...
دراسات أسيويةدراسات استراتيجيةدراسات استشرافية

هل تنجح المساعي الأميركية الأخيرة لاحتواء الصين؟

أسامة أبو ارشيد يعمل أسامة أبو ارشيد - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

شهدت الأسابيع الماضية تفعيلًا أميركيًا مكثفًا للشعار الذي كانت أطلقته إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، تحت عنوان “التحول نحو آسيا”. وبعيدًا عن هوية الإدارة أو انتمائها الحزبي، فإن واشنطن منذ إدارة أوباما الأولى، عام 2009، مرورًا بإدارة دونالد ترامب، ووصولًا الآن إلى إدارة جو بايدن، ترى في الصين الصاعدة اقتصاديًا وتكنولوجيًا وعسكريًا التحدي الجيوستراتيجي الأبرز لهيمنتها العالمية، خصوصًا في منطقة المحيطين الهادئ والهندي[1]. وحتى قبل أن يصل إلى سدة البيت الأبيض، كان موقف بايدن واضحًا في أن احتواء الصين سيكون الهدف الأبرز لإدارته، وهو ما يقتضي تعزيز القدرة الأميركية على المنافسة تكنولوجيًا واقتصاديًا وتجاريًا وتحديثًا للبنية التحتية، وتوثيق شراكات الولايات المتحدة وتحالفاتها عالميًا[2].

وفي هذا الإطار، وقّعت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، في 15 أيلول/ سبتمبر 2021، اتفاقية أمنية ثلاثية، تعرف اختصارًا باسم “أوكوس” AUKUS، وهي إشارة إلى الأحرف الأولى للدول الثلاث، تقضي أن تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا بمشاركة أستراليا تكنولوجيا الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية. وقد أثارت هذه الاتفاقية امتعاض فرنسا بعد أن ألغت أستراليا صفقة غواصات بعشرات المليارات من الدولارات تعمل بالديزل والكهرباء معها، إضافة إلى أنها جدّدت المخاوف لدى الدول الأوروبية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة حليفًا موثوقًا يمكن الاعتماد عليه، خصوصًا وهي تتحرك من دون تنسيق معهم، كما جرى في قرار الانسحاب من أفغانستان. ويخشى بعضهم على ضفتي المحيط الأطلسي أن يكون لإعادة واشنطن تعريف أولوياتها الاستراتيجية من دون تنسيق كافٍ مع حلفائها الأوروبيين وفي حلف شمال الأطلسي “الناتو”، تداعيات سلبية على مستقبل هذين التحالفين الاستراتيجيين. وقد عززت هذه الهواجس لدى بعض الدول الأوروبية القناعة بضرورة أن يكون لدى أوروبا قدرات أمنية وعسكرية كافية، بحيث لا تكون معتمدة كليًا على الولايات المتحدة.

وبعد اتفاقية “أوكوس”، عُقد في واشنطن لقاء قمة جمع قادة الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند في إطار ما يعرف بـ “الحوار الأمني الرباعي” أو “الرباعية”، أكد على ضرورة بقاء المحيطين الهادئ والهندي منطقة “مفتوحة وحرة”، بمعنى عدم خضوعها لهيمنة الصين. وتشهد الأشهر الأخيرة تحرشات متزايدة، جوًا وبحرًا، من قبل الصين بتايوان، ومحاولات تأكيد الصين سيادتها على بحر الصين الجنوبي.

أولًا: حسابات اتفاقية “أوكوس”

بموجب اتفاقية “أوكوس”، ستحصل أستراليا على أسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، ولكنها ليست مسلحّة نوويًا، على أن تتحدد تفاصيل ذلك في غضون الثمانية عشر شهرًا المقبلة[3]. ويتضمن الاتفاق أيضًا التعاون في “القدرات السيبرانية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الكم والقدرات الإضافية تحت سطح البحر”، كما ستوفر الاتفاقية للقوات الجوية والبحرية والبرية الأسترالية قدرات هجومية صاروخية بعيدة المدى[4]. وبحسب الاتفاقية، سيتبادل أطرافها الثلاثة المعلومات العسكرية والتكنولوجيا لتشكيل شراكة دفاعية أوثق في آسيا، وهو ما سيجري في مسار موازٍ ومنفصل عن “تحالف العيون الخمس” لتبادل المعلومات الاستخباراتية الذي يضم، إضافة إلى الدول الثلاث، نيوزيلندا وكندا[5]. وتقول الأطراف الثلاثة الموقعة على اتفاقية “أوكوس” إن هدفها يتمثل في “ضمان السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهادئ والهندي على المدى الطويل”. ولذلك، فإن ثمَّة حاجة “إلى أن نكون قادرين على معالجة البيئة الاستراتيجية الحالية في المنطقة وكيف يمكن أن تتطور، لأن مستقبل كل دولة من دولنا، وفي الواقع العالم، يعتمد على حرية وانفتاح منطقة المحيطين الهادئ والهندي ودوام ازدهارها في العقود القادمة”[6]. ورغم أن الاتفاقية لا تذكر الصين صراحة، فإنها من الواضح المقصودة بذلك، والمستهدفة بها، وهو ما دفع بكين إلى إدانتها صراحة. 

أما دوافع كل طرف من الأطراف الثلاثة، فيمكن اختصارها في ما يلي:

1. الولايات المتحدة

إطاريًا، تندرج هذه الاتفاقية في سياق الجهود الأميركية الرامية إلى تحقيق توازن ضد القوة والطموح الصينيّين المتناميين اللذين بدآ في تحدي هيمنة الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية بناء الصين لأكبر قوة بحرية في العالم. ورغم أن القدرات البحرية العسكرية الصينية تبقى أقل بكثير من نظيرتها الأميركية، إذا ما نُظر إليها من ناحيتي الكفاءة والتطور[7]، فإن حقيقة أن التنافس على النفوذ البحري بين الدولتين محصور، حاليًا، في منطقة جيوستراتيجية تقع الصين في قلبها، يعطي أفضلية وميزة لبكين على واشنطن.

ترتَّب على مراكمة الصين لقدرات بحرية عسكرية أكبر اتباعها لسياسة أكثر شراسة في محاولة تأكيد سيادتها على جلِّ بحر الصين الجنوبي، وهو الأمر الذي ترفضه دول أخرى تطل عليه في شرق وجنوب شرق آسيا، هي، إضافة إلى الصين، فيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي. وفي هذا الصدد، تلتزم الولايات المتحدة منذ عام 1979 بـ “قانون العلاقات مع تايوان”، الذي يتيح لها “مساعدات وخدمات دفاعية بأي كمية ضرورية لتمكينها من الحفاظ على قدرة كافية للدفاع عن النفس على النحو الذي يحدّده الرئيس والكونغرس”[8]، وترتبط أيضًا مع الفلبين بمعاهدة دفاعية. ولأن بحر الصين الجنوبي “يُمثِّل شريانًا بحريًّا حيويًّا للتجارة العالمية نظرًا إلى كونه بوابة عبور لما يربو على نصف السفن التجارية في العالم، وتُقدَّر قيمة البضائع التي تُقلُّها تلك السفن بأكثر من 5 تريليونات دولار سنويًّا”[9]، فإن واشنطن لن تسمح البتة لبكين بالسيطرة عليه، ومن ثم تعزيز موقفها في المنافسة جيوسياسيًا معها.

المشكلة أنه رغم تفوق الولايات المتحدة عسكريًا على الصين، وعلى كل المستويات، فإنه بحسب مناورات افتراضية أجرتها المؤسسة العسكرية الأميركية، عامي 2018 و2020، فإن الولايات المتحدة ستُهزم في حرب مع الصين في بحر الصين الجنوبي[10]. ويعود ذلك إلى، أولًا، بُعد واشنطن عن خطوط إمداداتها الاستراتيجية، مقابل الصين التي تقاتل في فضائها الجيوستراتيحي. ثانيًا، تطور القدرات العسكرية الصينية تطورًا هائلًا، بحيث تجعل القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة في مدى صواريخها مباشرة. ثالثًا، استنزاف القوة الأميركية في مناطق كثيرة من العالم، وهذا أحد أهم الأسباب وراء انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتخفيف حضورها العسكري على نحو متزايد في الشرق الأوسط.

ورغم أن للولايات المتحدة قواعد وحلفاء إقليميين في المحيطين الهادئ والهندي، كأستراليا والفلبين وفيتنام وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية والهند، وهذه الدول تملك قوة لا يستهان بها، الأمر الذي قد يعوض بعض نقاط ضعف واشنطن، فإن ذلك لا يكفي في حد ذاته؛ ذلك أنه قد لا يقبل أيٌّ من هذه الدول جرّها إلى حرب مدمرة بهذا الحجم. من هنا، فإن اتفاقية “أوكوس” بين ثلاث دول “أنكلوسكسونية”، أكثر ارتباطًا ببعضها البعض، يمثل مضاعفة للقدرات الأميركية والقدرات الحليفة لها في المحيطين الهادئ والهندي لإبقاء الضغط على الصين واحتواء قوتها البحرية[11]. كما أنها تمنح الولايات المتحدة موانئ جديدة في أستراليا مع قدرات نووية وتكنولوجية على مستوى عالٍ من الكفاءة قريبٍ من الصين. وبحسب تقديرات أميركية، فإنه مع تسلّم أستراليا الغواصات النووية، ستتراجع قدرة الصين على السيطرة على الممرات البحرية وغزو تايوان أو حصارها، حيث ستوفر هذه الغواصات قدرات هائلة من الردع والفتك والسرعة والمدى والتخفي[12]. كما أن ميزان القوة البحرية سيميل أكثر ضد الصين، إذا قامت اليابان أيضًا ببناء غواصات نووية خاصة بها[13].

2. أستراليا

تنطلق أستراليا من قاعدة مفادها أن من مصلحتها ومصلحة الديمقراطيات الأخرى في المنطقة أن تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها هناك للحد من التغول الصيني الشيوعي[14]. ومع أن أستراليا في السنوات الماضية كانت تتجنب الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، فإنها بدأت تعدل عن هذا الرأي في السنوات الأخيرة في ظل اتهاماتها لبكين بالتدخل في سياساتها وشنّها هجمات إلكترونية على مؤسساتها. وتضاعف التوتر أكثر بين البلدين، عام 2020، بعد دعوة أستراليا إلى إجراء تحقيق في منشأ فيروس كورونا، وهو ما ردت عليه الصين بعقوبات تجارية عليها[15]. والصين هي أكبر شريك تجاري لأستراليا. ولمواجهة الضغوط الصينية، زادت أستراليا من إنفاقها الدفاعي، ووثقت علاقاتها مع قوى إقليمية أخرى، بما في ذلك الهند واليابان وإندونيسيا.

في هذا السياق، تمثّل اتفاقية “أوكوس” إدراكًا لدى أستراليا بأنها في حاجة إلى تحسين دفاعاتها وتطوير قوة ردع موثوق بها، وبأسرع وقت ممكن، إذا أرادت تقليل احتمالات نشوب حرب مع الصين[16]. ولا شك في أن هذه الاتفاقية توفر لها أكفأ وأضخم شبكة دفاعية ممكنة من لدن أقوى دولة في العالم، بما في ذلك إمكانية توجيه ضربات صاروخية دقيقة ومدمرة عن بعد.

إلا أن ثمَّة من يرى أن هذه الاتفاقية تكبّل أستراليا، إذ إنها تخلّت عن غموضها الاستراتيجي[17]، وجعلت من نفسها هدفًا للصين. كما يرى البعض أن أستراليا قد تكتشف قريبًا أنها تخلّت عن جزء من استقلالية قرارها وبعض من سيادتها للولايات المتحدة، وربما بريطانيا، بسبب اعتمادها على تكنولوجيا نووية أجنبية، بحيث سيكون من المستحيل عليها أن تحرك قوتها البحرية العسكرية من دون ضوء أخضر أميركي[18].

3. بريطانيا

بالنسبة إلى بريطانيا، تمكّنها هذه الاتفاقية من إعادة تأكيد ذاتها بصفتها قوة عالمية بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويؤكد ذلك إرسال لندن بعضَ قطعها العسكرية البحرية إلى بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، على نحوٍ استفز بكين، من أنها تريد استعراض قوّتها[19]، مستندة إلى تحالف وثيق مع الولايات المتحدة. ولا شك في أن هذه الأخيرة ترحب بالإمكانات البحرية البريطانية العسكرية في المنطقة، إذ إنها تعزز قوة الردع مع الصين هناك، بحيث تعوض بعضًا من الفارق العددي لصالح الصين.

ثانيًا: الحوار الأمني الرباعي

يمثل “الحوار الأمني الرباعي”، أو ما يعرف بـ “الرباعية”، تجمعًا إقليميًا لثلاث دول، إضافة إلى الولايات المتحدة، وهي تطل على المحيطين الهادئ والهندي، توحّدها هواجسها من الصعود الصيني ومحاولات بكين فرض هيمنتها على الفضاء الجيوستراتيجي للمنطقة. وتضم الرباعية الهند واليابان والولايات المتحدة وأستراليا. وقد أُنشئت هذه المجموعة عام 2004 بهدف ضمان بقاء منطقة المحيطين الهادئ والهندي “مفتوحة وحرة”، بمعنى عدم خضوعها لهيمنة الصين. وفي عام 2017، أحيت إدارة ترامب هذا الإطار[20]، محوّلة إياه من تجمّع يقوم بحوارات سياسية واقتصادية منخفضة المستوى، إلى لاعب مهم جدًا في منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي[21]. ومنذ استلام بايدن الرئاسة مطلع هذا العام، أولت إدارته أهمية متزايدة لهذا التجمع في سياق مقاربتها لحشد حلفاء الولايات المتحدة لاحتواء الصين.

وفي 24 أيلول/ سبتمبر 2021، عقد قادة الدول الأربع قمة في البيت الأبيض أعلنوا فيها التزامهم “بإبقاء منطقة المحيطين الهادئ والهندي مفتوحة”[22]. وهذه هي القمة الثانية للرباعية منذ تولّي بايدن الرئاسة، إذ عُقدت القمة الأولى افتراضيًا في آذار/ مارس من العام نفسه. وبحسب البيان الختامي الصادر عن القمة، فإن الدول الأربع تعيد تأكيد التزامها بالشراكة التي تجمعها في “منطقة تشكل حجر الأساس لأمننا المشترك وازدهارنا هي منطقة المحيطين الهادئ والهندي”. كما أعلنت التزامها برفض سياسات الإكراه، وحرية الملاحة والتحليق في أجواء المنطقة، والحل السلمي للنزاعات، والقيم الديمقراطية، وسلامة أراضي الدول[23]. ورغم أن هذه القمة لم تُشر إلى الصين بالاسم، فإن الصين دومًا ما تعتبر هذا التجمع “حلف ناتو آسيويًا” يهدف إلى حصارها[24].

مثلت قمة الرباعية فرصة لواشنطن لتقدم نفسها بوصفها جزءًا من منظومة واسعة ومتماسكة في آسيا، وذلك في أعقاب المآخذ التي أثيرت حول اتفاق “أوكوس”، منها أنه جاء بصبغة “أنكلوسكسونية”. وبسبب وجود الهند واليابان في الرباعية، فإن ذلك قدّم وجهًا أكثر تنوعًا لجنوب شرق آسيا[25]. وإضافة إلى ضمان بقاء منطقة المحيطين الهادئ والهندي مفتوحة، فقد ناقشت القمة قضايا أخرى، مثل الاقتصاد والتصدي لجائحة كورونا، وأزمة المناخ، والشراكة في التقنيات والتكنولوجيا والفضاء الإلكتروني.

وتكمن أهمية هذا التجمع بالنسبة إلى الولايات المتحدة في أنه يضم دولًا تتصاعد هواجسها نحو الصين وطموحاتها الإقليمية وترى أنها تعتدي على سيادتها ومصالحها. مثلًا، صرّح وزير الدفاع الياباني، نوبو كيشي، في أيلول/ سبتمبر الماضي بأن بلاده “ستدافع بحزم عن أراضيها في بحر الصين الشرقي ضد أي تحرك صيني”[26]، وترتبط الولايات المتحدة واليابان بمعاهدة دفاعية. أيضًا، للهند خلافات حدودية مع الصين، وقد وقعت اشتباكات حدودية بين البلدين في منتصف عام 2020 أسفرت عن مقتل أكثر من 20 جنديًا هنديًا. ومع أن نيودلهي حذرة في استعداء الصين، فإنها تقترب على نحو متزايد من الولايات المتحدة عسكريًا، بما في ذلك إجراء تدريبات مشتركة، وشراء أسلحة، خصوصًا في ظل تصاعد محاولات بكين بسط هيمنتها على المنطقة، وفرض إكراهات اقتصادية على دولها. وتحتاج الهند إلى تكنولوجيا أميركية متطورة تتيح لها مراقبة وتتبّع الانتشار الصيني العسكري على طول حدودهما المشتركة في جبال الهيمالايا وفي المحيط الهندي[27].

ومع ذلك، فإن لدى الهند مشاعر إحباط من شريكها الأميركي، إذ إن واشنطن لا زالت إلى الآن مترددة في مشاركة التكنولوجيا العسكرية الحساسة معها، على عكس أستراليا بحسب اتفاق “أوكوس”، كما أن واشنطن لم تعط موافقة بعد على بيعها طائرات “إف–35″[28]. وكغيرها من الحلفاء الأميركيين، فإن الهند لم تُخفِ امتعاضها من انسحاب إدارة بايدن من أفغانستان أواخر آب/ أغسطس من دون تنسيق معها، وهو ما أدى إلى سيطرة حركة طالبان على البلاد، والتي تناصبها العداء على أساس أنها مدعومة من عدوها اللدود باكستان. وتريد الولايات المتحدة من الهند أن تتخذ، كما أستراليا واليابان، موقفًا أكثر حزمًا وعلانية ضد التهديدات الصينية لتايوان. أيضًا، تعارض الولايات المتحدة الصفقة المحتملة بين الهند وروسيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخي “إس–400″، وهو ما قد يؤدي إلى فرض عقوبات أميركية على نيودلهي[29].

وبسبب حجم تعويل واشنطن على الرباعية، وعلى الهند تحديدًا، في احتواء الصين، فقد حاول بايدن طمأنتها خلال استقباله رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، قائلًا: “السيد رئيس الوزراء، سنواصل البناء على شراكتنا القوية”[30]. 

ثالثًا: القلق الأوروبي

إذا كانت معظم الدول الآسيوية ترى في الولايات المتحدة شريكًا لا يمكن تعويضه لمواجهة السياسيات الصينية التي يصفونها بالعدوانية وتسعى إلى الهيمنة والإكراه الاقتصادي، فإن بعض الدول الأوروبية ترى أن واشنطن تتخلى عن التزاماتها بأمن قارتهم ومصالحهم في سبيل التركيز على احتواء الصين في أقصى الشرق. وكان لاستبعاد فرنسا من اتفاقية “أوكوس” بطريقة فظّة وتراجع أستراليا عن عقد وقّعته معها لبناء غواصات تعمل بالديزل والكهرباء بقيمة 60 مليار دولار إشارة سلبية في هذا الاتجاه، وهو ما أثار أزمة دبلوماسية غير مسبوقة قامت باريس على إثرها بسحب سفيريها من واشنطن وكانبيرا. وأثار وجود بريطانيا طرفًا ثالثًا في الشراكة مع أستراليا امتعاض الاتحاد الأوروبي، إذ إن بريطانيا خرجت منه، وهو ما خلق انطباعًا بأن أميركا تسعى لإنشاء نواة تحالف “أنكلوسكسوني” على حساب تحالفها مع أوروبا، وعلى حساب التزاماتها بـ “الناتو”.

ورغم موافقة فرنسا على إعادة سفيرها إلى واشنطن بعد اتصال هاتفي بين الرئيسين بايدن وإيمانويل ماكرون، في 22 أيلول/ سبتمبر، فإن باريس لا تزال تصر على ضرورة خروج الأوروبيين من “سذاجتهم” على المسرح العالمي وتأكيد استقلالهم عن الولايات المتحدة، وهو ما يؤكد عمق الشرخ في العلاقات الأطلسية. وبحسب ماكرون، فإنه “منذ ما يزيد على 10 سنوات حتى الآن، كانت الولايات المتحدة تركز بشدة على نفسها ولديها مصالح استراتيجية يتم إعادة توجيهها نحو الصين والمحيط الهادئ”. مضيفًا: “من حقهم أن يفعلوا ذلك”، لكن “سنكون ساذجين، أو بالأحرى سنرتكب خطأً فادحًا، إن لم نستخلص العواقب”[31].

وتضغط فرنسا على الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق ما تسميه “الحكم الذاتي الاستراتيجي”، على أساس أن تكون أوروبا لاعبًا جيوسياسيًا يملك قدرات أمنية وعسكرية أكبر، ومن ثم تكون أقل اعتمادًا على الولايات المتحدة في أمنها[32]. وقد تعززت هذه النزعة الفرنسية خلال رئاسة دونالد ترامب وتبنّيه نهج “أميركا أولًا”. ومع أن وصول بايدن إلى الرئاسة أحيا آمال الأوروبيين بإصلاح ما أفسدته سنوات ترامب وتعزيز العلاقات عبر الأطلسية، فإن قراره بالخروج من أفغانستان من دون تنسيق معهم، ثمَّ اتفاقية “أوكوس”، أبقيا فكرة “الحكم الذاتي الاستراتيجي” على الطاولة. ولكن، لا يبدو أن باريس ستحصل على ما تريد قريبًا، فأغلب الدول الأوروبية لا زالت تفضل ارتباطًا قويًا عبر الأطلسي على وجود اتحاد أوروبي أكثر استقلالية. وتتخذ قرارات السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بالإجماع، ويستبعد أن تقبل دول وسط أوروبا، مثل بولندا والمجر، بالابتعاد عن الولايات المتحدة، إذ تضع الحماية الأميركية من خلال الناتو في مواجهة التهديدات الروسية فوق المصالح الفرنسية في المحيطين الهادئ والهندي[33].

وقد كشف الاتحاد الأوروبي مؤخرًا عن استراتيجية جديدة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية والدفاعية في المنطقة الشاسعة الممتدة من الهند والصين عبر اليابان إلى جنوب شرق آسيا، وشرقًا ما وراء نيوزيلندا إلى المحيط الهادئ. وبحسب بيان للاتحاد الأوروبي، فإن الولايات المتحدة “تدرك أيضًا أهمية وجود دفاع أوروبي أقوى وأكثر قدرة، يسهم إيجابيًا في الأمن عبر الأطلسي والعالم ويكمل حلف الناتو”[34]. أيضًا، حوّلَ الناتو تركيزه تدريجيًا تجاه الصين في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد أن أعلنت بكين نفسها قوةً “قريبة من القطب الشمالي” وأقامت شراكة مع روسيا سمحت بوصول السفن الحربية الصينية إلى بحر البلطيق في عام 2017[35]. ويعد هذا تحولًا جوهريًا في عقيدة الحلف منذ إنشائه عام 1949 لاحتواء الاتحاد السوفياتي والتصدي له.

خاتمة

تهدف إدارة بايدن من وراء تعزيز شراكاتها ووجودها العسكري والدبلوماسي في منطقة المحيطين الهادئ والهندي إلى: أولًا، طمأنة حلفائها هناك بأنها حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه، وأن الانسحاب الفوضوي وغير المنسق من أفغانستان ليس قاعدة ينبغي أن يُبنى عليها. ثانيًا، كما قال بايدن، ربط “الحلفاء والشركاء الحاليين لأميركا بطرق جديدة وتعظيم قدرتنا على التعاون، مع ضرورة إدراكنا أنه لا توجد فجوة إقليمية تفصل بين مصالح شركائنا في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ”[36]. ثالثًا، العمل مع مجموعتي آسيان والرباعية وأعضاء العيون الخمس “ومع شركائنا المقربين الآخرين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي؛ وكذلك الحلفاء والشركاء في أوروبا وحول العالم للحفاظ على منطقة المحيطين الهادئ والهندي حرة ومفتوحة”[37]، وذلك في إشارة واضحة إلى التحدي الصيني.

يعني ذلك أننا أمام صفحة جديدة في العلاقات الدولية والقواعد الناظمة لها، عنوانها حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين الصاعدة بسرعة من جهة أخرى، على نحو سيعيد تشكيل الخرائط الدولية وموازين القوى. تدرك واشنطن هذا كله، ولذلك فإنها تحاول توجيه جلّ إمكاناتها وحشد حلفائها لاحتواء الصين، لكنها لا تزال إلى الآن عاجزة عن إنفاذ استراتيجيتها على نحو منظم ومنسجم، وما الأزمة التي أثارتها مع فرنسا إلا مثال على ذلك، رغم أن الأخيرة تملك وجودًا عسكريًا بحريًا معتبرًا في منطقة المحيطين الهادئ والهندي هي في أمسّ الحاجة إليه.


[1] Joseph R. Biden, Jr., “Interim National Security Strategic Guidance,” The White House (March 2021), accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/2Z1QxRo

[2]Joseph R. Biden, Jr., “Why America Must Lead Again: Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump,” Foreign Affairs (March-April 2020), accessed on 17/10/2021, at: https://fam.ag/3APQDIs

[3] “Remarks by President Biden, Prime Minister Morrison of Australia, and Prime Minister Johnson of the United Kingdom Announcing the Creation of AUKUS,” The White House, 15/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/2Z2mDfN

[4] “Australia to Pursue Nuclear-Powered Submarines through New Trilateral Enhanced Security Partnership,” Media Statement, Prime Minister of Australia, 16/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3FQyWwt

[5] “AUKUS: China Denounces US-UK-Australia Pact as Irresponsible,” BBCNews, 17/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bbc.in/3mYGwfS

[6] “Remarks by President Biden, Prime Minister Morrison of Australia, and Prime Minister Johnson of the United Kingdom Announcing the Creation of AUKUS.”

[7] Fareed Zakaria, “The Pentagon is Using China as an Excuse for Huge New Budgets,” The Washington Post, 18/3/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://wapo.st/3DNR3Bk

[8] Alexander Chieh-Cheng Huang, “The United States and Taiwan’s Defense Transformation,” Brookings, 16/2/2010, accessed on 17/10/2021, at: https://brook.gs/3jcpwS5

[9] جوناثان بيركشاير ميلر، “بحر الصين الجنوبي: بؤرة الصراع القادم”، ترجمة كريم الماجري، تقارير، مركز الجزيرة للدراسات، 6/6/2016، شوهد في 17/10/2021، في: https://bit.ly/3pafkxb

[10] James Kitfield, “‘We’re Going to Lose Fast’: U.S. Air Force Held a War Game that Started with a Chinese Biological Attack,” Yahoo News, 10/3/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://yhoo.it/3ASGhro

[11] Frances Mao, “AUKUS: Australia’s Big Gamble on the US over China,” BBC News, 22/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bbc.in/3n1rcyT

[12] Michael Fullilove, “What a New Defense Pact Reveals About America,” The Atlantic, 21/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3aIx0HJ

[13] Max Boot, “Biden’s Australian Submarine Deal is a Big Win in the Strategic Competition with China,” The Washington Post, 20/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://wapo.st/2XibOVY

[14] Mao.

[15] Fullilove.

[16] Mao.

[17] Ibid.

[18] Ibid.

[19] Flavia Krause-Jackson, Ania Nussbaum & Kitty Donaldson, “The French won’t Forget being Snubbed over Submarines,” Bloomberg Quint, 22/9/2021, accessed on 17/10/202, at: https://bit.ly/3mUImOI

[20] “Biden’s Multilateral Strategy can Counter China – up to a Point,” The Washington Post, 17/3/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://wapo.st/3DNRL1f

[21] Ben Westcott, “US-China Policy: Biden Bringing together Japan, Australia and India to Stare Down China,” CNN, 24/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://cnn.it/3AVglM4

[22] “Joint Statement from Quad Leaders,” Statements and Releases, The White House, 24/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3peGRh1

[23] Ibid.

[24] Qian Feng, “Quad Economic Ties not Solid Enough to Tie India on Chariot of ‘Asian NATO’,” Global Times, 10/3/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3DPyHja

[25] Westcott.

[26] Brad Lendon & Blake Essig, “Japan’s Defense Minister Draws Red Line in Island Dispute with China,” CNN, 16/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://cnn.it/3lO08Un

[27] Westcott.

[28] Gerry Shih & Anne Gearan, “As Biden Hosts First Quad Summit at the White House, China is the Background Music,” The Washington Post, 24/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://wapo.st/2YV2TLd 

[29] Ibid.

[30] Ibid.

[31] Rick Noack, “Macron Says Europeans Need to Stop being Naive and Assert Independence from the United States,” The Washington Post, 28/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://wapo.st/3DLw3eo

[32] Charles A. Kupchan, “Europe’s Response to the U.S.-UK-Australia Submarine Deal: What to Know,” Council on Foreign Relations, 22/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://on.cfr.org/3lJB4hj

[33] Roger Cohen, “Macron Takes on U.S., a Big Gamble Even for a Bold Risk-Taker,” The New York Times, 20/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://nyti.ms/3aJDTbM 

[34] Sylvie Corbet, “US-French Spat Seems to Simmer down after Biden-Macron Call,” Associated Press, 22/9/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3n03F1o

[35] Richard Weitz, “Assessing Chinese-Russian Military Exercises: Past Progress and Future Trends,” Report, Center for Strategic and International Studies, 9/7/2021, accessed on 17/10/2021, at: https://bit.ly/3lQPH2B

[36] “Remarks by President Biden, Prime Minister Morrison of Australia, and Prime Minister Johnson of the United Kingdom Announcing the Creation of AUKUS.”

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى