بقلم رزيقة أدرغال – جريدة الخبر
“راني كاره حياتي”،”هذا شعب هذا؟”، “هاذي ماشي بلاد”…بهذه العبارات يرد عليك الكثير من الجزائريين وأنت تسألهم عن أحوالهم.. كبيرا وصغيرا، رجالا ونساء، مترجمة حالة من الإحباط واليأس الملازمين لحياتهم اليومية، ولم يعد هذا “القاتل المتسلل” مجرد حالة نفسية يعيشها الفرد فقط، بل أصبح الحديث يكبر يوما بعد يوم عن يأس مجتمعي فرضه واقع سياسي واجتماعي واقتصادي متردّ حسب المختصين.
إذا كانت البشرية تعاني اليوم من جائحة بيولوجية فتكت حتى الآن بآلاف البشر، فجائحة الإحباط واليأس هي الأشد خطرا وفتكا في غياب حلول ناجعة لأبسط ما يعانيه الفرد الجزائري الذي مازال يلهث وراء كيس حليب أو منصب شغل وسكن لائق. وتعد العوامل السياسية والاقتصادية دوافع رئيسية في خلق هذه الحالة، وتحديدا ما يتعلق بالفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، وتدني المستوى المعيشي. والغريب في المسألة أن الإحباط لا يقتصر على الفقراء ومحدودي الدخل الذين يكابدون من أجل لقمة العيش، وتأمين مستوى معيشي كريم لأسرهم، بل يتجاوزهم ليطال شرائح ذات دخل مرتفع وغنية في بعض الأحيان.
بن لشهب وليد، خريج كلية علوم الإعلام ولاتصال، عبر عن شعوره بحالة الملل والإحباط، بعد أن فقد الأمل في إيجاد وظيفة تناسب تخصصه، حيث قال “مازلت أبحث عن وظيفة رغم مضي سنوات طويلة على تخرجي لكن دون جدوى، فقد أصابني الإحباط حتى أنني بعد الكثير من محاولات للبحث عن عمل وصلت إلى نتيجة أن جهودي ستذهب عبثا”، لافتا إلى أنه يعاني من ضغوط نفسية كبيرة كنتيجة طبيعية لحالة الروتين اليومي والفراغ القاتل الذي يسيطر على حياته.
الشاب مراد زروقي 39 سنة، أرجع هو الآخر شعوره المستمر بالإحباط إلى ضياع سنوات شبابه سدى دون أن يحوز على منصب عمل مستقر، رغم أنه صاحب شهادات.
يقول مراد “طرقت كل الأبواب دون جدوى، فكنت أعمل بصيغة التعاقد المؤقت لستة أشهر أو سنة ثم أتوقف وهكذا مرت سنوات شبابي دون أن أشعر بها، مما دفع بي إلى الانهيار عصبيا والدخول في دوامة الأطباء النفسانيين ومضادات الإحباط المرادفة للإدمان، فلا فرق بينها وبين المخدرات ويكفي أني أقضي ساعات طويلة من النهار في النوم لا أدري بشيء مما حولي”.
من جانبه، يرى عمي عاشور، في العقد السادس من العمر، أن جيله تربى على القناعة والتفاؤل رغم شدة العوز وضيق الحياة، بل وكانوا يدعون الله أن يديم عليهم ما هم فيه من نعمة وألا يغير حالهم، حيث قال”عشت شبابي خلال فترة كان العوز والفاقة من خصائصها، غير أننا رغم ذلك لم نشعر أبدا وتحت أي ظرف بالإحباط، بل كنا نتمتع بطاقة إيجابية ونحمد الله على معيشتنا على العكس تماما بما يتمتع به شباب جيل اليوم، فكل الإمكانيات في متناولهم إلا أن مشاعر الإحباط أفتكت بهم”.
“جلد الذات والاغتراب السياسي سبب حالات اليأس والإحباط”
يرى الدكتور بكيس نور الدين، دكتور علم الاجتماع السياسي، أن شيوع مظاهر الإحباط في الكثير من تفاصيل الحياة في مجتمعنا، سواء في المنزل والمدرسة والشارع جعلت منه حالة طبيعية، بل أمرا واقعا، تتجلى خطورته، حسب المختصين، في تقبل المجتمع له كما لو أنه قدرا لا يُمكن تغييره أو الفرار منه.
وفي السياق، يقول نور الدين بكيس، أن الإحباط والتذمر في المجتمع يتجلى من خلال عملية جلد الذات التي تمارس من طرف الأفراد، أي انتقاد الذات الفردية والجماعية، وهذا يرتبط بشكل كبير بانتشار مشاعر اليأس لدى المواطن والشعور بالتهديد الدائم وخاصة العجز في ظل الشعور بالتأنيب، وهنا يتم التنفيس عن الشعور بالعجز عن طريق العنف والعدوانية، خاصة العنف اللفظي المستباح.
ويضيف أيضا “الاغتراب السياسي الذي يعيشه مجتمعنا أفرز حالة من الإحباط واليأس، حيث أن الفرد الجزائري يشعر بالإقصاء السياسي الذي جعله خارج تنظيم المجتمع.
وهو ما يتجسد عادة عن طريق انتخابات حرة نزيهة، وبالتالي فهو يعيش على هامش المجتمع، بل يمارس الهروب من الحياة السياسية عن طريق الإدمان على متابعة كرة القدم، وعلى مشاهدة المسلسلات، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
وأخطر شيء في الإحباط واليأس، حسب الباحث الاجتماعي، هو التطبيع مع الشعور باليأس والعجز على المدى الطويل، والحق في التنفيس عن طريق العدوانية وخاصة “شرعنة” عدم تحمل المسؤولية.
صناعة الغضب والعدوانية في الجزائر…إصدار يشخص شبح الإحباط
“صناعة الغضب والعدوانية في الجزائر… اغتيال تقدير الذات في ظل العنف والكراهية ؟” هو عنوان لكتاب من تأليف الباحث الاجتماعي الدكتور بكيس نور الدين وزوجته الدكتورة نوال رزقي، وإصدار دار النشر الجامعي الجديد في أكتوبر 2019.
ويحاول هذا الكتاب، حسب الدكتور بكيس، تقديم قراءة سوسيوـ نفسية لظاهرة منتشرة بقوة وضاربة في عمق تفاعلات المجتمع الجزائري، وهي ظاهرة الغضب والعدوانية، فالكل يشتكي منها والغالبية تمارسها بشكل من أشكالها المتنوعة لتتحول إلى جزء من يومياتنا.
ويتحدث الكتاب في عدة محاور على ضرورة التصالح مع النفس، على اعتبار أنها جزء واسع من ممارسات جلد الذات في الفردية، وعندما يمارس جلد الذات لا يراعي العلاقات مع الآخرين بسبب الأنانية المفرطة، وهناك الكثير من العنف اللفظي مع الآخر.
وفي أحد محاور الكتاب، حذر الدكتور بكيس وزوجته الدكتورة نوال رزقي من اليأس والاغتراب حتى لا يصبحان ثقافة تتوارث، لأنها أولى نتائجها التمرد على القيم الإيجابية الموجودة.
وقدم المؤلفان أيضا، في إطار محاولة تصحيح الحياة ضمن التوازن الاجتماعي والذاتي، حلولا من خلال الحراك الشعبي كنموذج، مع ضرورة إعادة تصحيح مفهوم السعادة، الذي فيه الكثير من المثالية ولا يوجد تصور واضح له حسب المؤلفين، ما يعني أن المثالية لم تترك الفرد الجزائري يتمتع بحياته.
ويقول الدكتور بكيس في كتابه “تجد الفرد الجزائري يلهث وراء المال وليس له تصور حول المبلغ الذي يجلب له السعادة، كما أن المشكل الكبير هو عدم وجود تقدير للنجاح، لأن بذلك تتشكل السعادة الحقيقة”.
“الإحباط أصبح متوارثا جيلا عن جيل”
أرجعت الأخصائية النفسانية ومديرة مركز البحوث والتطبيقات النفسانية، الدكتورة سميرة فكراش، في تصريح لـ”الخبر”، أسباب الإحباط واليأس المخيمين على حياة الجزائريين إلى عدة تراكمات أسفرتها الأزمات التي مرت على البلاد منذ عقود من الزمن.
وذكرت المختصة النفسانية أن الشعور بالإحباط مس جميع شرائح المجتمع بما فيهم الأطفال، وكأنه متوارث جيلا عن جيل، ونلمسه حتى في الفضاء الأزرق. وأوضحت محدثتنا أن”الإحباط لدى الفرد الجزائري مرده الفراغ من ناحية نوعية الحياة، فمثلا من يمارسون هوايتهم المفضلة يعدون على الأصابع، ولا يوجد برنامج لنهاية الأسبوع كما في البلدان المتقدمة، ناهيك عن طغيان الأنانية على العلاقات الاجتماعية، وهذا ما أثر على نوعية الحياة والعلاقات الاجتماعية والتصورات المستقبلية للحياة”.
وتابعت فكراش “عندما أصبح كيس حليب والحصول على سكن لائق بريسيتيجا، فهذا دليل على أن الحياة منعدمة، والجزائري اليوم يقدم الشر على الخير، وكل التصورات الفكرية لمجتمعنا تتكلم على العين والحسد والكتمان، ما جعل الإحباط يطغى على العلاقات الإنسانية والتصورات الحياتية بشكل عام”.
وأكدت المختصة النفسانية على أن كل فرد يتحمل مسؤولية الإحباط الذي نعيشه، وكل منا عليه وضع استراتيجيه على المستوى التربوي الصحي السياسي، وخطة واضحة ذات مصداقية مع مراعاة الاعتبارات الأساسية للفرد”.
“لا مكان لليأس في قاموس الإسلام”
يقول الشيخ عبد الحميد دنفير، إمام مسجد عمر بن عبد العزيز بمدينة سطيف، أن الرضا بقضاء الله وقدره على الوجه الصحيح، يأتي بالكثير من الثمرات العظيمة والأخلاق الحميدة التي يعود أثرها على الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.
كما أن منها ثمرات أخلاقية تعود عليه بطيب النفس وحسن الخلق وحسن المعشر وتزداد بها الأعمال نورا، بالإضافة إلى الثمرات النفسية الرائعة التي تُكسب صاحبها السكينة والطمأنينة والراحة، وتضفي عليه الهدوء والأمان.
قَال الله تَعالى في كتابهِ الكَريم، في سُورة الحَديد، آية رقم (22) “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا”. وبما أنَّ مَقاليد أمُور الخَلق، وَتصاريف أقدَارهم بَيد العَادل عز وجَلّ ، فهوَ البَاسط وَالقَابض للخَير، يَرزق مَن يشَاء، ويصرفُ عمّن يشَاء، فإن أعطَاك أغنَاك، وإن منعَ عَنك أرضَاك. فحقيقةُ الرضَا بقضَاء الله وَقدره تَكمنُ في المَنازل العَصيبة، فإن رَضي المَرء بقضَاء الله بمَا فيهِ مِن عُسرٍ وَيسر، خَففّ الله مَصابه وَهمّه، وأذهبَ حَسرات نَفسه.
قالَ الله تَعالى في كتابهِ العَزيز الكَريم، في سُورة الحَج، آيَة رقَم (34) “وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ”، أي المُطمئنين، والرَاضين بقضَاء الله، والمُستسلمينَ لأمرِه، وأمّا مَن توغّر صَدره واستشَاط غَضباً بقضَاء الله ألبسَه الله اليَأس والحُزنَ، فالانتقَائية بالإيمَان بالقَضاء والقَدر ليسَت مِن صِفات المُؤمن، وهيَ أن ترضَى بقضَاء الله في الرَخاء، وأن تسخَط في البَلاء.
قالَ الله تعالى في كتابهِ الكَريم، في سُورة الحَج، آية رقم (11) “فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ”، فالرضَا بَاب الدينِ الإسلاميّ، ومشكَاة الاطمئنَان والاستقرَا.
وإن من الرضى بقضاء الله تعالى تلك الكلمة التي يقولها المؤمن فيها شكر وحمد لله تعالى، أما الضجر والسخط كما هو حال بعضنا للأسف كقولهم (كرهت حياتي موتي خير من حياتي …) فلا مكان لها في نفس المؤمن، والسخَط عَلى القَضاء من أسبَاب شَقاوته.
وقَال رسُول الله صَلى الله عَليهِ وَسلم في مَعنى الحَديث (مِن سَعادة ابن آدَم، استخَارة الله عزّ وَجلّ، ورضَاه بمَا قضَى الله، ومن شَقاوة ابن آدَم سُخطه بما قضَى الله)، فمن أُعطيَ الرضَا والتوكل فقد كُفي. وقد قيل قديماً العَبْدُ ذُو ضَجَرٍ والرَّبُّ ذُو قَدَرٍ… والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والرِّزْقُ مَقْسُومُ.