دراسات اقتصادية

آليات النظام الاقتصادي الدولي

أ:خويلدي السعيد

أستاذ مساعد-أ-

جامعة قاصدي مرباح ورقلة( الجزائر)

مقدمـــة :

  يقصد بالنظام الاقتصادي الدولي مجموعة القواعد والترتيبات التي وضعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لضبط قواعد السلوك في العلاقات الاقتصادية الدولية وذلك قصد ترتيب الأوضاع الاقتصادية في العالم على نحو معين، وهو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم وتحيط العلاقات الاقتصادية الدولية وتحكم مجموعة المؤسسات التي هدفها المساهمة في تنمية البلدان النامية.(1)

يتكون النظام الاقتصادي الدولي  من أجهزة  تعد بمثابة آلياته في التسيير، وتتمثل في المنظمات الاقتصادية الدولية والشركات متعددة الجنسيات والتجمعات والتكتلات الاقتصادية الإقليمية، وتبقى المنظمات الاقتصادية هي العمود الفقري للنظام الاقتصادي الدولي فأنظمتها وآلياتها تؤثر على باقي مكونات هذا النظـام، وتقوم بإدارته في ضوء مجموعة من السياسات النقدية والمالية والتجارية المؤثرة في السياسات الاقتصادية لمعظم دول العالم (2) .

  وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية اعتمدت الدول سياسة إبرام معاهدات دولية جماعية، تحظى بقبول أكبر عدد ممكن من الدول، وتضع قواعد سلوك الدول في المسائل المتصلة بالتبادل الاقتصادي، وتنشئ في الوقت نفسه منظمات اقتصادية دولية متخصصة لمباشرة الإشراف على تطبيق تلك القواعد.

وهكذا تم إنشاء صندوق النقد الدولي الذي يشرف على تنظيم التعاون الدولي في مجال السياسة النقدية الدولية، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يعنى أساسا بتمويل التنمية في الدول الفقيرة، ومنظمة التجارة العالمية التي تسهر على تسهيل التبادل التجاري.

وفي ظل السيادة الكاملة للنظام الرأسمالي أضحت هذه المنظمات وسيلة للسيطرة والتحكم عن طريق تحويل المجتمع الدولي من بناء أفقي تتوزع فيه السيادة بين الدول إلى بناء هرمي تتقلص فيه سلطة الدول لحساب المنظمات الدولية ، ولصالح مجموعة معينة من الدول هي في الواقع القادرة من خلال إمكاناتها وقدراتها المتنوعة على فرض إرادتها على المجتمع الدولي من خلال هذه المنظمات.

ولقد ولدت هذه المنظمات في ظل النظام الرأسمالي لتدعيم السلطة الاقتصادية في مواجهة السلطة السياسية، واتخذت في بدايتها شكل اتحادات وتجمعات دولية، ثم تحولت بعد ذلك إلى منظمات دولية متخصصة بعد سيطرة الحكومات عليها لمصلحة دعم الاقتصاد الرأسمالي.(3)

وقد تم تحديث وتنظيم كامل لهذه المنظمات بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك للحاجة الملحة لتدعيم النظام الرأسمالي الحر الموجه في العالم، وفرض سيطرة الدول الكبرى من خلال أدوات مختلفة عن الاستعمار في الفترات السابقة.

وقد كانت وسيلتها في ذلك المنظمات الدولية الاقتصادية التي توجه الاقتصاد العالمي وتلزم بقراراتها دول العالم بكاملها.

وهكذا كان لدورها المؤثر في النظام الاقتصادي الدولي، أهمية كبيرة فرضت التعرض لدراسة دورها في البناء الاقتصادي الدولي.

وسوف نتعرض لأهم هذه المنظمات الدولية الاقتصادية التي تحاول أن ترسي قواعد النظام الاقتصادي الدولي بدلا عن منظمة الأمم المتحدة التي يفترض أن تكون هي المؤهلة للقيام بهذه المهمة وذلك من خلال أربعة مطالب كما يلي وهي:

المطلب الأول: البنك الدولي للإنشاء والتعمير(BIRD)

المطلب الثاني: صندوق النقد الدولي(FMI)

المطلب الثالث: الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (GATT)

المطلب الرابع: منظمة التجارة العالمية (OMC)

المطلب الأول: البنـــك الدولـــي للإنشـــاء والتعميـــر (BIRD)

أسفر المؤتمر المالي والنقدي الدولي الذي انعقد في ” بريتون وودز ” عام 1944 عن اتفاقية خاصة بإنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير وقد صاغها المؤتمر بعد اتفاقية صندوق النقد الدولي.

وتم إقرار هذه الاتفاقية رسميا في 27 ديسمبر 1945 ويعتبر البنك منظمة دولية حكومية متخصصة تتبع الأمم المتحدة بعد أن تم الربط بينهما بموجباتفاقية وصل في 15 أبريل 1948.

ومقر البنك مدينة واشنطن بالولايات المتحدة، ويتمتع البنك بالشخصية القانونية الدولية وبميزانية مستقلة.

وكان إنشــاء البنك لتحقيق الأهداف التاليـــة:

1 -المساعدة في تعمير أقاليم الدول الأعضاء وتنميتها عن طريق تسهيل استثمار رؤوس الأموال في الأغراض الإنتاجية، وبناء اقتصاديات الدول التي دمرتها الحرب العالمية الثانية.

2 -الحث على تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة عن طريق تقديم الضمانات الائتمانية لها وسد النقص فيها من موارد البنك الخاصة أو مما يحصل عليه من أموال.

3- تشجيع نمو التجارة الدولية والحفاظ على توازن موازين المدفوعات.

4- التنسيق بين القروض التي يضمنها أو يقدمها وبين القروض الدولية في المجالات الأخرى.

ويمارس البنك عملياته مع مراعاة تأثير الاستثمار الدولي على الأحوال الاقتصادية في أقاليم الدول الأعضاء.

5- تقديم المعونات الفنية والدراسات الاقتصادية لتطوير اقتصاديات الدول الأعضاء، وقد اتسع نشاط البنك في هذا الخصوص عن طريق تقديم المعونة الفنية والخبراء الاقتصاديين ليس فقط في المشروعات التي يمولها البنك بل في كافة النواحي الاقتصادية للدول الأعضاء.

6- فض المنازعات المالية بين الدول، فقد تدخل البنك مثلا في الخلافات التي نشأت عن تأميم قناة السويس إذا استطاع أن يتفاوض في تسويتين ماليتين بخصوص التعويضات الواجب دفعها إلى شركة قناة السـويس، والمشكلات التي ترتبت على العدوان الثلاثي بين مصر وانجلترا،كما تدخل في النزاع الذي نشب بين الهند وباكستان عام 1960م بخصوص مياه حوض نهر السند.

7- تدريب موظفي حكومات الدول الأعضاء على إدارة التنمية، ولذلك أنشئ معهد التنمية الاقتصادية في واشنطن عام 1955م مستهدفا توفير خدمات التدريب لكبار موظفي الحكومة في البلدان النامية على إدارة التنمية الاقتصادية.

ومنذ العقد السادس من القرن الماضي، أصبح البنك الدولي مجموعة من ثلاث مؤسسات هي: البنك الدولي للتعمير والتنمية، ومؤسسة التمويل الدولية، والرابطة الدولية للتنمية، وكلها تهدف إلى تقديم المساعدة للدول الأعضاء لتحقيق التقدم الاقتصادي ورفع المستوى المعيشي للدول الآخذة في النمو.

وإن كان هناك بعض الاختلاف فيما بينهم فالبنك الدولي الذي أنشئ عام 1944م يقدم قروضه عموما للدول النامية التي تحاول بلوغ مراحل متقدمة من النمو الاقتصادي ولا يقدم قروضه إلا لأغراض إنتاجية.

أما مؤسسة التمويل الدولية التي أنشئت عام 1956م فإن مهمتها هي مساعدة التنمية الاقتصادية في البلدان الأقل نموا ومساعدتها على تشجيع النمو في القطاع الخاص من اقتصادها.(4)

  بينما الرابطة الدولية للتنمية التي تأسست عام 1960 هدفها تقديم القروض ولكن للدول الأكثر فقرا وبشروط ميسرة عن البنك وأخف وطأة، وهذه الدول التي يقل فيها نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي عن 625 دولار في السنة حسب عام 1978م، وينطبق هذا على أكثر من 50 دولة نامية

أما عن العضوية والتصويت داخل البنك الدولي فقد جعلت اتفاقية إنشاء البنك من عضوية صندوق النقد الدولي شرطا لعضوية البنك الدولي، وجواز قبول أعضاء جدد بموافقة أغلبية مجلس المحافظين بشرط سبق عضوية صندوق النقد أيضا، كذلك تفقد الدولة عضويتها بطريقة أوتوماتيكية في البنك إذا فقدت عضويتها في صندوق النقد الدولي، وقــد بلـغ عـدد الدول الأعضاء في البنك الدولي حتى سنة 2000 186عضو وبلغ عدد أعضاء المؤسسة المالية الدولية 182 عضوا أما أعضاء الهيئة الدولية للتنمية فبلغ 169 عضو.

أما عن التصويت داخل البنك فلكل دولة عضو عدد معين من أسهم رأس المــال، كما أن لكل منها 250 صوتا زائدا إضافيا عن كل 100.000 دولار من أسهم البنك، وتنص الاتفاقية على أن المسائل المعروضة يتم التصويت فيها بأغلبية الأصوات عدا بعض الاستثناءات.

وفي عام 1959م كان رأس المال المكتتب به داخل البنك 18.6 مليار دولار والجزء المدفوع من جانب الولايات المتحدة حوالي 5715 مليون دولار، وهكذا أصبحت الدول الخمس التي تشترك بأكبر عدد من أسهم رأس المال هي:الولايات المتحدة،وانجلترا،وفرنسا، وألمانيا  واليابان،وتحتل الدول الصناعية الكبرى مركز الصدارة في رأس المال، وبالتالي تستحوذ على أكبر عدد من الأصوات، حيث تمتلك ست دول أكثر من نصف عدد أسهم البنك،ولها حوالي 48% من القوة الصوتية.(5)

  ولا تمتلك الدول العربية إلا نصيبا ضئيلا من عدد أسهم البنك أي بنسبة 3.49% مما انعكس على قوتها التصويتية، كذلك دول العالم الثالث نصيبها ضئيل من رأس مال البنك وبالتالي لا تؤثر بالإيجاب على سياساته.

ويتكون البنك من الأجهزة الرئيسية التالية:

أ‌-مجلس المحافظين: ويتشكل من مندوبي الدول الأعضاء،وتقوم كل دولة بتعيين محافظ ونائب له ويعتبر السلطة العليا في البنك وتتركز في يده كل سلطاته.

   وإن كان من الملاحظ أن المجلس قد فوض عمليا المديرين التنفيذيين للبنك في مباشرة كل سلطاته المتعلقة بتصريف الشؤون العامة للبنك،وذلك باستثناء تلك المسائل التي ينص النظام الأساسي للبنك على ضرورة احتفاظ المجلس بها لنفسه مثل قبول الأعضاء الجدد أو زيادة رأس المال،ويجتمع المجلس عادة مرة كل سنة.

ب‌-المديرون التنفيذيون: وعددهم واحد وعشرون، يتم تعين خمسة منهم بواسطة الدول التي تملك أكبر الحصص في رأس مال البنك وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان، أما الستة عشر الآخرين فيجري انتخابهم عن طريق المحافظين الممثلين للأعضاء الباقين، ويلاحظ أن التصويت في مجلس المحافظين أو المديرين التنفيذيين يتم وفقا لنظام التصويت المرتبط بمدى المساهمة في رأس مال البنك، بمعنى أن لكل دولة 250 صوتا مضافا إليها صوت واحد عن كل سهم من حصة الدولة.(6)

ج- الرئيس : ويتم انتخابه بواسطة مجلس المديرين التنفيذيين لمدة خمس سنوات، وهو يرأس بحكم منصبه المجلس المذكور وهيئة موظفي البنك، والرئيس لا يملك حق التصويت داخل المجلس إلا للترجيح في حالة تساوي الأصوات، كما أن له حق حضور جلسات مجلس المحافظين، ولكن بدون الاشتراك فـي التصـويت، ويعتبر الرئيس مسئولا عن سير العمل داخل البنك، ويعاونه في ذلك عدد من الموظفين الذين يعملون تحت رئاسته.

  ويمارس البنك الدولي في عالمنا اليوم سلطة واسعة جدا، ويقوم بنشاط إنساني متعدد الأشكال، وهو وحده اليوم الذي يمنح قروضا للدول الأشد فقرا، فخلال العقد الأخير من القرن الماضي منح الدول النامية قروضا طويلة الأجل بمقدار يزيد على 225 مليار دولار.(7)

  ويؤمن البنك إنشاء البنى التحتية بقروض الاستثمار،وفي بعض الحالات -مثل النيجر- يغطي العجز في الميزانية، وهو يمول كل عام أيضا مئات من مشاريع التنمية فالبنك يعتبر في كل مكان هو المقرض ويستطيع أن يفرض شروطه علي مدينيه، ومن غيره يقبل أن يمنح قرض لبلاد مثل تشاد وهندوراس أو مالاوي أو كوريا الشمالية أو أفغانستان.

لكن بجانب ذلك كان هناك وجه آخر للبنك تجلي في الشروط القاسية التي يفرضها على الدول المقترضة  لتغيير اقتصادياتها التقليدية من أجل تنظيم المضاربة الاقتصادية والتجارة العالمية، ومن يفرض هذه الشروط يرفض طلبه.

وقد حدث هذا خصوصا من نهاية الستينات وحتى بداية الثمانينيات حينما كان “روبرت ماكنمارا” مديرا للبنك، وكان قبلها شغل وزير الدفاع للولايات المتحدة مع الرئيسين كينيدي وجونسون، وتسبب في دمار فيتنام،ولكنه وأثناء رئاسته للبنك الدولي تسبب في دمار أكبر حيث كانت الدول تتعامل مع البنك دون أن يكون لديها خيار آخر، وكانت ثمرة سياسة ماكنمارا أن وجد ت الدول النامية نفسها أمام سدود ضخمة واسعة الفوهات وطرق مدمرة، وأبنية ومكاتب فارغة وحقول خربة، وديون هائلة، لن يستطيع أبدا تسديدها، وكانت هذه هي ثمرة السياسة التي انتهجها البنك منذ رئاسة ماكنمارا وحتى يومنا هذا ،ومهما كان حجم الخراب الذي تسبب به الرجل في فيتنام، فإنه تجاوز ذلك أثناء ولايته في رئاسة البنك.

إن البنك الدولي في أثناء ولاية ماكنمارا كان يتبنى أيديولوجيا قائمة على النمـو وكانت المعادلـة: نمو- تقدم- تنمية- رخاء للجميع، وعندما تعرضت هذه النظرية للانتقاد وذلك لتخريب الطبيعة، أخذ البنك يتبنى نظرية التنمية المتكاملة، ثم في التسعينيات نظرية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وللأسف فشلت كل هذه النظريات في مساعدة الدول الفقيرة وتطورها.(8)

والسبب في هذا الفشل أن النظريات قد تتغير، لكن الممارسات تبقي ثابتة لأنها تمليها عقلية مصرفية قائمة على الاستغلال، وفتح البلاد أمام أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية للسلب والنهب، وفي كل الأحوال لا بد من رضاء الولايات المتحدة، ويفرض البنك خصخصة الأملاك العامة، وتساءل جيمس ولفنسون- المدير السابق للبنك الدولي- عام2000م- عقب استقالة أقرب مساعديه والنائب الأول لرئيس البنك الدولي وتشهيره علانية بإستراتيجية الخصخصة المفرطة وعدم فاعلية مؤسسات بريتون وودز- فإذا كانت القروض تخرج والسدود تنشأ وتولد الكهرباء ومع ذلك فهناك بشر يموتون من الجوع، وفي جميع بلدان العالم الثالث تعود الملا ريا إلى الانتشار وتقضي على مليون شخص في السنة، والمدارس تقفل، والأمية تتقدم، والمستشفيات تسقط في الخراب والمرضى يموتون لغياب الدواء، ومرض الإيدز ينتشر، فما سبب الفشل الخطير للبنك؟

إنه الاستغلال الصارخ من قبل الشركات الرأسمالية العابرة للقارات، وسياسة الخصخصة المفرطة بغير حدود ومحاولة فرض قواعد لنظام اقتصادي من طرف مؤسسي البنك يخدم مصالحهم.

ومن أخطر سلبيات البنك الدولي ازدواجية التعامل مع الدول الأعضاء ولقد تجلى ذلك في تصميم وتنفيذ مشروع محدد بعينه (مشروع أنابيب النفط تشاد-الكاميرون) رغم علمه باستشراء الفساد في هذه الدول، وهذا المشروع تمت دراسة الجدوى له منذ منتصف التسعينات ويعد أكبر مشروع صناعي يقتضي أكبر توظيف مالي خاص في إفريقيا، وفي منتصف عام 2001 كان التوظيف الضروري لإنجاز المشروع  يساوي على وجه التقدير 3.7 مليار دولار، وكان لابد من مساهمة البنك وقدم هذا الأخير في المرحلة الأولى من التنفيذ 200 مليون دولار،وذلك لتأمين حفر الآبار وتأهيل حقول النفط المكتشفة حديثا جنوب تشاد، وكان يجب أن يلي ذلك البناء خط أنابيب طويلة ألف كيلومتر عبر الغابة من أجل نقل النفط حتى الساحل الأطلسي في الكامرون من موقع “كريبي”،ومن أجل المساعدة في تنفيذ هذه المرحلة الثانية من المشروع قدم البنك 300 مليون دولار.

وبالرغم من أن البنك كان قد تبنى نظرية تقييم النتائج الاجتماعية والسرية لكل عملية يقوم بها إضافة إلى رأي منظمات المجتمع المدني وتقارير المكتب الاجتماعي التابع للبنك الدولي فإن تشاد تعاني من حكم القبائل المتناحرة،وعمليات قتل وإعدام وتعذيب، كذلك نظام الحكم في الكاميرون وقتذاك فاسد، وتحتل المركز الرابع في لائحة الدول الأكثر فسادا التي تضعها منظمة الشفافية الدولية.

وقد قامت منظمات المجتمع المدني في الكاميرون خلال القمة الفرنسية-الإفريقية عام 2000م في ياوندي بمظاهرات تطالب بالاقتسام العادل لعائدات النفط المنتظرة، وضمانات ضد الفساد، واضطر البنك للتراجع، ورفض ولفنسون الدراسة الأولى لانعكاسات المشروع على البيئة الاجتماعية، غير أن شركات النفط لم تتراجع، وجندت أصدقائها في واشنطن،والنتيجة كانت إذعان ولفنسون لشركات النفط بعد مرور سنة ونصف على رفضه للدراسة الأولى عن انعكاسات المشروع، وقال في تبريره”لقد أخذنا بعين الاعتبار اعتراضات منصفه”لكن ماذا جرى؟ لقد تدخلت شركات النفط بقوة لدى الرئيس التشادي وأصدرت الحكومة التشادية قانونا ينص على تخصيص 80% من واردات النفط المنتظرة للتنمية الاقتصادية والتعليم والصحة، في حين يخصص 10% لتمويل صندوق خاص من أجل الأجيال القادمة “فهل يمكن تصور قانون ضد الفساد يصدر في ظل حكم نظام فاسد في تشاد.(9)

وهكذا تجاهل رئيس البنك الدولي جميع الاعتراضات الأخيرة على تنفيذ هذا المشروع وعلق رئيس حزب السلام الأخضر”الفرنسي برنو ريبيل” والذي كان يتابع تصرفات البنك منذ زمن طويل بما يلي”الخطابات تتزين والمبادئ تبقى كما هي، مثل هذا الاستثمار غير الأخلاقي، كان على البنك أن لا يقوم به”، وفي مذكرة سرية صادرة عن البنك الدولي نفسه في مايو2000م، نشرتها صحيفة الجارديان البريطانية أن عدد من الاقتصاديين في البنك تخلوا عن ولفنسون وأصدقائه النفطيين،ورأوا أن خط الأنابيب يحتمل مخاطر وانحرافات سياسية وبيولوجية مهمة.

إن كل سؤال يطرح نفسه على رئيس البنك بخصوص هذا الموضوع يغضبه، يدل على ذلك مقابلته مع الصحفية ليبيراسيون في يونيو عام 2000م.

إن المستفيد الوحيد من هذا المشروع الضخم هو حكومتا تشاد والكاميرون، وبالرغم من إنشاء “صندوق خاص نفطي لمكافحة الفقر “فإن حكومة تشاد اقتطعت عام 2000م مبلغ 25 مليون دولار بموافقة البنك من أموال الصندوق، والذريعة كانت المجاعة في البلاد ،بينما نشر زعيم المعارضة وثائق تشير إلى أن القسم الأكبر من ذلك المبلغ استخدم لشراء أسلحة، وهكذا استخدم الصندوق المخصص لمكافحة الفقر، وقد أنشأه البنك الدولي لتمويل الحرب التي يقودها الرئيس ضد قسم من الشعب التشادي.(10)

إن ما سبق ذكره يوضح الطريقة التي يتعامل بها البنك مع قروضه الممنوحة للدول الأعضاء والسيطرة الطاغية لواشنطن على سياسات البنك وقراراته بغية فرض قواعده التي تشكل النظام الاقتصادي الذي يراه مناسبا، ويضاف إلى ذلك سلبيات أخرى تتمثل فيما يلي:

–   إن المال التي تقترضه الدول الناميةمن البنك وتستثمره استثمارا نافعا لن تؤتى ثماره في تنمية الإنتاج القومي ما لم تنفق الدولة النامية مبالغ مماثلة على المشروعات ذات الصبغة الاجتماعية والمشروعات الصحية والتعليمية والإسكان وموارد المياه والصرف، وقد تعجز الدولة إزاء ضآلة مواردها عن تمويل هذه المشروعات، كما لا يستطيع البنك من جانبه أن يقدم أمواله لمثل هذه الأغراض لأنها تخرج عن طبيعة عملياته، إذ هي مقصورة، بمقتضى نصوص الاتفاقية على تمويل مشروعات إنتاجية معينة يمكن أن تدر دخلا يكفي لتوفير قدر من العملات الأجنبية، تستطيع معه الدولة النامية أن تسدد قيمة رأس المال المقترض وما يستحق عنه من فائدة.

–   درج البنك على تفسير بنود الاتفاقية في أضيق الحدود والمعاني، إذ جعل عملياته مقصورة على إقراض الأموال التي تحتاج إليها الدول النامية لشراء المعدات والسلع الرأسمالية اللازمة “لمشروعات إنتاجية معينة وإزاء النقد اللاذع الموجه للبنك، برر ذلك للاعتبارات الخاصة بتوافر العملات الأجنبية لدى الحكومات المقترضة أو الضامنة عندما تحين مواعيد سداد قيمة القروض وما يستحق عنها من فوائد، ويبدو أن مرد الأمر في هذا الشأن هو مدى قدرة الدولة النامية على إنتاج السلع والخدمات بوجه عام بغض النظر عن ضرورة توجيه القروض البنك إلى مشاريع إنتاجية معينة مرتبطة بقياس حاجة هذه الدولة إلى عملات ورسوم، ويبنى هذا النقد على أن البنك يفحص مزايا المشروعات الإنتاجية المعينة في عزلة ،دون الإشارة إلى علاقتها باحتياجات التنمية الاقتصادية في الدولة المقترضة بوجه عام، بينما تقارير البنك تنفى ذلك، وتؤكد أن البنك يعمل على تشجيع كثير من الدول الأعضاء على وضع برامج طويلة للتنمية الاقتصادية.(11)

–   تقضى اتفاقية البنك بأن الاعتبارات الاقتصادية وحدها التي تهيمن على قراراته في كل ما يتعلق بتمويل المشروعات الإنتاجية في دول العالم النامي، وبالرغم من ذلك يميل البنك إلى التصرف وفقا لرغبات بعض الدول الأعضاء التي قد تتحكم في قراراته لما تملكه من نسبة كبيرة من مجموع أصواته، ولا أدل على ذلك من الخطر الكامن وراء تصرفات البنك حيث أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا تمتلك ما يقرب من 54% من مجموع الأصوات، وهو ما يفسر سحب البنك لمشروع تمويل السد العالي، وفي المقابل تتدفق أموال البنك على دول أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، وضآلة نصيب دول الجامعة العربية من قروض البنك.

إن مثل هذه السلبيات المتعقلة بعمل البنك الدولي، هي اكبر تحد لفاعليته وقدرته على النهوض بالأعباء التمويلية للتنمية والتعمير داخل أقاليم الدول الأعضاء، إضافة إلى عدم وجود تنسيق بين ما يقدمه البنك من قروض، وبين ما تقدمه مؤسسات دولية أخرى من قروض ومعونات.

إن تطور الدور الاقتصادي للبنك الدولي من خلال أنشطته في مجال إقراض الدول الأعضاء فيه تعكس الرغبة الجامحة للنظام الرأسمالي في تعميم أيديولوجيته على العالم، وتكريس لقواعد النظام الاقتصادي الذي يريده حيث ترتبط القروض ببرامج التكييف الهيكلي التي تفرضها الدول الكبرى على الدول النامية، وما يقتضيه ذلك من التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

ونظرا لضخامة رأس مال البنك وقدرته التمويلية، كان على البنك أن يتجنب طغيان المسائل السياسية على أنشطة البنك تحقيقا لما نص عليه ميثاقه.(12)

إن قضايا كثيرة تتعلق بما يقدمه البنك من قروض مثل الشفافية، وبناء القدرات داخل الدول لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، والمبادئ التوجيهية المتعلقة بفاعلية هذه القروض، يجب مراعاتها من جانب الدول المستفيدة من البنك.

وفيما يتعلق بدور البنك كوسيط مالي فلا يجب أن يقتصر دوره فقط على إعطاء القروض بل لا يزال هناك دور رئيسي يتعين على البنك أن يقوم به وهو الدعم الفني والتقني في تنفيذ المشروعات داخل الدول وكذلك المشروعات المرتبطة بها من كهرباء وطرق واتصالات وغيرها.

وليس هناك من سبب يدعو البنك الدولي إلى عدم استخدام مكانته البارزة في الأسواق من اجل تخفيف تحفظه الحالي إزاء حجم الإقراض بالنسبة لقاعدة أسهم رأسمالية، ومن شأن ذلك أن يتيح له جمع قدر أكبر من الأموال لإقراضها بشروط تجارية للبلدان المتوسطة الدخل الناجحة،مما يؤدي إلى تنويع مصادر التمويل التي تعتمد عليها هذه البلدان وسيتيح هذا للبنك تعزيز التنمية من خلال العمل حسب الاتجاهات السائدة في الأسواق.(13)

إن فشل تجارب التنمية في العديد من الدول وبخاصة في إفريقيا يرجع إلى فساد النظم السياسية السائدة،ولا أمل إلا بإصلاح هذه النظم، وهو ما طرح تعبير الحكم الرشيد أو الصالح في كثير من أدبيات الاقتصاد والسياسة في العالم.

كذلك يتطلب أمر إصلاح البنك الدولي ضرورة النظر في نظام التصويت وعدم التسليم بهذا النظام السائد، والذي يكرس عدم العدالة والمساواة.

إن على البنك الدولي أن يكون هدفه الأول من خلال القروض دفع مشروعات التنمية داخل الدول الأعضاء، وتخفيف شروط منح هذه القروض بما يدفع التنمية والتعمير داخل هذه الدول، وألا يكون همه الأول والخير كيفية سداد هذه القروض وضمانها.

ولا يجب إغفال دور البنك في تقديم المساعدة الفنية، أو استطلاع رأيه في مسائل غير مرتبطة بإحدى عمليات الإقراض التي يقوم بها، مثل طلب الدولة من البنك الاشتراك معها في وضع خطط التنمية الاقتصادية أوتنشيط رؤوس الأموال المحلية الخاصة لتمويل مشروعاتها الإنمائية ويجب تعميق نشاط البنك في هذه النقطة.

أيضا دور البنك في تسوية المنازعات الاقتصادية التي تثور بين أعضائه أو بين دولة ما وبين المستثمرين الأجانب من قطاع الخاص، وذلك عن طريق المركز الدولي لإدارة النزاعات المتعلقة بالاستثمارات التابع للبنك الدولي.(14)

وهكذا ينبغي على البنك الدولي التخلي عن قواعد النظام الاقتصادي التي يسعى لتكريسها من خلال أنظمته التعسفية ضد الدول النامية لفسح المجال أمام هيئة الأمم المتحدة لإرساء قواعد أكثر عدالة لنظام اقتصادي متوازن.

المطلب الثانـي: صنـدوق النقــد الدولـي (FMI)

أنشئ صندوق النقد الدولي بمقتضى الاتفاقية التي توصل إليها مؤتمر النقد والمال الذي عقد في “بريتون وودز″في 22 يوليو 1944 وقد أصبحت هذه الاتفاقية نافذة اعتبارا من27 ديسمبر 1940م عندما قام ممثلو الدول التي تملك 80 بالمائة من موارد الصندوق بإيداع وثائق التصديق على الاتفاقية.(15)

وكانت الولايات المتحدة قد وجهت الدعوة إلى 44 دولة لحضور هذا المؤتمر، وذلك للإعداد لما ينبغي اتخاذه من خطط وتدابير لمعالجة كافة المشاكل الاقتصادية التي ستواجه هذه الدول في فترة ما بعد الحرب.

لقد كان هدف هذا المؤتمر البحث عن نظام نقدي موحد تأخذ به الدول حتى يتوفر الاستقرار العالمي وذلك لأن السلم الاقتصادي يعد أساسا قويا للسلم السياسي.

وقد استعانت الأمم المتحدة بهذه المنظمة للمساعدة في تحقيق التنمية الاقتصادية التي تعتبر منهجا من مناهج ميثاق الأمم المتحدة لتحقيق رفاهية الشعوب.

ويعتبر الصندوق احد الوكالات الحكومية المتخصصة بمقتضى الاتفاقية التي تم إبرامها بين الصندوق ومنظمة الأمم المتحدة، وقد بدأ الصندوق عملياته في ماي 1947.

وحددت المادة الأولى من اتفاقية إنشاء الصندوق الأهداف التي يسعى لتحقيقها وهي:

“لدعم استقرار أسعار الصرف، وللمحافظة على التدابير المنظمة للصرف بين الدول الأعضاء ولتفادي التنافس على تخفيض أسعار الصرف، وللمساهمة في إقامة نظام للمدفوعات متعددة الأطراف بالنسبة للعمليات الجارية بين الدول الأعضاء، وفي محو القيود المفروضة على الصرف الأجنبي والتي تعوق حركة التجارة الدولية، ولبث الثقة بين الدول الأعضاء بجعل موارد الصندوق ميسورة لهم بضمانات ملائمة، ومن ثم إتاحة الفرصة لها لتصحح الاختلال في موازين مدفوعاتها، دون الالتجاء إلى التدابير التي من شأنها أن تقضي على الرخاء القومي والدولي”.(16)

ويسترشد الصندوق في كل سياساته وقراراته بهذه الأغراض حسب نص الاتفاقية.

وهذه الأهداف يمكن إيضاحها فيما يلي:

1-  التشاور والتعاون بشأن المسائل النقدية الدولية : فالصندوق يعد المكان الأمثل للتشاور والتعاون لوضع حلول للمشاكل والمسائل النقدية الدولية بعد دراستها وعرضها على المجلس التنفيذي أو مجلس المحافظيـن، بغرض التوصل لمواقف موحدة توجه السياسات النقدية والمالية بما يخدم مصلحة الاقتصاد الدولي والتجارة الدولية.

2-  تسهيل النمو المتوازن في التجارة الدولية: هذا الهدف يتعلق ببذل الصندوق أقصى جهد لجعل الدول تتخلى عن السياسات التجارية المتطرفة وإزالة القيود بشأن حركة التجارة الدولية، لجعل كل دولة تستفيد من مواردها الإنتاجية والبشرية.

3-  تحقيق الاستقرار لأسعار الصرف: وذلك عن طريق وضع نظام لأسعار الصرف يكفل عدم حصول التخفيضات المتبادلة في أسعار صرف العملات الدولية لأن بعض الدول إذا ما رغبت في زيادة صادراتها تلجأ إلى تخفيض قيمة عملتها ويضر هذا الوضع بمصالح الدول المتنافسة، ويقوم الصندوق بفرض رقابة على هذه السياسات.(17)

4-  إيجاد نظام متعدد الأطراف للمدفوعات الدولية: لا شك أن قابلية العملات للتحويل فيما بين الدول دون رقابة من الأمور الضرورية لتشجيع المبادلات التجارية،طالما أن أداء المدفوعات الدولية يتم بسهولة ويسر، وبعيدا عن أي قيود فالصندوق يفرض تجنب إحداث قيود على المدفوعات الجارية أو أية إجراءات نقدية تنطوي على التمييز في المعاملة.

5-  توفير الثقة بين الدول الأعضاء بجعل الموارد العامة للصندوق متاحة لها: وهذا الهدف يتمثل في تمويل الدول الأعضاء بالموارد اللازمة لتصحيح الإختلالات المؤقتة في موازين المدفوعات، بشرط وجود ضمانات كافية.

والغرض من تقديم هذه القروض للدول الأعضاء هو توفير الثقة لديها بشكل يكفل معالجة أية اختلالات مؤقتة بالموارد المتاحة دون اللجوء إلى وسائل قد يترتب عليها تقويض الرخاء القومي والدولــي، كذلك تقصير أمد فترات الاختلال والحد من درجتها.

ويتكون الصندوق من الدول المؤسسة التي اجتمعت في”بريتون وودز″ بالولايات المتحدة عام 1944م وتكون عضويتها أصلية وكان عددها 93 دولة وقد بلغ عدد الدول الأعضاء في 2004، 186 دولة.

ويرتبط التصويت في الأجهزة الرئيسية للصندوق بمدى مساهمة كل عضو في رأس المال وهو الأمر الذي يتحدد بالاتفاق مع الصندوق، وعلى ضوء الأنصبة التي تحدد لكل عضو يستطيع هذا العضو التأثير في القرارات الصادرة عن الصندوق ، وحدود حقها في الاقتراض منه.(18)

  وقد خصصت لكل حصة بأكبر حصة معينة تشترك بها في رأسمال الصندوق واحتفظت الولايات المتحدة بأكبر حصة تبلغ 2850 مليون دولار-عند إنشائها ،تلتها كل من انجلترا والصين وفرنسا والهند بحصص متتالية في الترتيب.

ويتكون الصندوق من الأجهزة الرئيسية التالية:

‌أ-مجلس المحافظين: يعتبر مجلس المحافظين بمثابة السلطة العليا في الصندوق، التي تباشر الاختصاصات ويمثل كل دولة محافظ تعينه الدولة العضو ونائب له وعادة ما يكون وزير مالية الدولة أو محافظ البنك المركزي فيها.

ولمجلس المحافظين التفويض في اختصاصاته لمجلس المديرين التنفيذيين في مباشرة بعض اختصاصاته، وذلك باستثناء تلك المتعلقة بقبول الأعضاء الجدد أو مراجعة الحصص أو تعديل قيم العملات ويعقد المجلس اجتماعاته سنويا.

‌ب-مجلس المديرين التنفيذيين: مهمة هذا المجلس تصريف الشؤون الجارية بالصندوق، ومن ثم فهو في حالة انعقاد دائم ويتشكل من عشرين مديرا على الأقل، يتم تعيين خمسة منهم بواسطة الدول صاحبة أكبر الحصص. ويتم انتخاب سائر المديرين بمعرفة الدول التي ليس لها حق تعيين مديرين، ويقوم كل مدير بتعيين نائب له يمارس كافة سلطاته في حالة غيابه، ويجب أن يكون متواجدا بصفة دائمة في المقر الرئيسي للصندوق.

وليس هناك مدة محددة للمدير التنفيذي طالما أن الدولة التي عينته موافقة على بقائه، ولكل مدير تنفيذي مائتان وخمسون صوتا يضاف إليها عدد من الأصوات بعدد ما للحكومة التي عينته أو للحكومات التي انتخبته من حصص على أساس صوت واحد لكل مائة ألف دولار.

‌ج-المدير الإداري: ويتم انتخابه بمعرفة المديرين التنفيذيين، وهو بحكم منصبه يعتبر الموظف الرئيسي في الصندوق ،وهو المسئول عن تنظيم وتعيين وفصل موظفي الصندوق ويرأس المجلس التنفيذي ولكنه لا يملك صوتا فيه،كما أنه يمثل الصندوق في علاقته مع المنظمات الأخرى أو الدول الأعضاء.

  وتسود داخل الصندوق ديمقراطية من نوع خاص، حيث تصويت الدول الأعضاء في الصندوق، كل بحسب قدرتها المالية “دولار واحد-صوت واحد” الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة تمتلك 17% من حقوق التصويت.والواقع أن قدرة الولايات المتحدة المالية، وكون الدولار يلعب دور العملة الاحتياطية الدولية، يمنحها وزنا حاسما داخل المنظمة.(19)

  إن برامج تصحيح الإختلالات في موازين المدفوعات للدول الأعضاء الراغبة في استخدام موارد الصندوق تتسم بالصرامة والتقشف، عند تعامل الصندوق مع الدول النامية بشكل جعلها تشك في أهمية الصندوق بالنسبة لها، بينما لا يتبع الصندوق هذه السياسات تجاه الدول الصناعية الغنية، إذ لم يطلب منها في أي يوم التقشف والحد من المصاريف العسكرية، والإنفاق الكبير على الأسلحة المدمرة، وتوجهيها لخدمة الاقتصاد الدولـي، ومعالجة الأزمات التي يتعرض لها نظام النقد الدولي والتي لها دور كبير في خلقها.

فالولايات المتحدة تملى على الصندوق سياساتها من وراء الكواليس ناهيك عن التحكم الذي يحصل عند اتخاذ قرارات الصندوق لما تتمتع به من قوة تصويت، ولقد كان لهذا التدخل آثارا مدمرة مما جعل بعض النقاد يعزون حصول الانقلابات العسكرية لأسباب سياسات الصندوق وبرامجه والوعود بالعون الخارجي.(20) 

إن صندوق النقد الدولي قد أدى-في الغالب- إلى حالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي نتيجة للتباين في المعاملة بين الدول الأعضاء، وممارسة ضغطا غير متناسب على الإقتصادات الأضعف حتى تقوم بعملية تصحيح.

فخلال الأزمة التي واجهت حكومة الفلبين في عام 1980، وعندما لجأت إلى الصندوق للاستفادة من مواردها، طالب الصندوق الوفد الفلبيني بالموافقة على إلغاء القيود على النقد الأجنبي وتخفيض العملة، غير أن المفاوضين الفلبينيين رفضوا هذه الشروط، وتمسكوا بالإبقاء على سعر تعادل العملة دون تخفيض واقترحوا مقابل ذلك فرض ضريبة بواقع (20%) من مبيعات النقد الأجنبي،وهو يعادل تخفيض قيمة العملة من جانب واحد.

ويقول “كواد رنو” أحد أعضاء الوفد الفلبيني أن المسئولين في الصندوق أبدوا تفهما وتعاطفا مع اقتراحهم،ولكن ضغط حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على مدير الصندوق أدى إلى رفض الصندوق تقديم القرض للفلبين، بسبب عدم الموافقة على شرط تخفيض العملة.

وفي هذا الصدد يقول: “وحينما بحثنا المسألة مع مدير الصندوق تبين أن هذا الموظف كان سيوافق على الخطة لولا أن العضو الأمريكي في الصندوق أبلغه أن حكومة الولايات المتحدة لا تعتقد أن حكومة الفلبين تستطيع إعادة فرض الضريبة على النقد الأجنبي”.

وحينما علم مدير الصندوق بوجهة نظر وزارة الخارجية الامريكية رفض المضي في بحث المسألــة معنـا، وأضاف عضو الوفد الفلبيني “اعتقدت أن مؤسسة دولية من نوع صندوق النقد الدولي لا تتبع سياسة سليمة حينما تسمح لنفسها بأن تتأثر بنفوذ احد الأعضاء”.(21)

وقد نجح الوفد الفلبيني في موقفه المتشدد في رفض مقترحات الصندوق، وبالتالي لم يقترض منــه، وإنما اتجه إلى الاقتراض من أحد البنوك الخاصة في نيويورك، ولأمد قصير للتغلب على ظروف الأزمة وفعلا تم له ذلك وحقق ما يهدف إليه، وقد تجلى التأثير الأمريكي على الصندوق وإدارته خلال الأزمة المكسيكية التي وقعت في يناير من عام 1995م والتي أطلق عليها عملية “درع البيزو” والتي توضح بجلاء مدى التأثير الأمريكي على الصندوق ومديره.

وأعلنت الحكومة المكسيكية قبل حلول أعياد الميلاد بأربعة أيام عن عزمها تخفيض قيمة عملتها الوطنية لأول مرة منذ سبع سنين، وكان مقررا أن تنخفض بمقدار خمس سنتات أمريكية، أي بمقدار 15%من قيمتها التجارية، وهو الأمر الذي تسبب في حالة ذعر خيمت على العالم أجمع، وعلى المشرفين على إدارة رؤوس الأموال الخاصة في مصارف وول ستريت في نيويورك، وفي صناديق الاستثمار المالي التابعة لها على وجه الخصوص فهم كانوا قد استثمروا ما يزيد عن 50 مليار دولار في قرض للحكومة المكسيكية وفي أسهم وسندات حكومية مكسيكية، وهذه الثروة أصبحت مهددة بفقدان جزء لا يستهان به من قيمتها.

وبالتالي فقد راح يسحب ثروته من المكسيك، ولقد تسببت حالة الذعر هذه في أن يفقد البيزو في خلال ثلاثة أيام 30% من قيمته مقابل الدولار ،وليس 15 % فقط كما كان مقررا، وكل هذا أقض مضجع وزارة الخزانة الأمريكية والبيت الأبيض،حيث ينهار واحد من أهم مشاريع إدارة الرئيس بيل كلينتون، أي الاستقرار الاقتصادي في الجار الجنوبي الذي يفيض سنويا بملايين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فقد تحرك روبرت روبين وزير الخزانة الأمريكي، وليون بانيتا كبير موظفي البيت البيض لتدبير عملية إنقاذ وصفتها صحيفة واشنطن بوست بعملية “درع البيزو” وذلك للمقارنة بينها وبين عملية درع الصحراء في بداية حرب الخليج الثانية.

وبعد مفاوضات متواصلة مع الحكومة المكسيكية استمرت ثلاث أسابيع بدت أن المشكلة قد حلت فعلا ووقف الرئيس الأمريكي وحكومته إلى جانب المكسيك وقدم ضمان قروض بقيمة 40 مليار دولار وبالتالي فلا خوف من عجز الدولة المكسيكية عن السداد.(22)

لكن الغريب أن هذا التصريح لم يؤد إلى انفراج الأزمة، بل زادت حدتها نتيجة لعلم المستثمرين بفقدان المكسيك لرصيدها من الدولارات، إضافة إلى عدم وجود ما يؤكد حصول الرئيس كلينتون على موافقة الأغلبية الجمهورية في الكونجرس على ذلك.

وهكذا راح سعر صرف العملة المكسيكية ينخفض من يوم لآخر ،وإن راح المصرف المركزي المكسيكي يشتري يوميا مبالغ البيزو بقيمة نصف مليار دولار، وانطوت هذه الأزمة على مخاطر جمــة بالنسبة للمكسيـك، وذلك لأنها فجأة لم تعد قادرة على دفع ثمن ما تستورده من سلع ،كما انطوت على مشكلات بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أيضا، وذلك لارتباط آلاف فرص العمل فيها بالتجارة مع المكسيك، أما بالنسبة لباقي دول العالم فقد بدت الأمور كما لو ان انخفاض قيمة البيزو لا يعنيها كثيرا، إلا أن الأمر تغير ابتداء من 12 يناير على نحو درامي ففي نفس اليوم الذي أعلن فيه كل من الرئيسيين الأمريكي كلينتون والمكسيكي أرنستو زيديلو عن تكاتفهما في الشؤون المالية ،حدث تطور مرعب ما كان لأحد أن يتوقع فقد ازداد الضغط على “دستة”من العملات في آن واحد في كل البورصات المهمة في العالم ابتداء من سنغافورة وعبر لندن وانتهاء بنيويورك، وبسرعة فقد الزلوتي البولندي من قيمته ما فقده البات التايلندي أو البيزو الأرجنتيني.(23)

وراح المستثمرون يعرضون للبيع كل ما في حوزتهم من أسهم وسندات، سواء في أواسط أوربا أوفي البلدان الآخذة في النمو في جنوب المعمورة، وراحوا يشترون فورا بما حصلوا عليه من عملات في سياق عمليات لبيع هذه العملات الصعبة، أي الدولار والمارك والفرنك السويسري والين لذا رافق انخفاض أسعار الأوراق المالية انخفاض أسعار صرف عملات هذه الأوراق المالية أيضا.

وحدث التطور أيضا في بلدان مثل المجر واندونيسيا ليس بينها ما يجعلها متقاربة من وجهة النظر الاقتصادية، واجتمع محافظو المصارف المركزية لدول جنوب شرق آسيا وقرروا رفع أسعار الفائدة في بلدانهم لإغراء المستثمرين على الاحتفاظ بما في حوزتهم من عملات هذه البلدان ،واتخذت الأرجنتين والبرازيل وبولونيا نفس الخطوات.

وابتداء من يوم 20 يناير، أي مع نهاية الأسبوع الرابع من اندلاع الأزمة أخذت قيمة الدولار أيضا تنخفض، الأمر الذي دفع “ألان غرينسبان” محافظ البنك المركزي الأمريكي، لأن يرفع صوته محذرا من مغبة هذا التطور الجديد، ومؤكدا أمام المجلس الشيوخ الأمريكي “أن هروب رؤوس الأموال على المستوى العالمي ،ولجوئها إلى عملات أكثر جودة كالين الياباني والمارك الألماني تهديد لتوجه العالم باتجاه اقتصاد السوق والديمقراطية”، وقد طلب من الكونجرس وأعضاء حزبه الجمهوري التعجيل بالموافقة على اقتراح الرئيس الأمريكي، وهدأت الحالة لبضعة أيام.(24)

وفي يوم 30 يناير تفاقمت الأزمة على نحو أشد حيث أعلن وزير المالية المكسيكي الجديد “غويليرمو أورتيز” أن بلاده قد صارت على حافة الهاوية، وأنها قد استنفذت آخر احتياطاتها من الدولار، وأنه سيكون -إذا ما استمر هروب رؤوس الأموال -مجبرا على إلغاء حرية تحويل البيزو إلى العملات الأجنبية، وإن كان هذا الإلغاء سيعنى ضياع جهود دامت عشر سنوات أنفقتها البلاد في الانفتاح على السوق العالمية، بينما قال زعيم الأغلبية في الكونجرس “نيوت جينغريش”إن الغالبية لن توافق على منح المكسيك قرضا، وأن على الرئيس أن يتحمل المسئولية بمفرده، وألا يأخذ في الحسبان دعم البرلمان له.

وهكذا لم يبق لدى كلينتون ومعاونيه سوى التصرف بصندوق الطوارئ والبالغة قيمته عشرين مليار دولار، وبما أن هذا المبلغ لن يكفي، فقد تعين توجيه النداء لصناديق أخرى أولها صندوق النقد الدولي.

وكان مدير الصندوق قد حصل قبل أسبوعين- وبعد أن تخطى على نحو لا مثيل له كل الحواجز والموانع-على موافقة الهيئات صاحبة القرار على منح المكسيك قرضا بلغت قيمته 7.7 مليار دولار، وهو أكبر قرض تجيزه لوائح الصندوق، إلا أنه لم يجد نفعا حيث يتطلب لإنقاذ المكسيك من الإفلاس عشرة مليارات إضافية على الأقل.(25)

  وأمـام حيـرة ميشيل كامديسوس مدير الصندوق ومدى قدرته على التصرف بمفرده في كل المبالـغ، كان عليه أن يتصرف وإلا توجب أن تتوجه الإدارة إلى الكونجرس معترفة بفشل الخطة، وكان قرار كامديسوس بمفرده-بإهماله كل قواعد الصندوق-إبلاغ كلينتون بالموافقة على منح المكسيك قرضا بعشرة مليارات أخرى أي17.7مليار دولار وبالضغط على بنك التسويات الدولية ومديره وافق على تقديم قرض بقيمة عشرة مليارات أخرى.

وأعلن الرئيس الأمريكي في اجتماعه السنوي لحكام الولايات المتحدة الأمريكية المجتمعين في واشنطن عقب ذلك “إنه بمساعدة صندوق النقد الدولي ،وبنك التسويات الدولية، والحكومة الكندية، قد صار متاحا وبدون موافقة الكونجرس، منح المكسيك قرضا تزيد قيمته على الخمسين مليار دولار لمواجهة ما يعصف به من أزمة،وأن المكسيك ستسدد كل ما في ذمتها من ديون”

وهكذا وفي أقل من أربع وعشرون ساعة مول رجال عددهم أقل من أصابع اليدين وبعيدا عن الرقابة البرلمانية، وبأموال دافعي الضرائب في البلدان الصناعية الغربية،أكبر قرض مساعدة منذ 1951، ولم يتفوق عليه إلا تلك المساعدات التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى دول أوروبا الغربية في إطار مشروع مارشال.

  وهكذا قال رئيس صندوق النقد الدولي “إن الأزمة المكسيكية كانت الأزمة الكبيرة الأولى في عالمنا الجديد،عالم الأسواق المعولمة “وأنه كان  يتعين علينا التصرف دونما اخذ التكاليف بعين الاعتبار وإلا اندلعت كارثة عالمية حقا وحقيقة”. (26)

وفي نقد هذه العملية قال “نور برت والثر” رئيس الاقتصاديين في المصرف الألماني ” ليس هناك ما يبرر أن يضمن دافع الضرائب للمستثمرين في سندات الدين المكسيكية معدلات الربحية العالية بصورة لاحقة” وقال “وليم بويتر” أستاذ الاقتصاد في كمبردج “إن العملية برمتها لم تكن  في الواقع سوى هدية قدمها دافعوا الضرائب إلى الأثرياء”.

وبالرغم من أن هذه العملية قد تطورت على أمرين هامين، فهي من ناحية كانت أجرا عملية في التاريخ الاقتصادي لتفادي كارثة، ومن ناحية أخرى كانت حربا مفضوحة شنت ضد طبقة دافعي الضرائب في البلدان المانحة لمصلحة إقليمية عظيمة الثراء .

وكان المدير العام لصندوق النقد الدولي قد رد على منتقديه بأنه ليس هناك شك في أن المضاربين قد جنوا ثمار المليارات الممنوحة ولكن هكذا راح يعترف صراحة بأن” العالم في قبضة هؤلاء الصبيان”

وإذا كانت هذه الأزمة تظهر بجلاء الكيفية التي يدار بها الصندوق، والقواعد التي يسعى لإرسائها لتنظيم الاقتصاد الدولي فإن القائمين على إدارته كما يقومون إلى حد ما بدور الإطفائيين فـي النظام المالـي الدولي، فإنهم لا يترددون أن يلعبوا دور مشعل الحرائق ففي حالات الأزمات الحادة يدخلون الأسواق المالية الأجنبية، ويحرصون قبل أي شيء آخر على أن لا يخسر أي مضارب دولي المبلغ الأول الذي ضارب بـه ويلخص معلق بريطاني على هذا الوضع بما يلي : ” أنهم على حق أولئك المتشككين الذي يتهمون حكومات البلاد الغنية بأنه همها الأول تجنب خسائر المصارف الغربية في زمن الأزمات “.(27)

وعن الطرق المتبعة من قبل الصندوق النقد الدولي فهي غير جيدة ، وأحيانا تكون كارثية مثلما حدث في أمريكا الجنوبية، فخلال الستينات كان مجموع ديون أمريكا اللاتينية يساوي 60 مليار تقريبا وعام 1980 أصبح يساوي 206 مليارات، وبعد عشر سنوات زاد هذا الدين إلى ضعفيه أي 443 مليارا، واليوم يقارب 750 مليار دولار وكان السبب تحويل مبلغ 250 مليار دولار كل سنة لمصلحة الدائنين على مـدى ثلاثيـن عامـا، وهكذا اضطرت دول أمريكا اللاتينية إلى ان تخصص كل سنة 30 – 35 % من قيمة صادراتها لخدمات الدين .

ومن بين المصائب التي سببها صندوق النقد الدولي تلك التي ضربت الأرجنتين حيث كانت بلدا مزدهرا ثم انتقلت بديون خارجية وطبقت إستراتيجية جامحة في الخصخصة وتحرير الأسواق المالية ووقعت بذلك تحت سيطرة صندوق النقد الدولي الأمر الذي أملى عليها سياسيات اقتصادية ومالية تخدم بالدرجة الأولى مصالح الشركات الكبرى العابرة للقارات، وبخاصة الأمريكية وصار البيزو، وهو عملة النقد الأرجنتيني يساوي دولار واحدا .

وفي عام 2001 بلغت نسبة النمو الاقتصادي أقل من 1.9 %  وبلغت قيمة الإنتاج القومي الخام السنوي للفرد الواحدة 754 دولار وبذلك قاربت الأرجنتين مستوى 49 بلدا الأقل تقدما في العالم، ثم تفجرت الأزمة في الأول من ديسمبر 2001، وبلغ الدين الخارجي 164 مليار دولار ومن أجل وقف رؤوس الأموال الهاربة للخارج أمر رئيس البلاد “دي لورا ” بتجميد الودائع المصرفية الخاصة، وإثر ذلك انتشر الهلع بين الناس وانهار الاقتصاد الوطني، وارتفعت نسبة البطالة إلى 18 %، وانهارت المؤسسات وأشهرت إفلاسها .

وفي خضم هذه الأزمة رفض صندوق النقد الدولي تقديم أية قروض جديدة الأمر الذي أدى إلى تفاقم التوتر الذي تحول إلى تمرد شعبي أطاح بالرئيس ” دي لاروا ” وثلاثة رؤساء بعده .(28)

وبعد أن أعلنت المحكمة العليا في فبراير 2002 حكما باعتبار تجميد الودائع الخاصة غير دستـوري، كان الضرر قد حل بالبلاد وأصبح الاقتصاد في غاية الضعف والقسم الأكبر من البلاد قد أصابها الإفلاس، وأصبح كل خمسة من سكان الأرجنتين بينهم اثنان يعيشان في فقر مدقع .

فخلال عقود من الزمان، كانت بلاد أمريكا الجنوبية تطبق العديد من خطط التكييف الهيكلي التي تمليها عليها واشنطن، وكذلك صندوق النقد الذي أملى على تلك البلاد عدة إصلاحات ضريبية تخدم مصالح الرأسمال الأجنبي والطبقة الغنية المحلية .

فقد فرض تخفيضات كثيفة على الميزانيات الاجتماعية والتعليمية والصحية كما فرض تحرير المستوردات، وتوسيع المساحة الزراعية المخصصة للزراعة الواسعة، وتقليص المساحة الزراعية المخصصة لزراعة البستنه ، وتطبيق سياسات تقشف متنوعة.

إن جيلين من الأمريكيين اللاتينيين دفعا من دمائهم وعرقهم وكرامتهم وتشتت أسرهم ثمنا لإملاءات الصندوق وقواعد النظام الاقتصادي التي يفرضها.

ونفس الدمار الذي حدث في الأرجنتين – نتيجة سياسات الصندوق – حدث أيضا في دول عديدة من أمريكا اللاتينية وغيرها.(29)

فالبرازيل مثلا تسلم السلطة فيها الرئيسي ” كاردوسو” عام 1995 ، ومعه مجموعة من الوزراء في العدل والتعليم والخارجية والمالية من أكفاء القيادات، إلا أنهم – وعلى غير ما توقع الشعب – وقعوا فريسة لسياسات الصندوق، وأصبحوا خدما لسياساته وكانت نتائج ذلك مأساوية ، فالدين الخارجي على البرازيل بلغ 25 % من الدخل القومي الخام، والفوائد تبلغ 9.5 % منه وسعت البرازيل للحصول على قرض من الصندوق عام 2001 وحصلت بالفعل على 15 مليار دولار بفائدة 7.5 %، وأعلن وزير المالية سعادته بنجاح المفاوضات وضرورة تقديم تضحيات مؤلمة حيث التزمت الحكومة بإجراء تخفيضات مهمة في جانب النفقات في الميزانية  وكانت في جانب التعليم والصحة .

وفي كل مرة يطلب الوزير البرازيلي من الصندوق تمديد أجل القرض، يطلب الصندوق الموافقة على بيع صناعات أو مؤسسات خدمية لشركات متعددة الجنسية التي تعد من أهم آلياته وغالبا ما تكون أوربية أو أمريكية.

وهكذا فخلال السنوات الثماني التي أمضاها كالردوسو في الرئاسة، باع بأرخص الأثمان القطاع العام القوى والمربح بكامله تقريبا، ونفس الكوارث السابقة أحدثها تدخل الصندوق في اقتصاديات تايلاند عام 1997  وكذلك اندونيسيا وتايوان وكوريا الجنوبية في بداية التسعينيات.(30)

تبقى نقطة هامة وهي تأثر الصندوق بالسياسة الأمريكية فالصندوق يبدوا وكأنه في الخدمة الدائمة والمباشرة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ويسعى لتكريس القواعد الاقتصادية التي تتبناها هذه الأخيرة وهذه الحقيقة ظهرت بشكل جلي تماما في خريف عام 2001 عندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على الإرهاب وحينذاك كتب معلق بريطاني في مجلة الإيكونومست ما يلي : ” يشكل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي جزءا لا يتجزأ من الترسانة الأمريكية المناهضة للإرهاب، ولم تتأخر الولايات المتحدة في تقديم المكافآت لحلفائها في حربها ضد الإرهاب “.

وهكذا قام الصندوق بأمر من وزير الخزانة الأمريكي في سبتمبر عام 2001 بتقديم 135 مليون دولار لباكستان، ورفع الحظر الذي فرضه على باكستان عقب إجرائها التجارب النووية عام 1998، وقبل أيام من ذلك كان ” كوني لوتز″ المسئول عن الملف الباكستاني في الصندوق قد أعلن ما يلي : ” إن الاعتماد المفتوح لباكستان ومقداره 596 مليون دولار قد استنفذ في 23/09/2001 ونحن مرتاحون للإصلاحات التي قامت بها الحكومة ، وسنناقش احتمالات تجديد البرنامج “.(31) 

إن هدايا كثيرة قدمت لباكستان أهمها إلغاء جزء كبير من ديونها البالغة 37 مليار دولار، ونفس الشيء حدث مع أوزبكستان التي كان الصندوق قد قطع علاقته معها منذ 1995 نظرا لإدارتها الكارثية لقروضه، وفي عام 2001 قرر الرئيس بوش استخدام مطار طاشقند محطة لطائراته تمهيدا لدخول أفغانستان، وفي الحال عاد الصندوق لأوزبكستان، ويقول لوتز ” لقد أخبرتنا حكومة أوزبكستان عن نيتها تنفيذ برنامج للاستقرار الاقتصادي” وهكذا فإن مئات الملايين من القروض سوف تمطر على طاشقند.

إن طريقة تعامل الصندوق وكبار موظفيه في أسيا الوسطى والجنوبية منذ خريف عام 2001، تكشف مدى السيطرة الأمريكية على الصندوق واعتباره آلية هامة من آليات الولايات المتحدة والدول الكبرى لإرساء قواعد النظام الاقتصادي الدولي وإذا كان الصندوق يضع شروطا لمنح القروض أهمها الحكم الصالح وغياب الفساد، فإن الواقع يتنافى مع ذلك، وخاصة في حالة كل من رئيس أوزباكستان ” كاريموف ” ورئيس باكستان “مشرف”، ومع ذلك يحصلان على قروض من صندوق النقد الدولي بسهولة وغزارة ذلك أن خضوعهما للسياسة الأمريكية وتقبلهما للقواعد المنظمة للاقتصاد الدولي من قبل الدول الكبرى يفتح لهما أبواب بريتون وودز بسهولة.

إذا كانت أخطر عيوب صندوق النقد الدولي تتمثل في انحرافه بعيدا جدا عن دوره الأصلي في الإشراف على النظام النقدي الدولي واعتباره فقط آلية من آليات الدول الكبرى لإرساء قواعد النظام الاقتصادي الدولي فإنه نتيجة للنظام المرن لأسعار الصرف واعتماد هذا النظام على أسواق رأس المال الخاص – وبالتالي تحدث تقلبات وأزمات خطيرة – فإن على الصندوق ان ينهض بدور جديد يمثل فيه مظلة التشاور بين الدول الكبرى والدول النامية في خصوص سياسات الاقتصاد الكلى، والإشراف المصرفي والنقدي العالمي من اجل إرساء قواعد لنظام اقتصادي دولي أكثر عدالة وتضمن حقوق الدول النامية.(32)

ومن ناحية ثانية  يجب على الصندوق أن يقوم بدور رفيع المستوى وأكثر نشاطا في مراقبة سياسات الاقتصاد الكبرى، بما في ذلك إجراء مراجعات منتظمة لسياسات الاقتصاد الكلي التي تقوم بها الدول الأعضاء في المجتمع الدولي الصناعية منها والنامية على حد سواء .

كذلك تشكل المعاملة المتباينة للبلدان المقترضة مشكلة عميقة الجذور من الممكنمعالجتها جزئيا بجعل رأي الصندوق أكثر فعالية في إدارة الاقتصاديات الكبرى، وهو يمكن أن يحدث – لو توافر – نوعا من تقارب السياسات مثلما هو قائم في الاتحاد الأوربي.(33)

إن فعالية ومصداقية الصندوق سوف تتعزز عن طريق إصدار حقوق السحب الخاصة، فالاقتصاد العالمي المتنامي يتطلب توسعا مستمرا في السيولة الدولية، وعلى الرغم من أن بعض البلدان قد اعترضت على الإصدار الضخم والعام لحقوق السحب الخاصة لبواعث عامة تتعلق بمكافحة التضخم، فإن ثمة بلدانا عديدة لا تتوافر لها بسهولة فرص الوصول إلى أسواق رأس المال الخاصة للحصول على السيولة، وقد دعا المدير العام ميشيل كامديسوس إلى إصدار جديد لحقوق السحب الخاصة في منتصف التسعينات، وينبئ الموقف الذي اتخذته الدول النامية برفض هذا الاقتراح وخشيتها من أن يؤدي إلى التضخم، عن موقف جديد ونهج مختلف تشارك خلاله الدول النامية بفاعلية فيما يتعلق بقضايا الإدارة الاقتصادية .

لقد تزايد دور صندوق النقد الدولي في إقراض البلدان النامية وخاصة في إفريقيا التي تعاني من صعوبات جمة، وتحول الصندوق إلى مصدر مقبول للمساعدة ولكن ينبغي ألا يتداخل دور الصندوق مع دور البنك الدولي، وأن يظل دور الصندوق الأساسي في الإشراف على نظام النقد الدولي ككل وليس على أعضائه الأشد عوزا فقط.

ويتعين لإصلاح وتفعيل دور صندوق النقد الدولي، إصلاح عملية صنع القرار داخله، فالأمر يقتضي أن تكون قراراته أكثر انفتاحا وشفافية، وأيضا أكثر ديمقراطية، بمعنى أن يبتعد عن الهيمنة القوية لعدد صغير من الاقتصاديات القوية، ولعل أشد الطرق وضوحا لتحقيق ذلك هو تعديل أوزان الحصص، التي تحكم عدد الأصوات التي تكون للدول الأعضاء، ومن ثم مسئوليتها وامتيازاتها لكي تعكس الواقع الاقتصادي .

وهناك ضرورة لتعديل أحكام الصندوق وسياساته بشكل يراعي فيه المساواة والعدل بين الدول الأعضاء غنيها وفقيرها واستنادا لأوجه النقد وسبل التطوير السابق ذكرها، وتعديل شروط الاستفادة من الصندوق بحيث تراعى ظروف الدول الآخذة في النمو والفقيرة، فترتفع الشريحة غير المشروطة من 25 % من الحصة على نسبة أكبر تعتمد على دراسة الواقع الاقتصادي فتكون مثلاً 35 % من الحصة، وتيسير شروط السحب بالنسبة لموارد الصندوق الأخرى مع تنقيح المواد والقواعد الأخرى التي تكون سلبياتها أكثر من ايجابياتها .

وبالرغم من أن سياسات الصندوق قد أحدثت نتائج عكسية في كثير من الدول بسبب برامج التصحيح التي يشترطها الصندوق لقروضه ومحاولة فرض وجهة نظره فإن بلدانا عديدة ترى ضرورة هذه البرامج بشرط أن يكون هناك إطار زمني واقعي لتطبيقها، لأن إصلاح السياسات إذا كان مفاجئا ومبالغا فيه، يؤدي إلى أن تفقد البرامج التأييد الجماهيري وتفشل مثلما حدث في دول كثيرة في أفريقيا وغيرها.

وأخيرا فإن الصندوق يحظى بمساندة قوية من جانب الدول النامية ، من أجل قيامه بدور أكبر وترى فيه وسيلة لإقامة نظام مقبول من المجتمع الدولي للإشراف على النظام النقدي الدولي وبالتالي إرساء قواعد سليمة للنظام الاقتصادي الدولي.

المطلب الثالث: الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركيةGATT))

بعد الحرب العالمية الثانية، وتوقيع اتفاقية”بريتون وودز″، كان من الواضح اتجاه الدول الكبرى نحو تأسيس النظام الدولي على قواعد اقتصاديات السوق، وكان تحرير التجارة من العقبات الجمركية هو الهدف من وراء إنشاء الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية التي أصبحت  فيما بعد منظمة التجارة العالمية، التي تمثل الضلع الثالث لمثلث السيطرة الرأسمالية بعد البنك وصندوق النقد الدوليين ،وقد ازداد دورها تعاظما بعد انفراد الاتجاه الرأسمالي بقيادة التوجه العام للاقتصاد العالمي، وقد مرت المنظمة قبل إنشائها بعدة مراحل فقد كانت الفكرة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي .(34)

إذا كان الميلاد الرسمي لمنظمة التجارة العالمية وريثة الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية يعود إلى الأول من يناير عام 1995م ،فإن المحاولات الهادفة لإنشاء هذه المنظمة تعود إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين وذلك عند إنشاء الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة في 30 أكتوبر 1947 والمعروفة بالجات ثم تحوله إلى منظمة التجارة العالمية عام 1995.

في ديسمبر 1945م منح الكونجرس الأمريكي رئيس الدولة تفويضا يسمح له بالتشاور مع الدول الأخرى لتوقيع اتفاقيات دولية تجارية تنص على إجراء تخفيضات جمركية متبادلة.

ثم كانت دعوة الرئيس الأمريكي في مؤتمر “بريتون وودز″لإبرام اتفاق دولي لتحرير التجارة وعقب ذلك دعا المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى عقد مؤتمر دولي لتنشيط التبادل الدولي للبضائع والسلع وتبنى ميثاق للمنظمة الدولية للتجارة.

وقد عقد المؤتمر في الفترة من 21 نوفمبر 1947 إلى 24 مارس 1947 وانتهى إلى وضع ميثاق “هافانا” بإنشاء هيئة للتجارة.

ولقد انبثق عن هذا المؤتمر خفض التعريفة الجمركية أو الحد من القيود الكمية المفروضة على واردات الدول، وقد تم تجميع هذه الاتفاقيات لتشكيل اتفاقية شاملة قد تكون بديلة عن منظمة التجارة الدولية في حال فشلت الدول في التصديق عليها.

وقد وقع هذا الميثاق في 1947 ولم تصدق عليه الولايات المتحدة خوفا من أن ينقص من سيادتها أو حريتها في الشؤون التجارية.

وهكذا حلت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة التي أطلق عليها اسم “الجات”مؤقتا محل منظمة التجارة العالمية منذ عام 1947م وحتى عام 1995م.(35)

وقد تضمن ميثاق هافانا مبادئ مهمة لا يزال لها أثر في التجارة الدولية إلى الآن، تتعلق بتخفيض التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز وإلغاء التمييز في التجارة الدولية، ومساعدة وتشجيع التنمية الاقتصادية على وجه أفضل مما هو قائم، واتفاقيات خاصة بالسلع الأساسية، ومثلت هذه الأسس اللبنات الأولى لقيام منظمة التجارة العالمية بعد ذلك.

وتعرف الجات بأنها “معاهدة دولية متعددة الأطراف تتضمن حقوقا والتزامات متبادلة عقدت بين حكومات الدول الموقعة عليها بهدف تحرير العلاقات الدولية السلعية”.

  والتوقيع على الجات جاء سابقا لبدء المفاوضات الخاصة بميثاق التجارة الدولية (1947 إلى 1984) وكانت أهداف الجات تتمثل فيما يلي:

1-    إزالة العوائق التي تحول دون التبادل الحر.

2-    تنشيط التبادل التجاري بين الدول الأعضاء.

3-    ضمان مناخ دولي ملائم للمنافسة وتوسيع التجارة الدولية.

4-    تشجيع الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص.

5-    حسم المنازعات والخلافات التجارية عن طريق التفاوض تحت رعاية الجات.

   وقد عقدت الجات عدة دورات حتى عام 1979م خصصت لتنظيم عمليات التجارة الدولية وتخفيض التعريفة الجمركية ،وتسهيل تبادل السلع، واختلفت هذه الجولات في طولها الزمني وفي النتائج التي حققتها.(36)

ففي الجولة الأولى التي عقدت في جنيف سنة 1947 تم تخفيض 45 ألف تعريفة جمركية تشمل سلع قيمتها 10 مليارات دولار وتشكل 50% من مجموع التجارة الدولية.

وفي الجولة الثانية التي عقدت في فرنسا سنة 1949 تم الاتفاق على تخفيض خمسة آلاف تعريفة جمركية على السلع الصناعية.

وفي الجولة الثالثة التي عقدت في إنجلترا بين1950-1951 تم تخفيض 7800 تعريفة جمركية بما يعادل 55% من مستوى التعريفة لسنة 1948.

وفي الجولة الرابعة التي عقدت في جنيف سنة 1956 تم تخفيض التعريفة الجمركية لسلع تبلغ قيمتها ما يعادل 2.5 مليار دولار.(37)

وفي الجولة الخامسة عام 1960 في جنيف أيضا تم تخفيض 4400 تعريفة جمركية لسلع صناعية قيمتها 4.9 مليار دولار.

وفي الجولة السادسة التي دعا لعقدها رئيس الولايات المتحدة عام 1964 تم الاتفاق على تخفيض التعريفات بنسبة 30% تدريجيا خلال خمس سنوات لسلع صناعية تبلغ قيمتها 40 مليار دولار.(38)

وفي الجولة السابعة في طوكيو عام (1973-1979) وشاركت فيها 99 دولة تم الاتفاق على تخفيض الرسوم الجمركية في الدول التسع الأكثر تصنيعا في العالم على السلع زراعية وصناعية بنسبة 34%  على مستوى التعريفة لسنة 1948 والتي كانت تساوي40% فأصبحت 4.7% .

أما الجولة الثامنة وهي جولة أورجواي من سنة 1986 حتى سنة 1994 تعتبر من أهم جولات الجات وذلك للنتائج التي توصل إليها الأعضاء، والتي تؤثر تأثير كبيرا على مستقبل التجارة الدولية وبالتالي على اقتصاديات الدول الأعضاء وذلك حين جرت اتفاقات كثيرة في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات والتجارة بين الدول الأعضاء.(39)

غير أن هذه الاتفاقات وإعلانها لمبدأ حرية التجارة وعدم التمييز تفضي إلى عدم المساواة في الواقع لأنها لا توقع بين أنداد، وإنما تراعى فقط مساواة شكلية في السيادة بين الدول وهو ما سعت الدول الكبرى لإرسائه من خلال هذه المنظمات في سبيل إقرار قواعد النظام الاقتصادي الدولي.

إذ لا يمكننا أن نغيب تخلف الدول النامية وتراكم مديونياته التي بلغت عام 1995م ألفى مليار دولار أمريكي، هذا فضلا عن الحقيقة الواقعية بأن هذه الاتفاقات خرجت من القناة المنفردة للدول الصناعية الكبرى فقط،وأيضا لا يمكن أن نغفل الإمكانيات التفاوضية الضعيفة للدول النامية التي دعتها للمطالبة بإرساء قواعد جديدة أكثر عدالة في هذا المجال.(40)

لذلك فان أهم تطور شهدته جولة أرجواى هو إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1994 كمحاولة لتغيير القواعد الاقتصادية السائدة أو تطويرها بطريقة لتبدو مرضية لبعض دول العالم الثالث.

المطلب الرابـع :منظمــة التجـارة العالميـة(OMC)

يأتـي إنشاء منظمة التجارة العالمية في ضوء استكمال النظام الاقتصادي الدولي لأركانـه الرئيسيـة، فهي الركن الثالث من أركان هذا النظام إلى جانب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فهم يعملون على إقرار وتحديد معالم النظام الاقتصادي الدولي الذي أصبح يتميز بوحدة السوق العالمية ويخضع لإدارة وإشراف مؤسسات اقتصادية عالمية تعمل بصورة متناسقة، لذلك لها صفة الإلزام لأعضائها فيما تم الاتفاق عليه وتملك فرض عقوبات كانت تعجز عن فرضها الجات، وتقوم على أسس أهمها مبدأ الدولة الأكثر رعاية، ومبدأ الحماية من خلال التعريفة الجمركية، ومبدأ الالتزام بالتعريفات الجمركية وإعطاء امتيازات للدول النامية، ومبدأ المشاورات والمفاوضات التجارية.

تم التوقيع في مراكش بتاريخ 15/4/1994 على اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية في ختام مفاوضات جولة أرجواى بواسطة 122 دولة، ودخلت المنظمة حيز النفاذ اعتبارا من أول يناير 1995.

وتم الاتفاق على أن منظمة التجارة العالمية تحل محل الجات في خلال سنتين على الأكثر،      ويتكونالهيكل التنظيمي لمنظمة التجارة العالمية من أجهزة رئيسية وأخرى فرعية.(41)

1- الأجهزة الرئيسية:

‌أ-المؤتمر الوزاري: ويتألف من ممثلين عن جميع الأعضاء بمستوى وزير ويجتمع مرة كل سنتين على الأقل، وذلك للإشراف على تنفيذ مهام المنظمة، واتخاذ الإجراءات والقرارات اللازمة في جميع المسائل التي تتعلق بالاتفاقات التجارية بين الأطراف.

‌ب-المجلس العام: ويتكون من ممثلي كل الأعضاء، ويجتمع كلما دعت الحاجة إلى ذلك ويمارس وظائف المؤتمر الوزاري فيما بين اجتماعات هذا الأخير.

وأيضا يمارس المجلس العام وظائف أخرى مثل تسوية المنازعات وفحص السياسات التجارية.

‌ج-الأمانة العامة: نص الاتفاق المنشئ للمنظمة العالمية للتجارة على السكرتارية كفرع رئيسي يديره المدير العام الذي يعينه المجلس الوزاري ويحدد له سلطاته واختصاصاته ومدة تعيينه وشروط التوظيف.

ويتولى المدير العام تعيين باقي الموظفين، الذين يتميز وضعهم القانوني بالآتي:

–       أن وظائفهم ذات طبيعة دولية.

–       لا يجوز لهم في ممارسة وظائفهم طلب أو قبول تعليمات من أية حكومة أو أية سلطة خارج المنظمة.

–       يجب عليهم الامتناع عن أي عمل لا يتفق ووضعهم كموظفين دوليين.

–   على أعضاء المنظمة احترام الطبيعة الدولية لوظائف المدير العام ولموظفي السكرتارية، وعدم التأثير عليهم في ممارسة وظائفهم.

2– الأجهزة الفرعية: طبقا للمادة 4/7 ينشئ المؤتمر الوزاري لجانا متخصصة داخل المنظمة من أجل المساعدة على أداء الوظائف الموكولة إليه وهذه اللجان هي:

لجنة التجارة والتنمية، لجنة قيود ميزان المدفوعات، لجنة الميزانية والمالية والإدارة، وللمجلس إنشاء لجان إضافية لأداء ما يراه مناسبا من مهام.(42)

أما العضوية داخل المنظمة العالمية للتجارة فهي متاحة لجميع الدول بما فيها الدول المتعاقدة في اتفاقية الجات، بحيث يقبل العضو بالالتزام بمبادئ تحرير التجارة الواردة في الاتفاقات المختلفة وتقديم جداول تنازلات بتخفيضات جمركية ، وقد أباحت المنظمة لكل عضو فيها الانسحاب منها بشروط وهي:

–       أن يكون الخروج بسبب وجود ظروف استثنائية تبرر ذلك.

–       أن يتعلق الخروج بالإخلال بالتزام واحد يفرضه الاتفاق المنشئ أو احد الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف.

–       أن يصدر قرار وزاري بهذه المسألة.

وتصدر القرارات أمام المؤتمر الوزاري والمجلس العام بالتوافق بين الحاضرين وإلا تتخذ القرارات بالتصويت إما بأغلبية الثلثين أو ثلاثة أرباع أو بالإجماع حسب الأحوال.

يكون التصويت بأغلبية الثلثين في الأحوال الآتية على سبيل المثال:

أ‌-   اقتراحات تعديل الاتفاقيات التجارية(م10/10).

ب‌-  التعديلات على أحكام جولة أورجواي أو على الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف في الملحقين 1/أ،10/ج.

ويكون التصويت بأغلبية ثلاثة أرباع الأعضاء الحاضرة والمشتركة في عملية التصويت في بعض الأحوال مثل:

1-    تفسير ميثاق المنظمة أو اتفاق متعدد الأطراف.

2-    إعفاء أحد الأطراف من التزام مفروض عليه بموجب الميثاق أو الاتفاق.

  ويكون التصويت بالإجماع في الأحوال الآتية مثلا:

أ‌-   المادة 4 من اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة في الحقوق الفكرية

ب‌-            المادة 2/1 من اتفاقية التجارة في الخدمات.

ج- المادة الأولى و الثانية من اتفاقات الجات 1994م.

وفيما عدا هذه الحالات الاستثنائية الثلاث تصدر القرارات بالأغلبية البسيطة من عدد الحاضرين إن لم يوجد توافق.

وتتمثل أهم أهداف منظمة التجارة العالمية في الآتي:

1-  تحرير التبادل الدولي التجاري للسلع والخدمات: ويقصد بهذا الهدف التخفيض التدريجي للتعريفات الجمركية المفروضة على السلع والخدمات وبذلك تستكمل المنظمة ما بدأته الجات سنة1947 وتهدف أيضا إلى إزالة القيود غير الجمركية والعقبات الإدارية.

2-  رفع المستويات المعيشية للدول الأعضاء : الغرض النهائي للمنظمة هو رفع مستوى معيشة الدول الأعضاء فيها، وذلك من خلال التشغيل الكامل، والاستخدام الأمثل للموارد وزيادة الإنتاج والقدرة على المنافسة العالمية.

3-  ضمان حصول الدول النامية على نصيب عادل في التجارة الدولية : ووفقا لهذا تتخذ المنظمة التدابير اللازمة لحصول الدول النامية على نصيبها العادل من التجارة الدولية بما يتناسب مع احتياجاتها في التنمية الاقتصادية، وإن كانت المعاملة للدول النامية لازالت غير كافية.(43)

4-  إقامة نظام دولي تجاري دائم ومتكامل : بالرغم من قيام النظام التجاري الدولي منذ عام 1948 وحتى إنشاء المنظمة على الاتفاقات فإنه يقوم على بناء مؤسساتي له صفة الثبات والدوام، وهذا يتطلب من المنظمة أن تعمل على ثبات هذا النظام وبقائه، عن طريق تحقيق التنسيق الكامل بين سياسات الدول الأعضاء، وتفادي حدوث أي نزاعات بين الدول الأعضاء، ولا يفوتنا الإشارة إلى الدور الحاسم الذي يلعبه جهاز تسوية المنازعات التابع للمنظمة وإسهامه في حل الخلافات التي تثار بين أطراف هذا النظام واستمرار علاقاتها ومبادلاتها التجارية.

أما الوظائف التي تقوم بها المنظمة فهي كالآتي:

1-  تسهيل تنفيذ اتفاقات أرجواى : بمقتضى هذه الوظيفة تقوم المنظمة بتسهيل تنفيذ وإدارة الاتفاقيات التي تمت خلال جولة أرجواى ومراقبة تنفيذ الدول لها، وإنزال العقوبة المقررة على الدول التي تخالف هذه الأحكام.

2-  الإشراف على المفاوضات المتعددة الأطراف : تعتبر المنظمة مقرا دائما لعقد المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف التي تجري بين الدول الأعضاء حول تجارة السلع والخدمات والملكية الفكرية المتصلة بالتجارة.

3-  إدارة نظام حل المنازعات ونظام مراجعة السياسات التجارية : تتولى المنظمة إدارة نظام حل المنازعات وفقا للإطار القانوني للاتفاق الخاص بالقواعد والإجراءات التي تحكم تسوية المنازعات.

  وتتولى المنظمة إدارة نظام مراجعة السياسات التجارية للدول الأعضاء وفقا لنظامه القانوني المنصوص عليه في الملحق الثالث للاتفاق المؤسس للمنظمة.(44)

  ويتم تنسيق التعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حيث ينص الاتفاق المنشئ للمنظمة على أن تتعاون على النحو المطلوب مع صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين وهو ما يؤكد تكاتف هذه المنظمات الثلاث لدعم قواعد النظام الاقتصادي الذي تتبناه الدول الكبرى على حساب الدول النامية والعمل على تكريسه.

وقد أعرب المشاركون في مؤتمر مراكش عام 1994م عن رغبتهم في أن تقيم المنظمة علاقات تعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين بهدف قيام المؤسسات الثلاث بالتنسيق فيما بينهم لأغراض وضع السياسة العامة للاقتصاد العالمي.

وتؤسس منظمة التجارة العالمية لعالم جديد تسوده المنافسة الكاملة في ظل الحدود المفتوحة ،ومن ثم تحول العالم إلى سوق واحدة تكون المنافسة فيه بين قوي قد استجمع  كل عناصر الهيمنة وضعيف قد أحيط بكل عوامل الضعف والوهن وهذا هو النظام الاقتصادي الدولي الذي يجب أن يسود وفقا لمفاهيم الدول الكبرى.

إنها سيطرة الدول الكبرى في أوضح صورها حين يمتد نفوذها ليشمل كل أرجاء المعمورة، فإذا كانت الرأسمالية داخل مجتمعها تقضي على الضعيف بالانزواء ثم الموت لأنه لا مجال إلا للأفضل وهو الأقوى، أما الضعيف فلا مصير له إلا الموت، فماذا يمكن أن يكون حالها مع عالم غريب عنها تسعى منذ زمن طويل للسيطرة عليه والتحكم في كل أوضاعه وممتلكاته.(45)

إن كانت الملامح التي بدأت في الظهور توضح أن الغرب سيظل مركز العالم لقرون قادمة وستهمش باقي الأطراف، وأن اقتصاد السوق وتحرير التجارة لن يكون سوى أداة في يد الدول الصناعية الكبرى لتوجيه وإدارة العالم الجديد والحفاظ على قواعد النظام الاقتصادي الدولي السائدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وإنشاء هيئة الأمم المتحدة.

إن جولة أرجواى هي عمل من أعمال الدول الاستعمارية لا يختلف في قليل أو كثير عن أعمال أخرى سابقة مثل صندوق النقد والبنك الدوليين.

وتربط اتفاقيات الجات الجديدة القدرة على التفوق التجاري والمكاسب بالقدرة التنافسية لكل بلد وهي تتكون من عناصر مثل الكفاءة الإنتاجية وحسن استغلال الموارد المتاحة ودفع تطور التكنولوجيا لتطوير الإنتاج ووصول السلع إلى الأسواق بأسعار تنافسية، وهذا كله لن تستفيد منه دول العالم الثالث في شئ لأنها لا تستطيع المنافسة مع أولئك الذين أغلقوا الأسواق على أنفسهم دهرا طويلا وحققوا تقدما هائلا وفرضوا على الدول النامية تخلفا وضعفا وقواعد لنظام اقتصادي دولي هم من أرساها.(46)

فالحديث عن المنافسة الحرة أكذوبة كبرى ستعاني منها الدول النامية زمنا طويلا كما عانت في زمن الاستعمار والنهب قرونا، والآن يطالب الغنى الفقير بفتح أسواقه للمنافسة الحرة، وهذه المنافسة لا تكون إلا بين أنداد متساوين، والدول النامية لن تكون أبدا ندا لهذه الدول التي تضخمت وكبرت من ثروات العالم الثالث ووضعت قواعد حسب مقاسها لتفرضها على كافة أعضاء المجتمع الدولي من الدول النامية التي لم يكن لها أي يد في وضعها أو إقرارها.

وبالرغم من السلبيات الكثيرة لاتفاقيات الجات ومنظمة التجارة العالمية فإن التعامل معها أصبح هو السبيل الوحيد على الأقل في الوقت الراهن، لذلك فإن الدول الأعضاء لا بد أن تتبع السياسات والتدابير اللازمة للتكيف حتى لا تقع تحت طائلة مخالفة هذه الاتفاقيات.

وبالمقابل على منظمة التجارة العالمية أن تراعى الظروف الخاصة للدول النامية، وهكذا فإن مستقبل هذا المنظمة منوط بنوعين من التحديات تنظيمية تتعلق بالمنظمة ذاتها، والأخرى واقعية تتصل بواقع كل من المسائل محل التنظيم والدول ذاتها.(47)

وتواجه منظمة التجارة العالمية تحديات تنظيمية تتعلق بأساس العمل وإطاره، حيث أن المنظمة تعتبر امتدادا تنظيميا للإطار الذي كان قائما من قبل جات 1947 فاتفاقية مراكش نصت على أن تسترشد المنظمة بالقرارات والإجراءات والممارسات المعتادة التي تتبعها الأطراف المتعاقدة في اتفاقية جات 1947 وتصبح الأجهزة التي أنشئت في إطارها أجهزة للمنظمة ومديرها مدير المنظمة.

ونتيجة لأن جات 1947 كانت تقتصر على مجموعة اتفاقيات محدودة بقطاع تجارة السلع فقط، كذلك كانت تضم دولا محدودة عكس ما هو حادث الآن وترتيبا على ما تقدم فإن عليها أن تتعامل مع عدد كبير من أعضائها، وتراعي ظروف كل دولة وهو ما يتطلب عملا مكثفا.

أما من ناحية أساس العمل فلا بد من تحقيق تناسق وانسجام بين عمل الأجهزة الرئيسية والفرعية وغيرها حتى لا يحدث صدام بسبب كثرة المهام وتعددها وتشابكها، وأيضا التبسيط بشأن إطار حل المنازعات داخل المنظمة.

  كما تواجه المنظمة تحديات واقعية إذ لا بد ان تدرك هذه الأخيرة أنها تتعامل في إطار مسائل اقتصادية تتعارض فيها المصالح لكل دولة وتحاول كل دولة أن تحصل عل وضع يحفظ وينمي من قدراتها التنافسية في العلاقات الدولية التجارية.

ولذلك فإن أسلوب الجزاء نتيجة مخالفة الدول لالتزاماتها لن يجدي، بل لا بد من اللجوء للتفاوض بدلا من حدوث مواجهة وقطيعة بين الدول الأعضاء.(48)

وحتى تستطيع الدول الوفاء بالتزاماتها لها أن تطلب من المنظمة مد أجل الإعفاءات الخاصة أو العامة من حيث المدة أو النطاق، ولقد أثبت الواقع أن كثيرا من الإعفاءات أو الاستثناءات قابلة للاستمرار أو الامتداد مراعاة ونزولا على واقع الدول المختلفة ،بحيث أصبح هناك ما يسمى بالتحلل المشروع من الالتزامات الدولية.

وبمقتضى هذا التحلل تمنح الدول إمكانية عدم تطبيق النصوص الدولية سواء بالنسبة لبعضها أو معظمها أو حتى في مجملها بصورة دائمة أو لفترة مؤقتة بالنظر لوجود حالات أو مبررات مشروعة تسمح بإتيان هذا السلوك وبالرغم من صعوبة ذلك فهو ممكن.

  ونهاية نستطيع أن نجمل الجوانب السلبية التي ستترتب على قيام منظمة التجارة العالمية وبخاصة للدول النامية في:

–   إن اتفاقات الجات ومنظمة التجارة العالمية حتى جولة أورجواي لم تكن شاملة لكل جوانب التبادل التجاري الدولي، فهي لم تشمل النفط والغاز وصناعتهما، والبتر وكيماويات، والأيدي العاملة.

–   يتوقع أن ينمو الناتج الإجمالي العالمي بفعل الاتفاقات، وان يكون النصيب المطلق منها لصالح الدول المتقدمة أي 86% والباقي للدول النامية.

–       هناك خسائر قد تتكبدها الدول النامية سنويا بفعل اتفاقات الجات-يقدرها بعض المتخصصين بـ100 مليار دولار.

–   إن الدول العربية غير مستفيدة من اتفاقات الجات لأن إسهامها في التجارة الدولية لا يتعدى 3.7% من إجمالي الصادرات العالمية و3.2% من إجمالي الواردات، 1.6% حصتها من الناتج الإجمالي العالمي، كما أن التجارة العربية الرئيسية وهي تجارة النفط والبتر وكيماويات غير مشمولة باتفاقيات الجات.

–   نتيجة تقليص الدعم عن المنتجات الزراعية فإنه يتوقع زيادة الأسعار للواردات الزراعية ويقدر المختصون بأن الدول العربية وحدها ستتكبد زيادة سنوية حوالي 887 مليون دولار.(49)

–   اتفاقيات المنسوجات سوف تلحق بالفعل تأثيرا محسوسا في صناعة وتجارة الأقمشة والمنسوجات للدول النامية ومنها الدول العربية التي تمتعت بمزايا أفضل في اتفاقات الألياف المتعددة الملغاة.

–       يتوقع في قطاع الخدمات ألا يحقق نتائج طيبة في الدول النامية، لأنه يعاني عجزا شديدا وتخلفا كبيرا عكس الدول المتقدمة.

–   في تجارة الملكية الفكرية فإن فوائد الدول العربية تبدو محدودة من الناحية التجارية ويؤثر تحرير الثقافة بشدة على الثقافة الوطنية العربية في ظروف الغياب الثقافي القومي.

–   عن تحرير تجارة المنتجات الصناعية والزراعية سيلحق أضرار فادحة بالصناعات الوطنية بسبب عدم قدرتها على الصمود أمام منافسة الصناعات في الدول المتقدمة.

–       تستغل الدول المتقدمة أسواق الدول النامية لصالحها، بينما تغلق أبوابها في وجه العمالة المكدسة من الدول النامية.

وإزاء هذه السلبيات لاتفاقات الجات ومنظمة التجارة العالمية، فإن الدول النامية وغيرها مطالبة بالآتي:

–   محاولة مد نطاق الإعفاءات المقررة سواء بالنسبة للمدة أو للقطاعات، وذلك يتطلب من الدول المتقدمة أن تراعي المشاكل المزمنة للدول النامية وهي تطبق هذه الاتفاقيات.

–       مطالبة الدول النامية للدول المتقدمة بسريان حرية التجارة على كل من العمالة والبترول والصناعات البتروكيماوية، لكون هذه القطاعات تمثل قدرة تنافسية كبيرة للدول النامية.(50)

–   ينبغي على الدول النامية في عصر التكتلات التجارية الانضواء تحت نطاق أحد صور التكامل الإقليمي منطقة تجارة حرة ،أو اتحاد جمركي الأمر الذي يكفل للدول النامية القدرة على المنافسة مع الدول المتقدمة والإعفاء من تطبيق نصوص اتفاقيات منظمة التجارة العالمية على العلاقات فيما بينها طبقا للمادة 24 من الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة.

إن فشل مؤتمر سياتل المنعقد في ديسمبر1999 سببه إهدار توازن المصالح بين الدول الغنية والدول النامية اقتصاديا واجتماعيا وزراعيا وصناعيا وتهميش الدول النامية الذي بدا واضحا في المؤتمر، هذه الأخيرة التي تمردت ودافعت عن مصالحها ضد الدول الكبرى ووجدت أن التكتل الفعال والتنسيق المسبق وتطوير آليات دفاعها عن مصالحها الاقتصادية والتجارية هو الطريقة المؤثرة في مواجهة العولمة، ولعل أهم نتائج هذا المؤتمر هو ما أعلنه الأمين العام للمنظمة مايكل مور أن عليها أن تبحث عن حلول لتحسين أسلوب صنع القرارات بها، وأنها تدرس حلولا مناسبة تقوم على الشفافية وعلى مبدأ التوفيق بين مصالح أعضائها البالغ عددهم 135.خاصة وان الدول النامية شعرت أنها خدعت من الدول المتقدمة حيث لم تلتزم هذه الأخيرة بفتح أسواقها لمنتجات الدول النامية ،بينما التزمت هذه الأخيرة بما وقعته في جولة أورغواي 1994 مما أدى إلى تدهور اقتصادياتها.

الخاتمة:

يشكل التنظيم السابق جوهر الإطار القانوني للعلاقات الاقتصادية الدولية المعاصرة . فصندوق النقد الدولي يستهدف من بين أمور عدة تحقيق ثبات أسعار الصرف على نحو يعكس مدى القدرة التنافسية لكل دولة في مجال التجارة الدولية ( المادة 4 من الاتفاقية المنشئة للصندوق ) والعمل على إزالة القيود على المدفوعات الجارية بين الدول الأعضاء ( المادة 8) وتقديم التسهيلات المالية للمساعدة في تصحيح الاختلال الطارئ في موازين مدفوعات الدول الأعضاء ( المادة 5) مع الاعتراف بسلطة الدولة في فرض قيود على حرية تحويل رؤوس الأموال إلى الخارج ( المادة 7) وبحق كل دولة في إتباع السياسة النقدية الداخلية التي تشاء وصولا إلى الأهداف الاقتصادية المتفق عليها في تحقيق الاستخدام الكامل والتنمية الاقتصادية وثبات الأسعار ( المادة الأولى ) ولا شك في أن تقيد الدول الأعضاء بالالتزامات الواردة المنشئة لصندوق النقد الدولي يكفل تنظيم التعاون الدولي في مجال السياسة النقدية الدولية .

أما البنك الدولي للإنشاء والتعمير فهو يستهدف بصفة أساسية تدعيم الحركة الدولية لانتقال رؤوس الأموال الخاصة، وتقديم القروض طويلة الأجل للدول الأعضاء لمساعدتها على إعادة تعمير اقتصادياتها التي خربتها الحرب، أو تطوير اقتصادياتها المتخلفة وتكتسب هذه المؤسسة أهمية خاصة في ضوء الأبعاد الحالية لمشكلة التخلف الاقتصادي.

أما منظمة الجات والتي خلفتها فيما بعد منظمة التجارة العالمية فهي تقوم بوضع القواعد العامة والإجراءات اللازمة لتحرير التجارة الدولية على أساس عدم التمييز بين الدول الأعضاء وذلك من خلال العمل على تخفيض التعريفات الجمركية وعلى إزالة كافة العوائق التي تحول دون انسياب التجارة الدولية.(51)

ومن الواضح أن النظام الاقتصادي الدولي الذي وضعت أسسه في أعقاب الحرب العالمية الثانية قد حقق نموا اقتصاديا عالميا بمعدلات كبيرة، وأدى إلى التوصل إلى مستويات إنتاج كان من المستحيل التفكير فيها قبل الحرب وإلى أنواع من المعرفة التكنولوجية التي أدهشت العالم، ولكن من الواضح كذلك أن هذا النظام قد أدى – في الوقت ذاته – إلى تزايد الهوة التي تفصل بين العالم المتقدم والعالم النامي، وهو الأمر الذي يبرر القول بان  النظام الاقتصادي الدولي – ورغم انتسابه إلى العالمية – يعبر عن المصالح الخاصة لحفنة قليلة من الدول تتمثل في الدول الرأسمالية الغربية التي تحتكر السوق العالمية وتخضعه للقواعد الفنية والقانونية التي تضعها لتحقيق مصالحها الذاتية وضمان استمرار تفوقها.

ونتيجة لذلك فقد استمرت الغلبة – في ميدان العلاقات الاقتصادية الدولية – لمبدأ الاقتصاد الحر الذي كان سائدا خلال القرن التاسع عشر وقت أن كانت الدول الرأسمالية الغربية تكون – وحدها – الجماعة الدولية. وكما سبق وان أشرنا، فإن مبدأ الاقتصاد الحر يفترض إطلاق حرية انتقال العمال ورؤوس الأموال وإزالة مختلف أنواع القيود التي تضعها الدول على تجارتها الخارجية كحرية المعاملات الاقتصادية الدولية على أساس مبدأ عدم التمييز ومبدأ التكافؤ مراعاة لمبدأ المساواة في السيادة بين الدول مع ملاحظة أن حرية المعاملات الاقتصادية الدولية تتحقق عملا عن طريق الأخذ بشرط الدولة الأولى بالرعاية(52) .

من المؤكد أن هذا التنظيم القانوني للعلاقات الاقتصادية الدولية – الذي يتسم بالشكلية – لا يراعي حقائق الحياة الدولية.

إذ إن معدلات التبادل التجاري الدولي تسير في اتجاه يخدم مصالح الدول الغربية الصناعية ويضر بمصالح الدول النامية ولم يكن في وسع هذه الدول أن تثور على هذه الأوضاع المجحفة بمصالحها وقت ان كانت مجرد مستعمرات تابعة للإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، كذلك، فإن حصول العديد من دول العالم الثالث على استقلالها السياسي لم يكن من شانه تغيير الأوضاع السابقة نتيجة لاستمرار ارتباط اقتصاديات العديد من هذه الدول بالمجتمع الغربي الرأسمالي.

ولاشك في أن إدراك دول العالم الثالث المظالم الواقعة عليها في المعاملات الاقتصادية الدولية واقتناعها بأن قواعد النظام الاقتصادي الدولي المعاصر تعتبر عقبة أمام نموها الاقتصادي قد جعلها تثور على هذا النظام الذي أدى إلى قيام الأوضاع المذكورة، وتطالب بإقامة ” نظام اقتصادي دولي جديد ” أكثر عدالة ويكفل في ذات الوقت تضييق الفجوة التي تفصل بين الدول الصناعية المتقدمة والعالم النامي .

  والواقع أن المطالبة بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد هي نتيجة لنشاط حركة تصفية الاستعمار في الستينات، والتي أدت إلى ظهور عدد كبير من الدول الجديدة تعاني من مشكلة الفقر والتخلف، التي كان لها ابلغ الأثر على العلاقات الاقتصادية الدولية.(53)  هذا وتجدر الإشارة– في هذا الصدد –إلى أن مصطلح ” النظام الاقتصادي الدولي الجديد ” قد استخدم لأول مرة في عام 1962 في وثيقتين تقدمت بهما مجموعة من الدول الأفريقية والأسيوية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة مناقشة ” مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول”.(54)

كما أن المطالبة بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد لا تقتصر على المجال الاقتصادي وإنما تستهدف في الحقيقة خلق إطار يكفل للدول النامية حسن الدفاع عن مصالحها السياسية والاقتصادية معا، وتقوية مركزها في العلاقات الدولية عموما وتأكيدا لذلك فقد صدر عن اليونسكو الإعلان الخاص بإقامة نظام إعلامي عالمي جديد.

والواقع أن القانون الدولي العام يعترف بحق كل دولة في اختيار النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي تراه كفيلا بتحقيق تنميتها وذلك طالما تستطيع الدولة الوصول إلى هذه الغاية بالاعتماد على مواردها الذاتية ودون المساس بحقوق الدول الأخرى. ولكن نظرا لضعف التمويل الداخلي في الدول الفقيرة فإن هذه الأخيرة تسعى جاهدة لإقرار حق موضوعي  لها في الحصول على مساعدات اقتصادية في صورة مساعدات مالية مباشرة أو في صورة معاملة  تفضيلية تعوضها عن ظروفها الاقتصادية السيئة.

وفي الأخير يمكننا أن نؤكد انه ورغم الجهود الجبارة التي بذلتها الدول  النامية لإرساء قواعد لنظام اقتصادي دولي في إطار هيئة الأمم المتحدة باعتبارها الجهة ذات المصداقية الأكبر من بين جميع المنظمات الدولية العاملة إلا أن هذه الأجهزة الأربعة التي تحدثنا عنها هي التي ترسي النظام الاقتصادي الحقيقي على ارض الواقع وتتحكم في دواليبه وليست منظمة الأمم المتحدة، التي يتوجب عليها- انطلاقا من اعتبارها المنظمة الدولية الأولى التي لها الشرعية والصفة -إرساء قواعد عادلة تمكنها من تكييف هذه الأجهزة وفقا لضرورات إرساء نظام اقتصادي دولي عادل، وسن قوانين تؤكد على قواعد بديلة عادلة لمواجهة تحكم الدول الكبرى بواسطة هذه المنظمات في آليات وقواعد النظام الاقتصادي الدولي التقليدي.

 الهوامش:

([1] حازم الببلاوي – النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة ،العدد 257، القاهرة سنة 2000 . ص. 97.

(2)  عبد المطلب عبد الحميد، الجات واليات المنظمة التجارية العالمية (من أورغواي لسياتل وحتى الدوحة)،دار الجامعة، الإسكندرية 2005، ص 38.

(3)  سعد حقي توفيق، النظام الدولي الجديد، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن 1999. ص. 33.

(4)  Roberto lavalla, la banque mondiale et ses filiales -Aspects juridiques et fonctionnement- L.G.D.J, Paris 1972. P. 05.

(5) حسين عمر، المنظمات الدولية -هيئات و وكالات منظمة الأمم المتحدة و منظمات التجارة والتعاون الاقتصادي – دار الفكر العربي، القاهرة، 1993.

(6 عبد المعز عبد الغفار نجم، الجوانب القانونية لنشاط البنك الدولي للإنشاء والتعمير، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1976. ص. 23.

(7)  عبد المعز عبد الغفار نجم، المرجع السابق، ص. 24.

(8)  عبد المعز عبد الغفار نجم، المرجع السابق، ص. 27.

(9)  عبد المعز عبد الغفار نجم، المرجع السابق، ص. 30.

 (10 Roberto lavalla, Op. Cit, P. 51.

 (11 Roberto lavalla, Op. Cit, P. 53.

(12 Roberto lavalla, Op. Cit, P. 55.

(13 عبد المعز عبد الغفار نجم، مرجع سابق، ص. 63.

(14 عبد المعز عبد الغفار نجم، مرجع سابق، ص. 63.

(15)  D. Carreau, le Fonds monétaire international, Armand Colin, Paris, 1970. P. 17.

(16)  D. Carreau, Op. cit, 20.

(17 D. Carreau, Op. Cit, 21.

(18) إبراهيم بن عيسى العلي العيسى، صندوق النقد الدولي، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه ، كلية الحقوق، القاهرة 1987. ص. 13.

(19 إبراهيم بن عيسى العلي العيسى، مرجع سابق. ص. 15.

(20 إبراهيم بن عيسى العلي العيسى، مرجع سابق، ص. 22.

(21)  D. Carreau, Op. Cit, P.37.

(22)  K.DANN, le système  monétaire international, Paris, P.U.F, 1985, p. 433.

(23)  K.DANN, Op. Cit, P .437.

(24)  K.DANN, Op. Cit, P.438.

(25)  A. Altshuler, the international monetary law, progress public. London, 1988, p.236.

(26)  A. Altshuler, Op. Cit. P. 240.

(27)  A. Altshuler, Op. Cit. P. 241.

(28)  A. Altshuler, Op. Cit. P. 243.

(29محمد عبد الشفيع، النظام الاقتصادي العالمي في مرحلة انتقال، بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي السنوي التاسع عشر للاقتصاديين المصريين – الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء و التشريع،القاهرة 1995 .

(30 محمد عبد الشفيع ، مرجع سابق.

(31)  K.DANN, Op. Cit, P. 442.

(32)  K.DANN, Op. Cit.

(33 A. Altshuler, Op. Cit.

(34 مصطفى سلامة حسين ، قواعد الجات- الاتفاق العام للتعريفات الجمركية و التجارية- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر و التوزيع، بيروت 1998، ص. 24.

(35 مصطفى سلامة حسين ، مرجع سابق، ص. 25.

(36 سامي عفيفي حاتم – الاتفاق العام للتعريفات التجارية- الجات (الأسس و المبادئ)-مركز بحوث ودراسات التجارة الخارجية، القاهرة 1994 .

(37صفوت عبد السلام، تحرير تجارة الخدمات في ظل اتفاقية الجات وانعكاساتها على اقتصاديات الدول النامية، منشور بمجلة كلية الحقوق، جامعة عين شمس للعلوم القانونية والاقتصادية، السنة 40، العدد الأول ،جانفي 1998. ص . 51.

(38علي عبد العزيز سليمان، اتفاقية الجات، المكاسب و المخاوف السياسية الدولية، عدد 116، القاهرة أفريل 1994.

(39 خالد سعد زغلول حلمي، الجات و الطريق إلى منظمة التجارة العالمية و أثرها على اقتصادات الدول العربية، مجلة الحقوق جامعة الكويت،جوان 1996. ص. 81.

(40الجات و أخواتها، النظام الجديد للتجارة العالمية ومستقبل التنمية العربية ،مركز دراسات الوحدة الاقتصادية العربية،بيروت 1995.

(41 ماجدة شاهين، منظمة التجارة العالمية و مستقبل الدول النامية، ملحق الأهرام الاقتصادي، القاهرة، 1996.

(42 أحمد أبو الوفا ، المنظمة العالمية للتجارة كمنظمة دولية، مجلة كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 1996 ص 525 – 570 .

(43) المصطفى ولد سيدي محمد، تأثير منظمة التجارة العالمية على الإقتصاد العالمي، 16/12/2007،www.algazeera.net

(44 المصطفى ولد سيدي محمد، مرجع سابق.

(45 ابراهيم غرايبة ، العولمة والنمو والفقر-بناء إقتصاد عالمي شامل، 16/12/2007، www.algazeera.net

(46 ناصح المرزوقي البقمي، العولمة الإقتصادية، 16/12/2007، www.IslamEcon.com

(47 عبد الحفيظ الصاوي، العولمة الإقتصادية – أبدية ام ظرفية، 16/12/2007 ، www.Islamonline.net

(48 سعيد سالم جويلي، المنظمات الدولية المتخصصة، (الوكالات الدولية المتخصصة للأمم المتحدة، منظمة التجارة العالمية)، شركة ناس للطباعة، القاهرة 1997.

(49 سعيد سالم جويلي، مرجع سابق .

(50 سعيد سالم جويلي، مرجع سابق.

(51)  Bruno Oppetit, Droit du commerce international. P.U.F.Themis – 1979.

(52 Milan Sahovic, Influence des états nouveaux sur  la conception du D.I. AFDI .1966. P. 22.

(53 Claude Albert colliard, institutions des relations internationales, DALOZ -1978. P. 51.

(54)David Wight nan, l’intérêt du développement du tiers monde pour l’économie des pays industriels, Document d’information No 5 du centre de l’information économique et sociale de L’ONU. P. 17.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى