منذ الأسابيع الأولى من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، برزت الرغبة الروسية الجامحة في تقريب المناطق الأوكرانية المحتلة من مدارها، في سياسة أطلق عليها الكرملين “حملة لدمج المناطق الخاضعة لها”؛ وذلك من خلال توأمة مدن روسية وأوكرانية، ومحاولة الربط الاقتصادي بين روسيا والمناطق الخاضعة لسيطرتها داخل أوكرانيا. وقد كانت هذه السياسات ضمن مجموعة من التحركات الهادفة إلى تعزيز السيطرة المجتمعية والسياسية على أوكرانيا، وهي التحركات التي تضمنت، على سبيل المثال، منح جوازات سفر روسية لمواطني بعض المناطق في أوكرانيا، وتسليم عدد من المسؤولين الروس وظائف رفيعة في الأجزاء الخاضعة لسيطرة موسكو داخل أوكرانيا. هذه التحركات المتتالية والمتلاحقة، أثارت تساؤلات حول ماهية تلك السياسات، والغاية من ورائها، ومدى إمكانية نجاح روسيا في دمج اقتصاد تلك المناطق في اقتصادها، والتأثير المحتمل لذلك على مسيرة الحرب.
الربط الاقتصادي
سعت موسكو إلى تعزيز حضورها في المناطق الخاضعة لسيطرتها في جنوب وشرق أوكرانيا عبر برامج اقتصادية تحقق لها الهيمنة على تلك المناطق، وتربطها بالاقتصاد الروسي. وفي هذا الإطار، اعتمدت موسكو على عدد من السياسات الاقتصادية تجاه المناطق الخاضعة لها في أوكرانيا، ويمكن تناول أبرزها فيما يأتي:
1– التوسع في استخدام الروبل في المعاملات التجارية: في الوقت الراهن، تسعى روسيا إلى تحقيق الهيمنة الاقتصادية على أراضي جنوب أوكرانيا التي تخضع لها؛ وذلك بإدخال الروبل الروسي، ليصبح ذلك هو العنصر الملموس والمعبر عن التكامل بين روسيا وتلك المناطق؛ حيث بات من الممكن شراء كل شيء بالروبل والهيرفنيا (العملة الأوكرانية)، بيد أن موظفي مقاطعة “بيرديانسك” الخاضعة لسيطرة روسيا، لا يزالون يتلقون رواتبهم بالعملة المحلية، فيما شهدت مقاطعة ميليتوبول التي تقع على بعد 100 كيلومتر غرب بيرديانسك، بعد السيطرة الروسية في الأول من مارس الماضي من العام الجاري، وصول العملة الروسية عبر شبه جزيرة القرم المجاورة.
ووفق عمدة هذه المدينة الموالية لروسيا “جالينا دانلشينكو” بحسب تصريحات نقلتها صحيفة الشرق الأوسط، فإن “المقاطعة باتت منطقة لعملتين؛ حيث وصل الروبل بفضل الطريق المفتوح إلى شبه جزيرة القرم، كما بات من الممكن استئناف العلاقات التجارية مع روسيا التي توقفت بعد عام 2014؛ وذلك عبر شبه جزيرة القرم الخاضعة لسيطرة روسيا منذ ذلك الوقت”.
2– بناء سلسلة إمداد جديدة بين روسيا والمناطق الأوكرانية: وفق المدير العام لمسبك بيرديانسك للمعادن “أليكسي أندروسينكو” فإن “المسبك لم تعد لديه سلسلة لوجستية أخرى بخلاف روسيا، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وبمجرد نفاد المواد الخام، يستعد “أندروسينكو” للتعاون مع مصنع الصلب (ألتشفسك)، الذي يضم أكثر من 10 آلاف موظف ويخضع منذ عام 2014 للانفصاليين الموالين لروسيا من لوجانسك في شرق أوكرانيا.
وتستهدف روسيا، في ذلك الإطار، بناء سلسلة إمداد قادرة على العمل بكفاءة وفاعلية؛ ما يجعل ذلك هدفاً براقاً بالنسبة إلى روسيا، وهو وجود ميناء بيرديانسك الذي يمثل ميزة اقتصادية رئيسية، خاصةً مع حفاظه على سلامته نسبياً رغم الحرب على عكس ميناء ماريوبول الذي تعرض لهجمات عديدة؛ إذ رغم الهجوم الذي تعرض له الميناء في أواخر مارس الماضي، فإن ألكسندر ساولينكو رئيس الإدارة التي أنشأتها موسكو في بيرديانسك، صرح بأن “الميناء ومعظم المراسي صارت جاهزة بنسبة 100% تقريباً، كما استُعيدت البنية التحتية للميناء”.
3– محاولات ربط المرافق والبنية التحتية الأوكرانية بموسكو: سبق أن أعلنت موسكو عن رغبتها في الاستمرار في السيطرة على الأراضي الواقعة في جنوب أوكرانيا حول مقاطعة خيرسون، مع التلميح إلى أنه قد يتم استيعابها مباشرةً في روسيا كشبه جزيرة القرم التي كانت مرتبطة بأوكرانيا سابقًا. وفي هذا الصدد، يجري بالفعل الاندماج الاقتصادي في تلك المنطقة؛ حيث يتم نقل إمدادات الحبوب بالشاحنات من تلك المنطقة إلى شبه جزيرة القرم، وعلى متن السفن إلى سوريا حليفة موسكو. أضف إلى ذلك، ما أفاد به معهد دراسة الحرب من أنه يتم في الوقت الحالي دمج لمحطة الطاقة النووية في “زابوريزهزهيا” بشبكة الإمداد الروسية وشبكة القرم الخاضعة لروسيا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه مع إكمال سيطرة روسيا على معظم المناطق في مقاطعة دونباس الواقعة في جنوب شرق أوكرانيا؛ اتجهت موسكو إلى ربط المناطق الواقعة تحت سلطتها بشبه جزيرة القرم التي ضمتها في عام 2014؛ وذلك عبر شبكة من الطرق، فيما أعلنت السلطات المالية لروسيا في أوكرانيا، في 29 يونيو 2022، عن إطلاق خدمة حافلات وقطارات بين شبه جزيرة القرم ومدينتي خيرسون وزابوريجيا في جنوب أوكرانيا للمرة الأولى منذ ثماني سنوات، وإسناد مهمة تأمين سلامة السفر لأفراد الحرس الوطني الروسي.
4– افتتاح فرع لصندوق التقاعد الروسي في منطقة خيرسون: أعلنت إدارة منطقة خيرسون الموالية لموسكو، في يوم 29 يونيو 2022، عن افتتاح فرع صندوق التقاعد الروسي ليكون مسؤولاً عن دفع معاشات التقاعد الحكومية، كما أعلنت السلطات، التي نصَّبت نفسها بنفسها، عن إنشاء مكتب روسي لتسجيل المواليد والوفيات والزيجات في المقاطعة، وهو الأمر الذي يكشف عن محاولات إضفاء الطابع المؤسسي على السيطرة الروسية في بعض المناطق الأوكرانية.
5– إنفاق مبالغ ضخمة على إعادة إعمار مناطق السيطرة الروسية: وفق ما صرَّح به مسؤولون محليون في المناطق الخاضعة لسيطرة روسيا في أوكرانيا، فإن موسكو تنوي إنفاق ما يصل إلى 3.5 تريليون روبل، أي ما يعادل 60 مليار دولار، على مشاريع إعادة الإعمار في الأجزاء الخاضعة لسيطرتها في منطقتي دونيتسك ولوجانسك في أوكرانيا. علاوة على ذلك، فإن روسيا تخصص مبالغ ضخمة لإعادة إعمار مقاطعة دونباس الواقعة تحت سيطرتها، فيما تلقَّت مقاطعة بيرديانسك هي الأخرى نحو 90 مليون روبل؛ أي ما يعادل 1.5 مليون يورو، من المساعدات المالية القادمة من روسيا.
سيناريوهات محتملة
عند السؤال عن مدى قدرة روسيا على تحقيق التكامل الاقتصادي والاندماج التام مع المقاطعات الأوكرانية الخاضعة لها، فإن هناك عدداً من المسارات المحتملة، يمكن تناول أبرزها على النحو الآتي:
1– تعثر روسيا في تحقيق أهدافها الاقتصادية الكاملة في جنوب وشرق أوكرانيا: وفق ذلك السيناريو، فإن روسيا قد تتمكن من اتخاذ خطوات أكثر برجماتية في تحقيق التكامل الاقتصادي مع مناطق جنوب وشرق أوكرانيا الخاضعة لها، وهو ما يعني تحقيقاً جزئياً لبعض سياسات الدمج الاقتصادي؛ حيث تكتفي موسكو بالحصول على مكاسب اقتصادية جزئية، وخاصةً أنه بدون وجود ملموس لها في العاصمة الأوكرانية كييف، وبدون سيطرتها عليها، لا ضمانة لروسيا في الحفاظ على مكتسباتها في جنوب وشرق أوكرانيا، كما أنه لا يمكن لروسيا التأثير بدرجة كبيرة في التغيير الاستراتيجي المرجو؛ إذ سيظل من الصعب إدارة اقتصاد تلك المناطق بدون أي تنسيق مع العاصمة؛ إذ يبدو مستحيلاً أن يحدث تعاون بينها نظرًا إلى غياب عامل الثقة، والرفض التام لفكرة الاحتلال من الجانب الأوكراني، والرفض الروسي لمساعي التهدئة.
2– حرمان موسكو من الفرص الاقتصادية المحتملة: قد ينجح الجيش الأوكراني، وفقاً لهذا السيناريو، في دفع روسيا إلى الوراء فتخفق تماماً سياسات الدمج الاقتصادي التي تتبناها موسكو؛ ما يحرم الرئيس “بوتين” من فرص اقتصادية جمة قد تأتي من وراء ضم اقتصاد المناطق الأوكرانية المحتلة إلى اقتصاد بلاده، وقد يتحول الأمر إلى هشاشة في رد الفعل الروسي؛ ما قد يساهم في إطالة الصراع لأطول فترة ممكنة. ولعل ضرب جسر مضيق كيرتش، الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم، والذي يمتد طوله 11 ميلاً، يمثل هدفاً واضحاً للقوات الأوكرانية التي تعمد إلى حجب الجسر بالدخان وتسعى إلى تدميره، بيد أن القوات المسلحة الأوكرانية لا تملك حتى الآن الوسائل القادرة بالفعل على ضرب جسر من الصلب والخرسانة تبلغ تكلفته 3.6 مليار دولار، ويتميز بطول متوازٍ للطرق والسكك الحديدية، ويدعم ما يصل إلى 15000 مركبة في اليوم.
غير أن قدرات الضربات العميقة لأوكرانيا آخذة في التحسن. ويدلل على ذلك نجاح الجيش الأوكراني عبر طائرات الهليكوبتر Mi–24 والقوات الجوية بمقاتلاتها Su–27 وطائرات TB–2 بدون طيار، في شن ضربات عميقة ضد المنشآت الروسية، علاوة على استهداف الجيش الأوكراني في أبريل الماضي مستودعاً للوقود في بيلجورود في روسيا على بعد 25 ميلاً شمال الحدود مع أوكرانيا، وهو الأمر الذي يثير مخاوف روسيا من خسارة مكتسباتها في أوكرانيا بعد قتال يقترب من شهره الخامس.
3– نجاح روسيا في ضم المناطق الأوكرانية الخاضعة لسيطرتها والاحتفاظ بها: يفترض هذا السيناريو أن تنجح روسيا في ضم المناطق المحتلة في أوكرانيا إليها، مثلما فعلت من قبل حين ضمت شبه جزيرة القرم الواقعة في جنوب شرق أوكرانيا منذ عام 2014؛ إذ لم تفلح أوكرانيا ولا المجتمع الدولي بأسره، بعقوباته وسياساته التطويقية آنذاك، في زحزحة الموقف الروسي عن الضم.
وربما تُعقَد خلال الفترة القليلة المقبلة استفتاءات في كافة المناطق الواقعة تحت سيطرة روسيا، وتكون النتيجة لصالح ضم تلك المناطق إلى روسيا ومن ثم دعم تحقيق مزيد من الاندماج والتكامل الاقتصادي بالكامل ضمن الاقتصاد الروسي، والاحتفاظ بما جنته خلال الفترة الماضية، لتدشن بذلك مرحلة جديدة من المعركة، ستكون بكل تأكيد لصالحها.
إجمالاً.. يبدو في ظل التطورات الراهنة والمتلاحقة، مدى صعوبة التنبؤ بمسار الحرب الروسية المستمرة ضد أوكرانيا، غير أن تبنيَ روسيا تكتيكات اقتصادية واجتماعية بجانب تكتيكاتها العسكرية، في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، يُقوِّي جبهتها، ويَزيد صلابة موقفها، إذا تمكنت من الحفاظ على مكتسباتها أمام المحاولات الأوكرانية لزعزعة مساعي روسيا في جنوب وشرق أوكرانيا، وعرقلة عمليات الضم هذه.