التغيير السياسي: المفهوم والأبعاد (قراءات نظرية)

يري الفيلسوف اليوناني “هيرقليطس Heraclitus”: ان فلسفة التغيير فلسفة عميقة من الصعب تحديدها في سطور أو مؤلف وذلك لامتدادها الزمني منذ وجود الخليقة، وأن كل شيء متغير وأن التغير سابق للثبات. ويري أفلاطون: “إن العوالم عالمان، عالمنا الذي نعيش فيه والعالم الذي ينتظرنا. أما عالمنا الذي نعيش فيه فهو عالم التغير ويستمد طاقته من عالم الثبات (عالم المثل)، أما العالم الآخر فهو العالم الذي لا يوجد فيه تغير بل هو عالم الثبات. المليئ بالكمال والخلود والمثالية وهو العالم المناظر للعالم المتغير، والمتطلع للحياة يجد التغيير سنة من سنن الله في الكون، وهو ضد الثبات، كما أنه تعبير عن حركة دائمة تكتنف المخلوقات على شكل تراتبية تنازلية وتصاعدية.

ومن جانبه قال “أرسطو “Aristotle أن التغيير مقدار الحركة وهو ما يسمى “بالنقلة” حيث أن الزمان مرتبط بالمكان وهذه الحركة التي يتم الانتقال بها من مكان إلى آخر إنما يتم بها تحقق الزمان وتغيره فالزمان يكون هو مقدار الحركة وهذه الحركة أنما تنوجد بوجود المكان والذي يوجد بوجود الأجسام وأنه اعتباري نسبي وان البدن البشري هو الذي جعل للزمان محدودية ووعاء بما يتلائم مع مادية الجسم فأن الزمان ذلك الجزء الجوهري من العالم لا يمكن للبشر أن يشعر بجوهريته ألا من خلال ألتجرد من المادة (1).

أما “كارل ماركس” فقد ربط التغيير الاجتماعي بالعامل الاقتصادي، وذلك باعتباره فيلسوفاً سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً. لقد زعم ماركس أن وراء كل تلك التغييرات والتحولات الاجتماعية عوامل اقتصادية بحتة. مدعياً أن هناك ثلاث عوامل اقتصادية تحرك المجتمع وتدفعه للأمام، وذلك حسب نظريته المادية التاريخية (2).

وتنطلق مقولة (ماركس) من عدة فرضيات، منها: أن مهمة الفلاسفة هي تغيير التاريخ، وأن جل الفلاسفة قد تخلوا عن مهمة تغيير التاريخ، وأن جل الفلاسفة قد اكتفوا بمهمة فهم التاريخ، وأن المهمة الصحيحة المطلوبة حاليا هي تغيير التاريخ لا فهمه، وأن هناك قدر من التضارب بين مهمة فهم التاريخ وبين مهمة تغيير التاريخ، وأن فهم التاريخ ربما يعيق تغيير التاريخ.

وأضاف ماركس: إن تغيير التاريخ أهم من فهم التاريخ، وأن التغيير المطلوب للتاريخ هو مسألة واضحة ومحددة لا تتطلب سوى التركيز عليها. فهي لم تعد تتطلب فهم، بل تتطلب البدء فيها فورا، دون تضييع وقت في تلكؤ الفهم، وأن فهم التاريخ هي مهمة عفا عليها الزمن، بحيث أصبح المطلوب حاليا وبإلحاح هو تغيير التاريخ وليس فهمه، وأنه بإمكان الفلاسفة تغيير العالم بدل الإكتفاء بتفسير وفهم العالم ( 3).

وهكذا فإن استخدامه لمصطلح التغيير يقصد به حالات التحول التي يخوضها المجتمع بعمومه للانتقال إلى أوضاع أفضل تمكنه من الانطلاق إلى المستقبل، لكن ليس كل تغيير يكون نحو الأفضل وهذا يدخل في باب التغيير المقصود وغير المقصود، أو كون هذا التغيير خيار أم بديل. وان حالات التحول التي يخرج منها المجتمع -بأفراده ومؤسساته وهيئاته وصولا إلى مركز قرار الدولة والتفاعلات الدولية في النسق الدولي -أكثر إيجابية وفاعلية وقوة وقدرة على إدارة شئونه، وعلى محاسبة قيادته ومكافئتها ومعاقبتها، وعلى التصدي لمحاولات كبته أو قهره ( 4).

أولاً: مفهوم التغيير:

التغيير لغة في المعجم الوسيط هو “جعل الشيء على غير ما كان عليه”، فالتغيير مصدر يعبر عن صيغة مبالغة مشتق من الفعل (غيّر) الشيء بمعنى حوله وبدله بآخر، وأيضا جعله غير ما كان عليه في السابق، وتغيّر: تحول وتبدل ( 5).

والتغيير في اللغة الإنجليزية هو (Change) أما التغير أو ما يترجم في أحيان عديدة على انه تحول فقد استخدم له مصطلح (Changeability) أي القدرة على التغيير، وأيضا مصطلح (Mutation). وبالنسبة للكلمة الأولى نجد أنها تحمل معنى يختلف عن (التعديل –Alter) وكذلك (التحسن-Modify) وغيرها من المعاني التي تفيد معنى التمييز. وعليه فالتغيير في اللغة الإنجليزية هو استمرار حالة الاختلاف والتي تطبع سمات ظاهرة معينة مقارنة بمدة سابقة للظاهرة نفسها وليس لغيرها، وهنا يكمن المعنى الحقيقي للتغيير فهو مرتبط بظاهرة أو نظام ما تتعرض سماته العامة أو أجزاء منه إلى حالة اختلاف مقارنة بالمدة السابقة له بغض النظر عن الأمد الزمني، أما الاختلاف كمصطلح فيستخدم للمقارنة بين سمات حالة وحالة أخرى لا تتشابه معها في صفاتها الكلية، أما كلمة تعديل فيقصد بها الحالة المقصودة التي طرأ عليها نوع من الاختلاف في بعض سماتها وليس في مجموعها الكلي، حتى وان كان التعديل طفيفا كونه بشكل عام يعبر عن حدوث حالة تغيير. أما التحسن فيعني أن التغيير الذي طرأ على الحالة المعنية إنما نحو الأفضل وليس الأسوأ، عكس الحالة التي تعني التغيير نحو الأسوأ التي يستخدم مصطلح التراجع للتعبير عنها.

ومن المصطلحات المقاربة جدا لمفهوم التغيير هو التغير بدلالة (Changeability) لهذا هو يقترب كثير من مفهوم التغيير من الناحية الاصطلاحية، لكنه في الواقع يختلف من الناحية اللغوية، فالتغيير مسالة غير إرادية في الحدوث عكس التغيير فهو مسالة إرادية الحدوث بمعنى ان التغيير سلوك واعي في التغير وهذا ما سنتحدث عنه في موضوع التغيير المقصود والتغيير الغير مقصود ( 6).

وكذلك يأتي بمعنى التغيير التحول (converting) أي التغير من حال إلى حال أخر جديد بمعنى (فن التحول من نقطة معلومة إلى نقطة معلومة أخرى، فيؤخذ بصورتين الأولى بدلالة تغيير صورة الشيء ذاته، أو أخذه باعتبار استبدال الشيء بغيره) وكما يقترب مفهوم التغيير من الإصلاح (reform) والتطور(developing) التي تستخدم بشكل تبادلي ( 7).

في العلوم الاجتماعية على أنه “التحول الملحوظ في المظهر أو المضمون إلى الأفضل”( 8). والتغير الاجتماعي كذلك هو “كل تحول يطرأ على البناء الاجتماعي خلال فترة من الزمن فيحدث تغير في الوظائف والأدوار والقيم والأعراف وأنماط العلاقات السائدة في المجتمع”(8 ). وهو كذلك “انتقال المجتمع بإرادته من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى أكثر تطوراً”(10 )، وهذا التعريف يتضمن عدد من العناصر الأساسية:

1-انتقال المجتمع وأي تجمع بشري كالدول أو المؤسسات أو الحركات أو الأحزاب من حال إلى حال، من الحاضر إلى المستقبل، لتصبح طرفاً فاعلاً في الأحداث، وتحقق التنمية والنهضة المستهدفة، وتمارس دورها في إعمار الكون. وهكذا يتسع نطاق التعريف ليشمل الفعل على مستوى الدول والمؤسسات والحركات والأحزاب، بل ومجموعات العمل الصغيرة.

2-بإرادته: أي بعموم الرغبة والإرادة الجماعية للمجتمع بمؤسساته وهيئاته وأفراده.

3-من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى: وتشمل كلمة الحالة الاجتماعية أنماط العلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية المختلفة كنظم الأسرة والاقتصاد والسياسة والنظم التشريعية والقضائية والدينية، ومن ثم فإن هذا اختيارنا لمصطلح الحالة الاجتماعية يجعل نطاق التعريف يتسع ليشمل عمليات التغيير في مناحي الحياة المختلفة (11 ).

* أكثر تطوراً: فمصطلح التغيير يعني عندنا الانتقال بأي تجمع بشري إلى الأمام، وبناء قدرته على الفعل. وبالتالي فإن انتقال المجتمع إلى وضع أكثر تخلفاً أو ارتداده خطوة إلى الوراء لا يدخل في نطاق تعريفنا، لأنه لا يمكن أن تتلاقي إرادة المجتمع بعمومه على الانتقال لوضع متخلف.

وهكذا فإن استخدام مصطلح التغيير يقصد به حالات التحول الاجتماعية التي يخوضها المجتمع بعمومه للانتقال إلى أوضاع أفضل تمكنه من الانطلاق إلى المستقبل. وهي حالات التحول التي يخرج منها المجتمع -بأفراده ومؤسساته وهيئاته-أكثر إيجابية وفاعلية وقوة وقدرة على إدارة شئونه، وعلى محاسبة قيادته ومكافئتها ومعاقبتها، وعلى التصدي لمحاولات كبته أو قهره، ومن ثم فإن حالات التحول التي يتم فيها استبدال قلة مسيطرة متحكمة بقلة أخرى دون المشاركة الإيجابية والفعالة من قبل وحدات المجتمع المختلفة (12 ).

ثانياً: مفهوم التغيير السياسي:

يشير التغيير السياسي إلى “الانتقال من وضع لا ديموقراطي استبدادي إلى وضع ديموقراطي. والتغير السياسي السلمي قد يطلق عليه مصطلح (إصلاح) ويمكن اعتباره مرادفا للتغيير الدستوري في القيادة أو لإعادة بناء التأثير السياسي داخل المجتمع ( 13).

والتغيير السياسي كذلك هو “مجمل التحولات التي قد تتعرض لها البنى السياسية في المجتمع أو طبيعة العمليات السياسية والتفاعلات بين القوى السياسية وتغيير الأهداف، بما يعنيه كل ذلك من تأثير على مراكز القوة بحيث يعاد توزيع السلطة والنفوذ داخل الدولة نفسها أو بين عدة دول (14 ).

ويأتي التغيير السياسي استجابة لعدة عوامل أهمها:

1ـ الرأي العام، أو مطالب الأفراد من النظام السياسي، لكن هذه المطالب لن تتحول في كثير من الأحيان إلى مخرجات إذا لم يتم تبنيها من قبل الأحزاب وجماعات المصالح والضغط (15 ).

2ـ تغير في نفوذ وقوة بعض الحركات والأحزاب وجماعات المصالح، بما يعنيه تحول الأهداف الحزبية أو الخاصة من إطار الحزب إلى إطار الدولة.

3ـ تداول السلطات، في الحالات الديمقراطية، أو إعادة توزيع الأدوار في حالات أخرى كالانقلابات، يعني تلقائيا أن حياة سياسية جديدة بدأت تتشكل، وفق منطق القيادة الجديدة.

4ـ ضغوط ومطالب خارجية، من قبل دول أو منظمات، وتكون هذه الضغوط بعدة أشكال، سياسية واقتصادية وعسكرية.

5ـ تحولات خارجية في المحيط الإقليمي أو في طبيعة التوازنات الدولية، قد تؤثر في إعادة صياغة السياسات الداخلية والخارجية في إطار التعامل مع المدخلات الجديدة في السياسة الدولية (16 ).

ثالثاً: التغيير السياسي والتحديث السياسي

يتحدد مفهوم التغيير السياسي بناءً على صفة هذا التغيير، فإن كان التغيير إيجابياً محموداً، يهدف إلى محاربة الفساد وإزالته، وتحقيق الإصلاح، فينطبق عليه تعريف الإصلاح السياسي نفسه، وهو: “تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، ومحاربة مظاهر الفساد والضعف فيه، بوسائل مختلفة، بحيث يحقق المقاصد الشرعية المرجوة منه”. أمَّا إن كان التغيير السياسي لا يهدف إلى هذه الأمور، بحيث يهدف إلى تكريس الفساد، أو محاربة الخير، فإنَّه يقصد به ” تغيير وتعديل في نظام الحكم سواء أكان جزئياً أو جذرياً، بوسائل مختلفة، بحيث يتحقق دون النظر إلى المقاصد الشرعية المرجوة منه”.

والإصلاح السياسي خلافاً للثورة ليس سوى تحسين في النظام السياسي، فهو تطوير غير جذري في شكل الحكم، دون المساس بأسس هذا النظام. ولهذا يخرج منه الانقلاب لأنه يشمل أدوات غير سلمية للتغيير، ويهدف إلى تغيير القائمين على النظام أكثر من كونه يهدف إلى إصلاح النظام.  بينما يرى البعض أنَّ الثورة أحد أشكال الإصلاح السياسي، إلاَّ أنَّها تعبير عن إصلاح سياسي راديكالي وسريع، كما أنَّ الانقلاب لتغيير القائمين على النظام لأنهم أساؤوا استعمال السلطة ليأتي من يقومون بالإصلاح، هو أحد أشكال الإصلاح السياسي، إلاَّ أنَّه شكل راديكالي غير سلمي للإصلاح (17 ).

كذلك يرتبط التغيير السياسي بمفهوم التحديث السياسي، والتحديث السياسي مفهوم مركب من مفهومين: الأول، مفهوم التحديث والثاني، مفهوم “سياسي”، ويقصد بالتحديث الانتقال من وضع إلى آخر على وفق معيار معين، وبوصفه السياسي أنه التغير الذي يشمل كل ما له صلة بالعملية السياسية، إذن مفهوم التحديث السياسي مفهوم له علاقة بجوانب الحياة السياسية كافة، ونظراً للتنوع الكبير في أنماط النظم السياسية التي يعرفها المجتمع المعاصر سواء من ناحية التنظيم أو العلاقات والأهداف التي يسعى إليها كل نظام كان طبيعياً انعكاس ذلك التنوع على الاتجاهات التي تناولت دراسة التحديث السياسي وأبعاده(18 ).

ويوجد اتجاهان رئيسيان في دراسة التحديث السياسي:

الأول: الاتجاه الليبرالي: وينطلق في شرحه لمفهوم التحديث السياسي عن القيم الديمقراطية في المجتمع الليبرالي، إذ يرى إن الديمقراطية هي المسار الوحيد والنتيجة الطبيعية لعملية التحديث السياسي، كما شهدته الدول الأوربية تضمن: اتساع مركزية السلطة الحكومية، والتمايز والتخصص للأبنية والوظائف السياسية، والمشاركة الشعبية المتزايدة، والتي تستند إلى مبدأ المساواة السياسية بوجه خاص، والوحدة القومية ودمج الأفراد بصورة متزايدة في النظام السياسي وربطهم عاطفياً به ( 19).

الثاني: الاتجاه الماركسي: ينبع من الفلسفة الماركسية التي ترى أن الطريق الوحيد لعملية التحديث السياسي هو الصراع الطبقي الذي يؤدي إلى الثورة ويؤكد الماركسيون على أنهم لا يسعون إلى التحديث السياسي والاقتصادي فحسب بل إلى تحديث طبيعة الإنسان وإيجاد دور قيادي له في عملية التغيير، والتحديث السياسي الذي شهدته الدول الاشتراكية هو الثورة الشاملة التي تسعى لتغيير خريطة المجتمع تغييراً جذرياً، أي أن نقطة البدء هي إجراء تحديث في البناء التنظيمي للدولة ثم متابعة التحديث بالتوعية والتحديث الثقافي تحت قيادة الحزب الشيوعي(20 ).

وقد عالج (رومي) التحديث السياسي انطلاقاً من العوامل التي تُحدث التغير في عملية صنع السياسة العامة التي تتأثر بالتحولات المادية والاجتماعية وبتفاعل الساسة والمؤسسات السياسية والأفكار مع العالم المحيط بهم (البيئة: اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية ودستورية…. الخ)، وهذه العوامل جميعاً تؤدي بدورها إلى حدوث تحديث سياسي، وبذلك يصبح التحديث السياسي هو “عملية صنع السياسة العامة التي تتأثر بالتحولات المادية والاجتماعية وبتفاعل الساسة والمؤسسات السياسية والأفكار مع العالم المحيط بهم”(21 ).

وحاول “كارل دويتش” دراسة التحديث السياسي داخل المجتمعات من حيث مصدر التغير الذي قد يكون داخلياً نتيجة الصراع أو خارجياً نتيجة تحديات خارجية أو نتيجة لاحتكاك ثقافي بثقافات مختلفة، كما حاول دراسة التحديث السياسي من زاوية دينامية انتشار التجديدات كأن تبدأ من الحضر إلى الريف أو من العاصمة إلى الأقاليم، أو من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا، هذا إلى جانب دراسة نوعية التغير هل هو تغير ثوري مفاجئ أم تدريجي بطيء؟ وما هي العلاقات بين المتغيرات السياسية وبين التغيرات في القيم والاتجاهات والسلوك السياسي داخل هذه المجتمعات؟ (22 ).

وحاول “ليدز” توضيح الأسباب التي تؤدي إلى التحديث السياسي، وذكر منها: الأسباب التكنولوجية والعلم والتصنيع، ومراحل الاضطراب السياسي والاجتماعي (مثل: الحروب الأهلية والدولية والأزمات) ووجود الأفراد الحركيين (وهم الأشخاص الذين يملكون نفوذاً أساسياً وقوة سياسية، ويرغبون في التحديث) وطبيعة الاتجاهات السائدة (فالمجتمعات التي تؤكد على الإنجاز يكون أفرادها أكثر تقبلاً للتحديث مقارنة بالمجتمعات التي لا تؤكد على الإنجاز، ومن ثم يسعى أفرادها للحفاظ على الوضع الراهن) وكذلك طبيعة المثل العليا والأهداف التي تطرحها الأيديولوجيات السائدة في مجتمع ما، والتي قد تكون ذات أساس ديني أو وضعي( 23).

وتناول “ابتر” التحديث السياسي من منظور: لماذا تتغير النظم السياسية؟ (24 ). بينما تناول “ديفيد آيستون” التحديث السياسي من منظور فكرة النظام وتحليل النظم، ورأى أن النظام السياسي هو مجموعة من التفاعلات التي تتم من خلالها عملية التخصيص السلطوي للقيم، وتشير هذه العملية إلى خمسة عناصر أساسية: المدخلات، وعملية التحويل، والمخرجات، والتغذية الإسترجاعية، وبيئة النظام السياسي (25 ).

وهكذا يبدو النظام السياسي كدائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي تبدأ بالمدخلات وتنتهي بالمخرجات وتقوم التغذية الإسترجاعية بمهمة الربط بين المدخلات والمخرجات، ولكن النظام السياسي لا يستجيب إلى كل المطالب التي تواجهه بل يقوم بعملية اختيار لهذه المطالب وإذا ازداد حجم هذه المطالب إذ تؤدي إلى عجز النظام عن الاستجابة إليها يحدث نوعاً من عدم التوازن بين مدخلات النظام السياسي وقدراته، الأمر الذي يؤدي إلى توتر سياسي قد يصل إلى حد العنف وانقطاع قنوات الاتصال السياسي.

ويميز “آبليوم” بين حجم التحديث ومداه واتجاهه، فيفرقون بين التغيرات العميقة أو ذات التأثير المهم وتلك الفرعية والثانوية، وبين التغيرات طويلة المدى والتغيرات قصيرة المدى وبين التغيرات التي تؤدي إلى تغير البنية، وبين التغيرات التي تؤدي إلى المحافظة على البنية (26 ).

رابعاً: التغيير الثوري والإصلاحي:

تحدث “ويلش وبنكر” عن وجود نمطين للتحديث السياسي: أحدهما ثوري يرتبط بالعنف والآخر تطوري يرتبط بالإصلاح، وكلا النمطين يتفق مع الآخر في الهدف، وهو التحديث نحو الأفضل، ويؤكد كل من النمطين على أهمية وجود أدوات وقوى معينه كالأحزاب السياسية والنخب السياسية والبيروقراطية والجيش وتقوم بمهمة التحديث (27 ):

1ـ نمط التغير الثوري:

عرف جونسون التغير الثوري “بأنه نمط خاص للتغير الاجتماعي، لأنه يستلزم إدخال العنف في العلاقات الاجتماعية”. ويمكن تحديد أبعاد التغير الثوري على النحو الآتي: تغير البنية الاجتماعية، وتغير القيم ومعتقدات المجتمع، وتغير المؤسسات، وتغير في تكوين القيادة وأساسها الطبقي، وتغير النظام القانوني، واستخدام العنف في الأحداث التي تؤدي إلى تغير النظام (28 ).

ويكشف هذا التحديد عن أبعاد التغير الثوري من نقطة هامة هي أن التغير الثوري لا يقتصر على التغير السياسي، وإنما هو صيغة تبدأ سياسية وتنتهي بأن تكون اجتماعيه فتحدث تغيرات كمية ونوعية في النظام الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أن العنصر المميز للتغير الثوري هو الاعتماد على العنف.

فالثورة في أحد تعريفاتها هي “نشاط إنساني يقترن بمشروع جماعي واجتماعي يستهدف تغيير الأوضاع الاجتماعية القائمة تغييراً نوعياً ممتداً نحو المستقبل”(29 ). والثورة بوصفها مشروعاً جماعياً واجتماعياً يمثل محاولة من أجل تقديم فهم أعمق للثورة، وقد أكد ماركس على أهمية المشروع بالنسبة للثورة من خلال تأكيده على أهمية الأيديولوجية الاشتراكية بالنسبة للثورة، والهدف النهائي الذي يقترن به المشروع الثوري هو ليس إحداث نتائج سياسية فحسب بل نتائج اجتماعية تتمثل في تغيير العلاقات الاجتماعية.

ويقدم التصور الماركسي للثورة نمطاً للتغير هو التغير الثوري العنيف، وتأريخ المجتمع عند ماركس ضرب من التغير الثوري نتيجة لصراع الطبقات تمثل طريقة الإنتاج أساساً له، فالتغير نوع من الانتقال من عصر إلى عصر يبدأ بالتغير في طريقة الإنتاج التي تغير بنية العلاقات الاجتماعية ( 30).

2-نمط التغير التطوري:

التطور كأسلوب للتحديث أو التغيير السياسي يتضمن معنى السلمية والتدريجية والعمل من خلال المؤسسات القائمة، وهو تغير سلمي شرعي يتم على وفق القوانين والمؤسسات القائمة في المجتمع، وهو أيضا تغير تدريجي لا يتضمن تغيرات جذرية في وقت محدود من الزمن، بل تغييرات تحدث نتيجة تراكمات بطيئة لتغيرات جزئية تتم عبر مرحلة طويلة من الزمن، ومن هنا فإن الوقت هو عنصر هام في التمييز بين الأسلوب الثوري والأسلوب التطوري، فبينما يسعى الأول إلى اختصار عامل الوقت والإسراع بعملية التحديث فإن الثاني يترك للوقت فرصته الكاملة، والعلاقة بين الثورة والتطور هي علاقة جدلية، فالتطور هو سُنّة الحياة نراها في الطبيعة وفي الكون وفي العلاقات الاجتماعية والإنسانية، ولكن عندما تنشأ أوضاع مؤسسات تتعارض مصالحها مع استمرار التطور تصبح الثورة ضرورة اجتماعية، على سبيل المثال عندما تضيق قنوات الاتصال السياسي وتعجز عن نقل مطالب قوى جديدة في المجتمع أو عندما تفشل المؤسسات السياسية من أحزاب وبرلمان عن التعبير عن مصالح قوى اجتماعية صاعدة في مثل هذه الحالات تسد قنوات التطور ويصبح التغيير خارج أطر المؤسسات والقوانين، أي: من خلال الثورة(31 ).

والتطور هو عملية انتقال من مرحلة ذات خصائص وصفات معينة إلى أخرى ذات خصائص وصفات مختلفة تعد أفضل من الأولى، ويتم هذا الانتقال بطريقة سلمية وتدريجية ويفترض أساساً حالة من حالات التوازن والاستقرار والتغير المنظم، ويعتمد مفهوم التوازن على افتراض أساسي هو أن الظاهرة السياسية موضع الدراسة تكّون نظاماً، أي: مجموعة من الأجزاء المتفاعلة، ويؤثر كل جزء في الأجزاء الأخرى، وإذا اختل أي جزء أو اختلت العلاقة بين الأجزاء الأخرى فإن النظام يعيد إصلاح نفسه ليعود إلى حالته الأولى أو ينتقل إلى نمط جديد مستقر، ويبدو الاستقرار في هذا الإطار شيئاً مرغوباً، ولكن الاستقرار السياسي لا يعني غياب التغير المنظم، فالنظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لها طبيعتها الخاصة ويفرض نمو هذه النظم على النظام السياسي أن يتغير طبقاً لها، وان يحل محله نظام أقدر على التغير بوصفها للحفاظ على استمراريته وعمل النظام السياسي وطريقة الإجراءات والتنظيمات السياسية وشبه السياسية في المجتمع (32 ).

وقد اقترح هنتغتون وجود مصدرين للتحديث في المجتمعات النامية هما ( 33): الأول، البنية السياسية للمجتمع النامي، فبعض النظم السياسية النامية أكثر تأسيساً من النظم السياسية النامية الأخرى، فهي أكثر تكيفاً وتعقيداً وتماسكاً واستقلالاً، فمن المتوقع أن تكون أكثر استيعاباً للتحديث، وأكثر اتساعاً لنماذج المشاركة السياسية. الثاني، القيادات السياسية (الأوتوقراطية، والعسكريون، والثوريون) بحكم تأثيرها في العملية السياسية يمكن أن تكون مصدراً للتحديث في المجتمعات النامية.

ورأى سميلر أن التطور الذي شهدته المجتمعات النامية تضمن أربع عمليات: في مجال التكنولوجية تنتقل المجتمعات النامية من استخدام الأساليب البسيطة والتقليدية إلى استخدام المعرفة العلمية. وفي مجال الصناعة تشهد المجتمعات النامية تحولاً من استخدام طاقة الإنسان والحيوان إلى العمل الآلي. وفي الزراعة تنتقل المجتمعات النامية من زراعة الاكتفاء الذاتي إلى إنتاج المحاصيل النقدية. وبالنسبة للتنظيمات الأيكولوجية تتحرك المجتمعات النامية من المزرعة والقرية إلى المراكز الحضرية (34 ).

خامساً: أبعاد عملية التغيير:

التغيير في إطاره العام، يحمل معنى الحراك وعدم الثبات وعكسه الجمود، لكنه في التفاصيل والمنهج لم يكن نقطة إجماع، فظهرت المدارس المختلفة التي تعنى بالتغيير انطلاقا من هدفه وأسسه أو حتى مناهجه وطرقه (35 ).

وتتمثل نقاط الاختلاف في أي عملية تغيير في:

1ـ الهدف من التغيير: والاختلاف فيه أمر طبيعي منسجم مع التنوع والاختلاف في وجهات النظر بين القوى المشكلة لأي مجتمع. فالتغيير كمنهج تتبعه القوى الفاعلة في المجتمع للوصول بأفكارها ومبادئها إلى حيز التنفيذ. واختلاف الأهداف انطلاقا من تنوع الرؤى في المجتمع سينعكس على الجهود التغييرية فيه.

2ـ أساس التغيير: ويقصد به المجال الذي ستنطلق منه قوى التغيير في مشروعها، وتتمثل أهم الأسس، في: الأساس الاقتصادي، والأساس السياسي، والأساس الأخلاقي والتربوي والتعليمي، والأساس القانوني، والأساس الفكري (36 ).

3ـ مناهج التغيير: التغيير من الأسفل إلى الأعلى أو العكس، والتغيير الثوري أو اللاثوري، والتغيير السلمي أو العنف، والتغيير بقوى داخلية أو خارجية، والتغيير التدريجي أو الانقلابي. إضافة للعديد من الطرق والمناهج التي تأتي في الغالب كنتاج طبيعي لفكر ومبادئ القوى الساعية للتغيير، وطبيعة ظروف المرحلة.

ومن هنا فإن الخلاف بين مدارس التغيير، يتطلب معالجة الموضوع في إطار القواسم المشتركة بين وجهات النظر المتباينة، وعلى هذا الأساس فإن التغيير يعبر عن حراك المجتمع الرافض لواقعه أو لبعض جزئياته، ويسعى إلى الانتقال به نحو مرحلة جديدة تمثل هدف عملية التغيير.  أو هو كما تشير “روزابث موسى كانتر”، عملية تحليل الماضي لاستنباط التصرفات الحالية المطلوبة للمستقبل، ويشمل التحرك من حالة حاضرة إلى حالة انتقالية حتى نصل إلى الحالة المنشودة في المستقبل”( 37).

هذا التعريف المرن والعام للتغيير يضم تفرعات عديدة تعبر عن الخلاف في وجهات النظر، فالشق الأول من التعريف يعتبر التغيير إطارا للوسائل، والوسائل قد تكون مختلفة ومتنوعة حسبما أشير إلى تنوعها وفق المنهج والأسلوب. كما أنها تعبر عن حراك المجتمع بدرجات متفاوتة من القوة، وبدرجات متفاوتة من المشاركة بين القوى والمؤسسات والنخب والأفراد وغيرها. حراك المجتمع الوارد في التعريف يأتي كرفض للواقع أو لجزئياته سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وفي كافة جوانب الحياة، لتصل القوة الراغبة والقائمة على التغيير إلى الأهداف المحددة مسبقا في الجوانب الخاضعة لعملية التغيير.

سادساً: أنماط التغيير السياسي:

في إطار أنماط التغير السياسي تبرز رؤي هنتنجتون ووليم متشل (التغير بالمكونات) الموند وروستو (التغير بالأزمة) وبرنر وبريور (التغير المعقد):

النمط الأول: التغير بالمكونات:

اهتم هنتنجتون بالعلاقة بين المشاركة السياسية والمؤسسية السياسية. وهي علاقة يمكن بوضوح تجريدها عن دراسة التحديث. وهذا التحديث قد يكون أحد المصادر التاريخية الكبرى للتغيرات فى المشاركة، لكنه ليس المصدر الوحيد. ومشكلة التوازن بين المشاركة والمؤسسية هي مشكلة تشهدها المجتمعات عند كل مستويات التنمية. فالاضطرابات التي شارك فيها الزنوج والطلاب فى الولايات المتحدة فى أواخر الستينات من الممكن تحليلها بشكل مثمر خلال هذا الإطار: ففي المدن الرئيسية وفى الجامعات واجهت البنية ـ المؤسسات ـ القائمة تحديات، لتفرز قنوات جديدة لكي تستطيع هذه الجماعات الجديدة أن تشارك فى اتخاذ القرارات التي تؤثر فى حياتهم من خلالها.

هذا المقترب النظري ـ لصمويل هنتنجتون ـ الذي يركز فى الأصل على العلاقة بين (المؤسسية + المشاركة) يمكن توسيعه ليتضمن متغيرات أكثر عدداً وتنوعاً. فالخطوة الأولى فى تحليل التغير السياسي، وكما حددها وليم متشل هي تحديد “الأغراض” أو “المكونات” التي يتناولها التغير (38 ).

وتحديد ماذا تكون (أو ماذا ربما تكون) مكونات النظام السياسي، ثم بعد ذلك ما هي العلاقات التي تحملها التغيرات (إن وجدت أصلاً). أي أن هذا المنهج يركز على التغير فى المكونات، والنظام السياسي يمكن أن نتناوله باعتباره تجميعا لمكونات عديدة كلها آخذة فى التغير، بعضها بمعدلات سريعة، والبعض الآخر بمعدلات أبطأ. وهنا يمكن القول بأن دراسة التغير السياسي تتضمن: التركيز على ما يبدو أنه مكونات رئيسية للنظام السياسي، وتحديد معدل ونطاق واتجاه التغير فى هذه المكونات، وتحليل العلاقات بين التغيرات فى أحد المكونات والتغيرات فى المكونات الأخرى.

فالنظام ينظر إليه على أنه يتضمن مكونات عديدة، من بينها: الثقافة، والأبنية، والجماعات، والقيادة، والسياسات. ودراسة التغير السياسي بشكل مثمر يمكن أن تبدأ بتحليل التغيرات فى هذه المكونات، والعلاقة بين التغير فى أحد هذه المكونات، والتغير فى المكونات الأخرى.

والتغير السياسي يمكن تحليله على كلا الصعيدين: الأول فيما بين المكونات وصعيد آخر للتغيرات فيما بين عناصر كل مكون من مكونات النظام. إن المكونات والعناصر إنما هي أهداف التغير. وأنماط التغير فى المكونات، وفى العناصر.

فالتغير فى القوة هو أحد أنماط التغير ذات الصلة بالظاهرة السياسية، ويعتقد بأن التغيرات فى القوة ينبغي أن تكون هي التغيرات الوحيدة التي يجدر بها أن تصبح موضع اهتمام المحلل السياسي. لكن التركيز على القوة وحدها هو نتيجة لتبنى تعريف معين للسياسة.

إن تحليل التغير السياسي قد يكون موجهاً إلى التغيرات البسيطة فى قوة المكونات والعناصر التي يتشكل منها النظام السياسي. لكن الأكثر أهمية هو العلاقة بين التغيرات فى قوة الأفراد المكونين للنظام ـ المكونات والعناصر التي يمثلها الأفراد ـ والتغيرات فى مضمونها. وإذا كان التحليل السياسي محدوداً ليقتصر على التغيرات فى القوة، فإنه لن يستطيع أن يوفر فهما شاملاً للأسباب والنتائج.

إن التغير السياسي يمكن تحليله وفق ثلاث مستويات: “معدل التغير” و”نطاق التغير” و”اتجاه التغير”. فالتغير فى أحد المكونات يمكن مقارنته بمعدل، ونطاق، واتجاه التغـير فى المكونات الأخرى، ومن خلال هذه المقارنات يمكن إلقاء الضوء على أنماط الاستقـرار وعـدم الاستقرار فى النظام السياسي، وعلى المدى الذي وصلت إليه التغيرات فى أحد المكونات استناداً إلى أو نتيجة الارتباط، بالتغير، أو غياب التغير، فى المكونات الأخـرى ( 39).

النمط الثاني: نمط التغير بالأزمة:

يفترض الموند وروستو نموذج التغيير بالأزمة كإطار عام لتحليل الديناميات السياسية. ويعتقد الموند بأن النظريات المبكرة للسياسة المقارنة، والتنمية، يمكن تقسيمها وفق بعدين أولهما: إلى أي مدى تتضمن نماذج للتوازن أو نماذج تنموية؟ ثانيهما: إلى أي مدى تقيم تنبؤاتها استناداً إلى الحتمية أو الاختيار؟

وقد جاء روستو فى محاولة مناظرة بنموذج مشابه نوعاً لنموذج الموند، ويفترض روستو أن التغير السياسي هو نتاج عدم الرضا بالموقف القائم، وعدم الرضا يؤدى إلى حركة سياسية. فالحركة السياسية هي فى الواقع نتاج عدم الرضا دائماً. وهذه الحركة قد تفشل وقد تنجح. فإذا ما نجحت فإن التنظيم، والحركة، أو الجماعات الأخرى المسئولة عن النجاح تقوم كلها بتطوير أهداف جديدة أو قد تذبل وتتلاشى أما إذا فشلت جهودها من أجل التغيير، فإن الجماعة المسئولة عن هذه الجهود: أما أن تتفكك وتحل، أو تستمر فى متابعة هدفها القديم، مع توقع آخذ فى التناقص باحتمالات تحقيقه.

ويعتقد روستو بالإضافة إلى ذلك أن القوى التي شاركت بجهودها فى خلق الحكومة، أو فى الاستحواذ على السلطة من خلال جماعة أو فرد، تختلف تماما عن تلك القوى التي تحافظ على إبقاء الحكومة قائمة على قيد الحياة، أو تحفظ وضع فرد أو جماعة فى السلطة خلال فترة زمنية ممتدة ـ حتى يتغير الاتجاه ـ وأن نظريته للتغير السياسي يجب أن تأخذ فى اعتبارها هذه الاختلافات وتسبغ عليها طابعاً نظامياً. وهكذا فإن روستو، شأنه فى ذلك شأن الموند، يضع أهمية أولية تؤكد على الاختيارات التي يجب أن تصنعها القيادة السياسية (40 ).

النمط الثالث: نمط التغيير المعقد عند برنـر وبـرور (Ronald Brunner & Garry Brewer):

فى دراستهما عن الجوانب السياسية للتحديث طور “برنر وبرور” نموذجاً للتغيير المعقد والذي يتضمن اثنان وعشرون متغيراً، وعشرين مقياساً:

  • عشر من هذه المتغيرات وثمانية من المقاييس وزعت على أساس القطاعات الريفية والحضرية.
  • ثلاثة متغيرات وثلاث مقاييس شكلت النظام الفرعي الديموجرافي.
  • تسع متغيرات وستة مقاييس للنظام الفرعي الاقتصادي.
  • عشر متغيرات وأحد عشر مقياسا للنظام الفرعي السياسي.

والعلاقة بين هذه المتغيرات والمقاييس تم التعبير عنها فى أثني عشر معادلة مشتقة من النظريات العامة للتحديث، ويتضمن النموذج المتغيرات التي يمكن أن تتأثر مباشرة بحركة الحكومة، والمتغيرات التي لا تخضع لمثل هذا التأثير.

وقد حقق مقترب برنر بريور أفاقاً جديدة فى التحليل السياسي. نظرياً: فانه يوفر نموذجاً على درجة عالية من التبسيط، وعلى درجة عالية من الدقة، للنظام السياسي، وهو نموذج يتسع ليشمل عدداً ذوي مغزى من المتغيرات الاقتصادية والسياسية والديموغرافية، والعلاقات بينها. عملياً: فانه يشير إلى معالجة عملية فى اتجاه يجعل من الممكن فى النهاية أن يوفر لصانعي السياسات ويذودهم بوسائل لتحلل النتائج المحتملة لاختبارات صنع السياسة، من أجل نتائج تكون ملائمة بشكل مباشر لأغراضهم. وفى الواقع: فان بناء هذا النموذج يدخل إلى علم السياسة نمطا من التحليل المعقد للعلاقات بين المتغيرات، والذي ساد طويلاً، قبل ذلك، فى علم الاقتصاد.

لكن مقترب “برنر / برور” كان محدوداَ بافتراضاته النظرية الأولية وملاءمة هذه الافتراضات للنظم السياسية الواقعية التي كان النموذج موجهاً لها أصلاً. ويمثل النموذج ذا الاثني عشر معادلة مرشداً جيداً وعلى نحو معقول لتفاعل المتغيرات والمقاييس فى تركيا والفيليبين فى الخمسينيات والستينيات ـ من القرن العشرين ـ وملاءمة النموذج للمستقبل تقوم على أساس الافتراض بأن هيكل النموذج وأهمية المقاييس لا تختلف عبر الزمن. والنموذج يوفر طرقاً ووسائل لاختبار نتائج التغييرات الرئيسية فى السياسة الحكومية والتغييرات الرئيسية فى المتغيرات الأخرى التي تسببها أدوات أخرى. إلا أنه لا يوفر وسائل للتنبؤ بالتغييرات الرئيسية فى النظام أو حتى متى تحدث هذه التغييرات انعكاساتها فى شكل تغيير فى بعض المتغيرات فى النموذج (41 ).

وفي إطار هذه الأنماط يري الباحث أنها تميل بطريقة أو بأخرى إلى تحرير التحليل السياسي من الافتراضات التي قيدته فى المرحلة المبكرة السابقة، ومن الاهتمامات الغائبة بالتحديث والتنمية، والتى شغلته فى مرحلة لاحقه. وهي تشير إلى قدر متزايد من التناظر أو التوازن فى دراسة التغيير السياسي ودراسة التغيير الاجتماعي. والأكثر أهمية، أنها تمثل خطوات مهمة فى اتجاه صياغة نظريات عامة للتحولات السياسية.

————————————–

الهامش

(1) جيترار جهامي، فهوم السببية بين المتكلمين والفلاسفة بين الغزالي وأبن رشد : (دراسة وتحليل)، منشورات دار المشرق، ط2 بيروت، 1977.

(2) أمير الغندور، مهمة ماركس: التغيير لا الفهم – تفكيك الماركسية ج 3، الحوار المتمدن، العدد (3436)، 24/7/2011، الرابط

(3) نظرية التغير الاجتماعي عند مالك بن نبي وكارل ماركس، النص متاح على شبكة المعلومات الدولية على الرابط

(4) منعم صاحي العمار، في فلسفة التوجه نحو المستقبل، مجلة قضايا سياسية، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية، العددان 23/24، 2011.

(5) إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الجزء الأول، بلا.

(6) حسام الألوسي، الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، المطبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 2005، ص 9-12.

(7) قاموس المعاني، على شبكة المعلومات الدولية الإنترنيت: http://www.almaany.com

(8) Berch Berberoglu, Class Structure and Social Transformation,  Praeger Publishers, Westport, CT. 1994, P. xi.

(9) منعم صاحي العمار، التفكير الاستراتيجي وإدارة التغيير، (بغداد، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية، 2008)، ص 3-5.

(10) عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، (القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية عشر، 1998)، ص 10-25.

(11) د. مصطفى الخشاب، المدخل إلى علم الاجتماع، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1992، ص 76.

(12) أحمد عبد الحكيم، د. هشام مرسي، م. وائل عادل، حرب اللاعنف. الخيار الثالث، موقع أكاديمية التغيير على شبكة الإنترنت

(13) عماد مؤيد جاسم محمد المرسومي، أثر دراسة قوى التغيير في استشراف مستقبل الدولة القومية -التنمية البشرية نموذجا، أطروحة دكتوراه غير منشورة، (العراق، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية، 2006) ص 27.

(14) إسماعيل صبري مقلد ومحمد محمود ربيع: موسوعة العلوم السياسية. الكويت: جامعة الكويت، 1994، ص 47.

(15) نظام بركات، (وآخرون): مبادئ علم السياسة، (عمان: دار الكرمل للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1987)، ص 264-270.

(16) إسماعيل صبري مقلد ومحمد محمود ربيع، مرجع سابق، ص 47-48.

(17) د. أنس جراب، الإصلاح والتغيير السياسي. الحقيقة والمفهوم، مجلة بصائر، عدد 25/6/2012. الرابط

(18) جابر سعيد عوض، التغيير السياسي في الأرجنتين في الفترة البيرونية الأولى، من1945 1955، رسالة ماجستير غير منشورة في العلوم السياسية، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، 1981) ص 7.

(19)عبد الغفار رشاد محمد، دور النخبة في التنمية السياسية: دراسة مع محاولة للتطبيق على الدول النامية، النموذج المصري، رسالة ماجستير غير منشورة (القاهرة: كلية الاقتصاد والعوم السياسية، 1978)، ص149.

(20) محمد نعمان جلال، الثورة الثقافية البروليتارية والتغيير السياسي في الصين، رسالة ماجستير غير منشورة (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1978) ص33-34.

(21) Rome, Eric, Modern Politics: An Introduction to Behavior and Institutions (London: Routledye & keyan, lmtd ., 1969) p.99

(22) د. نبيل السمالوطي، بناء القوة والتنمية السياسية: دراسة في علم الاجتماع السياسي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978) ص184- 185.

(23) Leeds, C. A., Political studies (London: Macdonald & Evan Ltd.,1975) p.211.

(24) Apter david E., Political change: collected Essays (London: Frank &cass  co., 1974) p.110-111.

(25)  د. علي الدين هلال، مدخل في النظم السياسية المقارنة، محاضرات ألقيت على طلبة قسم العلوم   السياسية (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1975/1976) ص76-78.

(26) Appelaum , Richard  P. Theories of social change. (chicago: markham publishing co., 1970) p.7-9

(27) Welch, Ciande E., and Bunker, Maris, Revolution and political change (California  :Duxury press ,1972 ) p .34

(28) Johanson, Chalmers ,op .cit . , p .1 .

(29) د.عبد الرضا الطعان، ” مساهمه في دراسة مفهوم الثورة”، مجلة العلوم القانونية والسياسية، بغداد، المجلد الأول، العدد (3)، 1977، ص82-83.

(30) كوامي نكروما، دليل الحرب الثورية، ترجمة منير شفيق (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972) ص90-92.

(31) د. فاروق يوسف، الثورة والتغيير السياسي مع التطبيق على مصر، (القاهرة: مكتبة عين الشمس،1979) ص10.

(32) أنظر: د. حامد ربيع، نظرية التحليل السياسي، محاضرات ألقيت على طلبة قسم العلوم السياسية (القاهرة: مكتبة القاهرة الحديثة، 1971/1972)، ص 1-17.

(33) Huntington, Samuel P.”The Change to Change”,  op . cit., pp. 413-419.

(34) Smelser , Neil  J., “Mechanism of change & Adjustment to change”, in: Finkle  Jason l.,7 Gable, Richard W., Political Development & Social Change, (New York: John Wiley & Sons, Inc., 1968) p.28

(35) بلال محمود محمد الشوبكي، التغيير السياسي من منظور حركات الإسلام السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة: حركة حماس نموذجا”، أطروحة مقدمة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في التخطيط والتنمية السياسية، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، 2007، ص ص 29-34.

(36) نجاح يوسف السباتين: مفاهيم النهضة الإسلامية، عمان: دار الإسراء للنشر والتوزيع، الطبعة الأولي، 2004. ص 3-4.

(37) مركز التميز للمنظمات غير الحكومية، إدارة التغيير، الأردن، النص متاح على موقع المركز الالكتروني، على الرابط

(38) William C. Mitchell, The American Polity, New York, 1962.

(39) د. عبد الغفار رشـاد محمد، نظريات التنمية السياسية، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999/2000)، ص 48-51.

(40) د. عبد الغفار رشـاد محمد، نظريات التنمية السياسية، (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999/2000)، ص 51-53.

(41) د. عبد الغفار رشـاد محمد، المصدر السابق، ص 54-56.

 لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button