1 ـ مدخل
عرف العالم بعد الحربين العالميتين الكثير من التطورات وعلى كافة الأصعدة. فقد تضاعف عدد سكان العالم،وزاد النمو الاقتصادي في الكثير من الأقاليم و القارات. وترافق هذا النمو و التطور مع تقدم على المستوى التقني و التكنولوجي،حتى أن سار على سطح القمر في عام 1969.أيضا هذا بدوره قاد إلى تغيرات سياسية واجتماعية لحقت في جميع الميادين والقطاعات،مما أدى لزعزعة العديد من البنى الاجتماعية والثقافية السائدة والقديمة.
نحن نعرف أن الحرب في القرن التاسع عشر كانت حروبا وطنية،وأصبحت في القرن العشرين حروبا أيديولوجية. لقد كانت حربا صناعية في التاسع عشر وأصبحت شاملة في القرن العشرين،أي وظفت كل مصادر الدولة وثرواتها وطاقتها من أجل خدمة الحرب.والمثال الأكبر على هذا التوظيف الشامل هو أن البشرية فقدت في الحرب العالمية الثانية ملايين الضحايا. والنتيجة هي إعادة بناء بعض أولويات إستراتيجيات الإبادة أو التدمير.ففي حرب شاملة لم يعد الهدف هو الحصول على مكاسب جديدة من الأرض أو توازن الرعب والقوة ،بل التدمير النهائي للخصم.
في الحربين العالميتين،تطور الأسلحة من الناحية التقنية كان أسرع من المتوقع. فقد أصبحت الحرب تستخدم الآلة بشكل كبير،وهذا ما سمح بتوسيع مساحات المعارك،لا بل مهاجمة الخصم في أرضه نفسها،ثم العمل على اجتياحها. وهنا كانت نتيجة جديدة وقاطعة :تمدد وتوسع مسرح المعارك،حتى وصلنا إلى مفهوم جديد سميناه بالجيوإستراتيجية، أي إستراتيجية المساحات أو الفضاءات الكبيرة والتي تنظم العمليات التي تجري في وقت متزامن على مسارح منفصلة. أما الوصول لتصنيع السلاح النووي فقد احدث انقلابا كبيرا في عمليات التسليح،وهذا ما أحدث بدوره تشظٍّ أو تجزئة للإستراتيجية.
لقد ذكرنا في السابق أن الإستراتيجية عرفت في تعريفها القديم “بفن الجنرال”. وهذا المفهوم يعود إلى العهد اليوناني القديم،وبقي كذلك حتى نهاية العصر الحديث،ولم يحدث تغيرات كبيرة على المفهوم إلا في عهد حديث ويعود هذا لتأثيرات كبيرة ناتجة عن التطور التقني،الفكري والاجتماعي في القرن العشرين.لقد وضع مؤرخ العلوم “توماس كوهان” بنية للثورات العلمية تسمح بفهم المتغيرات التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية والأسئلة الكثيرة التي دارت حولها.
يقول “توماس كوهان” إن تطور العلم تمركز حول أربعة مراحل:[1]
1 ـ في البداية وجدت نظرية أو مجموعة من النظريات كان عليها اتفاق كبير،ويمكن أن نسمي هذه النظريات “براديغم”[2]. فالبراديغم يعطي أو يأخذ بالحسبان حالة العلم في لحظة معينة.فمثلا يمكننا التحدث عن براديغم نيوتن في الفيزياء اعتبارا من القرن السابع عشر،وبقي مقبولا حتى الثورة في حقل “النسبية”.
2ـ تأتي لحظة معينة يصاب البراديغم فيها بأزمة.فالعمل المستمر للباحثين يعطي ويطرح أسئلة جديدة،وهذا البراديغم لا يستطيع أن يعطي دائما أجوبة كاملة على الأسئلة المطروحة.إذن تظهر حدود لا يكون هناك قدرة على تجاوزها،وبالتالي في هذه الحالة يصبح المناخ مستعدا بشكل أكبر لظهور براديغم جديد يرد بشكل أفضل على الأسئلة الجديدة التي يطرحها تقدم العلم والمعرفة.
3ـ هذا البراديغم الجديد سيخضع للمواجهة مع المعطيات العلمية الموجودة لاسيما النقد الموجه من قبل البراديغمات السائدة.هذه المرحلة الثالثة تتصف بوجود حوار قد يتحول إلى صراع بين وضعية في طريقها للانحطاط و شرعية صاعدة.
4ـ البراديغم الجديد يقترب بشكل أكبر من الحقيقة ومن ظواهر وأسئلة مطروحة، أكثر من البراديغم الذي قبله. فهذا الأخير تم تركه، أما الجديد فتتم مأسسته. هنا تغلق دائرة الثورة العلمية، ولكن هذه الدائرة يمكن أن تعود من جديد.
إن تقسيم “توماس كوهان” له أهميته الكبيرة،فقد استطاع تحقيق المصالحة بين مقاربتين للمعرفة العلمية كانتا في حالة من الصراع حتى انجاز كتابه : النموذج القائم على أساس دائري و البراديغم. ويمكن عمليا تطبيق هذا النموذج على الفكر الإستراتيجي المعاصر.أيضا يمكننا الاستناد على الثورة العلمية التي غيرت العالم،وذلك بإدخال في مجال الفكر الإستراتيجي،لاسيما الثورة ما بين سنوات 1945 و1970.
ـ هل من تغير في مقاربة الإستراتيجية ؟
يعتبر الكثير من الكتاب أن المسائل العسكرية هي وحيدة،بمعنى أنها تختلف بشكل كبير عن الفعاليات المدنية.و الإستراتيجية امتلكت قضايا ومجالات عسكرية منها التاريخ العسكري والجغرافية العسكرية. وفي الواقع،كان للإستراتيجية خصوصية تختلف عن غيرها،فالعسكريون أنفسهم الذين كتبوا في المجال الإستراتيجي امتلكوا بدورهم شبكة من المعلومات والقواعد التعليمية ودور النشر التابعة لهم. هذه الخصوصية وصلت إلى مجموعة من المفاهيم الإستراتيجية و التي تنتمي وفق الكثير من المراقبين إلى نفس الفرضية، أي إلى الفصل الجذري بين مجالي السلام والحرب،السيطرة الكاملة على العسكريين في ميدان العمليات،عدم تدخل العسكريين في الحياة المدنية. وفي فرنسا مثلا، كان العسكريون ممنوعين من التصويت حتى عام 1945.
هذه المقاربة التقليدية للإستراتيجية انتقدت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية. حيث عرف مفهوم الإستراتيجية تطورا وصل لحد كبير نقله خارج المناخ والبيئة العسكرية.ولم يعد هناك مقاربة خاصة تعتمد فقط على الجانب العسكري،لاسيما بعد استند مفهومها على مناهج،مدارس،وتحليلات قادمة من علوم وأدوات مستخدمة في المجال المدني،وبشكل أساسي الاقتصاد و العلوم السياسية.ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية،لاسيما مع بداية عام 1949، وضع Bernard Brodie روابط بين الإستراتيجية و الاقتصاد واقترح مقاربة الأمن من خلال مصطلحات ومفردات تتعلق بالثروات النادرة[3].
ـ الإستراتيجية و المنهج الجديد.
يعرف معظم المراقبين و المؤرخين للإستراتيجية التقليدية بأنها لم تتبع أو تعتمد على العديد من المناهج والطرائق المتنوعة. فدراسات الإستراتيجية،إلا في بعض الاستثناءات، لم تعتمد على أصول معرفية أو علوم منهجية. فالمفاهيم في الماضي كانت تعتمد على رؤية شخصية،حيث أن الإستراتيجية كعلم كانت في خدمة الإستراتيجية كفن،بمعنى آخر ضاعت قدرات الباحثين والمنظرين أمام ما يقوم به رجل الميدان أو العمليات العسكرية،فالهدف لم يكن سوى تحقيق النصر.
هذه لعقلية تزعزعت بعد الحرب العالمية الثانية.حيث بدأت تظهر تيارات ومذاهب جديدة عرفت انتشارا واسعا وتبناها عدد كبير من الباحثين. وكانت الإستراتيجية في نفس الوقت مدعوة لإدخال الروح النقدية إلى مجالها كما كانت مطالبة بالتواضع وعدم الاستمرار في حصر نفسها بين أيدي قلة قليلة.لقد بدأت الاعتماد على مناهج تحليلية مختلفة من قبل منظريها،ويمكن القول أنها بدأت دخول الحداثة.
فالمنهج التاريخي لم يعد مستخدما بعدما توقف استخدام السلاح النووي بعد الحرب الثانية،والمنهج الواقعي لم يعد كافيا بعدما تبين أن استعمال هذا السلاح لا يمكن فصله عن غايات الإستراتيجية. أما المنهج الجغرافي لم يعد سوى أداة لها منفعة هامشية بعد التقدم التقني والتكنولوجي.المنهج الوحيد المستخدم هو”السيناريوهات”. بمعنى آخر وكما يقول “هيرمان كاهان”، التفكير بغير المفكر فيه،أي محاولة تخيل عمل أو وظيفة عقلانية لأداة يمكن أن تؤدي لردة فعل غير عقلانية.
إذا السيناريو لا يقترح علينا بأن نأخذ الحقيقة أو الواقع في الحسبان، ولكن أن نتخيل حقيقة أخرى لم توجد بعد.هنا نصل إلا ما يمكن أن نسميه “الإستراتيجية الافتراضية”. أيضا أصبحت هناك أداة أخرى تستخدمها الإستراتيجية هي “الإستراتيجية المتخيلة”،وقد نتجت عن ـ مبادرة الدفاع الإستراتيجي ـ التي وضعها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان،وهي في الوقع نظام لم يوجد أو يفكر فيه من قبل أو لم يوجد بعد.
ـ هل تغيرت مواضيع الإستراتيجية ؟
اهتمت الإستراتيجية التقليدية بشكل كبير بالعمليات العسكرية ( دراسة الحملات،خطط المعارك،التفكير حول الصراع،فن القيادة على الأرض)،تاركة كل ما تبقى للسياسة. لكن المفهوم الكلاسيكي الذي يميز بين مجالي الحرب و السلام ترك المكان لنظام جديد في داخله يتواجد المفهومان بشكل مختلط أو مندمج،ويكملان الإستراتيجية التي من الآن فصاعدا لا يمكنها أن تحد نفسها بمجال واحد فقط يتعلق بالحرب،ولا يمكن أن تنغلق على نفسها في الحقل العسكري. فالإستراتيجية العملياتية تمت إزاحتها بقوة من قبل إستراتيجية شاملة تأخذ في الحسبان جميع التطورات والأبعاد الجديدة[4].
2 ـ الإستراتيجية المعاصرة.
إن التغيرات التي أصابت الإستراتيجية والتي تحدثنا عنها سابقا، تم تحليلها وتقييمها من قبل جيش من المنظرين والمحللين. فرغم الحضور للكتاب الاستراتيجيين القادمين من المجال العسكري،إلا أن الحدث الجديد كان في الصعود القوي للإستراتيجيين المدنيين مثل Herman Kahn وهو قادم من مجال العلوم،عالما الاجتماع Raymond Aron و Henry Kissinger،المؤرخان Bernard Brodie و Michael Howard، الاقتصادي Thomas schelling والمنظِّر السياسي Edward Luttwak.
في الولايات المتحدة،كان التفكير الإستراتيجي يعاني من ضعف قبل الحرب العالمية الثانية.مع بداية هذه الحرب بدأ الحراك الإستراتيجي الأمريكي عندما بدأ العديد من المدنيين بالارتباط بهيئة الأركان العسكرية الأمريكية،وقد تطورت هذه الظاهرة بشكل كبير مع نهاية الأربعينات وبعد تأسيس Rand Corporation من قبل القوى الجوية الأمريكية،وقد كان هدفها تحليل التغيرات الجديدة التي أدخل على الجيوش الحديثة. وعمليا يمكن القول أن جميع الأسماء الكبيرة في الفكر الإستراتيجي الأمريكي،باستثناء هنري كيسنجر، مرت عبر Rand Corporation. العمر الذهبي للمحللين الإستراتيجيين الأمريكيين بدأ مع سنوات الستينات ومع وصول ” روبرت مكنمارا” إلى منصب وزير الدفاع،والذي كان مؤمنا بدور تحديث التخطيط العسكري من خلال تطبيق طرق في الإدارة الصناعية. قام “مكنمارا” بدعوة المحللين المتخصصين بشؤون الدفاع من أجل شغل المناصب في إدارة وزارة الدفاع الأمريكية.
تدعم وتطور الفكر الإستراتيجي الأمريكي من خلال المبادلات التي حصلت بين الجامعات و المؤسسات البحثية الكبرى العامة مثل : ( Institute of Defense Analysis، Centre of Naval Analysis، Congressional Research Service)، أو المؤسسات البحثية الخاصة مثل : ( Rand Corporation، Brookings Institute، American Entreprise Institute).أما الطرف الآخر في المبادلة كانت الإدارة الأمريكية،هؤلاء بمجموعهم شكلوا “مجتمعا” إستراتيجيا حقيقيا لا يوجد له مثيل في العالم.
في بريطانيا،استطاعت هذه الدولة أن تقدم العديد من المنظرين الإستراتيجيين الكبار،وقد كان في طليعتهم الفيزيائي P.M.S Blackett والذي كان من أوائل المتحدثين عن دور السلاح النووي في التخطيط الإستراتيجي[5]، ثم Basil Liddell Hart والذي وضّح العديد من المفاهيم في سنوات الخمسينات،لاسيما من خلال التمييز بين مصطلحات كثيرة تتعلق بالشؤون الدفاعية[6]. في الواقع،وفيما يتعلق بالفكر الإستراتيجي البريطاني،هناك من يعتقد بأن بريطانيا وبسبب عمق علاقاتها وارتباطها بالولايات المتحدة لم تستطع أن تضع إستراتيجيات مستقلة خاصة بها،وقد انعكس هذا بدوره على الفكر الإستراتيجي البريطاني.
على صعيد الدولة الألمانية،نستطيع أن نرى وبوضوح اختفاء هذه الدولة من المسرح الإستراتيجي العالمي بعد الفشل الكبير وفقدان الشرعية للمؤسسات العسكرية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.أم أهم مشاركاتها في هذا المضمار فكانت عبر بعض الكتاب المدنيين مثل Wolf Schneider ، Erik Grawert-May، Panaiotis Kondylis و Gunter Maschke.
في فرنسا،لم يكتب النجاح للأبحاث الإستراتيجية المدنية في أن تتحول إلى مؤسسات دائمة،ولا في أن يكون لها تأثير فعلي على أرض الواقع.فالمؤسسات البحثية الفرنسية تأثيرها هامشي بسبب ضعف الإمكانيات والوسائل،ولكن أيضا لأسباب أكثر قوة وهي تكتم العسكريين فيما يتعلق بالتخطيط العسكري وهيمنتهم على المعلومات والمعطيات التي لا يستطيع أحد سواهم الوصول أليها أو اختراقها. والمركز الوحيد الذي ساهم بتوجيه الإستراتيجية الفرنسية هو مركز “التقييمات و التوجهات المستقبلية”،ويعود في ملكيته إلى وزارة الدفاع. أما الجامعات الفرنسية فلم تعرف “علم الإستراتيجية”كتخصص،فهي تلحقه بالعلوم السياسية والتي لا تعطيه أهمية كبيرة أو عميقة.
3ـ النظام الإستراتيجي.
أ ـ مفهوم ونظرية النظام الإستراتيجي.
وضع عالم الأحياء النمساوي Ludwig von Bertalanffy ( 1901ـ1972)، نظريته “النظرية العامة للأنظمة” وذلك في كتابه ” General System Theory ” [7]، وقد كتب عنها العديد من الأبحاث و المؤلفات[8] . عرفت هذه النظرية في البداية داخل أوساط العلوم البيولوجية ثم انتقلت إلى العلوم الأخرى، لاسيما العلوم الاجتماعية،وبشكل خاص في العلوم السياسية من خلال David Eston [9]. كما أن هذه النظرية عرفت طريقا لها إلى العلاقات الدولية بواسطة Morton Kaplan و Karl Deutsch في الولايات المتحدة، و Marcel Merle في فرنسا [10]. لكن هذه النظرية لم تعرف امتدادا لها نحو النظرية الإستراتيجية ،باستثناء محاولة جادة قام بها ضابط بحري أرجنتيني هو Pablo Oscar Mazzoni،وفي وقت متأخر على يد الجنرال Warden في كتابه “العدو كنظام”. مع ذلك، النظرية العامة للأنظمة استطاعت الدخول إلى الإستراتيجية لتبين كم أصبح هذا العلم معقدا في العصر الحديث.
قدم Ludwig von Bertalanffy في عام 1937 مفهوم “النظام المفتوح”،ثم قام بتطويره شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى “النظرية العامة للأنظمة”. يقول العالم النمساوي في كتابه :”هدف هذه النظرية هو الوصول إلى مبادئ موضحة للكون أو العالم الذي نعتبره كنظام،وبمساعدة هذه المبادئ يمكننا تصميم أو “نمذجة”(من نموذج) الحقيقة”، ويتابع قائلا :” يوجد أنظمة في كل مكان”. ولكن ما هو النظام أو ما مفهومه بشكل عام ؟إن الشهرة التي يتمتع بها هذا المصطلح يجب ألا تضعنا في موقف مفهومي غامض،حيث الكثير من علماء السياسة تحدثوا عن الأنظمة السياسية Système،في الوقت الذي تحدثوا فيه مسبقا عن النظام السياسي بمعنى régime ،وذلك من غير تغيرات جوهرية بالمعنى القانوني أو الوصفي. النظام système هو مفهوم عصري نستخدمه مع محتوى أشمل و أعم. ويعرف الإبستمولوجي Paul Weiss النظام :” هو كل ما يملك التجانس بشكل كافٍ وذلك من أجل أن يستحق الاسم”. مع ذلك نقول بأن نظرية الأنظمة هي أكثر تعقيدا بكثير.
النظام عند Ludwig von Bertalanffy هو :”كلٌ منظمٌ والذي فيه جميع العناصر في علاقة قوية ويمتلك تنظيما داخليا. إنه ينبثق في بيئة فيها الإجبار والقسر ويستقبل المطالبات،ثم يتصرف منتجا القرارات. أيضا هناك تيارا من التبادلات المستمرة تقام بين النظام وبيئته،مع آلية من مفعول رجعي يضمن استقراره”. ( من كتابه المشار أليه سابقا). هناك العديد من الانتقادات و الأفكار الإيديولوجية وجهت الاتهامات إلى منظري التيار الذي ينظر “للنظام” Système،منها أنه نقل عملية الصراع وحاول ترقية أو إعلاء نموذج اجتماعي نظري واحد ومتفرد من اجل شرعنة الفكر المحافظ.
إن “النظرية العامة للأنظمة” يمكنها أن تسمح بإقامة نماذج إستراتيجية تأخذ بالحسبان تداخل الإستراتيجيات في العصر الحديث،وتوضح كيف يستطيع الفاعلون في هذا الميدان الحفاظ على هامش للمناورة يمكنهم استخدامه. فالصراع،هو أكثر مما كان في الماضي،شكلا من الاتصال و التنظيم.فهذا المفهوم لا يمكن أن يصل إلى تحديد أو حتمية “نظامية” (من نظام) والتي ستصل إلى إنكار كل الخطوات الإستراتيجية، فهذه الأخيرة “الخطوات الإستراتيجية” تبقى وبشكل واسع مؤسسة على مبادرة الفاعل،سلوكه وتصرفه. عمليا،وبشكل أولي،يمكننا القول أن الخطوة القادمة من نظرية النظام،تتكامل مع الخطوة الإستراتيجية.
ب ـ نظام إستراتيجي ونظام تقني.
هناك أهمية وفائدة جوهرية للتحليل النظامي أو “النسقي” وهي الإصرار على الشمولية وعلى العلاقات الدائمة بين العناصر التي تؤلف النظام. هذه المقاربة هي بشكل خاص تم تبنيها من أجل البنى المعقدة التي لا تختزل في فئة واحدة من العناصر أو الظواهر. و الإستراتيجية عرفت بشكل دقيق،في الحياة المعاصرة،تطورا نحو تعقيدات متنامية تجعلها تختلف أكثر فأكثر عن جميع النماذج الإستراتيجية التي وجدت في الماضي. ويمكننا التعرف على أهمية هذا التطور من خلال إجراء مقاربة مع مفهوم مركزي لتحليل المجتمعات المعاصرة وهو ” التقني”. في عام 1977 قام Jacques Ellul بتطبيق التحليل النظامي او النسقي على التحليل التقني،ورأى أن الصفات التي نعطيها للنظام التقني هي متحولة أو متنقلة من غير خضوعها لتغييرات،ويمكن انتقالها إلى النظام الإستراتيجي.
ووفق Jacques Ellul هناك تماثل حقيقي وواضح يبدأ مع تعريف قاعدة المفهوم. فالتقني بالنسبة له “هو الانشغال المسبق بالبحث في جميع الأشياء عن المنهج الأكثر فعَّالية”. يميز Jacques Ellulثماني صفات للظاهرة التقنية :
1ـ الاستقلالية : يعني أن التقني لا يتبع إلا نفسه،يخط طريقه لوحده،إنه عامل أساسي وجوهري ولا يمكن أن يكون في المرتبة الثانية،ويجب أن يعتبر جهازا قائما بحد ذاته،قادر على حكم نفسه،إنه هدف بحد ذاته[11]. هنا يمكننا أن نلاحظ تحليلا يتعلق بالإستراتيجية إنه البحث عن عقلانية تعتمد،في أقل تقدير، الغايات السياسية. فالإستراتيجية تمحور قواعدها الخاصة وتبحث للعمل داخل نظام مغلق.وهنا نرى انحرافا معينا، رفضه Clausewitz بقوة والذي يحمل الوسائل إلى غايات ما،وبالتالي الحرب بهدف سياسي،ولكن في العموم هذا اتجاه يمكن أن نجده في جميع العصور وضمن مختلف الفعاليات الإنسانية،وخاصة عندما يكون هناك خوف قادم من الخارج[12].
2ـ الوحدة: حيث التقنيات مرتبطة بعضها ببعض بشكل لا يمكن يوجد احدها من غير الآخر أو بواسطته،وهي تابعة لبعضها بعض. وتجزأ الإستراتيجية المعاصرة سيذهب في نفس السياق و المعنى.حيث تم الانتقال من إستراتيجية الردع إلى إستراتيجية الفعل،من الإستراتيجية النووية إلى الحرب الثورية و ثم التدميرية. كل هذه العناصر و المركبات مرتبطة ببعضها. ومن الأفكار القوية للإستراتيجية النووية بعد التردد،هي أن الذرة لا يمكنها أن تكون إلا في خدمة حماية المصالح الحيوية.الإستراتيجية المعاصرة يتم فهمها وإدراكها “ككل” مع تفرعات أخرى،و “كنظام” مؤلف من تعدد آخر يأتي تحت النظام وهو متشابك متداخل.
3ـ الشمولية والعمومية : النظام التقني يمتد إلى جميع المجالات،حيث يوجد في البداية شمولية تتعلق بالبيئة ومناخ العمل والفعاليات الإنسانية.ثم يوجد شمولية جغرافية ،فالنظام التقني يشمل جميع البلدان[13]. هاتان الصفتان توجدان في الإستراتيجية المعاصرة.إن شمولية أو عمومية المجالات هي حقيقة واقعية لأن الإستراتيجية كما رأينا سابقا انتقلت من فضائها العسكري أو الحربي لكي يتم تطبيقها في مختلف الحقول والميادين،إذا لا يمكن وضع حد لها في المجال الحربي،بل يتم وضعها بشكل كامل وشامل لجميع الشؤون ومن بينها العسكرية،كما الاقتصادية والثقافية..الخ.
4ـ الجمع أو “التجميع” : يمكننا أن ندرس ظاهرة تقنية والتي بشكل عام لا يوجد دراسة أخرى خاصة درس هذا الجانب فيها أو ذاك. فالجمع هو الوجه الآخر للتخصيص[14].
5ـ النمو الذاتي : الدارس للنظام التقني يراه يتطور بشكل ذاتي أو من خلال قوة داخلية ومن غير تدخل كبير أو حاسم من قبل الإنسان أراد ذلك أم لم يرد[15]. ففي الإستراتيجية هذه الصفة تتجسد في الثنائي او المركب العسكري/الصناعي. حيث أن الباحثين،المصنعين للأسلحة ورؤساء الأركان محاصرين بالخوف من يتم تجاوزهم أو تخطيهم ،وذلك بسبب السباق في التطوير الذي يؤدي في النهاية إلى تطور ذاتي داخلي في قلب الإستراتيجية.
6ـ الآلية أو التلقائية : ففي كل حالة أو وضع جديد،وفي كل ميدان أو حقل جديد،التقنيون يتوافقون في النتائج وفي شكل مستقل عن القرار الإنساني. فالآلية لا تتخلى أو تتنازل في بداية الاختيار،بل تعمل على الاختيار من بين كل الاختيارات التي وضعت،بمعنى تختار ما هو متوافق مع الإستراتيجية وما هو غير متوافق[16]. في الواقعة هذه التلقائية أو الآلية تصل وتبلغ النموذج العلمي.
7ـ التقدم السببي و غياب الغاية: إن التقني لا يتطور ضمن مفهوم الوصول إلى غايات يريد متابعتها،ولكن ضمن إمكانيات للتطور موجودة بشكل مسبق[17].ففي العصر النووي،الترسانة النووية يمكن فهمها ضمن رؤية تقنية مفتوحة على البحث، أكثر من رؤيتها موجدة لغايات سياسية أو تتعلق بالخصم أو المنافس. والمشروع الذي وضعه الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان حول “مبادرة الدفاع الإستراتيجي” كان له غايات سياسية،ولكنه لم يوجد على أرض الواقع إلا بعد مشروع عملاق عرف ميلاده في المخابر،وبعد أبحاث ليس لها أهداف سياسية محددة أو نوعية.
8ـ السرعة : لقد عرف النظام الإستراتيجي سرعة كبيرة لم يشهدها من قبل منذ عام 1945،ليس فقط في الجوانب التقنية،بل أيضا في أبعاده السياسية. ربما أصابه التباطؤ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي،ولكن فقط ضمن المجال العلمي. أما ظهور وتتعد الأزمات المحلية والإقليمية فربما أو ستؤدي إلى ظهور اقتراحات جديدة تقود بدورها إلى تسارع جديد في السنوات القادمة.
ت ـ شمولية النظام.
تحدثنا سابقا أن التغيرات و التحولات البنيوية التي أحدثتها التطورات المعقدة في جميع مستويات الإستراتيجية،جعلت من غير الممكن أن يكتفي أي جزء من النظام بنفسه أو أن يوضع في التنفيذ كجزء يعمل لوحده،بل لا بد أن يعمل كمركب من جزء متكامل.
على الصعيد التقني: يتم الحديث اليوم بشكل أكبر عن نظام الأسلحة. أيام الأسلحة الكلاسيكية كانت استخدامها بسيط،بمعنى نحدد نقطة ما ويتم الإطلاق عليها،مع الأسلحة الحديثة نحن بحاجة لبيئة فيها الكثير من الحسابات المعقدة والمتعقلة،من غير ذلك لا نستطيع استخدام هذه الأسلحة.فالصواريخ مثلا لا من برمجتها قبل إطلاقها. إن استخدام الأسلحة الحديثة يترافق بعناصر أخر تعتمد على المعلومات،الاتصالات،القرار و أشياء أخرى.
فالمعومات ليست هي نفسها كما كانت في الماضي،يقدمها مجموعة من المخبرين وتراقب من قبل الأجهزة والمؤسسات العسكرية ثم توجه لقلة من المقررين. فالمعلومات اليوم مطلوبة في جميع الميادين وتقوم فيها وفي معظم الأحيان وكالات متخصصة تخضع لسلطة مدنية،مع وسائل بالغة التقدم والتعقيد،تكنولوجية و إنسانية.ثم توزع بطرق غامضة بسرعة كبيرة وعلى جميع المستويات المدنية والعسكرية وغيرها،وذلك من أجل الوصول وضمان تحقيق بيئة إستراتيجية متكاملة تستطيع التحرك بأفضل وأحسن حال أو شكل[18].
أما الاتصالات فهي مضمونة من خلال مجموعة من الوسائل السريعة و الفعالة،ولكن يمكن تعطيلها بشكل سريع أيضا.من هنا جاء التطور الكبير في وسائل الحماية و السرية. والصراع حول أنظمة الاتصالات عرف تطورا ضخما خلال الحرب العالمية الثانية.فيما يتعلق بالقرار،فقد أصبح من الواجب السيطرة على معطيات كثيرة ومختلفة في هذا الشأن،كما أن السلطة المدنية لم تعد تسمح للسلطة العسكرية بالحرية المطلقة في اختيار الوسائل والطرق.
من الآن فصاعدا أصبحت وسئل المساندة الدائمة والضخمة تحقق نتائج كبيرة على الصعيد الإستراتيجي،مثل الدعم اللوجستي وغيره، التي تقدم دعما كبيرا للقوات وتبقى في اتصال معها،وتجعلها قادرة على الحفاظ على مستواها لمدة كبيرة،كما أنها تقوم بترميم كل ما يتعرض للتدمير وبسرعة استثنائية.
على الصعيد الإستراتيجي: النظام الإستراتيجي هو تنظيم جميع القوى التي توضع في العمل وفي خدمة الإستراتيجية العامة،الشاملة أو الوطنية. هذا النظام يتجاوز عمليات الفصل والتمييز المعروفة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية،وبين الدبلوماسية و الإستراتيجية في تعريفها الكلاسيكي،بين المؤسسات وجماعات الضغط.؛في عملية هندسية معقدة تنقسم إلى فضائين أساسيين، مادي مثل ( القوى) وثقافي مثل (المذاهب والتيارات،الثقافة الإستراتيجية)، و معنوي مثل ( الانتماء والارتباط بالأمة،ترابط وتعاون النخب الحاكمة)، وهذا ما سماه بعض الإستراتيجيين ” المعنوي الإستراتيجي”[19].
هذان الفضاءان يتبعان أو يصبهما تأثير خاضع للبيئة أو المناخ الذي يوجدان فيه وهو ما نسميه “المدخلات”، ويحاولان التفاعل معه من خلال تثبيت الأهداف الحالية أو الكامنة والتي في النهاية تتعارض مع أهداف العدو أو الخصم. هذه الأهداف متغيرة ومتبدلة حتى يكون لديها استعداد المواجهة مع الظروف والمتغيرات. أما وضعها في التطبيق يتطلب قرارات ستصطدم بعمل النظام وسيره مثل (البيروقراطية،الدعم اللوجستي والمساندة،والحالة الفنية و التقنية)؛هذا الاصطدام يترجم باتخاذ قرارات خاطئة أو بعدم اتخاذ القرار.
ث ـ في تداخل العلاقة بين العوامل الداخلية و الصراعات الدولية.
بالتأكيد هناك قيمة كبيرة للمصلحة التي تحددها العوامل الداخلية للإستراتيجية وللسياسة الخارجية.مع ذلك يجب الابتعاد نهائيا أو تجنب فقدان الرؤية الصحيحة فيما يتعلق بالعامل المركزي أو الأساسي، هذا العامل هو أن الإستراتيجية تفترض دائما خصما أو منافسا محددا. إذا لا بد من وجود عدو موضوعي أو يمكن الإشارة إليه ومعرفته بطريقة ما، ( كما كان الاتحاد السوفييتي مثلا موضع انشغال دائم للولايات المتحدة أو للدول الغربية بشكل عام). Colin Gray[20] تحدث عن وجود طبيعتين لسباق التسلح، هاتان الطبيعتان ناتجتان عن ظاهرة الفعل/ورد الفعل،والتي أصبحت أكثر تعقيدا من خلال تدخل الضغوطات الداخلية.
إن وجود سباق للتسلح يفترض التنافس بين اثنين على الأقل. والأمثلة التاريخية هي كثيرة على هذه الحالة، مثل التنافس البحري بين ألمانيا و إنكلترا في بداية القرن العشرين،التنافس البري بين فرنسا وألمانيا بين عامي 1870ـ1940،الصراع والتنافس الأمريكي ـ السوفييتي طيلة الحرب الباردة. يمكن أن يبدأ السباق من قبل بلد يريد ردع كل التصرفات العدوانية من خلال إظهار قوته الهجومية و الدفاعية،أو من اجل دعم قوته الدبلوماسية،وهي عوامل تتعلق هنا بالسياسة الخارجية.وأيضا يمكن لسباق التسلح أن يبدأ لأنه من الضروري والمفيد عند العديد من الفاعلين والمستفيدين في هذا المضمار. ويمكن أن يكون نتيجة لعملية سياسية، كما فعل الرئيس جون كنيدي بالحديث عن صاروخ gap أثناء حملته الانتخابية في عام 1960.
Colin Gray يحدد ثمانية عوامل أو تأثيرات داخلية محرضة أو تشترط سباق التسلح،وهي تظهر كحالة إجبارية ناتجة عن تهديدات خارجية،هذه العوامل هي[21]:
ـ الجمود
ـ التقنية
ـ مصالح المقررين
ـ وباء الخوف من أن يسبقك الآخرون
ـ التخطيط
ـ المذهب الإستراتيجي
ـ الحكومة وعلاقتها مع الجيش
ـ الموقع الجغرافي
هذا المثال عن التسليح يظهر الطبيعة المزدوجة و المعقدة لسباق التسلح والذي لا يمكن اختزاله إلى فئة واحدة من العوامل. من هنا تأتي فائدة التحليل “النظامي” (من نظام)،والذي يأخذ بالحسبان هذا التراكب imbrication بين العوامل الداخلية و العوامل الخارجية.
4 ـ الاستشراف الإستراتيجي.
ـ مفهوم “الثورة داخل الشؤون العسكرية”.
إن فكرة النظام بدأت في أخذ مكانها داخل المفردات الإستراتيجية،لاسيما بعد دخول فكرة الثورة في الشؤون العسكرية.أتت هذه الثورة في الشؤون العسكرية من قبل الولايات المتحدة الأميركية،وذلك من خلال أدب جديد وغزير تناول هذا المفهوم مع مطلع التسعينات.حاول الكثير من المنظرين البحث عن أصول بعيدة لمفهوم الثورة في الشؤون العسكرية،حتى أن بعضهم عاد به إلى منتصف القرن التاسع عشر،ولكن هذا المفهوم يبدو انه أحدث من ذلك بكثير. فقد عمد السوفييت إلى تطوير فكرة “الثورة في الأشياء العسكرية”[22] منذ عام 1963،وفي عام 1980 فتحوا حوارا حول “الطرق التكتيكية الجديدة”،حتى أن بعض المعلقين أطلق عليه “الثورة التكتيكية”[23].
إن مصطلح Revolution in Military Affairs ( RMA)، ظهر في المفردات الأميركية في سنوات التسعينات وذلك بتحريض من مدير Net Assessment Office of Pentagone،وهو Andrew w. Marshall ،حيث وقف مع الفكر القائلة بأن الثورة العميقة التي نتجت عن التجديدات التقنية سيكون لها نتائج مذهبية doctrinales كبيرة. أما ( RMA) فقد كان موضوعا لتقرير سري في عام 1992،ثم تم نشره في السنة التالية. إذا الحوار حول المصطلح انطلق وبقوة،إن كان بين المحللين أو في جميع وحدات الجيش،والتي بدورها وضعت مجموعات متخصصة هدفها الوصل إلى بناء مذهب جديد.
إن الفكرة الأساسية للمفهوم ترتكز على أن الحرب من الآن فصاعدا قد تغيرت بشكل جذري فيما يتعلق بطريقة وآلية العمل،أو بطبيعتها،لاسيما مع قدوم وسائل أخرى جديدة في المراقبة و بناء جيوش لها قدرات كبيرة ودقيقة في نفس الوقت. أما الشجاعة والإرادة الإنسانية فقد وجدت أيضا من الآن فصاعدا أمام أو في مواجهة التقنية. فالتقنية تحكم في جميع المجالات،إنها تفرض تغيرات مذهبية وعملياتية لها اتساع كبير. وقد تحدث البعض،مثل الأميرال ” Owens” عن مفهوم جديد في هذا المضمار وهو “نظام الأنظمة” من أجل الإشارة إلى أنه لا يوجد أي قطاع من السياسة أو الإستراتيجية لم تتدخل هذه التحولات الجديدة.
وقد ظهرت العديد من الكتب لاقت نجاحا كبيرا في هذا الموضوع،لاسيما War and Anti War في عام 1993 لمؤلفه Alvin and Heidi Toffler، وقد ترجم بشكل سريع إلى الكثير من اللغات،ترجمة ساهمت في تعميم ونشر فكر أن الحرب هي “كبسة زر”.
إن مفهوم “الثورة في الشؤون العسكرية” قدم في مراحل متعددة بشكل مغال فيه،حتى أصبح البعض يعتقده أكثر أهمية من الثورة التي صاحبت السلاح النووي نفسه.أما المعلومات ستصبح من الآن فصاعدا من المفردات التي تضم بقوة على الإستراتيجية. حيث ستسمح بإبعاد الشك وعدم اليقين من أمام كل من يستخدمها ويسيطر عليها،ستساعد في معرفة ماذا نهاجم،كيف ومتى. حتى أن المرجع الأميركي المتعلق بالعمليات ” FM 100-5″ سيضاف إليه ملحقا تحت اسم ” عمليات المعلومات” FM 100-6[24].
هذان المرجعان سيضعان في التنفيذ مفاهيم عملياتية جديدة : المناورة الكبرى ،والتي تؤسس على القدرة في السيطرة على المعلومات والحركة ؛ الالتزام الدقيق،وفيه تحدد الوحدات أهدافها وكيفية الوصل إليها بجهد أقل؛ الحماية الكاملة، والتي تضمن الحرية الكاملة في الفعل وتقدر الخسائر ؛ اللوجستيك المدمج، حيث يحدث التوافق من خلاله في تقنيات المعلومات التي تسمح بدورها وسائل نقل تؤدي لردة فعل سريعة في الأزمات وعلى جميع المستويات.
ـ في نقد مفهوم وخطاب “الثورة في الشؤون العسكرية”.
لقد كرّس الحوار حول مفهوم “الثورة في الشؤون العسكرية” نفسه ليقول بضرورة وجود هندسة شاملة و تماسك بين الجوانب التقنية و العملياتية. نتذكر هنا أن مساعد وزير الدفاع الأميركي Edward Warner يعرف الثورة في الشؤون العسكرية كتوافق في تقنيات جديدة،وتغيرات مذهبية، ثم بتغيرات في البنى. ويضيف أن الكثير من التغيرات هي متطورة عن أشياء سابقة أو عن غيرها،أكثر مما هي تغيرات ثورية[25]، وهذا ما يقود للقول بأن تلك التحولات و التغيرات الجذرية هي غامضة أو مبهمة.
أما البحث عن المعلومات فهو معطى دائم في تاريخ الإستراتيجية،وعدما نغير كلمة “معلومات” بكلمة أخرى هي “مخابرات” فهذا ليس مبررا للقول بأن تغيرا جذريا قد حصل[26].ويتابع المتشككون في هذه “الثورة” القول أو التساؤل: هل المخابرات أو المعلومات تستطيع بشكل فعلي القضاء على الشك وعدم اليقين،محولة الحرب بذلك إلى لعبة؟ أما جوابهم فهو أن العامل الإنساني يبقى له دور كبير في الموضوع،بحيث أنا لا نستطيع إعطاء أو توصيف ردة الفعل الإنسانية بشكل ناجز وكامل. وقد كانت الحرب في كوسوفو و حرب الخليج أمثلة جيدة على الاختلاف في وجهات النظر حول “الثورة داخل الشؤون العسكرية”[27].
ـ ماهية ومعنى خطاب “الثورة في الشؤون العسكرية”.
الثورة داخل الشؤون العسكرية كانت خطابا في البداية أكثر مما هي إشارة على متغيرات تقنية،كما كانت في البداية “مبادرة الدفاع الإستراتيجي” التي وضعها الرئيس الأسبق ريغان.ولكن هذه الإثارة و الانتشار النظري كانت نتيجة لمفهوم يحاول الإجابة على منطقين: داخلي وخارجي. “فالثورة” هذه،كانت عملية من أجل شرعنة بنية وتطوير القوى المسلحة الأميركية. والمقصود هنا أن وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” قد تبنت التغيرات الكبيرة وفي جميع الميادين والتي تظهر اليوم بشكل كبير أو يتم إنتاجها على جميع المستويات،أو هي التجديد العسكري نفسه[28].إن خطاب هذه “الثورة” هو موضوع محرك على صعيد المذاهب العسكرية وخاصة في داخل المؤسسة العسكرية،وهو فعَّال على الصعيد السياسي في مواجهة محاولات تخفيض أو تقليص الميزانيات العسكرية.
أيضا خطاب “الثورة” يشكل رسالة هامة يمكن توجيهها إلى الخارج.فالولايات المتحدة تقترح من جديد نموذجا للعالم بأسره،فهي تبين وفي نفس الوقت أنها ما تزال متقدمة على العالم ومهما حصل،وأن المستقبل سيكون ملك الجيوش التي تتطابق مع هذا النموذج،أي النموذج الأميركي[29].أما الذين يرفضون هذا التطور الإجباري فهم في نظر أصحاب “الثورة” ليسوا إلا متأخرين عن التطور. ولكن تجربة اللحاق بالولايات المتحدة من قبل الدول العظمى مكلفة جدا وخاصة فيما يتعلق بالتحديث في الشؤون العسكرية.
فمن جهة،محاولة تقليد الولايات المتحدة تعني البقاء تحت خط قوتها،والسبب هو عدم وجود الإمكانيات أو حتى امتلاك مناهج عمل وسير التحديث الأميركي. ومن جهة أخرى،هناك العديد من القوى ترى أن الوسائل التقنية المعروضة من قبل مفهوم”الثورة داخل الشؤون العسكرية” ربما تكون مفيدة من اجل وضع أو بناء إستراتيجية ليس في الحقل العسكري فقط،بل في جميع المجالات.إذا، وفي قراءتنا لمفهوم أو خطاب “الثورة داخل الشؤون العسكرية” نعرف ما هي التطبيقات العملية التي يستطيع أن يقدمها مفهوم يتصف بأنه مجرد أكثر من مفهوم “النظام” الذي أوردناه سابقا. “فالثورة” هنا تذكرنا بضرورة فهم وإدراك الإستراتيجية بشكلها الشمولي وليس الجزئي،مهما كانت إستراتيجية تقنية أو تعتمد مذهبا بحد ذاته. أيضا،تحليل هذا الخطاب يسمح بمعرفة الخلفية الإيديولوجية للمفاهيم التي تقدم نفسها على أنها مفاهيم تقنية خالصة،وهي في الواقع تضع نفسها في خدمة وجهة نظر سياسية أو مشروع سياسي.
في النهاية،يرى الكثير من الإستراتيجيين أن البعد العسكري ليس إلا عنصر من العناصر الأخرى للإستراتيجية،فاليوم هناك صعود كبير وقوي للبعد الاقتصادي،طبعا من غير أن ننسى الثورة المعلوماتية التي لا تقل أهمية.إذا النظرة وحيدة الجانب أو التي تعتمد البعد العسكري فقط هي في نفس الوقت،نزعة ذاتية أو استعلائية تهدف للرفع من شأن بلد على حساب البلدان الأخرى،وتتجاهل التعددية الثقافية بين الأمم و تنطلق من موقف قومي يمكن أن نصفه بالتطرف، وهي أيضا معرفة غير عميقة بطبيعة الإستراتيجية،ومؤسسة على علاقة صراعية conflictuel و على إمكانية تحقيق إقصاء نهائي يصل لدرجة تغيب الخصم من الوجود نهائيا. إن مفهوم البعد الواحد للإستراتيجية ليس بمفهوم جديد فقد تحدث عنه إستراتيجيو الصين لاسيما Sun Zi عندما قال :” الحرب هي ميدان الحياة والموت،إنها الطريق الذي يؤدي للحياة أو للعدم والفناء”[30].
إذا نظرنا بعمق إلى تاريخ التحولات و التغيرات التي استمرت منذ 2500 عام،وبشكل خاص تلك التحولات التي نراها اليوم أمام أعيننا،نستطيع القول إن حكمة هذا الإستراتيجي الصيني بقيت وستكون الأساس أو جوهر كل فكر إستراتيجي. وهذا ما سنتابعه في دراسة لاحقة لهذا الكتاب.
[1] ـ انظر، توماس كوهان،” بنية الثورات العلمية”، بالفرنسية،صادر في باريس عن دار نشر Flammarion، 1972.
[2] ـ نرجو العودة إلى كتابنا “مدخل إلى الفكر السياسي الغربي”، المتوفر في مكتبة الأكاديمية العربية في كوبنهاجن،وذلك من أجل التوسع بقراءة مفهوم “البراديغم”.
[3] ـ انظر ، Bernard BRODIE، ” Strategy as a Science”، من مرجع World Politics، حزيران عام 1949.
[4] ـ انظر ، Herman KAHN، ” السيناريوهات والتحولات”، بالفرنسية، صادر في باريس عن دار نشر ، Calmann-Lévy و Liberté de l’esprit، 1966. أيضا ، Béatrice HEUSER، ” Nuclear Mentalities ؟ Strategies and Belief Systems in Britain، France and the FRG، لندن ،دار نشر Macmillan، 1998.
[5] ـ من أهم مؤلفاته : ” النتائج السياسية و العسكرية للطاقة النووية”،كتاب صادر في عام 1949.
[6] ـ من مؤلفاته، B. H. Liddell Hart, A Greater Than Napoleon: Scipio Africanus (W Blackwood and Sons, Londres, 1926; Biblio and Tannen, New York, 1976)، The decisive wars of history (1929) (première partie Strategy: the indirect approach) ، A History of the World War(1914-1918)، Sherman: Soldier, Realist, American (Dodd, Mead and Co, New York, 1929; Frederick A. Praeger, New York, 1960)، The Memoirs of Captain Liddell Hart: Volumes I and II (Cassell, Londres, 1965).
[7] – Ludwig von Bertalanffy, General System Theory: Foundations, Development, Applications (George Braziller, 1976).
[8] – An Outline of General System Theory, British Journal for the Philosophy of Science 1, p.139-164؛ General system theory – A new approach to unity of science (Symposium), Human Biology, Dec 1951, Vol. 23, p. 303-361.
[9] ـ انظر كتاب، دافيد إستون، ” تحليل النظام السياسي”، بالفرنسية ( Analyse du système politique)،باريس،دار نشر Armand Colin،1974.
[10] – Marcel Merle, « Sociologie des relations internationales »,Paris, Dalloz, 1977.
[11] ـ Jacques Ellul، ” النظام التقني”،بالفرنسية،صادر في باريس، دار نشر Calmann-Lévy, Liberté de l’esprit،1977، الصفحة 137 وما بعد.
[12] ـ المرجع السابق ، الصفحة 138.
[13] ـ المرجع السابق،الصفحة 186.
[14] ـ المرجع السابق، الصفحة 219 ـ 220.
[15] ـ المرجع السابق، الصفحة 229.
[16] ـ المرجع السابق، الصفحة 253.
[17] ـ المرجع السابق، الصفحة 280.
[18] ـ انظر ، Paul BRACKEN،” The Command and Control of Nuclear Forces”، صادر عن New Haven-London, Yale University Press، 1983، الصفحة 21.
[19] ـ نجد هذه التسمية في كتاب الأميرال Castex ” النظريات الإستراتيجية”،وهو مرجع سابق مرَّ معنا في بداية الكتاب،وردت التسمية في الجزء الرابع من كتابه في الفصل الثاني عشر.
[20] – Colin GRAY , « The Soviet American Arms Race », Lexington, D.C. Heath, 1976; and, “ The Urge to Compete: Rationale for Arms Racing”, World Politics, 1974, P.207.
[21] – Colin GRAY, « The Arms Race Phenomenon »,in George H. Quester, ed., American Defense Policy , P. 146-147.
[22] – Jean-Christophe ROMER, « La pensée stratégique russe au XXe siècle, p.47.
[23] – Philip A. KARBER, « The Tactical Revolution in Soviet Military Doctrine », Carlisle Barracks, US Army War College, 1983.
[24] – Michael D. Stany and Charles W. Arneson, “FM 100-6: Informations Operations”, Military Review,1996.
[25] – In, Jane’s Defense Weekly, 30 حزيران, 1997, P.32.
[26] – Richard J. Harknett, « Information Warfare and Deterrence », ed., Parameters, 1996, P. 93.
[27] – Barry D. Watts, « Clausewitzian Friction and Future War », Washington, National Defense University, 1996.
[28]ـ في الولايات المتحدة كان هناك إستراتيجية متعارف عليها أو “تقليدية” وضعها Institute for National Strategic Studies،وهي في الواقع تتعارض مع الإستراتيجية أو مع “الثورة داخل الشؤون العسكرية التي نتحدث عنها.
[29] – Jacob W. KIPP, « Confronting the RMA with Russia », Military Review,1997.
[30] ـ من كتاب الإستراتيجي الصيني ،صن زي، ” فن الحرب”، الصفحة 99.