واقع التوازن العسكري في المنطقة المغاربية

بقلم د. بلهول نسيم

يتضمن المفهوم الجيوسياسي بمنطقة المغرب العربي الإشارة إلى حدين أمنيين أو بالأحرى فرعين جيوأمنيين هما: مغرب الساحل ومغرب الصحراء، وبرغم الدور المركزي الذي تلعبه منطقة الساحل المغاربي في ضبط التفاعلات السياسية – الأمنية المغاربية، فإن منطقة الصحراء المغاربية تقوم بدور مكمل في ضبط هذه التفاعلات.

أولًا- خصائص القوام الجيوسياسي والأمني للمنطقة

*المغرب العربي:البعد الهيكلي– البنائي: يتكون الحيز الجيوسياسي الخاص بمنطقة المغرب العربي ست دول هي: ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، الصحراء الغربية، موريتانيا. ويبلغ عدد سكان دول المغرب العربي نحو 130 مليون نسمة وذلك بما يشكل تقريبًا نحو ثلثي سكان الدول العربية. وتتميز هذه المنطقة بالتنوع المناخي الذي يجمع بين البيئة المناخية المتوسطية والصحراوية إضافة إلى المدارية وتوجد في هذه المنطقة دولتان نفطيتان: الجزائر(1).

*المغرب العربي: البعد القيمي– الإدراكي: تاريخيًا يطلق على هذه المنطقة اسم بلاد المغرب العربي كمصطلح مقابل لتسمية بلاد المشرق العربي، وقد شهدت بلاد المشرق والمغرب الكثير من مراحل التنافس التي لم تقتصر حصرًا على السياسية وإنما امتدت إلى الفلسفة، فقد كان ابن رشد وابن طفيل وابن خلدون يعتبرون من فلاسفة المغرب العربي في مواجهة ابن سينا والغزالي اللذين كانا يمثلان فلاسفة المشرق. لا توجد وحدة قيمية إدراكية بين أطراف بلاد المغرب العربي فبلدان ما يعرف حاليًا ببلدان الاتحاد المغاربي (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا) لا تزال أكثر ارتباطًا بالثقافة الفرانكفونية بعكس البلدان الأخرى التي تتميز بخصوصيتها الثقافية- السياسية والمجتمعية.

*المغرب العربي: البعد التفاعلي-السلوكي: لا تزال بلدان المغرب العربي تعاني من الانقطاع وعدم التواصل لوجود ثلاثة عوامل أولها يتمثل في الخلافات السياسية والثاني في وجود الصحراء الكبرى، والثالث في عدم وجود شبكات الطرق والبنيات التحتية التي تربط بينها.

وحاليًا لا تزال هذه الخصائص تمارس حضورها القوي على بلدان المغرب العربي وحتى الآن يمكن الإشارة إلى أن الإرادة والرغبة الحقيقية في تحقيق الترابط بين هذه البلدان لا تزال غير موجودة.

– الاستقرار الإقليمي وإشكالية المخاطر الكامنة الخفية

على الرغم من عدم وجود صراع بارز واضح في المغرب العربي مقارنة بالشرق الأوسط التي تتميز بالصراع العربي- الإسرائيلي، فإن منطقة المغرب العربي تتضمن صراعًا كامنًا مخفيًا يمكن أن يؤدي اشتعاله إلى واحدة من أكبر الحرائق المدمرة في الشرق الأوسط وبهذا الخصوص يمكن الإشارة إلى النقاط الآتية:

إن التحالفات القديمة الموروثة من الحرب الباردة ما زالت تقود سباق التسلح لدى بلدان المغرب العربي:
 (1) تعاني دول المغرب العربي من ضغوط اقتصادية متزايدة بسبب تزايد معدلات البطالة واكتظاظ السكان في المناطق الساحلية، إضافة إلى تزايد المديونية الخارجية ومعدلات التضخم بما أدى إلى تزايد ظاهرة الفقر.
(2) يوجد عدم إجماع سياسي داخل دول المغرب العربي وتشهد بلدان المغرب العربي المزيد من الصراعات السياسية الداخلية إضافة إلى الخلافات والصراعات بين حكومات هذه الدول.
(3) حاليًا، فإن دول المغرب العربي هي الأكثر خطورة لجهة تصاعد الحركات الأصولية الإسلامية وقد قطعت الحركات الأصولية شوطًا كبيرًا في إعداد وتجهيز أنفسها لخوض المواجهات المسلحة وفي هذا الخصوص نشير إلى الآتي:
(أ) تزايد عدد الحركات الأصولية الإسلامية المسلحة في الجزائر برغم حملات السلطات الجزائرية، وحاليًا تمثل الجماعة السلفية للدعوة والقتال الذي يحظى بدعم أغلبية إمارات الجماعات المسلحة إقليميا(2).
(ب) صعود عمليات الحركات المسلحة الإسلامية في المغرب لعدة أسباب من أبرزها: وجود الروابط والعلاقات بين إسرائيل والنظام الملكي في المغرب وتزايد النفوذ الفرنسي – الأمريكي وتزايد معدلات الفقر، وتشير التوقعات إلى أن العام القادم سيشهد تزايدًا ملحوظًا غير مسبوق لأنشطة الحركات الأصولية في المغرب.
(ج) ستزايد حركة الاستقطاب الأصولي في تونس وتقول المعلومات أن الجماعات الأصولية التونسية المسلحة التي تفرعت عن حركة الزعيم الأصولي راشد الغنوشي أصبحت برغم ضغوط أجهزة السلطة أكثر استعدادًا للقيام بشن موجة من التفجيرات وأعمال العنف السياسي التي تستهدف بشكل مباشر قطاع السياحة في تونس، والذي ينظر إليه الأصوليون في تونس باعتباره المسئول عن تزايد حنقهم نتيجة تزايد النفوذ الفرنسي والروابط بين إسرائيل وتونس.
(د) في ليبيا أدى انفتاح السلطات الليبية على الغرب بعد قرار ليبيا تسليم أسلحة الدمار الشامل وتفكيك البرنامج النووي الليبي إلى تزايد الروابط بين طرابلس وأمريكا وإيطاليا وفرنسا وفي هذا الخصوص فإن الحركات الإسلامية الليبية بعد الثورة التي لم تكن بالأساس على وفاق مع النظام الليبي تسعى إلى تجاوز حالة الارتباك، لأنها كانت تجد الدعم والمساندة بواسطة أمريكا والبلدان الغربية، ولكن بعد التطورات الأخيرة سعت أمريكا والغرب إلى التخلي عن دعم هذه الحركات، وحاليًا تسعى الحركات الأصولية الإسلامية الليبية إلى تعميق وجودها في أوساط القبائل الصحراوية الليبية المعادية لنظام الرئيس القذافي، ومن المتوقع أن تزاول هذه الحركات نشاطاتها وعملياتها بعد عام أو عامين على الأكثر.
(هـ) على خلفية معطيات البيئة الدولية المضطربة وتصاعد نشاط الحركات الأصولية الإسلامية في أفغانستان وباكستان والهند، إضافة إلى العراق والأراضي الفلسطينية، فإن نافذة انتقال عدوى العنف السياسي الأصولي المسلح من المؤكد ستؤدي إلى اضطراب بلدان المغرب العربي والتي لن تكون استثناءً من دوي الانفجارات والسيارات المفخخة والهجمات الانتحارية، خاصة وأن دول المغرب العربي تمثل الأصل الذي انطلقت منه الحركات الأصولية والتي تولت التعبئة لدعم حركة الجهاد الأفغاني في ثمانينيات وسبعينيات القرن الماضي.
1-     سباق نحو التسلح أم سباق نحو السلم المؤقت في المنطقة:
كل شيء يمكن الحديث عنه إلا مشتريات الأسلحة لجيشي الجزائر والمغرب، فهو أكثر شيء غامض وأكثر شيء تحيطه السلطات بالسرية التامة، كما أن التعرض له قد يؤدي إلى حفرة طولها متران وعرضها خمسون سنتيمترا تكفي للاستلقاء على جنب واحد “لمدة غير معلومة”. فلقد صرح وزير سابق في الحكومة الجزائرية لسويس إنفو رفض الكشف عن هويته بأن ” أزمة الصحراء المغاربية لم تعد هدفا في حد ذاتها من حيث رغبة الجزائر في الدفاع عن الشعب الصحراوي الذي يسعى لاسترجاع استقلاله، أو رغبة المغرب في استرجاع أرضه التاريخية التي احتلها الإسبان”. وأضاف الوزير السابق: ” لقد أصبحت أزمة الصحراء مطية لتسلح محموم يُقدر بمليارات الدولارات تُصرف لجلب أسلحة لن تُستعمل في الغالب، وهي إن استُـعملت، لن تعدو صراعا بين سيف ودرع لأن ما يملكه طرف يعادله طرف آخر في امتلاك سلاح يُفقد مفعوله”.
من المستفيد من صفقة “لطائرات غير صالحة” لكن كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟. الجواب عنه مجهول كجهل الجميع كيفية دخول شيطان العدو الإستراتيجي في عقل صناع القرار العسكري في كلا البلدين، لأن عدو الجزائر يأتي من الغرب وعدو المغرب يأتي من الشرق.
في هذا الإطار، أشارت مصادر عسكرية جزائرية “متقاعدة” إلى خطة الدفاع الحدودي التي وافق عليها الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، وهي في مجملها تتعلق بصد هجوم مغربي أو بهجوم افتراضي على المغرب يأخذ في عين الاعتبار طبيعة الحدود بين البلدين وطريق تحرك الجيش المغربي. جاء في الخطة التي وُضعت عام 1987 أن الجزائر ستواجه المغرب بأكثر من 150 طائرة ميغ 17 تطير على ارتفاع منخفض، بحيث ترافق دبابات “تي 60” الروسية الصنع، وعددها يتعدى الثلاثمائة مدعمة بعشرات من وحدات المدفعية، وبطبيعة الحال سيشارك في العملية أكثر من خمسة عشر ألف جندي. الشاهد في هذه العملية ليس خطة الهجوم لأن الجيش الذي ليس له خطط هجوم ودفاع لا وجود له في أرض الواقع، إنما هو العدد الهائل من طائرات الميغ 17 التي كان من المفروض أنها في عام1987(3) قد سُحبت من الخدمة في كل جيوش العالم، وأبقي على بعضها لأغراض التدريب، ليأتي السؤال المحيّـر: لفائدة مَن كانت ستعقد صفقة “لطائرات الخردة”؟ في نفس الفترة، كانت القوات البرية المغربية أحسن تدريبا وأفضل تجهيزا من نظيرتها الجزائرية، لأن الجزائر ركزت على تحسين أداء القوات الجوية.
غير أن حبرًا كثيرًا كُتبت به مقالات عن تضخم ميزانية القوات البرية المغربية، وصرفها لأموال تضاهي مصاريف سلاح الجو الجزائري. فهل هذا معقول؟ تموين منطقة الصراع الثنائي وبسبب حساسية الموضوع، اكتفت المصادر العسكرية والسياسية في المغرب والجزائر بذكر التفاصيل مع الامتناع عن ذكر الهوية، من ذلك مسألة تموين منطقة الصراع الثنائي، ويُقصد بها منطقة الصحراء التي تسيطر عليها المغرب وإقليم تندوف الجزائري، الذي تتمركز فيه جبهة البوليساريو الصحراوية. فمن الناحية العملية، لا سيطرة لبرلماني البلدين على مصاريف الجيش في المنطقتين. كما أن صفقات التموين المقدرة بمليارات الدينارات الجزائرية والدراهم المغربية لا أحد يملك تفاصيلها إلا القليل النادر. في سياق آخر، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين، لم تعد صفقات السلاح تعتمد على توازن القوى العالمية الكبرى، بل على مستوى المعلومات الاستخبارية لدى شركات صنع السلاح العالمية التي تستشير حكوماتها قبل بيع ما تحتاج إليه الجزائر والمغرب. والمدهش أن اقتناء سلاح بعينه بطرق ملتوية يُقصد منها التهرب من التوازن المفروض، تؤول كلها للفشل.
وخير دليل على ذلك، سياسة شركة نورثورب غرومان الأمريكية التي زودت الجزائر والمغرب برادارات متشابهة صُففت أو يُنوى تصفيفها على طول الحدود الشمالية للبلدين قبالة بعضها البعض. وحكى طلبة ضباط تخرجوا في صفوف المؤسسة الأمريكية في مدينة بالتيمور عن قصص اجتماع المغاربة بالجزائريين، وكيف أنهم لعبوا وضحكوا معا وربطوا صداقات سرعان ما تختفي عندما يتقابلون على طرفي الحدود لتشغيل نفس الرادارات قبالة بعضهم البعض. صورة كاريكاتورية تزداد غرابة عندما نكتشف أن التعادل هو سيد الموقف.(4) فعندما تمتلك الجزائر طائرات استطلاع قوية وأخرى تهاجم من على بعد مائة وخمسين كيلومترا، تمتلك المغرب في الوقت نفسه أفضل الدفاعات الجوية في المغرب العربي، اشتريت بنصيحة من نصح الجزائريين باقتناء طائرات بعينها. نظريا، تكون نتيجة فترة الحرب الباردة أفضل على استقلال البلدين.
فمن حيث الرادارات على الأقل، استعملت الجزائر رادارات روسية في حين استعملت المغرب رادارات بريطانية. غير أن الوضع مختلف اليوم. وحصلت سويس إنفو على تصور وزارتي الدفاع في البلدين في حالة حدوث أزمة، حيث يعتقد الخبراء العسكريون أن الهجوم المفاجئ قد يأتي من المغرب بنسبة تفوق 75%، يتمكن فيه الجيش المغربي من الاستيلاء على أجزاء واسعة من المناطق الحدودية الرشوة التي تنحر عظام البلدين لقائل أن يقول: ” هناك أيضا مشاركات جزائرية ومغربية في نشاطات مجموعة خمسة + خمسة، بالإضافة إلى التعاون مع حلف شمال الأطلسي، ومشتريات سلاح متفرقة من إسبانيا وجنوب أفريقيا وأوكرانيا”، وهذا أمر صحيح. غير أن شروط البيع المجحفة تجعل من الصعب القول بأن الاستقلال الوطني محفوظ. فهناك طائرات استطلاع تنوي الجزائر شراءها من الولايات المتحدة لا يمكنها التحليق حسب مسودة العقد قرب الحدود مع المغرب. كما حصلت المغرب على دبابات أسبانية منعت مدريد تواجدها قرب مستعمرتي سبتة ومليلية. هل سيستمر هذا الوضع طويلًا؟ هذا أمر مجهول لأن اقتناء الأسلحة لا يمكن إخفاء تفاصيله على عامة الشعب لأنه حق عام، تماما كما يحدث في الدول الديمقراطية. ولأن السلاح المقتنى يمكن التعرف على تفاصيل أداءه و مميزاته من الإنترنت أو الكتب العسكرية، أما السبب في هذه السرية المفرطة فجوابه هو: الرشوة التي تنخر عظام البلدين.
يمكن أن نتفهم الموقف الجزائري من عدم فتح الحدود الغربية وإلحاح المغرب على فتح هذه الحدود لأن فتح الحدود يعتبر خسارة للجزائر ومكسب للمغرب حيث ستتدفق أطنان من المخدرات إلى السوق الجزائرية ناهيك عن المنتجات المغربية الرخيصة واليد العاملة، حيث تعتبر اليد العاملة الجزائرية أرخص بقليل من نظيرتها الجزائرية زد على ذلك تدفق ربما نحو مليوني أو أقل من الجزائريين على المغرب لغرض السياحة، وذالك يعني ملايين الدولارات التي تذهب من الجزائر إلى المغرب مثلما يحدث في تونس حيث أشارت تقارير صحفية أن ما يناهز مليون ونصف جزائري زاروا تونس، لذا حسب رأيي أن الجزائر ستكون الخاسرة من فتح الحدود على عكس المغرب.
أما فيما يخص التقرير على أن تفوق المغرب بنسبة 75 بالمائة في هجوم مباغت واحتلال مناطق حدودية ربما يكون هذا ممكنا، لكن المغرب لايملك طاقة للمواجهة الطويلة الأمد مثلما حدث بين العراق وإيران لأن هذين البلدين كليهما بلدان بتروليان أما المغرب فهو بلد يعتمد على السياحة والزراعة والفوسفات في دخله أما الجزائر فهي دولة بترولية وغازية ولها طاقة أكبر في تحمل الصراعات الطويلة على عكس المغرب، فلا سمح اللـه، إن قامت حرب بين البلدين فبضعة صواريخ جزائرية على المدن المغربية السياحية تقضي على السياحة المغربية وبتالي فقدان مورد مهم للخزينة المغربية على عكس الجزائر التي منشئاتها البترولية موجودة في العمق الجزائري وهذا إذا افترضنا أن تطالها الغارات المغربية، وحتى إن طالتها إصابات فلن يدوم الأمر كثيرا في إعادة الإنتاج في هذه المنشآت.

إن ما شجع الجزائريين على استمرار التزود بالسلاح من روسيا هو الخطوة التي أقدمت عليها موسكو بإلغاء الديون والتي تُقدر بسبعة مليارات دولار
1-    البناء العسكري وتوازنات القوى الإستراتيجية في المنطقة
فلقد أرسلت الأمم المتحدة أخيرًا تحذيرًا للبلدان المغاربية من اشتداد سباق التسلح بينها، مما برهن على أن هذا السباق بلغ درجة تبعث المجتمع الدولي على الانشغال، لانعكاساته في مستقبل العلاقات المغاربية- المغاربية واستتباعا ته على الأمن والاستقرار في شمال أفريقيا والحوض الغربي للمتوسط عموما. وربما ما كانت الأمم المتحدة لتُوجه ذلك التحذير لولا أن البلدان المغاربية باتت تحتل المرتبة العشرين بين الدول الأكثر تسليحا في العالم. وطبقا للتقرير السنوي لـ”معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” استأثرت أربعة بلدان مغاربية (ليبيا والجزائر والمغرب وتونس) بثلث تجارة السلاح في القارة الأفريقية في السنة الماضية، ما شكل علامة قوية على شدة السباق نحو التسلح في المنطقة(5).
وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة على الصعيد الدولي ما زالت أجواء مشحونة تسيطر على المغرب العربي الذي تعيش بلدانه حالة مُزمنة من القطيعة والصراع، لا تتجسد في المناورات السياسية في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وحسب، وإنما تلقي أيضا بظلال كثيفة على علاقاتها مع كبار تجار الأسلحة في العالم. ويمكن القول إن التحالفات القديمة الموروثة من الحرب الباردة مازالت تقود سباق التسلح لدى بلدان المنطقة، فالجيش الجزائري الذي تعودت قياداته وكوادره على الأسلحة الروسية، جدد العهد مع الحليف السابق وأبرم صفقات ضخمة ومتنوعة مع موسكو. وكذلك فعلت ليبيا عندما عقدت بدورها صفقة لافتة مع روسيا في نوفمبر الماضي بمناسبة زيارة العقيد معمر القذافي لموسكو، فيما اشترى المغرب طائرات متطورة من طراز أف 16 من الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن المفيد التوقف عند أبرز الصفقات التي تم إبرامها في السنتين الأخيرتين لكي ندرك السرعة المتصاعدة لسباق التسلح المغاربي، فقد تُوجت زيارة العقيد معمر القذافي لموسكو يوم 2 نوفمبر بصفقة عسكرية لشراء 12 مقاتلة متطورة من طراز ميغ 29 MiG-29SMT و12 أخرى من طراز سوخوي 30 أم كيو Su-30MK2 ودبابات من طراز تي 90، بالإضافة لغواصة أو اثنتين من طراز 636 تعمل بالنظام المزدوج الكهربائي وديزل. وشملت الصفقة أيضا اقتناء أنظمة دفاع جوي طويلة المدى وأخرى قصيرة المدى. وتُعتبر هذه الصفقة، التي بلغت قيمتها 2.2 مليار دولار، من أكبر الصفقات العسكرية التي أبرمتها موسكو مع بلد عربي في السنوات الأخيرة، ما شكل علامة إضافية على العودة الروسية القوية إلى أسواق السلاح العربية.
وقبل قيام الثورة في ليبيا، كان القذافي أبرم صفقة مماثلة مع فرنسا خلال زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي لطرابلس تعلقت بتحديث طائرات عسكرية ومدنية وشراء خافرات سواحل وأجهزة رادار. وشملت الصفقة تحديث 30 طائرة حربية من طراز ميراج إف1 كانت اشترتها ليبيا من فرنسا قبل فرض حظر على تصدير الأسلحة إليها. وتُراوح قيمة الصفقة التي تُؤمنها كل من “أستراك” و”داسو للطيران”، بين 10 و20 مليون يورو لكل طائرة، بحسب مستوى التجديد الذي يطلبه الجانب الليبي.
وتتميز هذه الفئة من الطائرات بكونها مجهزة بصواريخ جَـو جَـو من طراز “ماجيك”. وعملت مجموعة “إيدس” ( EADS) للتصنيع الحربي أيضا على تجهيز ليبيا بنظام رادار لمراقبة الحدود والمواقع النفطية. وتُعتبر الصفقتان مؤشرا قويا على أن ليبيا عادت بقوة إلى أسواق السلاح بعد رفع العقوبات الدولية عنها في سنة 2004.(6) واستفادت القيادة الليبية من ثمار الطفرة النفطية وتحسين علاقاتها مع الدول الكبرى بعد رفع العقوبات الدولية عنها، لكي تُجدد ترسانتها المؤلفة أساسا من أسلحة روسية الصنع، وتُحافظ على مسافة مهمة من التفوق العسكري على الجيران. ويندرج تأمين هذا التفوق في إطار السعي لفرض هيبة في القارة الأفريقية وخاصة في شمالها، وحول منطقة الساحل والصحراء التي يعتبرها العقيد القذافي المجال الحيوي لنفوذه الإقليمي.
وقبل صفقة الأسلحة الليبية مع روسيا توصل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في ختام زيارة إلى موسكو عام 2007، إلى صفقة قيمتها 7.5 مليارات دولار لشراء 28 طائرة حربية من طراز سوخوي 30 أم كيو Su-30MK و36 مُقاتلة من طراز ميغ 29 MiG-29SMT و16 طائرة تدريب من طراز ياك 130، بالإضافة لـ300 دبابة من طراز تي 90 أس T-90S ورادارات وكميات أخرى من العتاد. وشملت الصفقة أيضا ثمانية أنظمة صواريخ أرض جو من طراز تونغوسكي S-300 PMU Almaz-Antei وتجديد 250 دبابة جزائرية من طراز تي 72 وعدد غير معلوم من الصواريخ المضادة للدبابات من طراز ميتيس وكورنت، بالإضافة للقيام بأعمال صيانة للسفن الحربية الجزائرية روسية الصنع(7).
ويمكن القول إن ما شجع الجزائريين على استمرار التزود بالسلاح من روسيا هو الخطوة التي أقدمت عليها موسكو بإلغاء الديون المتخلدة بذمتهم، والتي تُقدر بسبعة مليارات دولار.
وتزامنت تلك الصفقة، وهي الأكبر التي حصدها الروس منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، مع توقيع المغرب على صفقة لشراء 28 طائرة حربية أمريكية متطورة من طراز أف 16((8). والثابت أن صفقة السلاح الروسي للجزائر شحذت السباق بين الجارين المتصارعين على الصحراء من أجل تكديس أحدث الأسلحة وأفضل العتاد.
أما التونسيون فيُنفقون على التسلح أقل مما يُنفق جيرانهم لسببين رئيسيين أولهما أن البلد ليس غنيا بالموارد الطبيعية مثل جاريه ليبيا والجزائر، وثانيهما أنه اختار منذ الاستقلال حصر القوات المسلحة في دور دفاعي بحت، مع الاعتماد على تحالفات مع القوى الغربية الكبرى لدرء أي خطر قد يأتي من الجيران. مع ذلك طورت تونس تعاونها العسكري مع إيطاليا أحد مُزوديها الرئيسيين بالسلاح إذ زار وزير الدفاع الإيطالي أرتورو باريزي تونس أخيرًا، وركز محادثاته مع المسئولين المحليين على سبل تعزيز الأمن في المتوسط ومكافحة الإرهاب. كما تُزود كل من فرنسا والولايات المتحدة تونس بأسلحة دفاعية.
وفي موريتانيا ما زالت المؤسسة العسكرية تلعب دورا مركزيا في حياة البلاد ويستأثر الإنفاق على السلاح والعتاد بقسم ذي بال من الموازنة، على رغم شح مواردها النفطية والزراعية. غير أن إنفاقها الحربي تراجع منذ انسحابها من الصحراء وخروجها من الصراعات الإقليمية في سنة 1979. وتجدد الاهتمام بالإنفاق العسكري مع توسع ما يُعرف بـ”الحرب الدولية على الإرهاب”، إذ باتت قواتها تشارك في مناورات عسكرية دورية مع بلدان الجوار وقوات أمريكية، كانت آخرها تلك التي استمرت شهرا بإشراف الولايات المتحدة في منطقة قريبة من العاصمة المالية باماكو بمشاركة قوات من 13 بلدا أفريقيا. ورمت المناورات التي حملت اسم “فلينتلوك 2008” إلى تعزيز الجاهزية القتالية في مكافحة الجماعات المسلحة التي تنتشر في منطقة جنوب الصحراء، والتي كثفت عملياتها في مناطق موريتانية مُستهدفة الرعايا الأجانب، وخاصة الفرنسيين. ويُعتقد أن تكاثر عمليات الخطف والقتل التي تُنفذها تلك الجماعات في شمال موريتانيا وشرقها سيؤدي إلى تنامي الإنفاق على الجيش لتسليحه وتطوير أدائه في مواجهة الجماعات(9).
2-    الإستراتيجيات العسكرية المتقابلة      
      
لكن صفقات التسلح لا يمكن أن تُقرر وتُبرم في وقت سريع وبناء على خطر طارئ كهذا. كما أنها لا يمكن أن تأتي ردا على صفقة يعقدها الجار أو الغريم، وإنما تندرج في إطار الإستراتيجية العامة للدولة. فكل دولة تضبط المنظومة الشاملة للأمن القومي في ضوء تحديد من يهددها، ومن أين يمكن أن يأتي الخطر (بحرا أم برا أم جوا؟) ومدى دائرة النفوذ التي ترسمها تلك الدولة لنفسها (وهي مرتبطة عادة بالمصالح الاقتصادية). كما تتحدد الإستراتيجية في ضوء الموارد الوطنية للبلاد ومصادر الدعم الخارجي الثابتة (أي غير المشكوك في تحصيلها عند الاقتضاء).
ومن ثم توضع الإستراتيجية العامة للدفاع الوطني التي تشمل كل الأسلاك المسلحة من جيش وشرطة وغيرها وعلى أساسها تُصاغ الإستراتيجية العسكرية التي تخص الجيش (أو الجيوش بحسب البلدان) ومنها تتفرع الخطة الإستراتيجية، وهي العقيدة العسكرية التي تُمكن من وضع الخطط العملياتية الملائمة. وفي مقدمة تلك الخطط المنهج القتالي (الذي يعتمد على المدرعات بالنسبة لبعض البلدان أو القاذفات أو الخافرات البحرية بالنسبة لبلدان أخرى بحسب مصدر الخطر) والفروع الرئيسية للدفاع. فمصر، على سبيل المثال، لا تعتمد، التقسيم الثلاثي التقليدي (البر والبحر والجو) وإنما على أربعة فروع هي: الدفاع الجوي والبحري والطيران والجيوش الميدانية.
وتُعتبر هندسة بناء القوات العنصر المُحدد في صفقات السلاح فإذا ما كان الجيش مؤلفا من أربع فرق مدرعة وست فرق مشاة سيكون تسليحه مختلفًا عن جيش آخر مؤلف من فرقة ميكانيكية وفرقتين مدرعتين وثلاث فرق مشاة. وعليه فإن التجهيزات مرتبطة بنوع التشكيلات إذ تفرض هذه الأخيرة الحاجة إلى أصناف محددة من الأسلحة. وتلك الحاجات يمكن سدها إما بواسطة التصنيع المحلي (الذي يعتمد على توافر الخبرات والمواد الأولية وكذلك على حد أدنى من التعاون الخارجي) أو بواسطة الهبات. والهبة عادة لا تتضمن الأجيال المتطورة من الأسلحة، فضلا عن أن الواهب ينتظر في مقابل ذلك ثمنا سياسيا وحتى عسكريا (تسهيلات أو قواعد). كما يمكن سد الحاجات العسكرية أيضا بواسطة الصفقات المُيسرة، وهذا النوع من الصفقات التي تعقدها بلدان غير نفطية مثل المغرب وموريتانيا وتونس، لأنها غير قادرة على دفع الثمن فورا، يجعلها مضطرة للبقاء ضمن منظوماتها القديمة، مما يشكل قيدا على حركتها. كما أن البلدان المُصنعة للسلاح لا تبيع آخر جيل من أسلحتها في حالة الصفقات الميسرة، فهي تفضل الإبقاء عليه لقواتها وقوات حلفائها.
الصناعات الحربية الروسية أصبحت ترى في العالم العربي، أكثر من أي وقت مضى، سوقا مُهيأة لاستيعاب مزيد من منتجاتها
   لكن حتى في حالة الصفقات المدفوعة بالكامل تتحايل البلدان المنتجة للتخلص من النوعيات السيئة ولا تتقيد بالمواصفات المسجلة في العقود، وهو ما حاوله الروس مع الجزائريين لدى تسليمهم طائرات ميغ 29، إذ اكتشفوا فيها خللا فنيا، ما فجر أزمة كادت تؤدي إلى توقف صفقة “سوخوي” أيضا. ونفى مصدر مقرب من وزارة الدفاع الجزائرية ما نشرته صحف روسية من أن الاتفاقية المبرمة بين الجزائر وروسيا في شأن اقتناء طائرات “سوخوي” توقفت. وأتت لاحقا “تدقيقات” مفادها؛ أن الأمر يتعلق بخلل قد يكون خبراء جزائريون اكتشفوه في الطائرات التي كانت الجزائر تسلمتها من موسكو من طراز “ميغ”، وأنها ساومت بوقف الالتزام بصفقة “سوخوي” لإجبار الروس على إصلاح الخلل. واتضح لاحقا أن الجزائر ستتسلم طائرات “سوخوي” في الآجال المحددة، وأنها استبدلت طائرات “ميغ 29” التي كانت طلبتها بطائرات أخرى من طراز “سوخوي”، ما رفع حجم الصفقة من هذا الطراز إلى 56 طائرة، طبقا لاتفاق جديد توصلت له الجزائر وموسكو. ويُرجح أن الأمر يتعلق بـ40 مطاردة من نوع “سوخوي 30 أم ك” من تصميم شركة “إيركوت”، و16 مطاردة خاصة بالتدريب من نوع ياك 130(10).
1-    الأبعاد الدولية
يرى المُحللون العسكريون أن من شأن تلك الصفقات أن تُعزز الحضور الإستراتيجي لكل من روسيا والولايات المتحدة في المنطقة، ومن بين هؤلاء المحللين في مجموعة “جينس للإعلام”(Group Jane’s Information) أليكس فاتنكا وريشارد فايتس، اللذين قالا إن القادة الروس يُدركون أن الصفقات تفتح المجال لتعزيز العلاقات مع البلدان العربية التي أصبحت في مقدمة زبائن السلاح الروسي. فالصناعات الحربية الروسية أصبحت ترى في العالم العربي، أكثر من أي وقت مضى، سوقا مُهيأة لاستيعاب مزيد من منتوجاتها. وقد كانت تحتل دائما المرتبة الثانية أو الثالثة بين كبار المزودين بالأسلحة في الشرق الأوسط بعد فرنسا وبريطانيا.
واستطاع الروس تسجيل نقطة مهمة على الفرنسيين عندما أقنعوا ليبيا باختيار مقاتلات ميغ 29 بدل مقاتلات “رافال” الفرنسية متعددة التخصصات ومروحيات “تايغر” الحربية التي تُصنعها مجموعة “يوروكوبتر” Eurocopter والتي كانت باريس تحاول إقناع الليبيين بشرائها. ويعتبر الفرنسيون أنهم تأخروا في قطف ثمار المتغيرات التي أعقبت رفع الحظر على تصدير السلاح إلى ليبيا، وحاولوا “كسب الوقت الضائع” من خلال الدور الخاص الذي لعبته فرنسا في تسوية أزمة الممرضات البلغاريات اللائي كن سجينات في ليبيا، وخاصة أثناء زيارة القذافي لباريس، لكن الحصاد كان هزيلًا.
قُصارى القول؛ إن سباق التسلح شكل مدخلا رئيسيا للعبة النفوذ التي تمارسها القوى الكبرى الثلاث في المنطقة الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، وهي تستثمر الصراع المغربي – الجزائري على الصحراء إلى أبعد الحدود، وكذلك تطلعات القذافي إلى لعب دور إقليمي في القارة الأفريقية، لجعل المنطقة أحد الأسواق الرئيسية لأسلحتها. وعلى رغم النجاح الذي حققه الأمريكيون في كسب صداقة بلدان كانت في المعسكر المنافس أيام الحرب الباردة مثل ليبيا والجزائر، وقطف صفقات نفطية وتجارية هامة فيهما، فإن الروس كانوا أكثر حذاقة منهم في ترويج سلاحهم.
2-    حرب الرمال: مقاربة الحرب المستقبلية في المنطقة
يتزايد اهتمام الدول العظمى في منطقة شمال أفريقيا أو المغرب العربيّ يوميّا. وتخوض كلّ من روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والصين معارك نفوذ للسيطرة على المنطقة أو كسب ما يمكن كسبه من سوق ضخمة تضمّ أكثر من ثمانين مليون نسمة داخل مساحة مترامية الأطراف تبلغ 5.782.140 كلم2، وتزخر بالنفط والغاز الطبيعيّ والفوسفات والحديد، وتقبل دوله على استيراد البضاعة الغربية بكل أصنافها. وعلى الرغم من أنّ فرنسا وبعض الدول الأوربيّة تعتبر المغرب العربيّ جزءا من مجالها الحيّوي الذي لا تزاحمه فيه دول أخرى، فإنّ السنوات الأخيرة حملت عدة مفاجآت غير سارة للفرنسيين بتدخّل العم سام والعملاق الصينيّ والدبّ الروسيّ على الخط طمعا في البعض من ثروات المنطقة.
كنتيجة طبيعيّة للتجاذبات المسجلة في المنطقة والتي انخرطت فيها حكومات الدول المغاربية حتى النخاع، سجلت السنوات الأخيرة حركة تسلّح مريبة في بلدان المغرب العربي، خصوصًا ليبيا والجزائر والمغرب وتونس في سيناريو يذكر بحقبة الحرب الباردة، حيث تسود لغة الدبلوماسية إعلاميا، وتتسارع – بالتوازي – وتيرة تكديس السلاح خلف الكواليس.
وباتت دول المغرب تحتل المرتبة العشرين بين الدول الأكثر تسلحا في العالم. وتوسعت صفقات الأسلحة في الفترة الأخيرة بين تلك الدول، وبشكل خاص المغرب والجزائر لخلافهما على الصحراء المغربية، مما أنشأ مخاوف من نشوب حرب أو توتر العلاقات بين دول منطقة. إلا أن معظم الدول المغاربية تتزعم توجهها إلى عقد صفقات عسكرية “للحفاظ على استقرارها ومواجهة الإرهاب المتربص بأمنها”، بينما يرفض العديد من العسكريين في تلك الدول التعليق أو الحديث عن موجة التسلح التي تعصف بالمغرب العربي.
السلاح الفرنسي والروسيّ والأمريكيّ المصدّر إلى المغرب العربيّ دفع بمنظمة الأمم المتحدة إلى توجيه تحذير للبلدان المغاربية من اشتداد حمى سباق التسلح بينها بعد أن بلغ هذا التسابق حدا ينذر بالخطر الحقيقيّ على مستقبل العلاقات بين دول المنطقة التي أصيبت هي الأخرى منذ مدّة بتنامي المدّ السلفي الإرهابيّ ورغبات الولايات المتحدة في إقامة قاعدة عسكرية تحفظ مصالحها وتراقب من خلالها تحركات الجماعات الأصولية.
واليوم، باتت الدول المغاربية تحتل المرتبة العشرين من بين الدول الأكثر تسليحا في العالم. وطبقا للتقرير السنوي لـ”معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” استأثرت أربعة بلدان مغاربية (ليبيا والجزائر والمغرب وتونس) بثلث تجارة السلاح في القارة الأفريقية في السنة الماضية، مع ما يعنيه ذلك من شحن للأجواء وتوتر للعلاقات وعودة منطق التحالفات والأحلاف. ورفعت سياسة الإفراط في التسلح التي يتبعها المغرب العربي منذ سنوات قليلة ماضية درجات الاستعداد القتالي على حساب المشاريع التنموية لشعوب لتلك الدول، في ظل أزمة مالية عالمية لم تخفف من عزم الدول على التسلح وتكديس السلاح “تحسبا لأي هجوم إرهابي”، بل ورفعت ميزانيتها المخصصة لشراء المعدات الحربية (11)، هل يبرر مكافحة الإرهاب كل هذا الإنفاق العسكري؟ وما أسباب التسلح وجدواه؟ وما تداعيات صفقات الأسلحة على تلك الدول والجوار؟
3-     نظرية التوترات العسكرية
فالجزائر على تمام الإدراك بجل ما يحدث على الساحة الإقليمية من متغيرات على الصعيدين الجيوإستراتيجي والجيوبوليتيكي, وخصوصا تلك التي قد تؤثر في مساعيها الراهنة لترسيخ هيمنتها على المنطقة، والمستقبلية الهادفة للبقاء على قمة الهرم القيادي خلال السنوات المقبلة، وبالطبع فإن تلك الرؤية المستقبلية لما قد يترتب على تلك المتغيرات من تحولات في بناء ميزان القوى، والتوازن الإستراتيجي المغاربي، وخصوصا في ظل تسارع الأحداث الدولية، والتحولات الجيوإستراتيجية والجيوبوليتيكية على الخارطة العالمية، كانتشار الفوضى والإرهاب، وسعي بعض الدول إلى امتلاك الأسلحة النووية، وزيادة العنف، وتوسع طرق الرد والرد المضاد للدول والجماعات والأفراد، وصعوبة استنفار رد منسق على أي عدوان محتمل موجه إلى الولايات المتحدة الأميركية أو أي من حلفائها، وما ترتب على ذلك من تضخم بيئة الفلتان الأمني والعسكري والسياسي، والذي أدى بدوره إلى الحد من اتساع الفلك الأمريكي خلال السنوات الأخيرة، دفع كلا من الجزائر والمغرب  إلى البحث عن خيارات جديدة ومناسبة لاحتواء تلك البيئة الشرسة والمارقة من وجهة نظرتهما مغاربيا.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فتعلم السلطات العسكرية الجزائرية بأن هناك العديد من الحلفاء “الأصدقاء الأعداء”، الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليها، وذلك بهدف الحد من هيمنتها وتوسعها المتنامي في المنطقة، والذي اثر كثيرا بأهدافهم وطموحاتهم التي لا تختلف كثيرا عن أهدافها، من حيث الرغبة في التوسع ونيل النصيب الجيوإستراتيجي الأوفر من ميزان القوة في المنطقة، وخصوصا في ظل سرعة تقلب الصداقات والعداوات الدولية في عالم السياسة، وعليه فإنه بات من الضروري اتخاذ الاحتياطات اللازمة للتصدي لأي خروج عن ذلك الميزان الجهوي(12)، الذي قد يؤثر كثيرا في برامجها المعلنة والسرية لتغيير الخارطة المغاربية، وعلى وجه التحديد في النقاط ذات الحساسية الجيوإستراتيجية أو الجيوبوليتيكة، كونها ذات قابلية لقلب موازين القوة في أي لحظة.
وبالطبع فإن دروس الماضي، وما يحدث في الوقت الراهن, ومخاوف تغير المكانة المستقبلية للجزائر, كانت دائما حاضرة في كل وقت وحين في أذهان القيادات الملكية المغربية، والتي لم تخف قلقها وتخوفها مما قد ينشأ من تحديات ومتغيرات وتحولات جهوية لا بد من تداركها، وبأسرع وقت ممكن، ومن أبرز المخاوف المغربية الحاضرة دائما، حدوث ما سنطلق عليه بـ:”الانقلاب الجهوي” في موازين القوة العسكرية خلال القرن الحالي، ولا نقصد هنا أن يحدث ذلك التغير على مستوى الدولتين  فقط، بل من خلال بروز تلك التهديدات من قبل بعض الدول المغاربية أو الأفراد أو المنظمات الإرهابية، أو الجماعات الحانقة على سياسات الدولتين، وتأكيدا لهذه المخاوف فقد تحدث الملك محمد السادس في يونيو من العام 2008م، أمام خريجي الأكاديمية الملكية العسكرية المغربية قائلا:” على امتداد جزء كبير من القرن الماضي – أي القرن العشرين – ظل دفاع المملكة معتمدا على عقيدتي الانتشار والمراقبة المتمثلتين بالتغلغل والتشويش، وهاتان الإستراتيجيتان ما زالتا مطبقتين في بعض الحالات، غير أن هناك تهديدات جديدة تتطلب تفكيرا جديدا، الشبكات الإرهابية الهلامية، التي لا تملك دولا تدافع عنها أو مواطنين تدافع عنهم.
ما دفعها لتبني عددا من الخيارات العسكرية التكتيكية والإستراتيجية على وجه الخصوص، وذلك من خلال استغلال الثورة في شؤون المملكة العسكرية التي من شأنها تعزيز تلك المكانة في المنطقة، من وجهة نظرها. وتثبيت جذور هيمنتها الموغلة في الأعماق البعيدة، ومن أهم تلك الخيارات التي وجدت فيها المملكة المغربية وسيلة مناسبة لحفظ مكانتها تلك, هو التغيير العسكري الجذري الإستراتيجي في قدراتها العسكرية، وذلك بتطوير أسلحتها التقليدية وغير التقليدية، وبناء عدد من المنظومات الدفاعية والهجومية ونشرها في مختلف نقاط المراقبة الجهوية، وإعداد قوات مسلحة ملكية مجهزة بأجهزة عالية الدقة والتطور، ومدعومة بكل ما من شأنه إدخال المنطقة إلى شبكتها الاستخباراتية. حيث أدت (القدرات الجديدة بالفعل إلى السماح – بتوجيه – العمل العسكري بدقة لخدمة الأغراض السياسية، وإذا صارت الأسلحة العسكرية الملكية قابلة للإطلاق من نقاط أو قواعد بعيدة وللتوجيه الدقيق إلى أهدافها، وصار الاعتماد على الحلفاء أقل قي مجال إدارة العمليات العسكرية الملكية، وإذا أصبح كبار قادة الجيش مقتنعين بأن ثورة في الشؤون العسكرية قد حدثت، فإن ذلك سيزيد من نزوعهم إلى التهديد باستخدام القوة كأداة للدبلوماسية. وإذا لم ينجح التهديد نفسه وأصبح التنفيذ واجبا, فمن المحتمل لمدى الاشتباك العسكري اللاحق أن يبدو قابلا تماما للتحكم بنظر القائد الأعلى ومستشاريه، وبهذه الطريقة، نرى أن انتشار تحديات نظام حكم الكثرة إلى الحشد الموسع من المصالح الأمنية للمملكة المغربية يتقاطع مع الثورة في التكنولوجيا العسكرية، وصولا إلى نشوء قدر أكبر من القبول في الأواسط السياسية الجهوية لفكرة استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة الخارجية الملكية).
وبالفعل فقد أدى هذا التوجه الإستراتيجي المغربي إلى ما يشبه سباق تسلح جهويًا، وحرب باردة تشتعل تحت الكواليس، وإن لم تعلن رسميا، بل وأشعلت المملكة من خلال هذا التوجه الجديد في سياسات الاستفزاز ومجانبة الخصم، نيران الفوضى العسكرية المشتعلة أصلا في كل نقاط المنطقة. كما أنه بات من المؤكد بأن المستقبل سيحمل معه عددا من الدلائل والمؤشرات على حتمية عودة حرب الرمال بشكل معلن، وخصوصا في حال استمرت المملكة المغربية في السير على نهجها العسكري الأحادي السابق، كما يمكن أن يدخل في ذلك السباق عدد آخر من المتنافسين. وهكذا ستتحول المنطقة إلى برميل أسلحة مضغوط يتوقع له الانفجار في أي لحظة.

  7- نظرية القوة والسيطرة الجهوية

تستخدم كلا من الجزائر والمغرب مفهوم القوة بأشكال عفا عليها الدهر وعلى رأسها مفهوم القوة الغاشمة، أو مفهوم القوى بأقصى تجلياتها؛ وهي تريد اليوم أن تُحصّل بالتفاوض ما لم تحصّله في حرب الرمال الأولى عن طرق استخدام قاعدة الإلغاء، أي إلغاء المفاوض الآخر وفرض قاعدة المنتصر الكامل في معركة لم تهدأ وصراع لم ينته.
مع ذلك فإن العودة إلى قواعد لعبة القوة واستخدامها يظهر حاليًا من خلال اعتماد لغة الحوار والعصا والجزرة، خاصة وأن الخروج من قواعد لعبة القوة قد أدى إلى مأزق في حدود الدولتين. وهذا ما يعطي انطباعًا بأن تراث القوة أقوى عمليًا من استخدامها أو غرور استخدامها.
ولهذا يستدعي الأمر بحث التطورات في مفهوم القوة في الصراعات، المعاصرة الذي لم يعد اليوم القوة المباشرة بقدر ما أصبح القوة غير المباشرة، ولم يعد إظهار القوة بقدر ما غدا تضمينها، فالقوة وفقا للتصور الإستراتيجي بتراثه الأعمق، بعيدا عن الارتكاسات الآنية الحالية التي تفرضها وقائع المرحلة الانتقالية من نظام عالمي إلى آخر- هي القوة المستترة والكامنة.
غير أن استعمالات القوة تنذر مستقبلا بدخول المنطقة في وحل من الدماء فعلى سبيل المثال أعلنت السلطات الجزائرية مؤخرا عن إعادة تسليحها لقوات الدفاع الذاتي، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرا علي التحضير لعشرية دموية جديدة دموية من السابقة التي كانت ترتيبات الوئـام الوطني قد وضعت حدا نهائي لها. ويأتي ذلك بعد أن تم عقد صفقات أسلحة بأكثر من أربعة مليارات دولار منها ثلاثة مليارات لأسلحة روسية، ويتوقع المزيد من هذه الصفقات مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وقد نفاجأ ذات يوم بأن إسرائيل وجنوب أفريقيا كانوا من مزودي الجزائر بالسلاح.
يأتي هذا بينما الشعب الجزائري ما زال معظم شعبه يعاني من الفقر وتدني مستوى المعيشة والبطالة ونقص الخدمات الأساسية بينما خزينة الدولة ممتلئة بالأموال الناتجة عن زيادة قيمة مبيعات النفط. ولا يفهم من هذا إلا أن أفرادا من المؤسسة العسكرية في الجزائر كل ما يهمهم هو الاستئثار بالسلطة والثروة في الجزائر دون بقية الشعب، حتى لو أغرقوا البلاد في حمامات الدم، واضطروا للفتك بحيوات الجزائريين للحفاظ على حياتهم وما نهبوه وينوون نهبه من ثروات الجزائر.
لقد لاحظوا أن الخوف الذي زرعوه في نفوس الجزائريين وشلوا به عقولهم وإراداتهم في العشرية الدموية السابقة قد تبخر من هذه النفوس وعادت تستعيد عافيتها منه وتسترد قدراتها وحيويتها، وأن هناك من السياسيين المدنيين من يتطلع إلى الإمساك بالسلطة وفق مقتضيات الدستور في حالة حدوث فراغ لها بسبب الحالة الصحية للرئيس الجزائري، فقرروا استباق الحوادث. الخوف الذي زرعوه في قلوب الجزائريين انتقلت عدواه إليهم أيضا على هيئة خوف من الثأر منهم أو محاكمتهم على ما ارتكبوه من جرائم وآثام في حق الشعب الجزائري. ووفق قواعد علم النفس فإن هذه الحالة المرضية تصيب جميع الجبابرة والمجرمين. وبينما قد يبرأ ضحاياهم من الخوف يتزايد الإحساس بالخوف عند الجلادين على نحو يفقدون معه عقولهم.
لا يستطيع هؤلاء إقناع أحد بأنهم اضطروا إلى إعادة تسليح عصابات الدفاع الذاتي أو الحرس البلدي بسبب عودة الإرهاب في الجزائر مستدلين على عودته بتفجيرات بعض النقاط من التراب الوطني التي اتهموا فيها الجماعة السلفية للقتال أو التي يسمونها تنظيم القاعدة في المغرب العربي. وكيف يصدقهم أحد وهم الذين سبق لهم أن رددوا خلال الشهور الماضية بأنهم طوّقوا مكامن هذه الجماعة في الغابات الموجودة في الهضاب العليا وقمم الجبال وأنهم قاموا بتمشيطها بفوات المشاة والمدرعات والحوامات العسكرية وإحراق الغابات التي يعتصمون بها وقصف المخابئ بالقاذفات الجوية، وأن هذه الشرذمة التي يلاحقونها في الجبال لا يزيد عدد رجالها على بضع عشرات على حد قولهم وتأكيداتهم أيضا، وأن القضاء المبرم عليها لن يستغرق سوى أيام فليلة. ثم يقولون أن هذه الشرذمة المعلقة في قمم الجبال والتي يفترض أنهم تمكنوا من إبادتهم بآلياتهم العسكرية استطاعت وهي محاصرة أو مقتولة، النزول إلى تلك النقاط، في غفلة منهم؟ من أين حصلت تلك الجماعة على تلك المتفجرات؟، وأين كانت المخابرات العسكرية التي تحكم قبضتها على البلاد؟ علينا إذن أن نصدقهم في الأولى وبالتالي نكذبهم في الثانية أو نكذبهم في الأولي والثانية طالما ثبت لدينا كذبهم أو نلغي عقولنا حتى لا نفهم. ثم كيف ستستطيع قوات الدفاع الذاتي المشكلة من أصحاب السوابق العدلية وعتاة القتلة والمجرمين والبوليتاريا الرثة الجاهلة، التي سبق لهم استئجارها لكي تعيث في الجزائر قتلا ونهبا بعد أن بلغ غدد أفرادها 80 ألف مسلح(13)، أن تمنع حدوث مثل هذه التفجيرات مستقبلا بينما عجزت عن رصدها ومنعها قوات أمن مسلحة متخصصة ومدججة بأحدث الأسلحة وأجهزة المراقبة والاتصالات وغيرها؟

باتت دول المغرب تحتل المرتبة العشرين بين الدول الأكثر تسلحا في العالم. وتوسعت صفقات الأسلحة في الفترة الأخيرة بين تلك الدول، وبشكل خاص المغرب والجزائر
   يسبق هذا الإعلان الجزائري بأيام قليلة إعلان محمد عبد العزيز بعد انتهاء مؤتمر جبهته التي عقدته في منطقة تافاريتي بأنه سيعقد مؤتمرا جديدا بعد زهاء ستة أشهر للنظر في العودة إلى العمل المسلح ضد المغرب. أي بعد أن يتمكن من إعداد قوات مسلحة للجبهة كافية العدد والعتاد تكون قادرة على ممارسة القتال. حيث أن الذين قاتل بهم من قبل تجاوزوا الخمسين من عمرهم وفقدوا اللياقة البدنية ولم يعودوا يصلحون لشيء .
الذين يمكن لمحمد عبد العزيز تجنيدهم هم بعض الشباب العائد من أسبانيا وكوبا بعد إتمام دراساتهم وهم قلة يمكن القضاء عليهم في أول معركة يشاركون فيها مع القوات المغربية ولا يستطيع تعويضهم، حيث لا يملك احتياطيا بشريا، ومدة ستة أشهر غير كافية لتدريب عسكري له فاعليته على أسلحة حديثة مهما كان مركزا. والجيش ليس فقط قوات مقاتلة وإنما يشمل خطوط إمداد وتموين ونقل واتصالات ودفاع جوي وقوات إسناد وعمق إستراتيجي ونقل وعلاج الجرحى…. إلخ. وهو ما يحتاج إلى عدد كبير من القوى البشرية لا تتوفر عليه البوليزاريو. ولا تمتلك البوليزاريو أيضا موارد مالية كافية تمكنها من شراء أسلحة حديثة وتجهيزات، وما تحصل عليه من معونات أغلبها معونات غذائية وإنسانية تضطر قيادة البوليساريو إلى الاستيلاء على بعضها وإعادة بيعه في الأسواق المحلية الجزائرية للحصول على مال تغطي به نفقاتها. ويعرضها هذا المسلك للاتهامات ويفقدها ثقة الصحراويين المحتجزين لديها ويزيد من نقمتهم عليها. وهذا يعني أن المصدر الوحيد لتزويدهم بما يحتاجونه من أسلحة وتجهيزات خلال الشهور الستة القادمة هو عسكر الجزائر.
ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن البوليساريو تعرضت للتآكل والاستنزاف البشري والنفسي والسياسي على مدى ثلاثين عاما وتحولت إلى كيان شبه محطم ومهيض الجناح وقليل الحيلة ولم يعد يفيده كثيرا استمرار تعاطف أو تأييد دول ومنظمات غير حكومية لأطروحته وهي تجهل حقيقة ما آلت إليه أحواله. هذا فضلا عن الوجود في أرض صحراوية قاحلة نائية عن العمران ومكشوفة وقاسي مناخها القاري الذي تهبط فيه درجات الحرارة ليلا إلى ما دون الصفر وترتفع نهارا إلى قرابة أو أكثر من 50 درجة مئوية. ولا تتوفر على تحصينات قوية وخطوط دفاع وقيادات عسكرية ذات كفاءة عالية(14).
ولقد ترتب على إدراكهم ما يعانونه من نقص بشري إلى محاولة توسيع مفهوم المواطن الصحراوي لكي يشمل الصحراويين في الجزائر والمغرب وموريتانيا ولا يقتصر على سكان الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا. وترتب على هذا التوجه الجديد الذي يتغيا زيادة نطاق التجنيد للعمل العسكري وإيهام المناصرين لهم أو الذين ما زالوا يقفون على الحياد مع قناعتهم بأن المنطقة لا تحتمل دويلة جديدة فيها، بأن دولة البوليساريو التي يحلمون بها ليست كذلك وإنما هي عديدة السكان وواسعة المساحة. وهذا التوجه لتوسيع نطاق مفهوم الصحراويين هو الذي تسبب في نفس الوقت في إزعاج شيوخ القبائل الصحراوية وجعلهم يعقدون اجتماعا مستقلا عن اجتماع الجبهة كجوجيت على بعد عشرين كيلومترًا من تيفاريتي. وبالتالي زاد من الانقسامات داخل صفوف البوليساريو. وزاد من مخاوف موريتانيا منهم خاصة بعد الهجمات التي تعرضت لها ثكنات عسكرية في أقصي الشمال الشرقي لموريتانيا على الحدود مع الجزائر وفي منطقة لا تجد فيها سوى مخيمات البوليساريو. وهذا التوجه ما كان يمكن للبوليزاريو التفكير فيه ما لم يؤيدهم فيه عسكر الجزائر، وهو ما يعني استعداد هؤلاء العسكر للتفريط نهائيا في مناطق بلادهم الصحراوية المتاخمة للحدود مع المغرب بسكانها الجزائريين لتكوين منطقة عازلة على طول الحدود الحالية بين المغرب والجزائر.
وعندما يتمكن محمد عبد العزيز من تكوين جيش يشكل خطرا على المغرب فلن يكون بمقدور الجيش المغربي بمجرد بدأ العمليات العسكرية إلا قصف تجمعات مرتزقته داخل الأراضي الجزائرية ولن يكون بإمكانها تفادي ذلك على الإطلاق. وهنا ستأتي الفرصة التي ينتظرها عسكر الجزائر للانضمام إلى المعارك بدعوى الدفاع عن حوزة الوطن وحرمته التي انتهكها المغاربة وسيادته وكرامته. هذه الحرب يحتاجها العسكر داخل الجزائر مثل حاجة البوليزاريو لها لكي يمكنهم فرض الأحكام العرفية واستلام السلطة واعتبار أي مقاومة داخل الجزائر لهم بمثابة خيانة وطنية وطعن في الظهر والبلاد في حالة حرب. ومن شأن هذه الحرب أيضا أن تصرف أنظار العالم عما يقدمون عليه من مذابح في حق الشعب الجزائري الأعزل الذي انفصلوا عنه.
أما بالنسبة لمحمد عبد العزيز، فهذه الحرب تمثل الفرصة الأخيرة لتحقيق أمله في أن يكون رئيس دولة حقيقية، وليس رئيس دولة خيالية أو مزعومة أعلن عنها في 27 فبراير 1976 وما زال من يومها أشبه باليهودي التائه.
المغرب ليس غافلا عن هذه التطورات المحتملة وما تتضمنه من مخاطر على سلامة أراضيه وقواته المسلحة، وليس مجرد مصادفة – فيما أري – أن ينظم معرض دولي في هذه الآونة للطيران الحربي في مراكش وأن يتم تسريب إلى وسائل الإعلام نية المغرب في شراء عـــــدد كبير من طائرات إف 16 الأمريكية المتطورة. وهذه الطائرات سترحب الولايات المتحدة ببيع أكبر عدد منها للمغرب، فالمغرب بعيد عن إسرائيل ولا يشكل خطرا عليها. ومن صالحها زيادة مديونية المغرب لها وكذلك إنهاك الجزائر عسكريا وسياسيا واقتصاديا وإضعافها لتحقيق أكبر قدر من المصالح الأمريكية فيها، وكذلك إشاعة فوضي هدامة في شمال أفريقيا يقتل فيها المسلم أخاه المسلم للتغطية على الفوضى التي أثارتها في المشرق العربي وأطلقت عليها تسمية: الفوضى البناءة وكذلك على ما قد يحدث في العراق إن أعلن الأكراد استقلال دولتهم. أو التغطية على عدوان إسرائيلي على لبنان للثأر من حزب اللـه.
إن الحالة النفسية للمغامرين وليست مصلحة الشعب الجزائري أو الشعب المغربي الصحراوي هي الدافع الوحيد للمغامرة القاتلة حتى لو كانت انتحارية. فالمعروف في علم النفس أن الانتحاري لا يلجأ إلى الانتحار إلا تحت تأثير شديد للخوف أو اليأس والإحباط. وتدخل هذه الحالة ضمن الفوبيا أو الاكتئاب. ويكره المصاب بها الحياة بالمطلق وتفقد الحياة عنده قيمتها وحرمتها، سواء حياته أو حيوات الآخرين. بل قد يعتبر أن في القضاء على حيوات الآخرين والتضحية بها شرط ضروري لحفظ حياته والإبقاء عليها. إنه أشبه بالوثني الذي يقدم قربانا بشريا لآلهته.
في المغرب لا توجد هذه الدوافع أو النوازع النفسية المرضية. وإنما يوجد لديه في مقابلها الإحساس بالحق المشروع في الدفاع عن النفس والأرض والعرض. إلا أن هذا الدفاع الواجب يجب أيضا على المغرب أن يعتبر أن تفادي الحاجة إلى هذا الدفاع الضروري والواجب هو أوجب منه. أي تجنب الحرب أوجب من الانسياق إليها و تحقيق رغبة المغامرين المعتوهين في إشعالها وجني ثمارها.
وحيث لا وجد بديل للحل العسكري سوى الحل السياسة، وأن الحرب بذاتها هي أداة لتحقيق أهداف السياسة فإن تحققت تلك الأهداف انتفت الحاجة إليها. فإن المغرب مطالب بأن يعجل بإرساء حل سياسي خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر. ودون أن يترتب عليه تقديم أية تنازلات جديدة للآخر أكثر مما سبق أن قدمه له. وهذا الحل لا يحتاج مفاوضات معه، ولا مساع دبلوماسية أو وساطات دولية، ولا يجب أن يتوقف على قبول الآخر له. وأن يجعل هذا الحل الذكي والعاجل الحرب مستحيلة. أي أن المغرب مطالب في هذه الظروف الحرجة بأن يبادر إلى الفعل وليس انتظار فعل الآخر لكي يقرر رد فعله عليه.
تفيد مصادر مطلعة أن القوات العسكرية الجزائرية لا تزال مرابطة في المواقع الجديدة التي أحدثتها خلال الأسابيع القليلة الماضية قرب الحدود المغربية، كما أن “الخيام الجزائرية” من صنع كندي لا تزال منصوبة على طول الشريط الحدودي المغربي الجزائري من جهة الشمال الشرقي. وعلى الخصوص بجماعتي بني درار وأهل أنكاد، حيث ذكر شهود عيان أن السلطات الجزائرية حاولت إخفاء المعدات والآليات الحربية في بعض المواقع العسكرية القريبة من الشريط الحدودي كما هو الشأن بالنسبة للثكنة القريبة من جبل عصفور، كما لجأت إلى وضع بعض المدرعات في المنحدرات المجاورة بعيدا عن فضول الأنظار مثل الوادي القريب من بني درار.
وفي نفس الإطار ذكر مسئول مغربي رفيع المستوى أن المعطيات المتوفرة تفيد أن الجزائر أقدمت على اتخاذ العديد من التدابير ذات الطابع العسكري فإلى جانب التسابق نحو اقتناء العتاد العسكري المتطور هناك إجراءات ميدانية تتمثل في إعادة انتشار الجنود عبر مواقع مختلفة، ويتأكد ذلك من خلال عملية تحويل القاعدة الجوية التي كانت موجودة في وهران حيث أصبحت في تلمسان( (15) وذكرت مصادر عليمة أن المسئولين الجزائريين اضطروا إلى التخفيف من تعزيزاتهم العسكرية حتى لا يتهمون بالرغبة في تصعيد حالة التوتر بشمال أفريقيا، وأفادت مصادر دبلوماسية غربية أن أطرافا دولية نصحت الجزائر بعدم الدخول في مغامرة قد تجر على المنطقة المتوسطية الكثير من الويلات والدمار. وأكد مصدر عسكري أن الجهات الأمنية المغربية رصدت فعلا تحركات غير عادية لحشود عسكرية جزائرية على الشريط الحدودي المغربي الجزائري، وأنها تتابع تطور الأوضاع عن كثب. وأوضح هذا المصدر أن هذه التحركات تدخل ضمن ما يسمى بالاستفزاز والتحرش المباشر، وأبرز أن المعطيات الميدانية لا توحي بوجود استعدادات فعلية لشن الحرب.
وقد رفض موظف بالقنصلية الجزائرية الكشف عن هويته ذكر أن الحشود العسكرية الجزائرية عبر الحدود عادية جدا، حيث دأبت السلطات الجزائرية، مع اقتراب شهر رمضان من كل سنة على تعزيز المراقبة لمنع تهريب المواد الأساسية نحو المغرب حتى تضمن الوفرة داخل السوق الجزائرية. وأضاف أن هذه التعزيزات تهدف كذلك إلى الحد من ظاهرة الهجرة السرية، إلا أننا عندما وصلنا إلى المركز الحضري بني درار الذي يمثل أقرب منطقة حدودية مع الشقيقة الجزائر اكتشفنا أن حركة التهريب مستمرة، فالكثير من المواد تمر نحو التراب المغربي دون أن يعترضها حراس الحدود الجزائريون كما أن بعض الشاحنات الجزائرية تتسلل نحو بعض النقط القريبة من بني درار وتفرغ حمولتها من المواد الجزائرية، وتعود محملة بمواد مغربية وبالعملة الصعبة نحو التراب الجزائري، وكأن الأمر يتعلق بحركة تجارية عادية. كما أن مصادر من عين المكان أكدت للعلم أن حراس الحدود الجزائريين يسهلون عملية تدفق المهاجرين السريين من دول جنوب الصحراء نحو التراب المغربي عبر عشرات المواقع الحدودية.
أما على مستوى الخراب الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني المغربي ذكر مصدر من غرفة التجارة والصناعة بوجدة أن متوسط رقم المعاملات السنوي لمجموع الجهة الشرقية من المواد المهربة يقدر بنحو 6 ملايين درهم سنويا، كما أن هذه الظاهرة تتسبب في ضياع ما يناهز 32 ألف منصب شغل، وأضاف المصدر أن الكميات المحجوزة من المواد المهربة من التصدير والاستيراد من طرف إدارة الجمارك من فاتح يناير إلى غاية 30 نوفمبر 2003 بلغت نحو تسعة ملايين و 920 ألف درهم. وأوضح المصدر أن حجم الضرر الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني أكبر بكثير، حيث إن المعطيات المتوفرة لا تمثل سوى 40٪ من حجم الضرر الحقيقي(16).
قائمة المراجع
1.    المارشال فارل مايير، الأمن ومشكلات الحوض المتوسطي، تعريب: الدكتور وليد أنور، الطبعة الأولى، الأردن: دار الأكاديمية،2008، ص.، 12.
2.    نفس المرجع، ص.، 25.
3.    ستيفان أبيان، قرن من العنف – وعسكرة القارة -، الجزء الأول، الطبعة الأولى، دمشق: دار الإحياء،2009م، ص.152
4.    التقرير السنوي لقيادات أركان وزارات الدفاع المتوسطي، الأكاديمية الحربية الملكية، مدريد، ص.،458
5.    نفس المرجع، ص.466.
6.    نفس المرجع، ص.، .536
7.    اللواء.عبد الرحمان عبد الغفور، حرب الرمال.. سيناريوهات الأزمة، عن مطبعة المدرسة العسكرية لمدفعية الميدان، بوسعادة، 2006م، ص.،62.
8.    نفس المرجع، ص.37.
9.    نفس المرجع، ص.42.
10.    د. يحي الميجي، الصراع البارد – الجزائر في مواجهة المغرب-، مطبعة الجيش، مركز الإعلام والإيصال والتوجيه، الجزائر، 2009م، ص.، 125.
11.    نفس المرجع، ص.213 .
12.    أشغال الدورة الخامسة لمدراء القوات الخاصة العرب، الناحية العسكرية الأولى، البليدة – الجزائر، 2006م، ص.، 22.
13.    نفس المرجع، ص.، 56.
14.    نفس المرجع.ص.66.
15.    المارشال فارل مايير، مرجع سابق، ص.45.
16.    نفس المرجع، ص.77.

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button