*مصطفى قطبي
محاولات حرف البوصلة عن العدو الصهيوني ليست جديدة والبعبع الإيراني كان دائماً هو السبب، ولذا لا يفاجئنا أن تتلاقى مصالح بعض الخليجيين مع المصلحة الصهيونية في العداء المعلن لإيران. وبيت القصيد في هذا الشأن هو ما بدأ الكيان الصهيوني بالترويج له علناً منذ عام 2005 وربما سرّاً منذ عقود قبل ذلك، وهو أن الخطر في المنطقة هو الخطر الإيراني أو الشيعي وليس خطر الاحتلال اليهودي والاستيطان الصهيوني لفلسطين والأراضي العربيّة المحتلة الأخرى، ومصادرة الحقوق الوطنية والإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 70 عاماً وأهلنا في الجولان ومزارع شبعا وفي كلّ شبر من الأراضي المحتلة.
والمروجون لهذه المعادلة في المنطقة هم أنفسهم إسرائيل والولايات المتحدة الذين حاولوا نفخ إكسير الحياة في أوهام تسير عكس حركة التاريخ والجغرافيا. ففي الوقت الذي أصبحت فيه الصين وروسيا قطبين عالميين أساسيين يرسيان الأسس المتينة لعالم متعدد الأقطاب، وفي الوقت الذي شكّل صمود سورية هزيمة لحرب الإرهاب المدروسة والممولة والمسلحة من إسرائيل والسعودية ونحو مئة دولة أخرى ونيف، وفي الوقت الذي نجم عن صمود سورية تحالف سوري إيراني روسي عراقي لبناني عبر حزب الله، وفي الوقت الذي صمد فيه شعب اليمن صموداً أسطورياً ولم تتمكن كلّ قوى العدوان من كسر إرادته، وفي الوقت الذي سلّمت به الولايات المتحدة سرّاً أو جهراً أن إيران دولة إقليمية مركزية ولا يمكن شنّ حرب ضدها لأن الخسائر ستكون غير محسوبة، في هذا الوقت تلجأ السعودية إلى التجييش ضد إيران في وضع دولي أنهكته صيحات الحرب الإسرائيلية وبحور الدماء والخراب التي تنشرها الولايات المتحدة عملاً بنصائح إسرائيلية.
عملياً لم نسمع حتى الآن أن إيران هددت أي دولة في جوارها أو خارجه، ولم نسمع أن إيرانياً واحداً نفذ عملية إرهابية في أي دولة في العالم، كل ما نعرفه عن إيران أنها دولة إسلامية أغلقت سفارة الكيان الصهيوني ومنحتها الفلسطينيين ودعمت حركات المقاومة الشرعية وساندت الدول التي تتعرض لعدوان خارجي احتراماً لسيادة واستقلال الدول.
لسنا بصدد الدفاع عن إيران، فهي قادرة على الدفاع عن نفسها، لكن اللافت في كل ما جرى ويجري في الرياض، هو الكم الهائل من التهم التي تلصق بإيران. والسؤال الذي يطرح باستمرار: كيف يمكن وضع إيران وإسرائيل في مرتبة واحدة؟
فالعداء المصطنع للجمهورية الإسلامية الإيرانية واستعداء كل ما هو إيراني ونسبة كل الشرور إليه، بات شماعة ومبرراً للتوغل في العمالة لكيان الاحتلال الصهيوني وحلفائه الاستراتيجيين، فقد صارت اليوم الأدوات في المنطقة من تنظيمات إرهابية وقوى رجعية داعمة وممولة لها تتقاسم مع كيان الاحتلال الصهيوني المصالح الاستراتيجية، وتعمل على أن تمد الفضاء الاستراتيجي لهذا الكيان الغاصب المسخ على حساب استقرار المنطقة وأمنها وتنميتها واستقلالها، وعلى حساب المصالح العليا لمجتمعاتها الموضوعة على مخطط التفتيت والتخريب والتقسيم كي لا يبقى أمن كيان الاحتلال الصهيوني مهددًا، وليبقى النفط سلعة بيد المتحالفين استراتيجيًّا مع كيان الاحتلال الصهيوني يتحكمون بها وبأسعارها، وعليها وبها يرسمون سياساتهم ومشاريعهم الاستعمارية.
الارتماء غير محسوب العواقب في الحضن الصهيوني بدأ يأخذ أبعادًا خطيرة على مستقبل المنطقة، في حين يبذل كيان الاحتلال الصهيوني وحلفاؤه الاستراتيجيون قصارى جهدهم لاستثمار العداوة المصطنعة والمفتعلة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبعض الدول العربية بحكم مواقفها الرافضة والمقاومة للاحتلال الصهيوني ودعمها للشعب الفلسطيني ونضاله ضد المحتل، في ترتيب أوضاع المنطقة بما يحقق أهداف المخطط المرسوم بإعادة رسمها لصالح كيان الاحتلال الصهيوني.
وإزاء هذا الانحدار والتواطؤ العربي ألا يعكس اتخاذ العداء المصطنع لإيران استحماراً وسياسة قطيع لتبرير العمالة والخيانة الأفعال الشائنة؟
وحتى لا نتهم أننا بوقاً لإيران، نسوق بعض الأدلة وليس كلها للاستدلال ليس إلا. فقد أوضح نائب الرئيس الأميركي في كلمته بمؤتمر الإيباك السنوي في واشنطن والذي حضره ثلثا أعضاء الكونغرس. أوضح أسباب عدائهم لإيران والأسباب تنطلق من منظور إسرائيلي بحت، على حين لم يسرد القادة العرب أسباب عدائهم لإيران ولجؤوا فقط إلى عبارات جوفاء ولكنها هي نفسها التي تستخدمها إيباك في اتهام إيران بإثارة القلاقل في المنطقة، وعلّنا نجد في كلمة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس السبب الحقيقي للموقف من إيران. فقد قال مخاطباً الإيباك: ”لقد وضعت هذه الإدارة إيران تحت المراقبة، ولن تتحمل الولايات المتحدة بعد اليوم جهود إيران لزعزعة استقرار المنطقة وإحداث الشلل في الأمن الإسرائيلي”.
ولكنه استطرد ليوضح السبب الحقيقي الكامن خلف عداء الولايات المتحدة لإيران: ”إن آيات الله في طهران يعترفون علناً برغبتهم في محو إسرائيل من الخريطة وإغراق شعبها في البحر، وعلى مدى عقود زودت إيران بالمال والسلاح الإرهابيين في لبنان، (يقصد حزب الله طبعاً) وسورية وقطاع غزة وحماس. وقد ذهبوا بعيداً في تطوير السلاح النووي والصواريخ البالستية واليوم لديهم مصادر إضافية لإحداث فوضى تهدد أمن إسرائيل، ولذلك دعوني أكن واضحاً، في ظلّ رئاسة الرئيس ترامب لن تسمح الولايات المتحدة لإيران بتطوير السلاح النووي، وهذا هو وعدنا المقدس لكم ولإسرائيل وللعالم”.
من هنا يتضح للجميع أن موقف الولايات المتحدة من إيران سببه الأساس هو موقف إيران من الكيان الصهيوني والقدس والقضية الفلسطينية ودعم قوى المقاومة والممانعة، فإذا تخلّت إيران عن موقفها هذا فإنها ستحظى بعلاقات جيدة مع واشنطن وحينئذ أين ستكون السعودية وأزلامها؟ ولذلك يتم الترويج اليوم من قبل السعودية وحلفائها، وبقوّة، لفكرة التناقض بين العروبة وإيران علماً أنهم كانوا ومازالوا يعادون القومية العربية علناً، فالفكر القومي حرام حسب فتاوى شيوخ الوهابية، وكأن هؤلاء الذين يقصفون شعب اليمن ويقتلون أطفاله ونساءه ويدمرون حضارته، كأن هؤلاء يمثلون العروبة وهم الذين قادوا الحرب على ليبيا، ومازالوا يقودون الحرب على العراق وسورية ولبنان والبحرين ومصر، وقاموا بدورهم في انفصال جنوب السودان، ويشجعون انفصال شمال العراق.
فما لم نرجع بالصراع إلى أسّه وجذوره لن تهدأ الأوضاع، ولن تنجلي أزمة الأفراد والمجتمعات والسلطات أيضاً، ولذلك تتضافر الجهود الكبرى الخبيثة لطمس أسباب الصراع، وحرفه عن محوره الأساسي أي الصراع العربي الصهيوني باتجاهين، الأول: صراع عربي إيراني، والثاني: ناتج عن الأول صراع عربي عربي، تطوّر إلى صراع داخلي محلي .فها هي القضية الفلسطينية المركزية تغيب بالتدريج عن شاشات فضائيات التضليل الإعلامي، وبالكاد يستمع المواطن العربي إلى حوار يبيّن ما يجنيه المشروع الصهيوني من اضطراد الراحة والنمو والهدوء، باستثناء فعاليّة الإعلام المقاوم الذي يمرّ تلقيه في مرحلة كمون بسبب سياسات الهيمنة الصهيوأطلسية الرجعية العربية التي طالت الميديا أيضاً، ما يجعل من نشر ثقافة المقاومة واجباً وطنيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً.
في مسلسل الصراع العربي ـ الإسرائيلي كان الدور الإيراني حاضراً بقوة ولاعباً رئيسياً لجهة تبني القضية الفلسطينية ودعم الكفاح الفلسطيني ضد الهيمنة والتسلط الإسرائيلي، انتهج خلاله الإمام الخميني حتى في فترة ما قبل الثورة الإسلامية الإيرانية فكراً عقائدياً واستراتيجية مواجهة مع الكيان الصهيوني استطاع من خلالها أن يقود حراكاً جماهيرياً ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان أول المعترفين مع تركيا بالكيان الصهيوني والمتحالف معه بشدة، لدرجة أن العلاقة مع إسرائيل والتنسيق معها والخضوع لإملاءاتها كانت الأسباب الرئيسة والشرارة الفاعلة في انطلاق الثورة الإسلامية وانتصارها في العام 1979.
وبكل أسف كان موقف الأنظمة الخليجية وفي مقدمتها السعودية، موقفاً غبياً لا ينم عن أي قراءة سياسية صحيحة، لمواقف القوى الدولية العظمى والقوى الإقليمية، ولم تستفد قط هذه الأنظمة من الدروس التاريخية القريبة، فقد وضعت كل بيضها كما يقال في سلة الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، واستطاعت هذه القوى أن تسرق منهم عشرات مليارات الدولارات، ثمن صفقات أسلحة بحجة مواجهة ”الخطر الإيراني”، في الوقت الذي تمد إيران يدها لجيرانها وتعلن على الدوام تمسكها بعلاقات جيدة مع جوارها.
فدول الخليج تتوهّم دائماً عدواً غير العدو الحقيقي الذي تتحدث عنه في إعلامها، فيتحدثون دائماً عما سموه ”العدو الإيراني” وأنه ”خطر ببعديه القومي والمذهبي” أي الديني، وهذه الدول عندما كان شاه إيران يتربع على العرش، كانت تربطهم به علاقات جيدة ولا تشوبها شائبة، كان نظام الشاه هو الشرطي الأول في المنطقة للغرب بعامة وللولايات المتحدة الأميركية بخاصة، وعندما جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 لتعلن إنهاء حكم الشاه وتقيم نظاماً إسلامياً جديداً، يعادي الغرب ويغلق سفارة الكيان الصهيوني، ويسلمها لمنظمة التحرير الفلسطينية، معلناً عزمه على تحرير القدس الشريف، وبالتنسيق مع العرب الذين يعدون القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية، وترافق ذلك مع خروج مصر، الدولة العربية الأكبر من ساحة الصراع العربي ـ الصهيوني، بسبب توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وموقف العرب مجتمعين ضد هذا الاتفاق من خلال مؤتمر القمة الذي عقد في بغداد، مجمّدين عضوية هذا القطر في مجلس الجامعة التي انتقلت بدورها إلى القطر التونسي الشقيق، فإن العرب بدل أن يضموا جهودهم إلى جهود الثورة الإسلاميّة الإيرانية في تحرير فلسطين، بدؤوا بالالتفاف على هذه الثورة، وكادت سورية أن تكون وحيدة في وقوفها إلى جانب الثورة الإسلامية، محذرة من عواقب معاداتها وانعكاس ذلك على المصلحة القومية العربية.
لقد بقيت المقاومة وصمودها هي مشكلتهم، والخطر الإيراني المزعوم والمفتعل قضيتهم، لقد أهدروا ثروات طائلة، وقدموا كل ما يملكون للغرب الأمريكي، والأوروبي لحماية عروشهم، لكنهم لم يستطيعوا صناعة بندقية واحدة، وهم أغنى من إيران، أكثر من نصف قرن، وهم يسرفون وينفقون، واستطاعت إيران في أقل من عشرين عاماً أن تكون دولة صناعية كبيرة وفضائية ونووية، وأن تمتلك أسباب العلم والتقدم، فيما هم غارقون في لهوهم وكيدهم لكل ما هو قومي، ووطني وأصيل، كانوا داعمين لتدمير العراق، وكانوا داعمين لتدمير ليبيا وكانوا داعمين لتدمير أفغانستان، كانوا ممولين ومساندين لكل ما يهدم أركان العمل القومي من أيام عبد الناصر وما قبل إلى اليوم. أما فلسطين واغتصابها والمقدسات وهدمها، وإسرائيل وطغيانها فليس هذا في واردهم…
لقد نسي هؤلاء أن إيران حقيقة تاريخية جغرافية، وأن ما بينها وبين العرب من أواصر وصلات هي إبنة التاريخ والجغرافية، وأن المصالح المشتركة بيننا كعرب وبين الشعب الإيراني كثيرة مع الرابط الديني أيضاً، أما إسرائيل فكيان غريب وعدواني قام على أشلاء شعب فلسطين وعلى آلامه، وهو كيان يمثل وقد مثل دائماً خطراً وجودياً على أمة العرب كلها بل كذلك على الإسلام والمسلمين أيضاً.
السؤال هو: هل إن من مصلحة العرب معاداة إيران؟ ولماذا؟ بل لمصلحة من حرف الاتجاه وتبديل العدو؟ أين القضية العربية المركزية في فلسطين؟ ألم يعد الكيان الصهيوني يشكل خطراً على الأمن القومي للعرب؟ ألم يقل العقل أن نبحث عن الأصدقاء قبل أن نبحث عن الأعداء… فإن كانت إيران تقول أنها ضد إسرائيل ومع كفاح الشعب الفلسطيني… فلماذا نكذبها ونريدها أن تكون عدوا لنا بدلا من أن تكون في صفنا ضد عدونا المشترك؟
في ميزان العقيدة القومية يبدو ”الثقل” الإيراني وازناً للغاية وجاثماً بقوة على الصدر الإسرائيلي، يتمسك بحقوقه المشروعة، ويؤمن بأحقية الشعوب في مواجهة الكيان الصهيوني المغتصب لأراضيها ولا يدخر جهداً في توفير وتقديم الدعم المالي واللوجستي لحركات التحرر من هذا الكيان. أما في الضفة الخليجية التي تتزعمها مملكة آل سعود، فالنظام السعودي يجد مصلحته مع الكيان الصهيوني، وليس مع أي تحالف يساعده في مواجهة هذا الكيان الغاصب القاتل، الذي شرد شعبنا العربي الفلسطيني من أرضه، ولم يقبل بأي حل عادل لقضية هذا الشعب، وبدل مواجهته والضغط عليه دولياً، يذهب هذا النظام للتحالف معه ويدعو لمؤتمرات أمنية ويستمع فيها إلى خطابات رئيس الكيان الصهيوني مصفقين له، ويسهم بطريقة أو أخرى في شق الصف العربي ودعم كل التنظيمات الإرهابية من قاعدة ودواعش وغيرها، لتعيث فساداً في الساحة العربية وتسهم في تجزئة المجزأ، وتقدم الصور القاتمة والمشوهة عن العروبة والإسلام إلى الرأي العام العالمي، وتعطي في ذلك المسوّغات للكيان الصهيوني للتمسك بما يسعى إليه ويضغط على الطرف الفلسطيني في مفاوضاته العبثية معه وعلى العرب، للاعتراف ”بيهودية الدولة”، وتنفيذ مخططاته القديمة الجديدة في إقصاء عرب 1948 وفي فرض الحل التعسفي الذي يريده وتمرير ”صفقة القرن” بتواطؤ أميركي ـ خليجي مكشوف.
ومن المؤكد أن هؤلاء الذين صرفوا ويصرفون مئات المليارات للكيد بسورية واليمن والعراق ولبنان… هم أنفسهم الذين يريدون حرف البوصلة وتحويل الأنظار عن الخطر الصهيوني وعن العدو الصهيوني وهم ماضون في مخططهم العدواني. لقد نسوا فلسطين وأهلها وحقوق شعبها ونسوا خطر ”إسرائيل” المصيري على الأمة وراحوا يبحثون في سبل تدمير الصلات مع الثابت الجغرافي التاريخي لكي يتشبثوا بالمتغير الطارئ على حساب حقوقنا العربية وأمننا القومي وطموحات أمتنا العربية.
علينا اليوم أن نقول: وداعاً للنفاق العربي، وأن نشهد حقبة جديدة بعد هذا الربيع الصهيوني الدامي، وأن نعلن فراقاً أبدياً بيننا وبين أساليب العمل العربي التي قادت إلى تعزيز الاستيطان في فلسطين وإلى المهانة للشعب العربي في مختلف أقطاره، وإنَّ كلّ إحلال للتناقض العربي الإيراني محلّ الصراع العربي الصهيوني جريمة كبرى على التاريخ والحاضر والمستقبل. وكلّ من يسهم في هذا الإحلال عميل للمشروع الصهيوني في المنطقة ولذيوله الأمريكيّة والرجعيّة العربيّة والعثمانيّة، وهو في الوقت نفسه عدو لمحور المقاومة والدفاع عن الحقوق والمقدسات، سواء أكان هذا المسهم مثقفاً أم سياسياً أم رجل دين أم حاكماً. فعودة الوعي قريبة، والهوية الوطنية والقومية حتمية تاريخية، فلا يأس، وإنما الخذلان موجة عابرة.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.