دراسات اقتصادية

واقع الاقتصاد الروسي

فاز حزب فلاديمير بوتين «روسيا الموحدة» بـ343 مقعدا من أصل 450 مقعدا في الدوما، في الانتخابات البرلمانية الروسية التي أجريت في سبتمبر (أيلول) 2016. في ظل المزاعم المنتشرة بتزوير الانتخابات، وضعف نسبة إقبال الناخبين التي بلغت 48 في المائة، وعدم وجود معارضة فعلية، لم يكن فوز «روسيا الموحدة» مفاجئا. وحاليا أصبح أمام حكومة بوتين 5 أعوام أخرى في حكم البلاد، وتستمر شعبية بوتين بمعدل 80 في المائة.
من المرجح أن يشارك بوتين، الذي يبلغ من العمر 63 عاما، وهو أقوى رجل في روسيا على مدار الأعوام الـ16 الماضية، في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في عام 2018، ليتولى رئاسة روسيا للمرة الرابعة.

الانتخابات الرئاسية

وكما حدث في انتخابات الدوما، من المتوقع أيضا أن تأتي نتيجة الانتخابات الرئاسية في صالح بوتين بسهولة، لتضمن استمرار حكمه في روسيا. بيد أن عاما يفصل بيننا الآن وموعد الانتخابات الرئاسية في 2018؛ فهل يمكن أن يتسبب أي شيء في إضعاف شعبية فلاديمير بوتين، وبالتالي إضعاف قبضته على السلطة؟ بذلت الحكومة الروسية الكثير في ما يتعلق بالدعاية والمعلومات المضللة من أجل ضمان استمرار شعبية بوتين والمساعدة على تقديم دعاية إيجابية داخل روسيا عن مغامراته في الخارج (من القرم إلى دونباس إلى سوريا)، لكن أحد الجوانب المساعدة في شعبية بوتين واستقرار نظامه في الداخل هو الاقتصاد الروسي. اجتازت البلاد طريقا طويلا منذ الفترة المظلمة التي شهدتها في التسعينات عندما كانت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي دولة فاشلة بالفعل. وفي روسيا، كما هي الحال في دول الاتحاد السوفياتي السابق المجاورة، قد يصبح أي نوع من الرخاء الاجتماعي الثابت الذي تموله الدولة سببا في رضا الشعب نسبيا. إذا تهاوى الاقتصاد الروسي، فسيكون على الحكومة أن تلجأ إلى إجراءات تقشفية تقتطع من المعاشات والرواتب، وهي بالتأكيد قشة يمكن أن تقصم ظهر البعير. وبالتالي ليس من المفاجئ أن يعتقد كثير من الخبراء أن المتاعب الاقتصادية الكبيرة من المرجح أن تزعزع استقرار نظام فلاديمير بوتين.
وعلى أي حال، تلك الطريقة في التفكير كانت الدافع الأساسي وراء العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا؛ حيث يمثل التهديد بعدم الاستقرار الاقتصادي تهديدا بزعزعة استقرار نظام بوتين، وبالتالي قد تُستخدم العقوبات الاقتصادية بوصفها إحدى أدوات القوة الناعمة للسيطرة الخارجية على بوتين والمقربين منه، لإثناء روسيا عن اتخاذ خطوات عنيفة أخرى في الخارج، وتحديدا في مناطق مثل أوكرانيا وسوريا.

مؤشرات اقتصادية رئيسية

وهكذا، في ضوء العقوبات واستمرار انخفاض أسعار النفط (مصدر الدخل الروسي الأساسي)، ما حالة الاقتصاد الروسي في الوقت الراهن؟ تم تنفيذ العقوبات منذ نحو عامين. وانخفضت أسعار الطاقة واستمرت متدنية تقريبا منذ فرض العقوبات مباشرة. كان تأثير الصدمة المزدوجة على الاقتصاد الروسي كبيرا، ولكنه لم يكن مهلكا على أي حال. في البداية، فقدت العملة ربع قيمتها، ففي عام 2015 شهدت روسيا ركودا حادا، حيث وصل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى سالب 3.7 في المائة. بعد ذلك وصل النمو إلى نحو سالب 0.5 في المائة في عام 2016. لم تؤدِ الآثار المباشرة للعقوبات وانخفاض أسعار النفط، وحتى الفساد المنظم وغياب الشفافية في الاقتصاد الروسي، إلى استمرار الركود الشديد. من المتوقع بالفعل أن يحقق الاقتصاد الروسي استقرارا نسبيا في عام 2017، ووفقا لبعض التوقعات، يمكن أن يحقق نموا إيجابيا بمعدل 0.7 في المائة. ويشار إلى انخفاض معدل البطالة، حيث يقل عن 6 في المائة. وفي حين كان معدل التضخم مرتفعا في عام 2015؛ إذ بلغ 15.6 في المائة، انخفض الآن إلى أقل من 7 في المائة (تقريبا في المتوسط) في عام 2016.

تسببت الأزمة الاقتصادية أيضا في ارتفاع معدلات الفقر في روسيا. ووفقا لبيانات البنك الدولي، كانت 11.2 في المائة من السكان يعانون من الفقر في عام 2014. وارتفعت النسبة إلى 13.3 في المائة في عام 2015. ومع أن الزيادة صارخة، توضح البيانات أن معدلات الفقر في روسيا لا تزال أفضل كثيرا مما كانت عليه في عام 2005 (17.8 في المائة) أو في عام 2002 (24.6 في المائة). ويكشف الدخل القومي الإجمالي للفرد، وهو وسيلة أخرى مهمة لقياس الفقر، عن نتائج مشابهة. شهد مؤشر الدخل القومي الإجمالي انخفاضا حادا من 14.840 دولار في عام 2013 إلى 11.000 دولار في عام 2015. بيد أن ذلك يظل مقبولا مقارنة بمؤشر الدخل القومي الإجمالي الروسي الذي بلغ 3.440 دولار في عام 1991، وبلغ 1.750 دولار في عام 1999، عندما أصبح فلاديمير بوتين رئيسا لوزراء روسيا لأول مرة.

التطلع إلى المستقبل

ينقسم الاقتصاديون في الغرب حول توقع تداعيات الظروف الاقتصادية الراهنة ومتوسطة الأجل على المستقبل الاقتصادي طويل الأجل في روسيا، وعلى الشؤون المحلية والخارجية في الحكومة الروسية. على سبيل المثال، كتب سيرغي أليكساشينكو مؤخرا أنه «في ظل نقص الاستثمارات، سيكون تحقيق نمو بنسبة اثنين في المائة حُلمًا، بينما من المتوقع ألا يتجاوز معدل النمو في المتوسط واحدا في المائة في العام، وفي الواقع من فترة إلى أخرى سوف يقل عن الصفر». ولكنه أضاف أنه إذا لم يمر الاقتصاد الروسي «بانخفاض آخر بنسبة 5 في المائة في غضون عام، و/ أو تخفيض لقيمة الروبل بنسبة من 30 إلى 50 في المائة»، فمن غير المرجح أن يُغير بوتين سياسته تجاه أوكرانيا مقابل تخفيف العقوبات الغربية. وبالفعل، سوف تسمح تلك الأرقام لروسيا بالاستمرار في القيام بالتزاماتها.
من جهة أخرى، في مطلع عام 2016، حذر فلاديسلاف إنوزمتسيف المراقبين من أنه من المرجح جدا أن تدخل روسيا قريبا في «فترة تدمير ذاتي اقتصادي».
ولكن يعني «التدمير الذاتي الاقتصادي» لروسيا عودة المؤشرات الاقتصادية الرئيسية بطريقة ما إلى معدلات التسعينات المدمرة. وتوضح لنا التجربة أن ذلك الأمر لا يستغرق عاما أو اثنين، ولكن يمكن حدوثه فقط إما إثر انهيار كامل للدولة، أو نتيجة لركود اقتصادي عميق ومستمر لفترة طويلة. وليس من المرجح أن تتجه روسيا نحو انهيار كامل للدولة في المستقبل القريب، ومن المحتمل أيضا ألا تمثل الأوضاع الاقتصادية خطورة أمام إعادة انتخاب بوتين. ولكن يظل من الممكن حدوث ركود اقتصادي عميق وطويل. وبالفعل تكشف توقعات النمو لعام 2017 أن روسيا قد تنجح بالكاد في الخروج من الركود في العام المقبل. ولكن تشديد العقوبات الغربية وزيادة الإنفاق العسكري الروسي، بالإضافة إلى النفقات المستمرة لشراء ولاء الأراضي الملحقة بها بصفة رسمية أو غير رسمية في القرم ودونباس (في أوكرانيا)، وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (في جورجيا)، وترانسينستريا (في مولدوفيا)، سوف تتراكم على مدار الأعوام المقبلة. وهكذا لا يُستبعد استمرار الركود، أو على الأقل نقص النمو، حتى الآن.
تقدم روسيا نموذجا مهما لكيفية تأثير الأطراف الخارجية في دور حاسم على مصير دولة واحدة أو منطقة. يملك الغرب خيار البقاء ملتزما بالعقوبات الروسية بسبب أوكرانيا، بل ويمكن إحكامها والتوسع فيها، ولكننا نرى الآن استخدام نظام العقوبات بطاقة مساومة من جانب روسيا في المفاوضات بشأن سوريا. فهل تملك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ما يكفي من الانضباط للالتزام بالدفاع عن السيادة الأوكرانية وترك روسيا تواجه دمارا اقتصاديا طويل الأجل؟

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى