساسية لتبني النظرية الأمنية، ولأغراض التوضيح نفترض أن اختيار النظرية لم يأت مصادفة، أو أنه كان ينبع من غريزة التفكير المفرط لتقليد جيش أجنبي أياً كان.
يتركز البحث هنا على مصادر النظرية في مجموعة الفرضيات والتقديرات التي جمعت من مصادر مختلفة وتبلورت على المستويين السياسي والعسكري الإسرائيلي وأجمع الكل على نجاعتها النسبية، وتمت ملاءمتها من النواحي (الجغرافية، السياسية، الإجتماعية، والإقتصادية) وما شابه ذلك مع متطلبات وضغوطات وظروف المنطقة التى تتميز بها اسرائيل.
إن حجر الزاوية الخاص بالنظرية الأمنية الإسرائيلية يمكن العثور عليه في الفرضيات الأساسية التي صاغها “ديفيد بن غوريون”، وأن الفرضية الأساسية بين تلك الفرضيات هي (أن وجود اسرائيل بالذات معرض للخطر من جانب الأعداء المحيطين بها من كل جانب ويطمحون للقضاء عليها بكافة الطرق، أي أن الخطر هو خطر وجودي)، وقد كرر بن غوريون هذه الفرضية في مناسبات عديدة، اخترنا هنا بعضاً من أقواله لكي نتناولها بالتحليل والدراسة.


“… إن جوهر مشكلة أمننا هو وجودنا بالذات وهذا هو المعنى الفظيع لمشكلتنا الأمنية، إن هذه الحرب تهدف إلى إبادة الإستيطان اليهودي وتدميره، وإن العرب يعرفون بأنه لن تكون هناك سلطة عربية في هذه البلاد طالما بقي اليهود هنا مع أنهم يشكلون أقلية بالنسبة للعرب، وإن الهدف السياسي للعرب يستوجب القضاء على هذه الحقيقة المزعجة أي محو اليهود من على وجه هذه الأرض”. “أرئييل لفيتا، مرجع سابق”.
وانطلاقاً من هذا التعريف لمشكلة الأمن الإسرائيلية انبثقت ضرورة البحث عن الحلول والوسائل لضمان بقاء وجود الدولة العبرية.


وخلال البحث عن الحلول لمشكلة الوجود تبنّى واضعو النظرية فرضيتين أساسيتين:
الأولى: أنه لا يمكن لإسرائيل أن تعتمد على عنصر أو عناصر خارجية مهما كانت لضمان وجودها.
الثانية: أن إسرائيل لن تستطيع تسوية النزاع بالوسائل العسكرية، وأنه لن يكون بالإمكان تحقيق حسم عسكري يؤدي إلى فرض شروط إسرائيلية للتسوية في الشرق الأوسط.
وهذا ما صرح به زعماء سياسيون وعسكريون إسرائيليون منهم رابين وبيريس وشارون نفسه، وقبلهم موشيه ديان وزئيف شيف ورفائيل إيتان … وآخرون.
إن المغزى العملي لهاتين الفرضيتين هو ضرورة تأسيس أمن إسرائيلي على قوة الجيش من أجل الردع والعمل وقت الضرورة، ولكن استخدام الجيش يجب أن يكون فقط لأهداف إستراتيجية دفاعية، أي المحافظة على الوضع الراهن، ونظراً لأهمية هذه الفرضية في رسم الطريق التي يمكن للجيش أن يوفر من خلالها الأمن للدولة ويضمن بقاءها نرى أنه من المناسب التوسع في الحديث عنها.


إن الإفتراض الأساسي لدى إسرائيل هو أنها لا تستطيع أن تعتمد في ضمان أمنها على أي عنصر أجنبي، فقد تبنت إسرائيل تقدير الموقف الذي بلوره بن غوريون لدى قيام الدولة وهو أن التأييد والتعاطف والمساعدة السياسية والعسكرية التي حظيت بها إسرائيل من دول مختلفة أثناء التصويت في الأمم المتحدة على قرار التقسيم، لا يمكن أن تشكل دليلاً على استعداد هذه الدول لأن تهبّ لنجدة إسرائيل إذا تعرضت لخطر يهدد وجودها. وقد ذهب بن غوريون لتوضيح هذه الفرضية إلى تقسيم العالم إلى خمس كتل حسب علاقتها مع إسرائيل، وكانت الكتلة الأكثر تأييداً لإسرائيل في نظره هي الكتلة التي اعترفت بإسرائيل وبوجودها ولكنها في الوقت نفسه لا تبدي مبالاة بِشأن تعرض هذا الوجود للخطر، لذلك قال: “علينا أن نعي الحقيقة المجردة البسيطة والقاسية في آن واحد ألا وهي أنه بالنسبة لأمننا يجب علينا أن نعتمد أولاً وقبل كل شيء على أنفسنا فقط وعلى قدرتنا وليس على قوى خارجية …”، وقال في مناسبة أخرى: “علينا أن نعتمد على أنفسنا وعلى قوتنا نحن، ويجب أن تكون هذه القوة قادرة على الحسم … وعلينا الإستعداد للحرب من خلال الإعتماد على قدرتنا نحن … إن مصيرنا ومصير الإستيطان اليهودي والشعب والدولة اليهودية يتوقف علينا قبل كل شيء”.
ويستدل الإسرائيليون المؤمنون بهذه الفكرة بالموقف الأمريكي الضاغط على إسرائيل من أجل الخروج من سيناء عام 1956، واتفاقية الدول العظمى بشأن التنسيق في بيع الأسلحة لمنطقة الشرق الأوسط، كأمثلة على صحة هذه الفرضية.


إلا أن هذا التقدير لم يمنع بن غوريون ومن جاء بعده من زعماء إسرائيل من السعي إلى التوصل إلى تفاهمات وتعاون استراتيجي على الأقل مع دولة عظمى، وعلى سبيل المثال فرنسا في الخمسينيات ومطلع الستينيات، ومن ثم الولايات المتحدة بعد ذلك، ولكن حتى ذروة هذا التعاون ومع تلك الدول العظمى، ورغم أهميته البالغة إلا أنه لم يعتبر في يوم كضمان كاف للمحافظة على وجود الدولة، والذي يمكن أن يوفر عليها ضرورة بناء قوة دفاعية ذاتية كاملة. وذلك لأن الأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط أثبتت لدى القادة الإسرائيليين بأنه لا يمكن الثقة المطلقة بتعهدات أية دولة من هذه الدول، وأن مصداقيتها بحاجة إلى وقت طويل واختبارات عملية لإثبات نفسها.
ومن بين هذه الأحداث نذكر على سبيل المثال: موقف الولايات المتحدة عام 1956 الذي أدى إلى تراجع كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في الحملة على مصر، ومثال آخر يكمن في التحول في الموقف الفرنسي تجاه مشكلة الشرق الأوسط وإسرائيل في النصف الثاني من سنوات الستينيات، وكذلك عدم قيمة الوعود الأمريكية بشأن ضمان حرية الملاحة في مضائق تيران عام 1967، والعراقيل والصعوبات التي واجهت عملية تسيير القطار الجوي الأمريكي لإسرائيل في حرب تشرين أول / أكتوبر عام 1973.


علاوة على ما سبق يمكن القول إنه تولدت لدى الزعامة الإسرائيلية قناعة بأن بناء القدرة الدفاعية المستقلة تعتبر شرطاً لا بد منه، حتى تبدي الدول العظمى استعدادها لدعم إسرائيل والتعاون معها، أي أن كسب تأييد الدول العظمى والتعاون الإستراتيجي معها يصبح ممكناً فقط اذا رأت هذه الدول أن إسرائيل قوية وقادرة على الدفاع عن نفسها. وفي هذا السياق يقول: بن غوريون: “إنني لا أقول أننا لن نحصل علي مساعدات خارجية، ولكن إذا كان هناك أمل في الحصول على مثل هذه المساعدة والأمل موجود فعلاً – فما الذي يمنعنا من أن نثبت للعالم بأننا لسنا مرتبطين فقط بالمساعدات الخارجية، وأننا قادرون على بناء قوتنا والإعتماد على أنفسنا، حتى أن الله يساعد فقط أولئك الذين يساعدون أنفسهم …”.


أما الفرضية الثانية المتعلقة بعدم قدرة إسرائيل على حسم النزاع بالوسائل العسكرية فقد جاءت أيضاً في تقدير الموقف الذى بلوره بن غوريون في الأيام الأولى لقيام إسرائيل، لقد قال بوضوح: “ليس لدينا إمكانية حل النزاع نهائياً مع العرب طالما لا يرغب العرب بذلك … إننا لا نستطيع وقف النزاع مع العرب في حين أنهم قادرون … فارق تاريخي واحد بيننا وبين العرب … من جانبنا ليست هناك معركة أخيرة وإننا لا نستطيع الإفتراض ولا في أي وقت من الأوقات أننا قادرون على توجيه ضربة واحدة قاضية للعدو، وأن تكون تلك المعركة الأخيرة هي التي لا نحتاج بعدها إلى الإصطدام معهم، ولن يكون بعدها خطر نشوب حرب جديدة، وعلاوة على الفرضيات الأساسية لنظرية الأمن الإستراتيجي كما ذكرناها سابقاً، هناك فرضيات مركزية تتعلق بالوضع الإسرائيلي الخاص، وأخرى تتعلق بظروف المنطقة عامة، وأول هذه الفرضيات المركزية تنبع من نقطة ضعف إسرائيلية في مجال الموارد القومية (الطاقة البشرية – الأرض – الثروات الطبيعية).


يقول بن غوريون في جوهر هذه الفرضية: “نحن أقلية وعلينا أن نجابه أغلبية، وهذا الفارق لن يتغير … إن هذا حكم التاريخ والجغرافيا”. “عمنوائيل فالدر، انهيار نظرية الأمن الإسرائيلي”. وقد استخلص مخططو نظرية الأمن من هذه الفرضية عدة استنتاجات رئيسية، طُبق معظمها لدى قيام الدولة العبرية و بعد ذلك كما سنرى.


أولاً: إن إسرائيل لا تسمح لنفسها بجيش كبير، بل ستضطر للاعتماد على قوة انقضاض نظامية (سلاح الجو والقدرات البرية المتحركة) متعددة المهام صغيرة الحجم نسبياً، لكنها مميزة من حيث النوعية تضم جيشاً نظامياً وجيشاً من الإحتياط ذا قدرة عسكرية هامة مع إمكانية تجنيد بأقصر فترة زمنية ممكنة، في هذا الصدد يقول موشي ديان: “إن أمننا يعتمد أولاً وقبل كل شيء على جيش الإحتياط، إن أمننا مبني على شعب مقاتل، لذلك من الضروري الإحتفاظ بنواة عسكرية ذات نوعية عالية تستطيع استيعاب الشعب المجند.
وهناك أيضاً استنتاجات عملية أخرى انبثقت عن هذه الفرضية المركزية وهي: ضرورة تقصير أمد الحرب إلى أدنى حد ممكن، والإمتناع بقدر الإمكان عن فرض حرب الإستنزاف. وهناك استنتاج آخر أعتقد أن النظرية الأمنية الإستراتيجية في إسرائيل قد وضعته في الإعتبار بناء على الفرضية السابقة بشأن عدم تطابق المصادر بين إسرائيل والعرب، يقضي بأنه في حال نشوب حرب يجب أن تعمل إسرائيل على تدمير قوى العدو سواء من أجل فرض وقف إطلاق النار، أو من أجل تأجيل موعد الحرب القادمة قدر الإمكان. وقد أشار بن غوريون إلى ذلك بشكل واضح قائلاً: “إن الإنتصار الذي يؤدي إلى تدمير قوى الأعداء هو فقط الذي يحسم الحرب والمشكلة التي نواجهها في ذلك هي كيف ننظم جيشنا بشكل يجعله قادراً على الصمود وتدمير قوى الأعداء وتحطيم رغبته في مواصلة الحرب.” عمنوائيل فالدر، المرجع السابق”.


ثانياً: هناك فرضية تتعلق بعدم وجود عمق إستراتيجي في إسرائيل إضافة إلى طول الحدود مع الدول العربية، وقرب التجمعات السكانية اليهودية والبنية التحتية للدولة العبرية، من حدود الدول المعادية.
وهذه الفرضية أدت إلى الإستنتاج بأن إسرائيل لا تستطيع السماح لنفسها بإدارة الحرب على أرضها، وقد كان لهذا الإستنتاج وزن كبير في رسم النظرية الأمنية الإستراتيجة لإسرائيل.
ففي عام 1967 تذرعت إسرائيل بالقرار المصري الخاص بسحب المراقبين الدوليين من الحدود لشن حرب استباقية كانت قد أعدت لها العدة والعتاد، لتحقيق نصر سريع على الأعداء في أرضهم قبل أن يهاجموها، وقد حققت إسرائيل في هذه الحرب الكثير من أهدافها التكتيكية والعسكرية وولدت شعوراً بالأمن، وأصبحت إستراتيجيتها الأمنية تولي الاعتبار للأهداف الإستراتيجية الدفاعية القائمة على أساس الحفاظ على الوضع الراهن.


ثالثاً: فرضية أخرى تتعلق بالوضع السياسي، وتحقيق النتائج المطلوبة من الحرب، وتقضي هذه الفرضية بأن الوضع السياسي الداخلي والخارجي يستوجب أن تنتهي كل مواجهة عسكرية بين إسرائيل والدول العربية بانتصار عسكري إسرائيلي سريع وقليل الضحايا. و قد نوّه بن غوريون إلى هذه الفرضية بقوله: “يجب أن تكون خططنا الحربية الدفاعية موجهة ليس فقط لتحقيق النصر على العدو، بل لتحقيق نصر سريع”. وقد توسع شمعون بيرس في الحديث عن هذه الفرضية قائلاً: “يجب أن يحسم الجيش الحرب بأسرع ما يمكن، ويجب أن يحطم رغبة الدول العربية وقدرتها الحربية عن طريق تدمير القوات العسكرية والبنية القتالية – حرب هجومية بهدف تدمير القدرة القتالية للقوات الجوية المعادية في أقصر وقت ممكن، بأقل ما يمكن من الثمن الإسرائيلي”. “صلاح زكي أحمد، نظرية الأمن الاسرائيلي”.


رابعاً: تتعلق هذه الفرضية بتدخل الدول العظمى في النزاع، وقد أدرك قادة إسرائيل هذه الفرضية ووضعوها بالاعتبار في حساباتهم دائماً، يقول شمعون بيرس: “لقد كان طيف تدخل الدول العظمى يحوم فوق إسرائيل في كل حروبها الماضية، وذلك بهدف منع تحقيق حسم إستراتيجي كامل، وهذا الشيء متوقع أيضاً في كل حروب المستقبل”.
أما بن غوريون فقد توقع وضعاً تصوّر فيه أنه حتى لو حققت إسرائيل الحسم في ميدان المعركة، فإن الدول العظمى تستطيع أن تتدخل وتغير وجه الأشياء. “زئيف شيف، مقال في صحيفة هآرتس”.


وفي السياق نفسه أدلى موشي ديان بدلوه فقال: “لقد عرف الجيش منذ بداية أيامه أنه يجب عليه تخطيط معركته بشكل يضمن له تحقيق النصر خلال أيام معدودة، لأن حكومته لن تستطيع التنكر لقرارات المؤسسة الدولية فترة طويلة، التي ستطالبها بوقف إطلاق النار.”عمنوئيل فالدر، مرجع سابق”.
والإستنتاج الذي خلص إليه واضعو نظرية الأمن الإسرائيلي على ضوء الفرضية السابقة، يقضى بأنه يجب على إسرائيل أن لا تتورط في حرب مع الدول العربية قبل أن تضمن لنفسها سلفاً مساعدة وتأييد من إحدى الدول الكبرى، ويمكن إدراك المدلول العملي لهذا الإستنتاج من خلال علاقة إسرائيل بهذه الدولة أو تلك أثناء كل حروبها.
ولو أردنا إجمال ما أوردناه من فرضيات واستنتاجات لتلك الفترة، نستطيع القول إن إسرائيل وضعت إستراتيجياتها الأمنية في الفترة من قيام الدولة العبرية وحتى حرب 1973 على الأسس التالية:

  • الاحتفاظ بقدرة ذاتية كاملة للدفاع عن وجودها.
  • الإعتماد على جيش نظامي صغير وجيش احتياطي كبير الحجم ويمكن تجنيده بسرعة.
  • أن تحارب فقط من أجل أهداف إستراتيجية دفاعية.
  • أن تقصر بقدر الإمكان مدة الحرب.
  • أن تحقق في كل مواجهة عسكرية حسماً عسكرياً واضحاً بأقل قدر من الخسائر.
    المرحلة الثانية: الفترة من 1973 وحتى العام 1990
    ولّدت نتائج حرب الأيام الستة عام 1967، شعوراً بالأمن لدى الإسرائيليين، وأدى احتلال الأراضي العربية إلى تقليل أهمية وحيوية الهجوم المسبق – ولم يعد هذا المبدأ يشكل في الواقع عنصراً مركزياً في النظرية الأمنية الإسرائيلية.
    ولقد أدى الثمن الباهظ الذى دفعته اسرائيل في معركة التصدي في حرب 1973، إلى اعتراف بعض المسؤولين في القيادة الأمنية بأن إسرائيل ارتكبت خطأً فاحشاً بامتناعها عن شن هجوم مسبق، ومما قيل في هذا السياق ما ذكره رئيس الأركان سابقاً الجنرال رفائيل إيتان: “كان يجب توجيه ضربة مسبقة على الأقل ضد السوريين في المرحلة التى أصبح واضحاً فيها أنهم سيبدأون في الحرب، لأن توجيه ضربة جوية ضد السوريين كان باستطاعتها تشويش إجراء البدء بالحرب،. وكانت فعلاً قد اتخذت الإستعدادات بتوجيه من رئيس الأركان العام دافيد بن العيزر من أجل توجيه ضربة جوية مسبقة، وتم عرض الإقتراح على الحكومة للموافقة عليه لكنه رفض لإعتبارات سياسية.
    لقد أوضحت رئيسة الوزراء السابقة غولدا مئير بعد الحرب أسباب هذا الرفض بالقول: “لقد كان على إسرائيل عدم البدء بالحرب حتى لا تُتهم بأنها هي التي بدأت الحرب”، مما يدلل على أن القيادة السياسية قلّلت من أهمية فرضية الهجوم المسبق مقابل إهتمامها بفرضية المحافظة على الوضع الراهن وفرضية الإهتمام بالموقف الدولي. “زئيف شيف، نظرية الأمن الإسرائيلي والحرب القادمة”.

  • وكان من نتيجة ذلك عودة الإعتبار والإهتمام بفرضية الهجوم المسبق إلى المراتب المتقدمة في نظرية الأمن الإسرائيلي، وقد صرح بذلك مناحيم بيغن عندما شغل رئاسة الوزراء، فقد عبر عن دعمه لمبدأ قيام إسرائيل بمبادرات عسكرية من جانبها، وقال في إحدى المناسبات: “يجب أن أقول إنه إذا حدث وأن خرق الطرف الثاني (مصر) الإتفاقية بشأن المنطقة المنزوعة السلاح (سيناء) سيكون من جانب إسرائيل، أن تدخل إلى هذه المنطقة قوات أقوى من تلك التي أدخلها الطرف الذي خرق الإتفاقات الدولية.”زئيف شيف، مرجع سابق”.
    ومثال آخر على عودة العمل بمبدأ الحرب الإستباقية في أعقاب حرب غزو لبنان في العام 1982، حيث أصبح واضحاً في تلك الفترة زيادة تهديد صواريخ أرض / أرض عربية ونشوء ظروف جديدة تسمح للعراق بإرسال قوات إلى الجبهة السورية، أدى ذلك لسماع أصوات في إسرائيل تنادي بضرورة شن الهجوم المسبق على سوريا والأردن إذا دخلت أراضيهما قوات عراقية، وكذلك شن حرب على لبنان بسبب وجود منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية على أراضيه.
    أصبح واضحاً لدى المستوى العسكري في إسرائيل الميل لشن هجوم مسبق أكثر من ذي قبل، وهذا ما عبّر عنه رئيس الأركان السابق دان شومرون بقوله: “إذا فوجئت إسرائيل مرة ثانية بإنذار قصير فإنه يُفترض أن القيادة العسكرية ستطلب السماح بشن هجوم مسبق، ويفترض أيضاً أن القيادة السياسية ستدرس هذا الطلب بصورة تختلف عما فعلته عشية حرب عام 1973”.

  • هكذا أصبحت النظرية الأمنية تميل أكثر إلى الطابع الهجومي، وتولي الأهمية لمبدأ نقل الحرب إلى أراضي العدو، ومبدأ شن هجوم مسبق.
    وهذا الطابع الهجومي للنظرية الإسرائيلية بعد حرب 1973، يتبع في أساسه لمجموعة ضغوط ودوافع إستراتيجية “سياسية، إقتصادية، إجتماعية، سكانية، جغرافية”، إضافة إلى اعتبارات عسكرية، دفعت مخططي نظرية الأمن الإسرائيلي إلى الإعتراف بأن يُطلب من الجيش تحقيق النصر الواضح في كل مواجهة عسكرية مع العرب، وأن ينهي الحرب في أسرع وقت ممكن، وهي في الواقع أهداف يتطلب تحقيقها الاعتماد على نظرية تميل إلى الطابع الهجومي.
    لذلك يمكن القول إن النظرية الإستراتيجة للأمن الإسرائيلي أصبحت تعتمد على الدمج بين أهداف إستراتيجية دفاعية وتكتيكات عسكرية هجومية، وانطلاقاً من هذا المفهوم هناك أهمية خاصة للملاءمة بين نظرية وأهداف إستراتيجية لدولة ما مع واقع وضغوط متغيرة تفرض نفسها على هذه النظرية، ولقد فصل إسحق رابين أهداف القوة العسكرية الإسرائيلية من وجهة نظره قائلاً: إن لها ثلاثة أهداف، الهدفان الأوليان دفاعيان: ضمان الوجود القومي وتوفير الأمن للدولة ولسكانها ومصالحها الحيوية. أما الهدف الثالث فهو المساعدة في تحقيق أهداف سياسية بوسائل عسكرية أهداف مثل فرض سلام على دولة أو أكثر، وفي مناسبة أخرى قال رابين: “سواء في حرب سيناء أو سلامة الجليل شرعت إسرائيل الحرب من أجل فرض هدف سياسي بوسائل عسكرية.

  • وهنا لا بد من التطرق إلى أهم المتغيرات التي طرأت على وضع إسرائيل السياسي والعسكري والتكنولوجي والإقتصادي والإجتماعي، ومدى تأثير ذلك على واضعي ومخططي النظرية الأمنية الإسرائيلية.
    1- المجال السياسي: أبرز وأهم متغير في المجال السياسي هو العلاقات الإسرائيلية الأمريكية بعد تطور بطيء تخللته فترات مد وجزر إلى أن وصلت إلى درجة الحلف الإستراتيجي بين الدولتين، وحصول إسرائيل على مكانة الدولة الحليفة غير العضو في حلف شمال الأطلسي، تلك المكانة التي منحت إسرائيل أهمية وفوائد كبيرة ومتنوعة.
    كما طرأ تحول آخر رئيسي على وضع إسرائيل السياسي في مجال النزاع العربي الإسرائيلي نتيجة مسيرة المفاوضات المصرية الإسرائيلية في أعقاب حرب 1973، بلغت نهايتها مع توقيع اتفاقية السلام بين البلدين عام 1979، وأدى ذلك إلى إخراج أكبر دولة عربية مجاورة مع إسرائيل من دائرة الحرب، وكذلك تحول الأردن إلى خارج نطاق القتال النشط مع إسرائيل، وأصبحت لبنان كدولة لا تشكل تهديداً على إسرائيل.

  • كما كان من نتائج حرب 1973 اعتراف إسرائيل بعدم قدرتها على حل النزاع بالطرق العسكرية فقط مما حفز زعماءها على البحث عن حلول سياسية.
    2- في المجال العسكري: في أعقاب حرب 1973 طرأت تغييرات وتحولات في المجال العسكري عامة، ومن بينها التغييرات التي طرأت على النظريات العسكرية في الدول العربية وخاصة في سورية في أعقاب تلك الحرب والدروس المستفادة منها، وتركز التطور في النظرية العربية على تقليص الفجوة بين نقاط القوة في الجيش الإسرائيلي، وركزت هذه النظرية على بناء نظام متنوع من الأسلحة المقاومة للدبابات والتحصينات والعوائق، بهدف تقليص حرية المناورة للدروع الإسرائيلية في المعارك البرية من جهة، ومن جهة أخرى بناء نظام دفاع جوي كبير ومتنوع بهدف تقليص حرية المناورة الجوية، ومنع سلاح الجو الإسرائيلي من تقديم الدعم والإسناد القريب للقوات البرية الإسرائيلية.
    كما شهدت الجيوش العربية تطوراً تدريجياً نحو قوة متحركة آلية ومدرعة ذات قدرة هجومية، كما طرأت زيادة ملموسة على حجم القوات العسكرية النظامية وبخاصة في سوريا، رداً على إبطال أهمية الزيادة الموازية التي حصلت في القوات النظامية في الجيش الإسرائيلي في أعقاب الحرب.
    3- في المجال التكنولوجي: حدث تطور في مجال تكنولوجيا الأسلحة الموجهة وبعيدة المدى، وميزة هذه الظاهرة هي القدرة على تدمير أهداف بعيدة للغاية، الأمر الذي من شأنه فصل عنصر تدمير الأهداف عن عنصر احتلال الأرض، وما قد يترتب على هذا المتغير من دخول دول عربية بعيدة عن حدود إسرائيل إلى دائرة الصراع دون إرسال جيوش في حالة نشوب حرب جديدة مثل العراق أو ليبيا أو حتى إيران … كما أدخلت إسرائيل طائرة الهيلوكبتر الهجومية إلى سلاحها الجوي.
    4- في المجال الجغرافي الإستراتيجي: تمثلت مشكلة إسرائيل منذ قيامها حتى حرب 1967 في قرب التجمعات السكانية والمناطق الحيوية من حدودها مع العرب، أي عدم توفر عنصر العمق الإستراتيجي، وقد حدث تحول مهم نتيجة حرب 1967 ولا يزال هذا التحول قائماً حتى اليوم خاصة على الجبهتين الأردنية والسورية، أما على الجبهة المصرية فرغم التوصل إلى اتفاقية سلام وانسحاب إسرائيل من سيناء، إلا أن تجمعاتها السكانية ظلت بعيدة عن الخطوط الأمامية ناهيك عن الإتفاقية التي نصت على بقاء سيناء منطقة منزوعة السلاح.
    5- المجال الإقتصادي: بعد حرب 1973 طرأت زيادة تدريجية على تخصيص موارد الدولة لأغراض الأمن حتى وصلت إلى حدها الأقصى في هذا المضمار، فقد فضلت اعتبارات الأمن في المدى القصير على اعتبارات النمو الإقتصادي في المدى البعيد.
    وفي مجال المساعدات الخارجية وصلت المساعدة الأمريكية إلى سقف أعلى بكثير مما كان يمكن الحصول عليه.
    وقد استمر العبء الأمني على الإقتصاد الإسرائيلي حتى عام 1983، حيث حصل تقليص حقيقي في ميزانية الأمن أدى إلى تقليصات متنوعة وذات أهمية في حجم النشاطات العسكرية، كما أدى إلى إبطاء سرعة برامج الأبحاث التطويرية والتسليح.
    6- في المجال الإجتماعي: من 1973- 1990 موضع بحثنا في هذه الفترة، برز الرأى العام الإسرائيلي وتنامى تأثيره على موضوع الأمن بشكل عام، وموضوع الحرب بشكل خاص، وكان لهذا الوضع الجديد أبعاد وآثار واضحة على إدارة الحرب المستقبلية.
    ولقد كانت حرب لبنان والنقاش الشديد الذى دار داخل الكيان الإسرائيلي حول مشروعيتها وتوقيتها مؤشراً على أنها المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي يبرز فيها دور الرأي العام.
    ولقد تحدث في هذا الموضوع بكل وضوح قائد المنطقة الجنوبية في عام 1980 ورئيس هيئة الأركان فيما بعد دان شمرون محذراً: “إن أكبر خطر يهدد شعبنا يتمثل في تآكل الإجماع الوطني بالنسبة لما نسميه حرب مصير ووجود، مثلاً: الجدال حول ما إذا كانت المستوطنات ضرورية أم لا، أو هل إتفاقية السلام جيدة أم لا، إن ما أخشاه هو أن يفكر الشعب عندما تندلع حرب قادمة بأن هذه الحرب غير عادلة أو ضرورية وليست حرب وجود، الأمر الذى سيكون له تأثير حاسم على دوافع القتال، إن أي حرب تتوقف في نهاية الأمر على عنصر إرادة القتال، إن الجيوش تنهار ليس لأنها ضعيفة بشكل عام، بل لأنها تفقد إرادة القتال … وإرادة القتال منوطة بالدفاع عن هذه الحرب”. (أهارون ليبران، انهيار قوة الردع الاسرائيلي).
    وقد تحدث بن غوريون كثيراً عن إرادة الحرب، ومما قاله في هذا السياق: “لقد هزم السبعمائة ألف يهودي الثلاثين مليون عربي بفضل قوة الإرادة والتصميم على القتال وبفضل ذلك انتصرنا”. “زئيف شيف، مرجع سابق”.
    وبناء على هذه المتغيرات الآنفة الذكر حدد مخططو الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية الفرضيات الرئيسية لنظرية الأمن الإسرائيلي لما بعد حرب رمضان 1973.
    وأول هذه الفرضيات أن إسرائيل لا تزال في حالة مجابهة مع تهديد وجودي.
    ثاني هذه الفرضيات أن إسرائيل ليس لديها القدرة على حسم أو حل النزاع العربي – الإسرائيلي بالوسائل العسكرية فقط.
    وأن الإستنتاج الذي خلص إليه هؤلاء المخططون هو: ضرورة اعتماد أمن إسرائيل على قوة عسكرية محلية يمكن استخدامها لتحقيق أهداف دفاعية استراتيجية – الردع – والمحافظة على الوضع الراهن.
    إن هذا الافتراض بعدم قدرة إسرائيل على حل النزاع بالطرق العسكرية فقط حفز زعماءها على البحث عن حلول سياسية مع الإستمرار في الإعتماد في أمنها على القوة العسكرية، ففي نظرية الزعامة الإسرائيلية لا يزال استخدام القوة العسكرية العنصر الثابت وإن لم يصبح الوحيد بعد حرب 1973، وخير مثال على ذلك حرب لبنان التي شنتها إسرائيل لإحداث تغييرات في منطقة الشرق الأوسط بعيدة الأثر بوسائل عسكرية، ولكن فشل حرب عام 1982 على لبنان في تحقيق هذا التغيير قد عزز البرهان على صحة هذا الإفتراض.
    يقول إسحق رابين بصورة واضحة بهذا المعنى “إن سوريا هي الدولة الوحيدة التي تهدد إسرائيل عسكرياً، ولكن لا يوجد أي سبب لدى إسرائيل سياسياً أو عسكرياً يدفعها للمبادرة في حرب ضد سوريا، إن الأمر لا يساوي الثمن المؤلم الذى تتطلبه الحرب، إن التاريخ العسكري يُثبت بأن 80% من الحالات التي تنشب فيها الحروب تكون فيها الدول المبادرة للحرب هي التي تفشل في نهاية الأمر”.
    وفي مناسبة أخرى يقول رابين: “إنه سواء في حملة سيناء أو حرب لبنان عام 1982، شرعت إسرائيل بالحرب من أجل فرض هدف سياسي بوسائل عسكرية وفشلت إسرائيل في الحالتين و لم تحقق أهدافها”. (حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي).
    ويعتقد رابين أنه لا توجد قيود على القوة العسكرية لحماية الدولة في حالة تعرض وجودها للخطر، أما هدف منع العرب من شن حرب على إسرائيل أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، فإن الوسائل العسكرية ليست الوحيدة لتحقيق ذلك.
    وهناك فرضية هامة كانت سائدة حتى حرب 1973، تقضي بأن التكتيك الهجومي للجيش الاسرائيلي هو أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف من الحرب.
    والإستنتاج المطلوب استخلاصه من الفرضية السابقة هو أن النظرية الهجومية التي تعتمد على مبدأ نقل الحرب إلى أرض (العدو) والرغبة في شن هجوم مسبق، ليست كافية لإعطاء الرد المناسب على متطلبات إسرائيل الأمنية في مجال منع نشوب حرب إبادتها.
    واستنتج المخططون الإسرائيليون بأن العيب الرئيسي في نظرية الأمن التي أساسها الدفاع وفرعها الهجوم أنها لا توفر الرد المناسب للظروف المتوقعة في أيام الحرب الأولى، لذلك بادروا لإدخال تعديلات نظرية أهمها خلق توازن جديد بين العناصر الهجومية والعناصر الدفاعية، أي إضافة عنصر دفاعي حقيقي، كما أن العامل الرئيسي الذي منع الجيش الإسرائيلي من تبني أسلوب الدفاع المرن (المتحرك) هو المبدأ نفسه الذي سبق وأن تحدثنا عنه، ألا وهو إصرار إسرائيل على عدم تمكين العرب من تحقيق أية مكاسب أرضية في أية مجابهة عسكرية.
    وهنا يمكن الإستنتاج بأن الجيش الإسرائيلي فشل في هذه المهمة في حرب عام 1973 سواء على الجبهة الجنوبية أو الشمالية، وليس فقط بسبب الفشل الإستخباري، وإنما أيضاَ بسبب التناقض الداخلي في التفكير العسكري الإسرائيلي.
    ففي الفترة التى سبقت حرب تشرين أول 1973 ساد إسرائيل وخاصة في أوساط القيادتين السياسية و العسكرية شعور قوي بالأمن، كان مصدره المكاسب التي حققها الجيش في حرب 1967 وما نتج عنها من معطيات العمق الإستراتيجي واحتلال الأراضي، ونتيجة لهذا الشعور والثقة المبالغ فيها لم تدرك الزعامة هناك ضرورة وضع قوات نظامية أكثر بصورة دائمة للدفاع عن جبهتي سيناء والجولان، وأن مبدأ عدم التخلي عن “أي شبر”احتلته قوات إسرائيلية قد تعمق في النفسية الإسرائيلية، لدرجة أن القادة العسكريين رفضوا التخلي عن الأراضي حتى عندما أدركوا أهمية ذلك لأغراض الدفاع مقابل كسب الوقت، وقد اندفعت هذه القوات في هجوم مضاد في جبهة قناة السويس سرعان ما أفشله المصريون حيث تكبد الإسرائيليون خسائر فادحة.
    وقد دعا ديان وزير الدفاع آنذاك القيادة العسكرية بالإنسحاب إلى ما وراء خط العرض في سيناء والانتظار هناك تمهيداً لإدارة حرب دفاعية منظمة، قبل شن هجوم مضاد ضد القوات المصرية التي تتدفق إلى سيناء، وفي الوقت نفسه يتم التركيز على الجبهة الشرقية السورية.
    إلا أن قيادات الجيش رفضت هذا الإقتراح. وفي هذا الصدد، يقول إيغال آلون: “إن أي انسحاب يعني تعريض سلامة وقدرة إسرائيل على الصمود للخطر، لا يوجد للجيش الإسرائيلي مكان ينسحب إليه، لا انسحاباً إستراتيجياً ولا حتى انسحاباً تكتيكياً، لا خيار لدينا سوى الدفاع القوي دون هوادة، دفاع لا يعرف كلمة الإنسحاب”.
    ويمكننا أن نجد تعبيراً واضحاً لهذا الوضع في وصف أسلوب تفكير الجنرال شارون وزير الدفاع السابق ورئيس وزراء إسرائيل الذي ورد على لسان أحد المقربين منه حيث قال: “أهجم، أهجم … هذا ما ظل شارون يردده من دون انقطاع طيلة حوالى عشرين ساعة منذ اندلاع الحرب”. (حامد ربيع، مرجع سابق).
    وقد علق اللواء احتياط أبراهم إدان على هذه الظاهرة بقوله: “من السهل أن نرى اليوم أننا كنا أسرى بأيدي أنفسنا، عبيداً لنظرية ترعرعنا عليها، بأنه يجب أن نهاجم بأسرع ما يمكن وأن ننقل الحرب إلى أرض العدو”.
    والإستنتاج الذى يمكن استنباطه مما سبق هو أن الجيش الإسرائيلي يجد صعوبة في إدارة معارك دفاعية، وهذا ما أثبتته حرب اكتوبر 1973، وذلك يعود أولاً وقبل كل شيء إلى عيب في النظرية التكتيكية الهجومية الإستراتيجية الأمنية، يشمل أساليب القتال والتدريب والإستعداد في مجال الدفاع.
    ولغايات الغوص في السيكولوجية الدفاعية لتبني النظرية الإسرائيلية لتلك المرحلة لا بد من وضع فرضية عمل، وهي أن النظرية يجب أن توفر الرد المناسب عندما تكون المبادرة بشن الحرب في أيدي العرب، وليس فقط فرضية الحرب الإستباقية الإسرائيلية ضد العرب، وذلك على اعتبار أن العرب لا يرضون استمرار الوضع الراهن للنزاع، ويفكرون بتغيير هذا الوضع بوسائل عسكرية أيضاً. فرضية أخرى يمكن أخذها بعين الإعتبار وهي أن مشكلة اسرائيل تكمن في عمل عسكري يبدأ بمبادرة عربية تعتمد على كثرة القوات النظامية العربية وقربها من خط الجبهة، الأمر الذي يمكن العرب من تنفيذ الإجراء بأقل مؤشرات تدل على النية في الهجوم، وبإنذار قصير نسبياً، وتحقيق مفاجأة كاملة أو نسبية. وأن مثل هذا الإجراء يمكن تحقيقه قبل أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من حشد قوات كافية على الجبهة التي تمكنه من نقل الحرب إلى أرض العرب، والإستنتاج الذي يمكن تسجيله بناءً على الفرضية السابقة كما يراه بعض القادة العسكريين الإسرائيليين هو أن على الجيش الإسرائيلي أن تكون لديه نظرية أمنية، توفر الرد المناسب في حال بدء العرب بمبادرة الهجوم، وتعتمد على إدارة حرب دفاعية على الأقل في بداية الحرب.
    ولا يفوتنا الحديث عن عنصر هام من عناصر نظرية الأمن الإستراتيجي لإسرائيل، وهو عنصر الردع الذي يعتمد دائماً وأبداً على الإفتراض بأن نصراً إسرائيلياً واضحاً في كل مجابهة عسكرية مع العرب، يؤدي ليس فقط لإنهاء الحرب بل يساهم أيضاً في إقناعهم بعقم الخيار العسكري. “غازي ربايعة، الاستراتيجية الاسرائيلية”.
    ولكن حرب تشرين أول 1973 أثبتت عدم ضمان تحقيق النصر الإسرائيلي في كل مجابهة عسكرية، “كما هي الحال أيضاً في حرب لبنان الاخيرة”، ويذكر هنا فشل عنصر الردع الإسرائيلي في تلك الحرب، مما دفع المخططون الإستراتيجيون الإسرائيليون للبحث عن وسائل أخرى لتحسين قدرة الردع الإسرائيلية، مثل التهديد بضرب البنى التحتية لأية دولة عربية كثمن باهظ إذا بدأت حرباً ضد إسرائيل. غير أن هذه النظرية في مجال الردع حققت نتائج جزئية فقط في ضوء فشل إسرائيل فى حرب لبنان وفي الأراضي الفلسطينية.
    وأخيراً تجدر الإشارة إلى أنه منذ حرب عام 1973 حدثت تغييرات في الجيش الإسرائيلي كان القصد منها تحسين قدرته الدفاعية، منها إنشاء قيادة ميدانية للقوات البرية (المشاة والمدفعية والمدرعات والهندسة)،إلا أنها غير كافية في نظر الخبراء الأمنيين لأن معظم هذه التغييرات التي أدخلت حدثت في المستوى الميداني، ولم ترافقها إجراءات يمكن اعتبارها شاملة وأساسية في النظرية الأمنية على المستوى الإستراتيجي.
    بل يمكن الإدعاء أن الآراء القديمة والنظريات السابقة لا تزال هي السائدة، وهي التي تعارض الحرب الدفاعية وتكرس أسس الحرب الهجومية في صفوف الجيش الإسرائيلي، بل أن التدريبات وانتشار القوات يعتمدان على أسس النظريات القديمة، وأن حدوث أية تغييرات أو تجديد في خطط القتال أو في تشكيل القوات لا تزال تجد المعارضة الشديدة، بدعوى إن ذلك سيؤدي ضمناً إلى المس بمستوى جاهزية الجيش للحرب، إلا أن هذا الإدعاء استخدم كمبرر وذريعة لبعض رؤساء الأركان السابقين مثل موشي ليفي ورفائيل إيتان، بينما كان هناك دعاة التجديد والتطوير ومنهم إسحق رابين، فقد تحدث في هذا الموضوع بلهجة أكثر توازناً قائلاً: “إنه نظراً للتهديد الإرهابي – والعسكري – الذي تتعرض له دولة اسرائيل ولكي لا تمس بجاهزية الجيش يجب توخي جانب الحذر في مجال إحداث تغييرات في الوسائل القتالية أو سلم أولويات بناء القوة المقاتلة”، ومع ذلك أكد رابين على ضرورة إيجاد توازن بين الإستعداد للمستقبل وبين الجاهزية في الحاضر. “صائب العاجز، نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي”.
    وقد استفادت إسرائيل في سنوات نهاية السبعينيات بعد خروج مصر من دائرة الصراع ولو مؤقتاً وتفكك الجبهة الشرقية وحرب العراق مع إيران وحالة الأردن الذي لا يشكل أي تهديد لأمن إسرائيل، وبقيت سوريا ورغم التحسن الكبير الذى طرأ على قواتها، إلا أنها ظلت بعيدة عن كونها تشكل تهديداً لأمن إسرائيل، فأصبح الوضع السائد داخلياً وخارجياً لإسرائيل يشبه ما يسمى نافذة فرص تستطيع من خلالها إدخال تغييرات في الجيش الإسرائيلي، إلا أن الصعوبة البالغة التي تواجه فكرة تطوير وتغيير النظرية الأمنية بما يتلائم مع نتائج حرب 1973، تكمن في التعصب التنظيمي والفكري، ولا يتعلق الأمر فقط بعناصر تنظيمية ونفسية، وإنما في التفضيل التقليدي للنظرية الهجومية حتى تحولت هذه النظرية الهجومية في الجيش إلى عقيدة حقيقية أصبحت عميقة الجذور في الفكر العسكري الإسرائيلي، خلقت نظرة عداء واستهزاء تجاه موضوع الدفاع، مما خلق لدى قادته صعوبة نفسية عميقة تجاه معالجة موضوع إستراتيجية الدفاع بشكل مدروس ومهني، وأن معظم التغيير المطلوب لا يتعلق بالتسليح، وإنما في مجال النظرية مثل تغيير نماذج وأساليب التفكير العسكري، تدريب القادة والقوات معاً وتحويل مركز الثقل في تدريب قوات الجيش من مجال الإختراق الى مجال الدفاع بشكل يخلق توازناً في إعداد القادة والقوات في كلا الجانبين. “صائب العاجز، المرجع السابق”.
    وأخيراً يمكن القول إن إسرائيل لم تدخل تغييرات بعيدة الأثر على نظريتها الأمنية، ورغم أن الجيش واصل نموه وتنامت قوته منذ حرب 1973 إلى منتصف الثمانينات، حيث بدأت التقليصات المستمرة في ميزانية وزارة الدفاع مما ألزم الجيش الإسرائيلي بإجراء إعادة النظر في جداول أولوياته.
    وكانت حرب لبنان 1982 هي الحرب الوحيدة التي خطط لها الإسرائيليون في تلك المرحلة ليس بفعل حالة من الدفاع عن النفس فرضت على إسرائيل، بل هي حرب اختيار، فقد أعلنت المفوضية العسكرية الإسرائيلية أن الهدف المباشر من عملية (سلامة الجليل) هو الانتقام لإطلاق النار على “مايا أرغون” السفير الإسرائيلي في لندن، أما الهدف العسكري فهو هدف دفاعي ضمني لوقف الهجمات الفدائية وتطهير مساحة 67 كيلومتراً من لبنان، ثم أظهرت أن الهدف الحقيقي هو فرض حكومة موالية لإسرائيل في لبنان تحت حماية إسرائيل، ويمكن القول إن من نتائج هذه الحرب أن الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية قد وصلت إلى ذروة القدرة الهجومية، وأصبح السؤال الذي يردده مخططو الإستراتيجية الأمنية هل يترتب على الجيش تأمين الدفاع، أم تأمين عنصر الردع (الذي يشمل قدرة هجومية ذات مصداقية لدعم الموقف الدفاعي) أو أنه سيقوم بفرض أهداف السياسة الإسرائيلية فرضاً وبالقوة على الدول العربية؟
    وقد أظهرت حرب العام 1982 – رغم أنها لم تحقق كل نتائجها – أن إسرائيل قادرة على إنزال الهزيمة بالأسلحة التقليدية لدى خصومها، وأظهرت مدى فاعلية الإجراءات التي تم اتخاذها في أعقاب حرب 1973 على بنية وقوة الجيش الإسرائيلي، واظهرت مدى فاعلية التنظيم الحديث والتكنولوجيا التي تم إدخالها في نظام أوسع للقيادة والسيطرة والاتصال والإستطلاع.
    وفي هذه الحقبة تقريباً، أي نهاية عام 1987 اندلعت الإنتفاضة في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 التي أفشلت نظرية إسرائيل في إمكانية السيطرة على الفلسطينيين بالقوة، والتي اعتمدت في بناء علاقتها معهم على أساس الردع والتخويف واستمالة من تضعف إرادته منهم أي باتباع سياسة العصا والجزرة، وثبت أن مثل هذه السياسة محكوم عليها بالفشل بالمستقبل طالما لم تتوفر للفلسطينيين فرص لتسوية سياسية تحقق بعض طموحاتهم السياسية والوطنية.
    المرحلة الثالثة: الفترة من 1990 وحتى 2000
    منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي بدأ العديد من عناصر النظرية الإستراتيجية الخاصة بالأمن الإسرائيلي يشهد عملية مراجعة وإعادة أولويات، انطلاقاً من الرغبة في التجاوب مع سلسلة التحولات في المنظومة الدولية والإقليمية وحتى الداخلية لدولة إسرئيل بدءاً من انتهاء الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفيتي، وصولاً إلى اندلاع حرب الخليج الثانية وتداعياتها، وبدء عملية السلام واستمرارية الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
    إن التطورات المشار إليها جعلت إجراء تعديل جوهري في المفهوم الأمني الإستراتيجي أمراً ضرورياً لجعل نظريته تتوافق بطريقة فاعلة مع هذه التطورات، وتمثلت نقطة البداية في إدراك صانعي القرار في إسرائيل لمنظومة الفرص المتاحة من جهة، والتهديدات الكامنة من جهة أخرى في نسيج البيئة السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية المحيطة بإسرائيل، وقد انعكس هذا الإدراك ذاته على عملية وضع الإستراتيجية الأمنية وخاصة صياغة التكتيكات العسكرية وبناء القوة والقوات.
    لقد أدرك المخططون الإستراتيجيون هذا النسيج المعقد من الفرص والتهديدات رغم المناخ الإقليمي والدولي، الذي أدى إلى تحسين المناخ الأمني العام لإسرائيل، خاصة وأن الظروف والمتغيرات القائمة في البيئة الإقليمية تقلل كثيراً من إمكانية نشوب حرب عربية إسرائيلية.
    لكن هذا الإدراك ذاته الذي يضع دائماً في الاعتبار أسوأ الاحتمالات ركز بشكل خاص على مجموعة التهديدات التي ما زالت قائمة أو التي قد تنشأ نتيجة المناخ السائد.
    فقد تم تشخيص نوعيات جديدة من التهديد الأمني لم يكن في إمكان النظرية الأمنية السابقة التعامل معها، ومن أبرز هذه التهديدات الانتفاضة الفلسطينية التي فشلت كل الحلول العسكرية في القضاء عليها.
    وكذلك مسألة انتشار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية ووسائل ايصالها الإستراتيجية وخاصة الصورايخ البالستية، وصولاً إلى ما يصفه الاسرائيليون بالإرهاب وتطرف الجماعات الإسلامية الأصولية مثل حركة حماس، وحزب الله، وشبكة القاعدة، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ومصر. وامتداداً على طول المنطقة الاقليمية إلى دول آسيا التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي وصولاً إلى أوروبا وأمريكا. وهو ما يمكن وصفه بتهديد المدى القصير، أما على المدى الطويل فإن التقديرات تشير إلى وجود تهديد محتمل يتمثل في اتساع نطاق الانتشار لمنظومة الصواريخ في الدول المعادية لإسرائيل، وانتشار أسلحة الدمار الشامل إضافة الى احتمال نشوب صراع تقليدي واسع النطاق مع الدول العربية من دون أو بإشتراك مصر والأردن.
    وحول هذه المخاوف التي انتابت مخططو النظرية الإستراتيجية الأمنية يقول عمير ربويروت في صحيفة “معاريف”: “ما يقلق جهاز الأمن الإسرائيلي فعلاً هو قوة الجيش المصري المتزايدة، وحسب مركز”جافا“فإن الجيش المصري يملك أكثر الأسلحة الأمريكية تطوراً على غرار الجيش الإسرائيلي تقريباً”.
    أما على مستوى المتغيرات داخل دولة إسرائيل فقد أدرك المخططون أن أكبر الأخطار والتهديدات التي تواجههم على الجبهة الداخلية هو تفاقم التناقضات، مما قد يفقد المجتمع الإسرائيلي العنصر اللاحم لهذه التركيبة غير المتجانسة، ولعل ما يزيد من هذه التناقضات، تضاؤل وانكماش التهديد الخارجي وبدء عملية التسوية بين العرب والاسرائيليين وما يرافق ذلك من أوجه خلاف حول شرعية إعادة الأراضي الفلسطينية بين العلمانيين والمتدينين، وكذلك اتساع الفجوة العرقية بين العرب واليهود في دولة إسرائيل، والصراع على السؤال التالي: هل الدولة لليهود أم لمواطنيها؟ ناهيك عن تنامي الروح الوطنية لدى العرب الإسرائيليين، إضافة إلى ما أصبح يعرف في إسرائيل بالخطر الديموغرافي.
    يقول شلومو غازيت رئيس الإستخبارات السابق: في ضوء وتيرة الزيادة الطبيعية في الوسط العربي الأعلى مما هي عليه في الوسط اليهودي (الضعف تقريباً) وإذا لم يتم الإهتمام بهذه القضية، وتتخذ الإجراءات المطلوبة حالاً فإنه خلال جيل واحد أو خلال جيلين على الأكثر، ستكف إسرائيل عن كونها دولة يهودية صهيونية، ويقول البرفسور الإسرائيلي يوسف كلنسمان في كتابه “الإنفجار السكاني تهديد أم أسطورة”. إن الرهان العربي في القرن المقبل سيكون على تفوقهم البشري، حيث يتوقع أن يكون عدد السكان العرب في إسرائيل والضفة الغربية وغزة عام 2025 حوالى 8 ملايين نسمة، بينما لا يتعدى عدد السكان اليهود 6 ملايين، وهو ما يهدد بأن تتحول إسرائيل إلى دولة مزدوجة القومية، في حين أن أساس قيامها هو المحافظة على نقاء الهوية اليهودية لسكانها، كما تم تشخيص نوعيات جديدة من التهديد الأمني لم يكن في إمكان النظرية الأمنية السابقة التعامل معها، ومن أبرز هذه التهديدات الانتفاضة الفلسطينية التي فشلت كل الحلول العسكرية في القضاء عليها.
    ورغم أن الإستراتيجية الأمنية لإسرائيل تبلورت دائماً وتجددت على أرض الواقع، وظلت تتحول منذ قيام الدولة حتى نهاية الثمانينات في إطار ثلاث قواعد أساسية: – الردع والحرب الوقائية – نقل المعركة إلى أرض العدو – الهجوم المسبق، إلا أن المتغيرات السياسية والإقتصادية والأمنية والتكنولوجية فرضت تغيرات جوهرية وأساسية على هذه الإستراتيجية، وكان من أبرز هذه المتغيرات تآكل قوة الردع الإسرائيلي بفضل تضاؤل هامش التفوق النوعي الإسرائيلي، علاوة على اتساع العمق الجغرافي للصراع، كما سنرى فيما بعد.
    وقد تمثلت هذه التحولات في ثلاثة مجالات أساسية: أولهما يتعلق بالدروس المستقاة من حرب الخليج الثانية، بينما تركز ثانيهما حول الاستعداد لمرحلة ما بعد التسوية، حيث ستفضي إلى إحداث تعديلات جيوستراتيجية لإسرائيل، أما المجال الثالث فتمثل في الأوضاع الإقتصادية التي تشهد تأزماً متزايداً مما يفرض ضغوطاً تلقائية، وعلى سبيل المثال بناء القوة العسكرية والقوات المسلحة.
    إن الدعوات السابقة لقادة دولة إسرائيل بـ (الاعتماد على الذات) ثبت فشلها، حيث لا تستطيع أن تتحرر من المنح والمساعدات الأجنبية، وفي مقدمتها الأمريكية، ولذلك فإن إسرائيل في حاجة إلى أن ينتمي إقتصادها إلى إقتصاد المنطقة المحيطة بها، بمعنى الإستفادة من الأسواق العربية الواسعة، وخفض تكاليف الإنتاج في إسرائيل، وضمان الحصول على الطاقة بتكلفة رخيصة وتوفير المواد الأولية من الدول المحيطة بها بدلاً من استيرادها من دول خارج المنطقة. ولا مناص من فتح الحدود بين إسرائيل وجيرانها، وإزالة العوائق وزيادة التعاون وانتقال العملية الإنتاجية في إطار سوق إقليمية مشتركة وهو ما ينادي به شمعون بيرس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” حيث يطرح سؤالاً بديهياً: أيهما أهم للعمق الإستراتيجي السلام أم الأرض؟! وتوصل إلى نتيجة مفادها أن السلام هو العمق الإستراتيجي الأفضل لإسرائيل، وفي وجهة نظره أن السلام هو البديل الذي يمكّن إسرائيل من اختراق المجتمعات العربية بما تقيمه من علاقات طبيعية معها والإستفادة من الإمكانات الإقتصادية الضخمة في هذه المجتمعات.
    واستنتاجاً مما سبق برزت عدة فجوات في النظرية الأمنية، أظهرت أن الجيش الإسرائيلي ونظرية الأمن لا تملك أجوبة وحلولاً للتهديدات الصاروخية، وظهر ذلك واضحاً في أعمال القصف الصاروخي العراقي للعمق الإسرائيلي على بُعد مئات الكيلومترات، إضافة إلى العجز في قواعد النظرية الأمنية من حيث عدم القدرة على نقل المعركة إلى أرض العدو حسب المفهوم التقليدي لهذه النظرية، ففي هذه الحالة لم يكن ممكناً إرسال الفرق المدرعة الإسرائيلية مثلاً إلى ضواحي بغداد، ولم يتوفر أمام إسرائيل إلا الرد من خلال القوة الجوية الأمر الذي تعذر كونه يتعارض مع مخططات التحالف الدولي المناهض للعراق، إضافة إلى البعد الجغرافي الذي يعرض الطيران الإسرائيلي لانتهاك المجال الجوي لعدة دول عربية قد تدخل في حرب معها على ضوء ذلك.
    والاستنتاج الآخر أن عملية التسوية ستفضي لانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان مما يفقدها ميزة إستراتيجية هامة، وهي قربها من العاصمة السورية دمشق، وهذا الأمر يشكل ميزة رادعة لسوريا لشن حرب جديدة على إسرائيل، أما الانسحاب من الضفة الغربية فإن الدلالة الأكثر أهمية هي تآكل العمق الإستراتيجي الجغرافي بحيث يبلغ عمق إسرائيل في منطقة تل أبيب حسب حدود 1967، 15كم عرض فقط.
    ومن هذا التقدير استنتج المحللون الإستراتيجيون للأمن الإسرائيلي وفق أسوأ السيناريوهات المحتملة أن تشمل إعادة هيكلة النظرية الأمنية، بناء شبكة فعالة للإنذار المبكر وزيادة القدرات الإستخبارية بعيدة المدى مع تعزيز كبير لقوى الجيش، علاوة على ضرورة الحفاظ على قوة الردع الاستراتيجي وعلى أن تنتظم كافة الاحتياجات الأمنية في إطار نظرية إستراتيجية متجددة تتلاءم مع متغيرات المرحلة.
    ومن الجدير ذكره أن هذه العمليةالخاصة بإعادة صياغة الإستراتيجية الأمنية واجهت عقبات منها الاعتبارات التمويلية التي تمثل عنصراً مهماً في توجيه أعمال البناء الدفاعي، حيث أن الإنكماش في الميزانية الدفاعية في الفترة المذكورة كان كبيراً، ففي عام 1992 مثلاً كانت نسبة ميزانية الدفاع تمثل 8,2% من الناتج القومي الإجمالي بعد تراجع ملموس في الميزانية الدفاعية على مدار السنوات السابقة، لذلك فقد وصلت هذه الميزانية مثلاً في منتصف الثمانينات حوالي 11,1% من إجمالي الناتج القومي. وقد ظهر هذا الأثر واضحاً في الخطة الخمسية (1992-1997) التي تبنتها وزارة الدفاع، وكان عرّاب هذا التغيير إيهود باراك الذي استهدف إحداث نقلة أكبر في التسليح مما اضطر المؤسسة العسكرية إلى القيام بعملية إعادة تخطيط شاملة لجميع الأفرع والنظم التي لا تسهم بصورة مباشرة في العمل العسكري، وكان الغرض الأساسي من إعادة التنظيم هو توجيه جميع الأصول المالية والتنظيمية نحو مجال القدرات العملياتية التي تساعد على تحقيق أداء أكثر فاعلية للجيش في ميدان القتال المستقبلي، وفي هذا الإطار تم إلغاء العديد من الأنشطة المتعلقة بالجيش، وجرى تقليص فترات تدريب الاحتياط، وإغلاق العديد من مراكز التدريب وتخفيض القوات المخصصة لفيلق المؤخرة.
    وقد أدت هذه الإجراءات فعلاً إلى تعديل بعض عناصر الإستراتيجية الأمنية، وظهر هذا التعديل واضحاً في دفع برامج القوة العسكرية في اتجاه زيادة القدرات القتالية النوعية على المستوى البشري التسليحي والتنظيمي، التي تستهدف في الأساس تلبية الاحتياجات الميدانية مع امتلاك القدرة على التصدي للتهديدات الإستراتيجية.
    أما على المستوى الميداني فإن المفهوم العملياتي للتخطيط العسكري ارتكز على الدروس المستقاة من حرب الخليج بضرورة أن يسعى جيش نخبوي قليل العدد إلى تحقيق الانتصار الحاسم بسرعة في حال نشوب حرب مستقبلية، على أن يكون هذا الانتصار في ظل معدل بسيط للغاية من الاستنزاف في الأفراد والمعدات وبدرجة أقل مما حدث في حرب أكتوبر 1973، مع ضرورة إجراء حسابات مستمرة لكافة ظروف القتال النهارية والليلية والمناخية والأوضاع في مؤخرة الخصم، بما يساعد على توفير الإمكانيات التدميرية التي تمكن الجيش من إحداث خسائر جسدية وضرب مخططاته في مرحلة مبكرة من القتال، ولتحقيق هذه الأهداف جابهت المخططين إشكاليات معقدة، تمثلت في أن القائمة الموجودة في صفوف الخدمة العاملة في القوات المسلحة الإسرائيلية أصبحت متقادمة بالنسبة لظروف القتال الحديث، علاوة على أن الجيوش العربية أصبحت تملك بدرجة ما منظومات الأسلحة الرئيسية نفسها، الموجودة لدى إسرائيل مما يعني أن مزيداً من الدبابات والطائرات والمدفعية العاملة للجيش لا تساعد على زيادة كبيرة في فعاليتها، لذلك خلص التخطيط إلى ضرورة تحقيق التفوق النوعي المستقبلي للقوات الإسرائيلية، الذي يرتكز على أعمال التطوير والإنتاج المحلي لأنظمة مضاعفة القوة.
    والواقع أن جملة هذه التوجهات تعتبر تجديداً في حد ذاتها للنظرية الإستراتيجية الأمنية التي أقرها (إيهود باراك) منذ توليه رئاسة الأركان، والتي تقوم على تخفيض حجم الجيش عددياً وتنظيماً لجعله أقل حجماً وأكثر فاعلية وكفاءة، وذلك بتحقيق الاستغلال الأمثل للطاقات البشرية المتاحة التي تستوعب التطورات التكنولوجية الحديثة.
    وقد ركز المخططون الإستراتيجيون للنظرية الأمنية الإسرائيلية في هذه المرحلة على تطوير الجانب التسليحي في سياسة بناء قوة الجيش الإسرائيلي، والتي ترتكز إلى حد كبير على الطفرات التكنولوجية التي تحققت في مختلف المجالات، وبالرغم من أن التحديث العسكري اشتمل كافة قطاعات الجيش، إلا أن سلاح الجو استحوذ على الحيز الأكبر من الاهتمام حتى يظل هذا السلاح الذراع الرئيسية للردع الإسرائيلي، وعلى اعتبار أن هذا السلاح سيكون مكلفاً بمهام وواجبات أكثر بكثير مما هي عليه في الفترات السابقة لما يتلاءم مع مرحلة ما بعد التسوية، وكذلك للحفاظ على الفجوة النوعية القائمة لصالح إسرائيل في مواجهة الدول العربية في مجال القدرة النارية لهذا السلاح والتكتيكات القتالية، وعلى هذا الأساس فإن البرامج الرئيسية في التسليح الجوي تمثلت في استكمال عمليات إدخال المقاتلات (إف-15) في صفوف الخدمة العاملة، وإدخال المزيد من الطرازات المتقدمة من المقاتلات (إف-16) من الطرازين (س) و (دي)، إضافة إلى الاهتمام بزيادة عدد طائرات الهليوكوبتر القتالية (أباتشي) مع الإبقاء على المقاتلات الموجودة من طراز (كفير)، ثم الطائرات دون طيار بغرض المراقبه والتجسس، ثم تطور الأمر لتصبح طائرات مهاجمة ومراقبة في الوقت نفسه.
    أما في مجال تسليح القوات البرية فتم التركيز على تعزيز المستوى النوعي للأسلحة والمعدات الموجودة في الخدمة، وتم نشر مزيد من الدبابات القتالية من طراز (ميركافا) الإسرائيلية الصنع بعد أن تم رفع مستوى أجهزة الرؤية الليلية وتحسينها، وزيادة القوة النارية من الذخائر المتقدمة، علاوة على تزويد وحدات المدفعية بنظم حديثة لإدارة النيران، كما تم التركيز على الحصول على راجمات الصورايخ متعددة الفوهات الأمريكية الصنع، وذلك في إطار الاستفادة من دروس حرب الخليج الثانية التي تم فيها استخدام هذه الراجمات ضد التحصينات العراقية بصورة فعالة، وتم الاهتمام بتحديث قطع المدفعية ذاتية الحركة طراز (أم-109) التي تمثل العمود الفقري لفيالق المدفعية الإسرائيلية. وفيما يخص سلاح البحرية تم التركيز على إدخال المزيد من زوارق الدورية الصاروخية الجديدة على العمل، وتحديث أنظمة الرؤية والذخائر والإلكترونيات الموجودة فيها مع إدخال غواصتين مصنوعتين في ألمانيا إلى الخدمة العملياتية مع حلول عام 1997.
    وقد أوصى مخططو الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية بتمسك إسرائيل بالاحتفاظ بالخيار النووي حتى نهاية عملية التسوية على الأقل، على أساس أن التخطيط الإستراتيجي يُبنى على أسوأ الاحتمالات والسيناريوهات مما يجعل وقوع هجوم على الجبهة الشرقية احتمالاً قائماً مع عدم استبعاد مصر من حرب عربية إسرائيلية.
    يتضح مما سبق أنّ مخططي إستراتيجية الأمن الإسرائيلي أصبحوا يتبنون تصورات أكثر تفصيلاً خاصة بمختلف جوانب الأمن وضبط التسلح، إلا أن المغالاة الشديدة في هذا الصدد تعود إلى الاعتبارات التفاوضية التي بدأت في هذه الفترة بحيث يسعى واضعو الإستراتيجية إلى تمكين المفاوض الإسرائيلي من انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات الأمنية والعسكرية العربية، وفي هذا الإطار تسعى إسرائيل إلى دفع العرب نحو إعادة هيكلة قواتهم المسلحة وفرض القيود عليها وعلى انتشارها وتسليحها، وتمكين إسرائيل من امتلاك إنذار مبكر عن تحرك القوات العربية.
    أثر انتفاضة الحجارة 1987على الأمن الإسرائيلي
    عندما اندلعت انتفاضة الحجارة عام 1987 وصفها زئيف شيف بأنها أول حرب شعبية شاملة لا تعتمد على قوات مسلحة بل على مواطنين قاموا باستخدام وسائل عنيفة أخرى، حرب استثنائية شاذة في أسلوبها وطريقتها، لا تنطوي على بعد من المواجهة القوية فحسب، بل على دوافع ذات قوة هائلة في مجالات التوترات الإقتصادية والإجتماعية أيضاً (الانتفاضة دار شوكن 1990) – مجلة “شؤون فلسطينية”، العدد 277.
    اندلعت الانتفاضة بعد عشرين عاماً من احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، وأصبح من الصعب على إسرائيل أمام جمهورها وأمام العالم الإدعاء بأن الاحتفاظ بالأرض هو بمثابة دفاع عن النفس، وابتداءً من حرب 1973 بدأ إيمان المستوطنين بالعجل الذهبي (الجيش الإسرائيلي) في الاهتزاز ثم التآكل، ثم جاءت عملية غزو لبنان التي انتهت بانسحاب القوات الإسرائيلية دون أن تحقق ما كانت تهدف إليه، وفي الفترة نفسها استمرت الأعمال العسكرية الفلسطينية، ورغم كل محاولات الاحتلال طمس الهوية الفلسطينية وعمليات التذويب، إلا أننا نجد تنامي الشخصية الفلسطينية وتنامي الروح الوطنية، كل هذه العوامل شكلت الدافع الأكبر لتفجير الانتفاضة.
    وكان من نتائج هذه الانتفاضة تآكل شرعية الجيش الإسرائيلي كما يقول د. عبد الوهاب المسيري في “شؤون فلسطينية”، عدد (227-1992). وقد كتب بنيامين نتنياهو في “عل همشمار”، 22 فبراير 1988، يقول إن الجيش والأمن العام ومنسق الأعمال في الأراضي المحتلة فشلوا في توقع ما سيحدث وقد سمى هذا الفشل بأنه “حرب يوم الغفران” الثانية. ويرى الكاتب أن الفشل الاستخباري هو تعبير عن فشل عسكري أكبر في مواجهة الانتفاضة. ويقول زئيف شيف لصحيفة “نيوزويك”: “جيش الدفاع ذو الذراع الطويلة التي طالما تباهى بأنها تمتد لتصل إلى أي مكان، أصبحت عينه غير بصيرة ويده قصيرة للغاية، يقف حائراً عاجزاً أمام هؤلاء الأطفال، وتلك النسوة، وهؤلاء الشباب الذين أجادوا فن الكر والفر، والذين طوروا أسلحة تُعبّر عن إبداعهم الثوري الحقيقي، وعن فهمهم لطبيعة تحركات العدو وعن إدراكهم العميق لطبيعة الأرض التي يعيشون عليها ويحاربون فيها”.
    لقد حولت الانتفاضة جيش الدفاع الإسرائيلي صاحب العمليات الإجهاضية الشهيرة من الفعل إلى رد الفعل، وفي هذا الصدد قالت مجلة “حداشوت” في 9 فبراير 1988: “إن الفلسطينيين هم الذين يحددون قدر ومستوى التصعيد، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يواجه إسرائيل”.
    أما على مستوى الروح القتالية فقد أفسدت الانتفاضة الروح القتالية لدى قيادة القوات والجنود وذلك بعد تساقط الإجماع القومي على هذه الحرب، كما تساقط الإجماع القومي بخصوص الاستيطان، فقد اشتكى أحد الضباط الإسرائيليين من أنه لا يقوم بأداء ما درب عليه، ولا يقوم بتدريب الجنود ليقوموا بما ينبغي أن يقوموا به، ناهيك عن توقف وتعطيل برامج التدريب وذلك حسب قول رئيس القوات البرية أوري ساجوري في“الجيروساليم بوست” 8 فبراير 1988.
    المرحلة الرابعة: من انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى اليوم
    لا شك أن عدم التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية، يؤثر بشكل كبير على عدم التوصل إلى صياغة نهائية للنظريات الأمنية الإسرائيلية، وهذا يفسر تناقض مواقف العديد من القيادات الأمنية والسياسية، حيث ما زال البعض يرى أن عدم حل أو تصفية القضية الفلسطينية دليل على عدم اكتمال مرحلة حرب الاستقلال الإسرائيلية، وتأكيد على أهمية العودة إلى مرحلة الحسم العسكري للسيادة على العمق الإستراتيجي، ويمثل هذا التيار كل من شارون ونتنياهو، يقول شارون: “حرب الاستقلال لم تنته … ولذلك لا أقول أننا أنجزنا المهمة (حرب الاستقلال)”. “هآرتس، 12/4/2001”.
    ويعتقد نتنياهو كما جاء في كتابه (مكان تحت الشمس) أن هناك إجماعاً وطنياً واسعاً بشأن عدم العودة إلى حدود 1967، وعدم السماح بقيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن.
    والتيار الآخر يرى تصفية القضية من خلال اعتبار السلام بديلاً عن العمق الاستراتيجي مع بقاء عنصر السيادة الإستراتيجية، والقدرة على الحسم العسكري في الأفق، ويمثل هذه التيار شمعون بيرس، وقد جاءت أفكاره هذه في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، ومما قاله في هذا السياق: “إن مفهوم العمق الإستراتيجي لم يعد له معنى، فالصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل قد حولت جبهة الداخل إلى جبهة أمامية …”. وفي موضع آخر من الكتاب يقول: “من المستحسن أن نقرر حدودنا بموجب التطلعات القومية (التاريخ والجغرافيا) لا وفق الإعتبارات الأمنية وحدها، فالسلام المستقر الدائم هو الذي سيعزز الأفق بعد كل شيء”.
    ولقد عبرت الآراء من خلال طروحات الزعامة الإسرائيلية عن إشكالية حادة في إستراتيجية الأمن القومي في إسرائيل، ولقد كان المدخل إلى بروز تلك الإشكالات هو عملية السلام في المنطقة، التي بدأت في مدريد، وما أفرزه سير المفاوضات، وخصوصاً التوقيع على اتفاق أوسلو في أيلول 1993.
    والاعتبار الأبرز هنا لوجهتي النظر التي يقدمها كل من (بيرس ونتنياهو) كما ذكرنا سابقاً من موقعين مختلفين، وكل من منظوره ورؤيته.
    فقد جاء في أفكار بيرس التي طرحها في كتابه المشار إليه عدد من النقاط المعبرة عن التفكير الاستراتيجي لتحالف اليسار في ضوء المتغيرات الدولية نورد منها المقتطفات التالية:
  • المطلوب هو بناء شرق أوسط جديد، وضمن هذا الإطار يظل السلام هو الطريق الفعلي لتحقيق الأمن، ليس كهدف سياسي، ولكن كهدف إستراتيجي، فالأمن المشترك هو وحده القادر على تحقيق الأمان الشخصي.
  • لولا سياسة الليكود الرجعية لكنا أعفينا أنفسنا من ست سنوات من الانتفاضة حيث لاحت فرص سلام نادرة، تَدَخلَ الليكود لإحباطها.
  • علينا أن نغير افتراضاتنا طبقاً للمتغيرات التي فرضها النظام العالمي الجديد.
  • الواقع يؤكد أن العالم هو الذي يتغير بشكل كاسح ، وعملية التغيير يجب أن تُجبرنا على استبدال مفاهيمنا القديمة بمواقف أقرب إلى الحقائق الجديدة.
  • إن مفهوم العمق الاستراتيجي لم يعد له معنى، فالصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل قد حولت جبهة الداخل إلى جبهة أمامية.
  • من المستحسن أن نقرر حدودنا بموجب التطلعات القومية، لا وفق الاعتبارات الأمنية وحدها، فالسلام المستقر الدائم هو الذي سيقرر الأمن بعد كل شيء.
  • تواجه الولايات المتحدة متاعب إقتصادية جمة، الأمر الذي يجعل قابليتها لتقديم العون المالي المباشر تتناقص بصورة واضحة، وعلينا أن لا نطالب دافعي الضرائب في الدول الأخرى بتمويل حماقاتنا بعد الآن، والعمل على تصويب هذه الحماقات بأنفسنا. إننا لا نملك الحق في تمويل الحرب من جيوب الآخرين.
    وتحت تأثير الظروف ذاتها قدم نتنياهو منظوره الذي يمكن رؤيته كتعبير عن وجهة نظر تحالف اليمين في إسرائيل بوجه عام، وقد وردت أفكاره في كتابه (مكان تحت الشمس)، نقتطف منه ما يلخص موقفه في النقاط الأساسية التالية:
  • النظام العالمي القديم انهار، في حين ما زال النظام العالمي الجديد بعيد عن القدرة على الوقوف على قدميه، والضمان الوحيد لبقاء دولة صغيرة، هو القدرة على التحرك بصورة صحيحة بين التيارات المتلاطمة لهذا الواقع.
  • إن الإدعاء بأن الأمن الحقيقي هو السلام، هو قول باطل لا قيمة له، كما أنه قول خطير لأنه يخدع الجمهور بشأن إمكانية تحقيق سلام حقيقي مع العرب من خلال تقديم تنازلات كبيرة، في حين ستبقي هذه التنازلات إسرائيل دون أمن ودون سلام.
  • هناك إجماع وطني واسع بشأن عدم العودة إلى حدود عام 1967، وعدم السماح بقيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن.
  • السلام يرتكز على قوة ردع إسرائيلية دائمة تعتمد على تعاظم مستمر لقواتها العسكرية.
  • لا شك أن إصرارنا على البقاء في الضفة الغربية سيؤدي إلى خلافات مع حكومة الولايات المتحدة، لكنه في الواقع لا يوجد شيء يمكن أن يعرض أمتنا للخطر مثل الانسحاب من عمقنا الاستراتيجي.
    نلاحظ من المقتطفات السابقة أن الخلافات في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي قد برزت على درجة من الوضوح، وهي تتصل جوهرياً بمرتكزات أمن إسرائيل حاضراً ومستقبلاً، وعلى الصعد الثلاثة: الدولية والإقليمية والداخلية. وأعتقد أن في الأفكار السالفة لشخصيتين تتصدران مراكز صنع القرار في المؤسسة الأمنية السياسية القومية الإسرائيلية، ما يجعل التناقض بين الشخصيتين إزاء قضايا الأمن الإستراتيجي القومي، يطابق إلى حد بعيد التناقض الداخلي في البنية السياسية والاجتماعية.
    ونظراً لأهمية وجهتي نظر كل من بيرس ونتنياهو في تحديد مرتكزات نظرية الأمن الاستراتيجي القومي، يرى الكاتب أهمية تحليل وجهتي النظر لاستقراء معالم وركائز النظرية للمرحلة القادمة.

بقلم د.محمد المصري

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button