دراسات سياسية

الفكر السياسي الإسلامي والممارسة السياسية لدى العرب ثورة جديدة أم امتدادٌ للماضي

اعداد : عبد اللطيف حيدر- باحث في الإعلام والعلاقات الدولية

المركز الديمقراطي العربي

لربما عند الحديث عن الفكر العربي والفكر الإسلامي بصورة عامة، تبرز هناك إشكالية جديّة في التمييز بين هويتين متداخلة في انسان واحد، خصوصاً في عصر صدر الإسلام. فذلك الإنسان العربي أتته رسالة سماوية بلسانه، وبعث فيهم نبي من جنسهم وقبيلتهم وثقافتهم وهويتهم إلى عموم الأرض. جاءت هذه الرسالة الجديدة بدين جديد يحمل مفاهيم وقيم وأفكار وتصورات عن الكون والإنسان والحياة بصورة غير معهودة. حيث يمثّل هوية جديدة لهذه الجماعة إلى جانب عاداتها وتقاليدها وأفكارها ومنظومتها الثقافية والسياسية والفكرية وغيرها. وقد أقرت الرسالة الجديدة بعضاً مما كان موجوداً لدى تلك القبائل العربية وأشادت بها كالقيم والأخلاق التي كان يتحلى بها العرب والتي ذكرها النبي الكريم (ص) في حديثه حيث قال: ” إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ([1]). وفي هذا إشارة إلى أن العرب كانت تتميز بقيم وأخلاق معينة أشاد بها الإسلام وعمل على تعزيزها وتشذيبها؛ لتلائم الفكر الجديد. كما جاء الإسلام ناهياً أيضاً عن بعضها، وسعى للقضاء عليها تماشياً مع قيمه الحنيفة. ويعتبر النظام السياسي أحد عناصر تلك المنظومة الفكرية الخاصة بالقبائل العربية، حيث تنظم من خلاله العلاقات الداخلية فيما بينها وبين القبائل والامبراطوريات الأخرى المجاورة لها آنذاك. وفي هذا السياق نسعى من خلال هذه الورقة إلى دراسة مدى تأثر منظومة الممارسة السياسية للعرب قبل الإسلام، بفلسفة النظام السياسي الإسلامي ورؤيته الخاصة للدولة والممارسة السياسية. وهل مجيئ الإسلام شكّل ثورة جرفت المنظومة السياسية للعرب في الجاهلية واستبدلتها بنظام سياسي يختلف تماماً عما كان قبل، أم أنه مثّل امتداداً لتلك الممارسة؟

حالة العرب قبل الإسلام:

لدراسة الحالة السياسية أو المجتمعية أو حتى المنظومة الثقافية لمجتمع ما، لا بد من التطرق الى دراسة الحالة النفسية والمزاجية والخصائص الشخصية التي يعرف بها مجتمع ما عن غيره. فالمجتمع العربي يختلف بسماته الشخصية والفكرية عن المجتمع الصيني وكذا الهندي عن الأمريكي وهكذا. حيث أن هذه السمات والخصائص الذاتية التي يمتاز بها شعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات، ينعكس إلى حدٍ كبير على طبيعة النظام السياسي في ذلك المجتمع. وقد وردت آراء كثيرة للكُّتاب والباحثين عن السمات التي يتسم بها العربي في العصر الجاهلي حيث يخلص ابن خلدون إلى أن العربي – بدون تحديد أي عربي يقصد هل بالمطلق أم يقصد العربي الجاهلي – متوحش نهاب سلاب، إذا أخضع مملكة أسرع اليها الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علماً ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، كما أنه سليم الطباع ومستعد للخير شجاع. ويخلص رأي آخر ل (أوليري) إلى أن العربي مادي ضيق الأفق، جامد العواطف، شديد الشعور بكرامته وحريته، ثائر على كل سلطة، كريم مخلص لتقاليد قبيلته ([2]). ومن الواضح هنا من خلال الرأيين السابقين أن هذه السمات عبارة عن تعميمات لا تراعي الفروق بين العربي البدوي والحضري وبدوي عصر صدر الإسلام والعربي المعاصر. حيث أنها كذلك لا تراعي التطور التاريخي الطبيعي وما يرافقها من تغيير لوسائل وأساليب الحياة المختلفة والتي تعمل من شأنها في التغيير في النفسية الإنسانية، فالعربي كغيره يتأثر بتأثير البيئة المحيطة به. وأصبح تعميم بهذا الشكل ربما غير دقيقاً. وعلى أية حال فإن هذه السمات تشير إلى أن العربي في تلك الفترة كان يميل إلى الحفاظ على خصوصياته الثقافية والقبلية وشديد الالتحام بقبيلته وعشيرته، وهذا يفسره أن القبيلة كانت هي السلطة السياسية الأقوى حضوراً في المجتمع الجاهلي، ومن غير الممكن تعريف العربي خارج قبيلته آنذاك.

النظام السياسي في الجاهلية:

الجاهلية لغة في العربية مشتقة من الجهل والجهالة أي ضد العلم والمعرفة. وفي الإصطلاح فإن الجاهلية تعود لوصف مجتمع ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، حيث كان المجتمع الجاهلي مصاب بداء بالجهل، ولا يؤمن بأوامر الله سبحانه وتعالى، ولا يتمتع بقيم أخلاقية أو حضارية، يجهل القراءة والكتابة ([3]). ويؤخذ على التعريف نفي السمات والقيم الأخلاقية من المجتمع الجاهلي، بينما كان هناك -كما تقدم – بعضاً من القيم والمميزات التي تميز بها العرب من المروءة والشهامة والكرم وغيرها. أما من ناحية النظام السياسي في المجتمع الجاهلي فخلال الفترة الممتدة للعصر الجاهلي لم يوجد أي شكل من اشكال الدولة التي تتمتع بنظام وإدارة قوية وفاعلة. وكان النظام السياسي معرض للخطر بسبب القوى الاستعمارية. حيث كان الشمال خاضعاً لهيمنة الإمبراطورية الرومانية والفارسية، بينما الجنوب كان خاضعاً لسيطرة الاحباش، وقد تأثرت مكة سلباً من هذه الهيمنة الاستعمارية، وكان المناخ السياسي في المناطق المستعمرة في مملكة الغساسنة أو الحيرة أو اليمن يمثل تحدي صعب بالنسبة لمكة ([4]). وهنا يتضح أن التشكيل السياسي المنظم كان غائباً، لعدة أسباب أكثرها حضوراً ربما هو حالة الضعف التي كان يعيشها العرب في مكة، خوفاً من أي غزو يتهددهم من الامبراطوريات المجاورة لهم من الشمال والجنوب، وهيمنة تلك الامبراطوريات على أهم أجزاءها وهي الحيرة والغساسنة واليمن.

القبيلة العربية قبل الإسلام:

المجتمع العربي قبل الإسلام هو مجتمع قبلي يمتاز بالتركيبة القبلية القائمة على القرابة والانتماء والعضوية والولاء والتضامن من خلال العائلة الصغيرة وارتباطاتها إلى مجموعات أكبر متمثلة في القبيلة القائمة على علاقات الدم ([5]). وشكلت التجمعات المكونة من البدو الرحل جوهر السلطة الفعلية في المنطقة وأصبحت نواة القوة الارستقراطية المسيطرة. وبالتالي لم تصبح القوة فقط في ذات القبيلة، وإنما في القبائل الأخرى التي تنتمي إليها القبيلة. حيث كان هناك امتيازات وفوارق بين القبائل في السلطة وهذا التفاوت ينعكس على شرف ومجد القبيلة. وقد نشأت هذه الارستقراطية القبيلة من تشكّل مجموعة من القبائل المستقلة سياسياً والتي كانت تقدم الحماية للقبائل الضعيفة، وكانت القبائل الضعيفة ترتبط بتلك القبائل النافذة لفترة طويلة أو قصيرة بما يوفر لها الحماية ([6]).

إذن يتضح من ذلك أن القبيلة كانت هي الكيان السياسي في المجتمع العربي قبل الإسلام، حيث كانت القبيلة تتمتع بتشكيل سياسي واضح يعمل على تسيير شؤون القبيلة، ويعمل على تنظيم علاقاتها مع البيئة القبيلة من حولها. ويرى محمد ([7]) أن القبيلة العربية ككيان سياسي كانت تقوم على تنظيم هرمي يتكون من: أولاً سيد القبيلة، وهو شيخ القبيلة ورأسها ورئيسها، حيث يأتي الرئيس بطريقة ديمقراطية، وإن لم تكن انتخابات كما الوقت الحاضر، فقد اعتمدت على التلقائية في اختيار الشيخ ([8]). وهذا الاختيار يأتي بناء على توفر مجموعة صفات فيه وهي السخاء، والنجدة، والصبر، الحلم، التواضع، والبيان ([9])، ومع أهمية العصبية في الاختيار إلا إن الصفات الشخصية كانت هي الأساس ([10]). ثانياً: الملا أو مجلس القبيلة، وهم أشراف القوم وسادتهم ([11])، وهم علية القوم وذوي الرأي، وأهل الحل والعقد، وكان العرب في شبه جزيرة العرب كان سيد القبيلة يطلب الرأي من وجوه قبيلته في الأمور المهمة كقضايا السلم والحرب. وكان سادات القبائل يجتمعون للنظر في أمر اختيار رئيس جديد إذا مات رئيسهم وليس له توريث ([12]).

يتضح هنا وجود تنظيم سياسي وإن كان بشكله البسيط المقتصر في إطار القبيلة، إضافة إلى أن مسألة اتخاذ القرار وممارسة الحكم كانت هرمية تقوم على اختيار سادات القوم وعليته في اتخاذ قرار مصير القبيلة، وبالتالي فإن سمات التمايز والطبقية حاضرة بقوة بين عِلية القوم وبين عامة أفراد القبيلة. وهذه من القيم التي سعى الإسلام إلى الغائها ودمج المجتمع كوحدة مجتمعة لا فضل بين أحدهم على الآخر إلا بالتقوى. وبالتالي فإن التشكيل السياسي كان قائم على مجتمع ضيق قبائلي وعشائري، بينما النظام السياسي الإسلامي جاء في إطار أوسع تختلف معه أهداف ومهام الدولة عنها في إطار القبيلة.

ما الفكر السياسي الإسلامي؟

إن تعريف الفكر السياسي الإسلامي يساعدنا على تحديد ماهية الإطار الفكري الذي يعمل على صياغة مفهوم الممارسة السياسية ومحدداتها والعناصر التي تشكّلت منها تلك الممارسة السياسية. وبالتالي فإن هذه المحددات تساعدنا في فهم النظام السياسي الإسلامي القائم على ركيزتين أساسيتين هما من النصوص القطعية المتمثلة في القرآن الكريم، والممارسة السياسية في العصر النبوي والمتمثلة في السنة النبوية من الأفعال والأقوال. وهنا يعرف جبرون ([13]) الفكر السياسي الإسلامي على أنه ” حصيلة التفكير الواعي والعقلاني للمسلمين في مسألتي السلطة السياسية (الشرعية)، والمؤسسات السياسية (الدولة)”. حيث يشير إلى أن الفكر الإسلامي تشكّل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 11 للهجرة، مرجّعاً فترة الممارسة السياسية في العهد النبوي من حيث التفكير في السلطة والدولة مشوباً بالوحي ومختلطاً به. ويلاحظ من خلال التعريف أنه حصر الفكر السياسي في فترة ما بعد العهد النبوي، وهنا قد أختلف مع هذا الطرح، حيث أن الفكر السياسي من المفترض أن يستند على فلسفة الممارسة السياسية في الدين الإسلامي ككل، حتى في ظل وجود الوحي. حيث أن الوحي كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمحددات المفاهيمية لمنهجية الدين الإسلامي، والتي من الممكن تسميتها الفكر الإسلامي. بمعنى أوضح، أن الرسالة السماوية المتمثلة بالوحي هي ذاتها الفكر الإسلامي وفهمه لممارسة الحياة السياسية والاجتماعية وبناء الدولة وغيرها، باعتبارها طريقة تفكير مرتكزة على منهجية محددة وليست، نتاجاً فكرياً تشكّل من خلال طرائق التفكير العربي ووعيه الذاتي. وهذا يعيدنا إلى الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” أن بني إسرائيل كان يسوسهم أنبياؤهم”. أي كانت الممارسة السياسية تأتي من التصور الفكري لأنبيائهم، وهذا التصور هو جوهر الدين الذي أوحي إليهم. وعلى أية حال، فإن تعريف جبرون هنا يساعدنا في تعقب الممارسة السياسية الإسلامية منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والأُسس التي قامت عليها تلك الممارسة.

ومن الواضح أن النظام السياسي الإسلامي بدأ يتشكل بصورة مغايرة عن المنظومة السياسية للعرب في الجاهلية، حيث كانت المنظومة القبلية هي رمز السلطة في المجال السياسي. بينما جاء الإسلام بمفهوم أوسع من المحدد القبلي كمدخل للنظام السياسي، واتجه إلى صهر المنظومة القبلية في إطار أوسع أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ب “الأمة”، حيث يرى جبرون ([14]) أن أول ظهور للسلطة السياسية في المجال الإسلامي كان بعد الهجرة إلى المدينة والاستقرار بها، وكان مستنداً على وثيقة الصحيفة أو دستور المدينة. والذي سعى من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى إنشاء جماعة سياسية مدنية فوق القبيلة ومتخطية الكثير من أعرافها السياسية، تعتمد العلاقات داخلها على حفظ السلم والأمن وسُمّي هذا التشكيل “بالأمة”. وبالتالي فإن مصطلح “الأمة” رؤية أخرى وبصورة أكثر شمولية لفهم النظام السياسي في الفكر الإسلامي.

الأمّة والنظام السياسي:

لفهم النظام السياسي في الفكر الإسلامي ينبغي العودة الى المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي ونظرته لمواطنيه وما هي العلاقة التي يرسمها في علاقة المواطن بالدولة. حيث أن الصحيفة هي وثيقة الدستور التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لتأسيس المجتمع الإسلامي، حيث يقوم هذا المجتمع على مفهوم الأمة، وهو مفهوم أشمل وأعم في الرؤية الإسلامية للتعبير عن مختلف مكونات وطوائف المجتمع ([15]). وبناءً على هذا الفهم فإن النظام السياسي لا يستند على مجموعات بعينها ك العصبوية القبلية أو طوائف بعينها، وإنما سعى إلى صهر كل هذه المكونات تحت نظام سياسي يراعي مصالح الجميع ككتلة واحدة لها مصالح مشترك. وهذا تعبير عن الرغبة النبوية في تشكيل مجتمع سياسي مدني قائم أسس مدنية بعيدة عن اشكال العنف الذي كان شائعاً في الجاهلية ومعبراً عن السلوك المدني المسالم (غير العنف)، حيث تم التعبير عنه في نص الصحيفة التي كانت بمثابة الدستور حيث كتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس) ([16]).

إذن من الواضح أن نص الصحيفة يؤسس لمجتمع جديد غير الذي عهدته العرب، حيث إنه يمثل ثورة بحد ذاتها في تقديم تصور ورؤية جديدة في تنظيم العلاقات السياسية داخل المجتمع، قائم على الوحدة والمساواة والتضامن الاجتماعي وتحجيم دور القبيلة، على الأقل في صورتها الأولى في الجاهلية. وذلك من خلال دعوته إلى نبذ العصبية في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن العصبية ” قال دعوها فإنّها منتنة”. وكل هذه المفاهيم تمثل ثورة مفاهيمية وقيمية في المجتمع العربي، ولهذا يمكن تفسير المواقف التي رفضت دعوة الإسلام بوصفها ديناً جديداً غير معهوداً للعرب، وقولهم ما وجدناه عليه آباءنا من قبل، ورفضهم لمساواة العبيد بالنسب القرشي الشريف في منظورهم. بالرغم من أن الإسلام لم يلغي القبيلة، بل أبقى عليها في تشكيلها السابق الذي عُرفت عنه في الجاهلية. لكنه لم يضع لها مكاناً في الميزان السياسي بل جزءاً لا يتجزء من المجتمع الذي تحكمه تلك المبادئ الهادفة إلى تحقيق المصلحة المشتركة في ضوء مفهوم الأمة بمختلف مكوناتها والتي تعد القبيلة أحدها. لكن يبقى السؤال هنا هو حول مفهوم الدولة الذي لم يتضح بعد، كون مفهوم الأمة يرمز لتكوين الجماعة المسلمة، لكن ماذا عن المجتمع المدني الذي يتكون من جماعات غير مسلمة أيضاً في إطار نظام سياسي إسلامي؟ وكيف ينظر إليها الفكر الإسلامي؟. يجيب على ذلك جبرون([17]) في أن أغلب المكونات في المدينة من اليهود والمشركين والمنافقين تعاطت إيجابياً مع الشرعية السياسية الجديدة، وبقي فئات قليلة لم تنخرط في ميثاق الصحيفة الذي كان يرنو إلى إيجاد الأمن والإستقرار الداخلي في المدينة، واختلفت الأسباب خلف معارضة الفئات التي رفضت بين أسباب دينية وضغينة على الرسول العربي، وأسباب تعلقت بفقدان الوجاهة التي كانت تحظى بها بعض الفئات من الأوس والخزرج وعلى رأسهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول حيث كان يسعى لأن يتوج ملكاً في قومه قبل ظهور الإسلام. إلا أن المكونات التي اندرجت تحت الوثيقة التزمت ببنودها، واحتكمت بمرجعيتها القانونية القائمة على حكم الله ورسوله، حيث حكم النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة زنا اليهودي باليهودية بالرجم حسب الديانة اليهودية ([18]). وحكم في التسوية في الدية بين بني النظير وبني قريظة ([19]). ومنها مشاركة أحد اليهود في غزوة أحد ومشاركة المنافق قزمان في أحد وأصيب فيها ([20]). وهذا كله يندرج ضمن التزامهم كأعضاء في الأمّة، إلا أن التزامهم لم يستمر طويلاً بعد أن تملصوا ونقضوا العهد.

يرى السامرائي ([21]) بأن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مجموعة من الأسس والمحددات، حيث يربط السياسية في الإسلام بالشريعة، ومتى خرجت عن الشريعة فقدت شرعيتها، وتتمثل تلك المحددات ب:

  • سيادة الشريعة.
  • مبدأ الشريعة لا يصادر على الحكومة حق التنظيم، ويقصد بذلك أن من حق الحكومة تشريع تنظيمات تدير بها شؤون حياتها اللامتناهية، بشرط أن لا تخالف الشرع. ويفهم من هذا أنه يقصد مرونة الإسلام في التعامل مع جوانب الحياة المختلفة.
  • العدل.
  • الشورى.
  • في النظام السياسي الإسلامي لا يستحدث حقوق للحاكم غير التي حددتها النصوص، أو القاء تشريع واجبات على المحكوم لم يشرعها الشارع.
  • الحاكم المسلم وكيل عن الامة وليس مفوضاً عن الله.

ويحدد السامرائي من خلال هذه الأسس ماهية الملامح العامة التي من خلالها يتم فهم النظام السياسي الإسلامي، وما هي الغايات والمقاصد العامة المراد تحقيقها من خلال هذه الأسس. حيث جاء الإسلام بنظام واضح وشامل لمختلف جوانب الحياة، يرتبط بغايات معينة ووسائل محددة لتحقيقها. وهنا يظهر جوهر النظام وأهميته. وهذا ما كان غائباً في الزمن الجاهلي.

وظائف الدولة في الإسلام:

يتحدد مفهوم الدولة في لسان العرب أنها ” الدَّولة والدُّولة: وتعني العٌقّبة في المال والحرب ([22])، أي أنها جاءت من التعاقبية والتداول. وفي القران الكريم فقد جاء التعبير عن الدولة بألفاظ أخرى: “القرية”، ” و “المدينة”، و “البلد”، و “البلدة”([23]). وتتحد المقاصد الأساسية للسلطة السياسية في الإسلام والتي تمثلها الإمامة أو الخلافة على أنها تقوم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسية الدنيا ([24]). كما تتحد مهام رأس الدولة المتمثل في الإمام أو الخليفة، لدى الماوردي، بمجموعة مهام رئيسية تتمثل في: حفظ الدين على أصوله، تنفيذ الاحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين (القضاء)، حماية البيضة والذبٌ عن الحريم، وتحصن الثغور، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة وإقامة الحدود، جباية الفيء والصدقات، وتقدير العطايا، استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ([25]). تشير المهام السابقة للدولة متمثلة بأعلى هرم السلطة وهو الخليفة أو الإمام إلى أن فهم هيكل الدولة ومهامها وأدوارها الوظيفية في الإسلام، قائم بشكل أساسي على فكرة الخلافة المرتبطة بالمجتمع الإسلامي. وهذه المهام وإن كانت في ظاهرها عامة بمعنى (أنها قد لا تختلف عن أي هيكل للدولة في أي مجتمع ما) كونها ترتبط بالغايات الكبرى المشتركة في أي مجتمعات إنسانية. وهذه الوظائف قد تجد ما تقابلها من المسميات في الدولة الحديثة مثل حفظ الهوية الوطنية والحفاظ على السيادة وإقامة القضاء العادل بين الناس، والحفاظ على موارد وممتلكات الدولة والسعي إلى تنميتها. بالإضافة إلى الدور الفاعل للرئيس أو الحاكم في متابعة شؤونها الداخلية والخارجية بما يعزز قوتها وتقدمها. وعلى أية حال، فإن ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن تشكٌّل مهام ووظائف السلطة الحاكمة وتنظيمها وانشاء كيان دولة موحد، يهدف إلى إقامة مجتمع متضامن ومنظم يلم شتات القبائل المختلفة والقوى المتنازعة تحت قيادة موحدة تحكمها وتنظم شؤونها وتحد من الصراعات التي كانت سائدة، وبالتالي تسعى إلى تحقيق أهداف جماعية مشتركة يستفيد كل من يقطن هذا المجتمع. وكل هذه المفاهيم تعتبر مهام جديدة أرساها الإسلام وسعى من خلالها لتشكيل المجتمع ومن ثم الدولة المسلمة، التي تضم مواطنين بغض النظر عن هويتهم الدينة ومعتقداتهم. بينما في العصر الجاهلي لم يتشكل هناك مفهوم لمجتمع سياسي منظم على هذا الشكل إنما كان قائم على العلاقات القبلية والعصبويات المختلفة تنظمها معاهدات واتفاقات محددة، ترتكز في أغلبها على التعاون والتعاضد اثناء الحروب والخلافات القبلية.

هناك إشكالية قائمة ربما أنها منبع الكثير من الخلاف في الفكر الإسلامي حول مسألة الدولة في الإسلام وشكلها ووظائفها وطبيعة النظام السياسي فيها. حيث يشير بعض الباحثين إلى أن هناك فرق بين النظام السياسي وفهم السلطة السياسية في عهد النبي صلى الله وعليه وسلم، وفكرة الدولة وممارسة النظام السياسي بعد وفاته وانتقالها إلى من بعده. حيث يرى الأفندي “أن المسلمون لم يواجهوا قضية الدولة بصورة مباشرة إلا بعد وفاة النبي. ذلك أن النظام الذي أقامه كان فريداً من نوعه في التاريخ” كما يرى أنه يختلف عن النظام التقليدي القسري للدولة، وأن ممارسة السلطة في العهد النبوي لم تكن قهرية، إنما كانت طواعية؛ نتيجة للبعد الروحي الذي يمثله النبي صلى الله عليه وسلم كرسول الله. ولكن اختلف الأمر تماماً بعد وفاته، وبرزت هناك الحاجة إلى قيام سلطة سياسية قائمة ممارسة القوة القهرية التي هي ضرورة لا مفر منها. وكان منبع الخلاف هو من تؤول إليه سلطة الجماعة، ومن هو الأحق بالخلافة ([26]). وهنا قد اختلف إلى حد ما مع هذا الطرح، حيث أن فكرة الخليفة مستندة إلى فكرة توارث الحكم مستمدة سلطتها وشرعيتها من التوجيه الإسلامي القائم على طاعة ولي الأمر (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولوا الأمر منكم) ([27])، والخليفة هنا يصبح هو ولي الأمر من حيث مبدأ الخلافة، ومستندة بذلك بوضوح إلى الحديث النبوي: ” من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد كان معي في الجنة “، فالنص هنا يشير إلى أن الخليفة يستمد سلطته الطوعية والقسرية من الشريعة نفسها وليست فقط ذات بعد سياسي وحسب. وهنا فإن هذا الخلط بين البعدين الشرعي والسياسي يمكن بوضوح تفسيره بالمعضلة الإسلامية التاريخية حول إشكالية أحقية الخلافة وعدم المقدرة على فهم الدولة خارج إطار الخلافة الموروثة عن النبي (ص) بغض النظر عن الإشكاليات الناتجة عن الصراع القائم على أحقيتها.  وعلى أية حال، يمكننا أن نجمل القول بأن هناك فكر سياسي إسلامي معين نحو الدولة ووظائفها، وهناك ممارسة لهذا النظام السياسي بطرق مختلفة يعود جزء كبير منه إلى اجتهادات شخصية وجماعية في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي. والثابت فيها أنها تختلف في أغلبها عن ما كان عليه العرب في الجاهلية، وأن الإسلام جاء بثورة جديدة شملت مختلف النواحي الفكرية والسياسية والثقافية والمعرفية، نقلت العرب من جماعات قبلية متصارعة فيما بينها، كانت عرضة للكثير من التهديدات الخارجية، حتى أصبحت عبارة عن مشروع دولة منظمة وطموحة لها نظامها السياسي وإمكانياتها ورسالتها التي تسعى إلى نشرها في مختلف الأقطاب التي خضعت لها. وانتشرت هذه الرسالة بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على أحد أعظم امبراطوريتان في ذلك العهد، واستأصل الأجزاء الحيوية من الإمبراطورية الأخرى، وأنشأ من شتات سكان الجزيرة العربية أمة ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان ووحد أقواماً عديدة في صعيد الله ([28]).

وختاماً، فإن الحالة السياسية العربية قبل الإسلام كانت جزء من المنظومة الفكرية والثقافية للمجتمع العربي، حيث كانت تشكل العصبية القبلية حجر الزاوية في إدارة شؤون القبيلة وتمثيلها والحفاظ عليها كوحدة أساسية في المجتمع الجاهلي. وبعد مجيء الإسلام احتفظ العرب بخصوصية تقاليدهم ومنظومتهم المجتمعية والتي تعتبر القبيلة أحد ركائزها الأساسية، ولكنه سعى إلى تطويعها لتلائم النظام الجديد، حيث أرسى نظاماً سياسياً جديداً قائماً على وحدة القيادة وتمزيق العصبيات السائدة والنزعات القبلية ودمجها في إطار أوسع يسمى الأمة، ومن ثمّ السعي إلى تحقيق الصالح العام المشترك لهوية موحدة هي دولة الإسلام. وهذا ما سعت الورقة إلى مقاربته، ومحاولة فهم النظام السياسي في الجاهلية والإسلام وإلى أي مدى يمثل امتداداً للممارسة السياسية للعرب من عدمه. بالرغم من أن فهم ودراسة الدولة في الإسلام لا تزال تمثل إشكال حقيقي وبحاجة إلى دراسات تأملية أعمق مستوعبة متغيرات الزمان والمكان ومجريات الحركة الإنسانية وتطورها.

المصادر والمراجع:

المراجع العربية:

  • أمين، أحمد. فجر الإسلام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2011.
  • الأفندي، عبد الوهاب. من يحتاج الى دولة إسلامية؟ الجزء الثاني، برنتونديماند- ويرلدوايد ليميتد، ماليزيا، 2008.
  • جبرون، أحمد. نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2015.
  • زكريا، براق. الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2013.
  • السامرائي، نعمان عبد الرزاق. النظام السياسي في الإسلام، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 2000.
  • علي، جواد. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.
  • محمد، مجتبى علي إبراهيم. ” التنظيمات السياسية في بلاد العرب قبل الإسلام”، رسالة دكتوراه، جامعة الخرطوم، 2009.

English References

  • Donner, Fred M. The early Islamic conquests. Vol. 1017. Princeton University Press, 2014.
  • Hanapi,Mohd. “From Jahiliyyah To Islamic worldview: In A Search of an Islamic educationphilosophy. International journal of humanities and social science. Vol.3, No.2. 2013.

[1] – رواه البخاري في ” الأدب المفرد ” رقم (273).

[2] – أحمد أمين، فجر الإسلام، (مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2011). ص 44.

[3] – Mohd S. Hanapi, “From Jahiliyyah To Islamic worldview: In A Search of an Islamic educationphilosophy.International journal of humanities and social science. Vol.3, No.2. )2013(, P 214.

[4] – Ibid. 216.

[5] –  Fred M. Donner, The early Islamic conquests. Vol. 1017. (Princeton University Press, 2014).20.

[6] – Ibid. 30-31.

[7] – مجتبى محمد، ” التنظيمات السياسية في بلاد العرب قب الإسلام”، رسالة دكتوراه، (جامعة الخرطوم، 2009)، ص 73.

[8] – أحمد الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، (دار الفكر العربي، القاهرة، 1965)، ص 24-25. (نقلاً عن محمد، المصدر السابق، ص 73)

[9] – السيد الالوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، ج2، تحقيق محمد بهجة الاثري، (دار الكتب، بيروت، 1413هـ)، ص 187.  (نقلاً عن محمد، المصدر السابق، ص 73).

[10] – مجتبى محمد، المصدر السابق، ص 73.

[11] – محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر، (دار المعارف، القاهرة، 1951) ج 15، ص 75. (مجتبى محمد، سابق، 75).

[12] – جواد علي، مصدر سابق، ص 236-237. (مجتبى محمد، مصدر سابق، ص 75).

[13] – أمين جبرون، نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره، (منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2015)، ص 10.

[14] – المصدر نفسه، ص 20.

[15] – المصدر السابق. 20.

[16] – ابن هشام، السيرة، السيرة النبوية، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، (دار الكتاب العربي، بيروت، 1990) ج. 2، ط. 3، ص 143. (نقلاً عن جبرون، مصدر سابق، ص 44).

[17] – أمين جبرون، مصدر سابق، ص 24.

[18] – ابن هشام، مصدر سابق، ص 205، 206. (نقلاً عن جبرون، سابق، ص 24).

[19] – ابن هشام، نفسه، ص 208. (نقلاً عن جبرون، نفسه، ص 24).

[20] – ابن هشام، السيرة، ج. 3، م. س، ص 51. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج. 2، م. س، ص 73. (نقلاً عن جبرون، نفسه، ص25).

[21] – نعمان السامرائي، النظام السياسي في الإسلام، (مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 2000)، ص 14،15،16.

[22] – محمد بن مكرم (ابن منظور)، لسان العرب، مج 4، ص 444. (نقلاُ عن براق زكريا، الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2013)، ص 82.

[23] – ماجد راغب الحلو، الدولة في ميزان الشريعة، (دار المطبوعات الجامعة، الإسكندرية، 1994)، ص 29-34. (نقلاً عن براق زكريا، مصدر سابق، ص 84).

[24] – رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، ص 57-58، و 380- 384؛ وعلي عبد الرزاق، الإسلام وأصول الحكم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 35-38؛ والفضل شلق، ” الجماعة والدولة، جدليات السلطة والأمة في المجال العربي الإسلامي”، مجلة الاجتهاد، ع4، ربيع 1989،  ص66-72). (نقلاً عن براق زكريا، الدولة والشريعة في الفكر الإسلامي المعاصر، (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2013) ص 85.

[25] – براق زكريا، مصدر سابق، ص 85.

[26] – عبد الوهاب الأفندي، من يحتاج الى دولة إسلامية؟ الجزء الثاني، (برنتونديماند- ويرلدوايد ليميتد، ماليزيا، 2008)، ص 42، 43.

[27] – سورة النساء، آية (59).

[28] – علي جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 758.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى