عسير على أي باحث منصف ان يتجاوز دور بعض الأفراد في التاريخ، فقد شكل بعضهم نقاط تحول كبرى سواء كمفكرين وفلاسفة او علماء او قادة عسكريين او حكاما، وهو الأمر الذي نجده يترك بصماته على وجدان الشعوب ومخيلتها. لكن الامر الذي يجب التوقف عنده ان ” هالة الزعامة” في الثقافة العربية تجاوزت كل الحدود بتمجيد ينطوي على مبالغات لا تجدها في كثير من المجتمعات، وهو أمر عطل الدافعية الجماعية انتظارا لمعجزات سينجزها الفرد او اتكل المجتمع عليه لينجزها..ولكن ما سبب ذلك…:
1- امتداد ظلال التقديس من الشخصية الدينية الى الزعيم، فقد بقيت صورة الخليفة كأنها امتداد لصورة من صور النبوة(لاحظ منع تصوير الخليفة او تمثيله او رسمه ) وبقيت هذه الظلال تزحف مع شجرة الحكم ، واصبحت المنطقة المشتركة بين المقدس والسلطة متشابكة الحدود حتى هذه اللحظة، ويبدو ان الحضارات الزراعية ومجتمعات الأنهر ساهمت في تعزيز ذلك.
2- سيكولوجية الكبت والقهر في مجتمعاتنا تجعل الفرد ” يذوب” في الشخصية القيادية التي تعده بالتطور والانتصارات واشباع كل ما هو محروم منه بغض النظر عن صدق هذه الوعود، وتدرك تلك الزعامة هذه المسألة ويجذبها سحرها، وهنا يزداد الزعيم في وعوده فتزداد الجماهير المكبوتة التصاقا به، وتبدأ في اضفاء الهالة على ذلك الزعيم من خلال المبالغات والغناء والتبجيل الكاذب، فيزداد الحاكم ” ورما ” في أناه، فيغرق من جديد في وعوده، وهكذا يتغذى الجمهور على أوهام الحاكم ، ويتغذى الحاكم على التصفيق والتهليل فيزداد ورما ” ، فيكتمل نسيج “الكبش والقطيع”، ولاحظ كيف ” تكايد شعوبنا بعضها بعضا” من خلال قصائد وأغاني التمجيد لزعيم وضدها لمن يكرهونه…
3- مهابة الغياب المصنوع أو زهو الحضور : فعزلة الحكام عن المجتمع إلا في مناسبات مصنوعة تجد الجماهير متلهفة ” لرؤية” انوار الزعيم او ” طلعته البهية” ويتبدى الزعيم في مخيلة الشعب كصورة “متخيلة” ، وعند الحضور تراه في إطار من المهابة في اللباس والحراس والنياشين والموسيقى والسجاد الاحمر…وكل ما يضفي مسحة من ” الجلال”، لكن الفرد العربي لا يتخيل الحاكم يرتدي بيجاما للنوم او حافيا او يتدلى مخاطه من الزكام او يخرج الريح من استه او أي من الممارسات البشرية، فتتوارى الصورة البشرية وتتطاول الصورة فوق البشرية والمهيبة في الذهن المجتمعي، فالحاكم العربي حريص على ان يكون حضوره تكريس للصورة ” فوق البشرية” …وكم من انسان تسمعه يقول لك صافحت الزعيم فلان ، وكم يحتفظ بصورة مع هذا الحاكم او ذاك لا من باب الأرشيف بل من باب “أنوثة” كامنة تتوارى خلفها دونية كامنة في مواجهة ” فوقية ” اتقن الزعماء بناءها، وهو ما يختصره المثل الشعبي ” حسبت الباشا باشا..طلع الباشا زلمة”…انها مفاجأة العقل العربي في ان الباشا ” زلمة”.
لقد راينا صورا لترامب وهو ملقى على الارض من قبل احد المصارعين، ورأينا ساركوزي والممرضة ترفض مصافحته، وبوتين نصف عار يمارس الرياضة او رأيناه يغني….فقد انهارت الصورة المهيبة وبقيت الصورة البشرية للحاكم ” الموظف” وليس ظل الله في ارضه….
ان انتشار الفاظ التبجيل والتعظيم وأدب النفاق وشعر الكسبة والمخنثين هي تكريس لمجتمع يطحن الفرد ويزعزع من اسس صحته العقلية والنفسية…أنها الثقافة التي ولدت شاعرا يقول لخليفته :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار … فاحكم فانت الواحد القهار