دراسات جيوسياسية

أهم أفكار كتاب أسس الجيوبولتيكا .. مستقبل روسيا الجيوبولتيكي لألكسندر دوغين

أسس الجيوبولتيكا

تحميل الكتاب – نسخة pdf

تأليف: ألكسندر دوغين

فهرس الكتاب
الدول ككائنات حية
التنظيم السياسي للتربة
قانون التوسع
الدول كصيغة للحياة
نحو نظرية أوروبا الوسطى
العالم والسياسي
المحور الجغرافي للتاريخ
سلم تقدير القوة
الحرب والكر
الأرض والبحر

الحرب الشمولية وشخصية الفدائي

يذهب كثير من الباحثين إلى أن علم الجيوبوليتك من العلوم القديمة، حيث نستطيع أن نجد بعض ملامح التفكير الجيوبوليتكي في آراء أرسطو في السياسة ووظائف الدولة وطبيعة الحدود وتناسب قوة الدولة مع عدد سكانها وتوزيع الثروات فيها.

وينسب البعض آراء ابن خلدون في مراحل عمر الدولة إلى مفهوم الدولة العضوية كما تتطور في الدراسات الجيوبوليتكية، ويرى كثير من الباحثين أن المفكر الفرنسي مونتسكيو هو من وضع الإشكالية الأساسية لهذا العلم عندما ربط مجمل السلوك السياسي للدولة بالعوامل الطبيعية وعلى رأسها المناخ والطبوغرافيا مع التقليل من مكانة العوامل السكانية والاقتصادية.

لكن الانطلاقة الحقيقية لهذا العلم بمنهجياته ومحدداته الأساسية تعود إلى الألماني فردريك راتزل (1844-1904) الذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف في الجيوبوليتكا يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897م.

وقد شهد القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تطوراً كبيراً لهذا العلم سواء على المستوى النظري، أو على مستوى تأثيره في صياغة التوجهات الإستراتيجية الكبرى للدول، وقد لا يكون من المتيسر على الباحثين في التاريخ الحديث فهم الرؤى الإستراتيجية التي وجهت المواقف والتحولات الكبرى في الحرب العالمية الثانية بدون العودة إلى مقولات الجيوبوليتكا، خاصة بالنسبة لدولة كألمانيا في العهد النازي حيث تحولت مقولات الجيوبوليتكا الألمانية إلى مقولات مقدسة يتحدد تبعاً لها الموقف من الحرب والسلام.

ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا، صار ينظر إلى الجيوبوليتك على أنه مثال للتوظيف الخاطئ للجغرافيا في السياسة، وبلغ هذا الإشكال مبلغاً كبيراً عندما أخذ ينظر إليه باعتباره علم زائف وحامل لأيديولوجيا عدائية؛ فقامت معظم الدول بمنع تدريس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في جامعاتها؛ باعتبارهما علمين مشبوهين يسعيان إلى بذر العداء ويكرسان الأطماع القومية.

واستمر الحال على هذا المنوال حتى تسعينات القرن الماضي عندما لاحت مؤشرات الانهيار الكبير للدولة “السوبرعملاقة” الاتحاد السوفيتي، لنعود ونشهد الولادة الجديدة لمقولات الجيوبوليتك، ذلك أن انهيار كل المحددات الأيديولوجية والسياسية التي قام على أساسها النظام العالمي ثنائي القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، دفع الباحثين في محاولاتهم تلمس شكل النظام الجديد المرتقب إلى أكثر العوامل ثباتاً وديمومةً في صنع الكتل السياسية الكبرى، ألا وهي الجغرافيا؛ فعادت إلى الظهور مقولات الجيوبوليتكا وظهرت في المكتبات مؤلفات كلاسيكية ودراسات حديثة تسعى لقراءة التحولات الكونية الكبرى من منظور جيوبوليتكي وانفرط عقد التابو -غير المعلن- الذي فرض حول هذا العلم.

وقد كانت دراسات الروسي ألكسندر دوغين، والتي ُترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية، من أبرز الدراسات العالمية في هذا المجال، حيث أسهمت في إعادة تقديم النظريات الكلاسيكية لمؤسسي هذا العلم وفي إثارة جدل كبير في روسيا حول الدور السياسي العالمي المنوط بروسيا سواء رغب الساسة الحديثين في ذلك أم لم يرغبوا؛ فحقائق الجغرافيا تفرض على روسيا مصيراً سياسياً يتناسب وعمق المدى الروسي وطبيعة الامتداد على مساحة شاسعة من قارتين هما آسيا وأوروبا.

و”ألكسندر دوغين” فيلسوف ومفكر روسي يقدم نفسه على أنه فيلسوف التقليد (Traditionalism) ، وله مؤلفات عديدة صدرت متتالية في عقد التسعينات، منها: (دروب المطلق) وهو مؤلف يهدف إلى تقديم تصور عن المنطلقات الميتافيزيقية للرؤية التقليدية للعالم. وله كذلك (فلسفة التقليد) والذي يحاول أن يقدم من خلاله ما يراه أسساً فكرية واجتماعية وسياسية للفلسفة التقليدية، وله كتاب طريف في موضوعه غني وجدلي في محتواه بعنوان (نظرية المؤامرة – Conspiralogy) يستعرض فيه ويناقش أكثر نماذج المؤامرة شهرة ورواجاً في المعتقدات المختلفة عند الشعوب وفي النظريات الحديثة عن المؤامرة الكونية. وله كتاب يعنى بدراسة فلسفة السياسة وتطور الأسس الفكرية للعلوم والرؤية الأوراسية، هذا بالطبع إضافة إلى الكتاب الذي بين يدينا “أسس الجيوبوليتكا”.

وقد عمل المؤلف مستشاراً للبرلمان الروسي خلال سنوات 1998-2003 وهو اليوم رئيس خبراء الجيوبوليتكا التابع للمجلس الإستشاري المتخصص بشؤون الأمن القومي التابع لرئاسة مجلس النواب الروسي “الدوما”.

جدلية الصراع الكوني: قوى البر وقوى البحر

والكتاب الذي بين أيدينا مكون من ثمانية أبواب مسبوقة بمقدمة تمثل مدخلا ضروريا إلى هذا الموضوع الذي لا يعرفه الكثيرون، ويضم الكتاب بين دفتيه العديد من الخرائط التوضيحية، وينتهي بمسرد لشرح أهم المفاهيم والمصطلحات في الجيوبوليتكا.

في البداية يعرف دوغين الجيوبوليتكا بقوله: الجيوبوليتكا هي رؤية للعالم، ومن هذه الزاوية لا يمكن مقارنتها بعلم آخر بل بمنظومة من العلوم؛ فالرؤية الجيوبوليتكية ذات طابع تركيبي تتضمن الجغرافيا والتاريخ وعلم السكان والعلوم العسكرية والإستراتيجية والأديان والبيئة وكل ما له صلة بحياة الدولة.

وكما يعتقد دوغين فهي رؤية شمولية تقع على مستوى واحد مع الماركسية أو الليبرالية من حيث الشكل وإن اختلفت في المحتوى، فهي من تلك النظم التي تفسر المجتمع والتاريخ؛ فإذا كانت الماركسية أو الليبرالية تنطلق من مقولة “الاقتصاد مصيراً” فإن الجيوبوليتكا تنطلق من مقولة “التضريس الجغرافي مصيراً”؛ فالجغرافيا والمدى المكاني يلعبان في الجيوبوليتكا الدور الذي يلعبه المال وعلاقات الإنتاج في الماركسية والليبرالية، لكن الجيوبوليتكا مع ذلك ليست أيديولوجيا لأنها ليست جماهيرية وتحافظ دوماً على نخبويتها.

والجيوبوليتكا هي وجهة نظر السلطة وهي علم السلطة ومن أجل السلطة، فقوانينها تتكشف للإنسان بمقدار اقترابه من قمة الهرم الاجتماعي والسياسي؛ فهي علم الفئات السياسية العليا (الفاعلة منها أو البديلة). ويكشف تاريخ الجيوبوليتكا أن من شُغلوا بأمورها كانوا دوماً وبدون استثناء هم أولئك الذين شاركوا في حكم الدول والأمم أو ممن يعدون أنفسهم لذلك.

وهذا ما يفسر أن النظريات الجيوبوليتكية تصدر أساساً عن الكتل السياسية الكبرى كبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، أما باقي الرؤى الجيبوليتكية التي تعود إلى ممثلي دول أقل حجماً ووزناً فتبقى هامشية وضعيفة التأثير عموماً. ويخلص دوغين من وراء ذلك كله إلى القول أن الجيوبوليتكا هي علم الحُكم.

تضم المقدمة كذلك تعريفات للمفردات الجيبولوتيكية المتداولة والتي من أهمها ثنائية (التيلوروكراتيا) و(التالاسوكراتيا)، فالقانون الأساسي في الجيوبوليتكا ينطلق من إقرار هذه الثنائية المتعاكسة في التكوين الجغرافي للأرض، والذي ينتج النموذجين الحضاريين الأوليين والمتناقضين في التاريخ البشري.

والتيلوروكراتيا هي حكم البر أو نموذج القوة البرية القارية والحضارة القارية، أما التالاسوكراتيا فهي حكم البحر أو القوة البحرية أو الحضارة البحرية. وعبر التاريخ تمثل نموذج الحضارة البحرية قرطاج وأثينا، وهي حضارة التجارة والتبادل التجاري حيث تسود قيم الكسب والتبادل والمنفعة المادية المباشرة؛ في حين تمثل روما واسبرطة نموذج الحضارة القارية ذات الهيبة العسكرية التي تسود فيها قيم ذات طابع عقدي.

وترتبط “التيلوروكراتيا” أو القوة البرية بثبوت المكان ورسوخ توجهاته وخصائصه النوعية، ويتجسد ذلك على المستوى الحضاري بالاستقرار والروح المحافظة والمعايير الحقوقية الصارمة، وتتحدد فيه بوضوح التجمعات والكتل البشرية: كالأسر والقبائل والشعوب والدول والإمبراطوريات، فرسوخ اليابسة يتجسد ثقافياً في رسوخ الأخلاق وثبوت التقاليد الاجتماعية، كما أن الفردية والمبادرة الحرة غريبة عن ثقافة الشعوب البرية التي تعلو فيها الروح الجماعية وترابية النظام الاجتماعي.

أما “التالاسوكراتيا” أو القوة البحرية فتمثل نمطاً حضارياً بعيداً عن الاستقرار وديناميكي يرغب في الحركة والتغير، ويميل إلى التطور التقني، يحب المغامرة ويشجع الروح الفردية؛ فالفرد الأكثر حركية في المجموع يكتسب أسمى قيمة، فيما تتراجع المعايير الخلقية والحقوقية إلى المرتبة الثانية لتصبح نسبية متغيرة، ويعبر هذا النمط الحضاري عن حيوية في تطوره وتبدله، إذ يسهل عليه تغيير معايره الثقافية والقيمية.

إن هذه الثنائية تكتسب منذ البداية وحتى النهاية صفة التناقض والعداء، ويمكن لتاريخ المجتمعات البشرية أو التاريخ الحضاري للبشرية أن يدرس من زاوية هذا التناقض بين عنصري الطبيعة العفويين “المائية السائلة” و”الأرضية الصلبة”. وفي هذا الصراع غالباً ما تكون الغلبة للتيلوروكراتيا؛ فعنصر الأرض (اليابسة) يمتد عميقاً في منظومة الحضارات بمجموعها، في حين يمثل عنصر الماء (حضارة البحر، المحيط) حالة جزئية وعرضية.

ويرى المؤلف أن هذا الصراع الحضاري الشامل لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا، فقد مثّل الاتحاد السوفيتي القوة القارية التي وقفت في مواجهة القوة البحرية التي حمل اسمها بعداً جيوبوليتكياً رمزياً عميقاً – حلف الأطلسي. وعلى الرغم من هزيمة وتفكك الاتحاد السوفيتي؛ فإن دوغين يرى أن هذا الصراع ممتد إلى اليوم من خلال الصراع بين قيم الليبرالية الديمقراطية وقيم السوق والاستهلاك مع ما يسميه “الأيديوقراطية” أو ما يمكن ترجمته بهيمنة العقيدة أو حكم المعتقد.

وإذا كان منهج البحث الجيوبوليتكي بأكمله يعتمد على تطبيق مبدأ الثنائية الجيوبوليتكية الكونية (اليابسة و البحر)؛ فإن اللوحة الجيبوليتكية العالمية لا تكتمل بدون التعرف على مفهوم ال Rim land أي أرض الحافة أو الإطار أو مناطق الحدود، وهي المناطق التي لا تدخل في صلب اليابسة ولا في صلب البحر، إنها نوع من الحياد الجيوبوليتكي الذي يتمازج فيه عنصرا الماء واليابسة، وهو لا يكتسب أي صفة ذاتية إنما هو تبع للنموذج الجيوبوليتكي المهيمن. إن هذه التبعية لا تقلل من أهمية هذه المناطق؛ فهذه المناطق هي المناطق المعقدة والزاخرة بالحضارة فإذا ما كانت روما قديماً، وألمانيا وروسيا (أوراسيا) حديثاً يمثلان نموذج الكتلة القارية الصلبة، وكانت قرطاجه قديماً وبريطانيا ومن بعدها الولايات المتحدة حديثاً تمثل نموذج الكتلة البحرية، فإن الهلال الجغرافي الممتد من الشرق الأقصى مروراً بضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية ووصولاً إلى الشواطئ الغربية لإسبانيا و البرتغال يمثل ال Rimland الذي عرف أكثر الحضارات غناً وتنوعاً في التاريخ.

وكما اشرنا فليس أمام الRimland أن تستقل بمصيرها الجيوبوليتكي؛ فخياراتها محدودة بين التالاسكراتيا والتيلوروكراتيا، لكنها مع ذلك ليست وسط انتقالي بين نبضين، إنما هي واقع بالغ التعقيد يتسم بمنطقه الخاص والمستقل، والذي يؤثر بحجم كبير على التالاسكراتيا والتيلوروكراتيا ويثير في نفس الوقت صراعاً بينهما للاستحواذ على الRimland لكنه لا يستقل بمصيره بين خيارين جيوبوليتكيين كونيين لا ثالث لهما- التالاسكراتيا أو التيلوروكراتيا.

المؤسسون الأوائل

في الباب الأول والثاني من الكتاب يتوقف المؤلف أمام جهود العلماء المؤسسين لهذا العلم والنظريات التي أرست دعائمه وحددت مقولاته الأساسية، في مقدمة هؤلاء المؤسسين تأتي المدرسة العضوية الألمانية وفريدرك راتزل ( 184-1904) صاحب القوانين السبعة الأشهر في توسع الدول، وينطلق راتزل من النظرة إلى الدولة على أساس أنها كائن عضوي حي يولد وينمو ويموت، وبذلك فإن توسع الدولة وتقلصها المكاني هما عمليتان طبيعيتان مرتبطتان بدورة حياتها الداخلية.

في كتابه الأهم “الجغرافيا السياسية” يبين راتزل أن التربة هي المعطى المؤسس الوطيد الذي تدور حوله مصالح الشعوب. وحركة التاريخ محددة مسبقاً بالتربة والأرض. وتلي ذلك نتيجة مفادها أن الدولة هي كائن حي متجذر في التربة ويتكون من السطح الأرضي ومن البعد المساحي ومن وعي الشعب لهذين العنصرين، وبذلك يتمازج في مفهوم الدولة المعطى الجغرافي الموضوعي والوعي الذاتي القومي لهذا المعطى والذي يتم التعبير عنه في السياسة
وفي كتابه “حول قوانين تطور الدولة ” (1901) حدد راتزل سبعة قوانين للتوسع هي:

الحدود هي جهاز متوضع على أطراف الدولة التي هي جهاز حي.

كذلك فإن السير هلفرد مكندر (1861-1947) يحتل مكانة مرموقة بين كلاسيكي الجيوبوليتكا، وهو صاحب المقام الأرفع في عالم السياسة البريطانية، والذي ترك أثره الأكبر في توجهاتها على صعيد السياسة الدولية وفي رؤيتها الإستراتيجية العالمية، وهو صاحب المخطط الجريء والأكثر ثورية بين مخططات التأويل السياسي لتاريخ العالم. وقد كان أول أعمال مكندر وأهمها تقريره حول “المحور الجغرافي للتاريخ” والذي نشرة عام 1904 في “المجلة الجغرافية” وفيه عرض المؤلف أساس رؤيته للتاريخ والجغرافيا.

ويؤكد مكندر على أن الوضع الجيوبوليتكي المفضل لكل دولة هو الوضع المتوسط المركزي، والمركزية مفهوم نسبي ويمكنها أن تتبدل مع كل سياق جغرافي محدد. إلا أن القارة الأوراسية (وتشمل بشكل أساسي روسيا وأجزاء من أوروبا الشرقية) من وجهة نظر كونية تقع في مركز العالم، ويقع في مركز الأوراسيا ما يسميه مكندر قلب العالم “Heart Land”.

والـ Heart Land يمثل المنطقة الأكثر أهمية إستراتيجية في الجزيرة العالمية (World Island) التي تضم أسيا وأفريقيا وأوروبا، وعلى هذا يقوم مكندر بتقسيم خريطة العالم عبر نظام الدوائر المتحدة المركز، وفي الوسط منها يقوم المحور الجغرافي للتاريخ أو المنطقة المحورية (Pivot area) وهذا المفهوم الجيوبوليتكي متطابق جغرافياً مع حدود روسيا.

يجيء بعد ذلك الهلال الداخلي أو الحدي (Inner or Marginal Crescent) وهو الطوق المتطابق مع مجالات الحافة في القارة الأوراسية والهلال الداخلي (يشمل بشكل أساسي جنوب الصين والهند وصولاً إلى المنطقة العربية في شرق المتوسط وشمال أفريقيا إضافة إلى اليونان وإيطاليا وجنوب فرنسا واسبانيا) ويمثل وفقاً لنظرية مكندر منطقة الفعالية الحضارية الأكثر حضوراً في التاريخ، وتنبغي الإشارة إلى أن هذه النظرية تمثل لحظة جوهرية في جميع النظم الجيوبوليتكية؛ فالتقاطع بين المدارات المائية والبرية يمثل عاملاً أساسياً في تاريخ الشعوب والدول.

يلي ذلك إلى الجنوب الدائرة الأبعد نحو الخارج ويسميها بالهلال الخارجي أو الجزيري، وهي منطقة خارجية بصفة كلية من الناحيتين الجغرافية والثقافية بالنسبة للكتلة القارية للجزيرة العالمية.

يصل مكندر في نهاية عرضه إلى رؤيته لمسيرة التاريخ من منظور جغرافي؛ فيقول بأن مسيرة التاريخ العالمي محكومة بالعمليات الكبرى التالية: من مركز العالم Heart Land وباتجاه الأطراف يجري الضغط المستمر لمن يسميهم “قراصنة البر”، وهو ما تمثله في التاريخ غزوات المغول وهي الأحدث في لتاريخ والتي سبقها غزوات الصقالبة والهون واللان وسواهم. والحضارات التي تنساب من “المحور الجغرافي للتاريخ” من أعماق ال Heart Land تحمل في العادة، تبعاً لمكندر، طابعاً تسلطياً وتراتبياً ولا ديمقراطي ولا تجاري. وفي المجتمع القديم تجسد هذا الطابع في المجتمع الشبيه بإسبارطة الدورية أو روما القديمة.

ومن الخارج، من مناطق الهلال الجزيري يتحقق ضغط ما يسمى ب “قراصنة البحر” أو سكان الجزر على الجزيرة العالمية – وهي الحملات الاستعمارية المنطلقة من خارج المركز الأوراسي والتي تحاول أن توازن فيما بين الدفعات البرية المنطلقة من التخوم الداخلية للقارة. ومن مميزات حضارة “الهلال الخارجي” الطابع التجاري والصيغ الديمقراطية للسياسة. وفي العهود القديمة كانت أثينا وقرطاج تتسمان بمثل هذا الطابع.

بين هذين العالمين القطبين الحضاريين – الجغرافيين تقع منطقة الهلال الداخلي التي كانت بسبب ازدواجيتها وتعرضها الدائم للتأثيرات الثقافية المتناقضة، المنطقة الأكثر نشاطاً فأصبحت بفضل موقعها بؤرة الفاعلية الأفضل للحضارة.

ويستمر المؤلف في استعراض الرؤى المتباينة لكلاسيكي الجيوبوليتكا فيستعرض نظرية ألفريد ماهون ( 1840-1919م) الأمريكي والذي ينحاز بالمطلق للقوة البحرية حتى صار اسمه مرادفاً لهذا المصطلح. وكذلك أراء فيدال دي بلانش الفرنسي ( 1845-1918م) والأمريكي نيكولاس سيبكمان ( 1893-1943م) وكارل هاوسهفر الألماني ومواطنه كارل شميدت (1888-1985م) وغيرهم.

في الباب الثاني من الكتاب يستعرض المؤلف التوجهات والمدارس الجيوبوليتكية في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كانت في مضمونها الأعمق معركة رؤى جيوبوليتكية متباينة، بدأت الجيوبوليتكا تتكيف تبعاً لنتائج الحرب، فقد خيمت على المدرسة القارية وممثلها الأبرز خلال الحرب الألماني هاوسهوفر النتائج السلبية للتعاون الفكري مع الرايخ الثالث، لكن ذلك لم يكن يمنع من أن الاتحاد السوفيتي (وهو الحليف الجيوبوليتكي الطبيعي لألمانيا الذي جعله هتلر خلافاً للرؤية الجيوبوليتكية، خصماً أيديولوجياً) هو التعبير الأبرز عن هذه الرؤية القارية لهاوسهوفر وإن كان ذلك الأمر غير مصرح به علناً.

من نتائج الحرب كذلك هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل في الخريطة الجيوبولتيكية المعاصرة النموذج الأنقى للقوة البحرية (التالاسكراتيا)، فقد غدت دولة فوق العظمى وخرجت إلى المرحلة النهائية لمعركة التالاسكراتيا للهيمنة العالمية، وهذا ما دفع العلماء الأمريكيين إلى تطوير رؤى جيوبوليتكية تستجيب للمستجدات الدولية، وقد وضع العلماء الأمريكيون صيغتان لتطوير الأحداث: إما الفوز النهائي للغرب في المباراة الجيوبوليتكية مع الشرق، وإما الجمع بين المعسكرين الأيديولوجيين في واحد وإقامة الحكومة العالمية (وسمي هذا المشروع بالموندياليزم – اشتقاقا من الكلمة الفرنسية mond أي العالم، وهو الذي أنتج جيوبوليتكا العولمة).

يستعرض المؤلف مؤسسي الرؤية الأمريكية فيتوقف بالتفصيل أمام جيبوليتكا الأطلسية المعاصرة من خلال أعمال سبيكمان ومانينغ وكيرك وغراي وكيسنجر وهنتينغتون.

ويعود مجددا إلى أوروبا ليستعرض التحولات التي بدأتها أوروبا لإحياء الرؤية الجيوبوليتكية القارية التي أطلقها الرئيس الفرنسي ديغول بإخراجه فرنسا من حلف الناتو ويتوقف أمام عدد من ممثلي الجيوبوليتكا الجديدة في أوربا أمثال: إيف لاكوست، وجاك تيريرا، وآلين دي بنوا، وجان برفوليسكو وكارلو تيراتشانو الإيطالي الذي طرح لأول مرة أمام الأوروبيين الدور الحاسم للإسلام والثقافة الإسلامية كمعبر برأيه عن الثقافة القارية القادرة على التصدي للزحف الأطلسي على العالم، وقد أكد كذلك على الدور المركزي لروسيا فكان عنوان رؤيته الجيوبوليتكية هو: روسيا + الإسلام = إنقاذ أوروبا.

وينهي الكاتب الباب الثاني بدراسة مفصلة عن بعض الرموز المهمة في الحياة الفكرية الروسية التي كانت مغيبة تحت وطأة الماركسية اللينينية الثقيلة؛ فيستعرض المدرسة الجيوبوليتكية الثقافية المشهورة باسم الأوراسية الجديدة وممثليها الأبرز من أمثال سافيتسكي وليف غومليوف.

مستقبل روسيا الجيوبوليتكي

في البابين الثالث والرابع وإلى حد كبير الخامس يعرض الكاتب لآرائه بشأن الدولة الروسية من حيث واقعها السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي يراه الكاتب مظلماً قياساً بالدور المنوط بها والذي تفرضه مجموعة من المحددات الجغرافية والثقافية؛ فروسيا هي ال Heart Landكما أكد ذلك معظم كلاسيكي الجيوبوليتكا، وهذه الحقيقة المميزة تضيف ألقاً جديداً إلى الخصوصية والفرادة التي تميزت بها روسيا عبر العصور.

انطلاقاً من أطروحته أنه “ليس للروس دولة الآن” يدعو المؤلف إلى ضرورة إيجاد “الإمبراطورية الروسية”، فالفيدرالية نظام مرفوض في روسيا، وكذلك فإن مفهوم (الدولة الأمة) غريب على الشعب الروسي والثقافة الروسية، ويستعرض دوغين التجربة الروسية لنظام الدولة في عهد القيصرية وفي العهد السوفيتي، وينتقد كلا النظامين ويصل مع الأوراسيين الروس إلى نتيجة مفادها أن قدر روسيا الجغرافي والثقافي أن تكون إمبراطورية أوراسية.

ومفهوم أوراسيا الذي يتردد كثيراً عند المؤلف وعند الكثير من الكتاب الروس مرتبط بتقدير واقع روسيا الثقافي في كونها ليست غرباً ولا تنتمي إلى أوروبا وليست شرقاً ولا تنتمي إلى آسيا، إنها واقع جغرافي وأتني وثقافي متميز يربط بين الشرق والغرب، ولكي تقوم روسيا بدورها وتحمل رسالتها إلى العالم يجب أن تكون الإمبراطورية المترامية الأطراف، كما هو المدى الروسي، أداتها لحمل هذه الرسالة.

ويقدم المؤلف ما يراه منطلقات قيام هذه الإمبراطورية، ومنها: أن تقيم تحالفات تسمح لها بمد حدودها البحرية حتى أطول مدى، وأن تبتعد عن المادية والإلحاد وتولي الجانب الروحي الأهمية القصوى. وأن تسلك منهج المرونة في تسير الاقتصاد، وتتحاشى الخصخصة والرسملة، وأن تسير في اتجاه أخلاقي إنساني ديمقراطي وأخيرا أن تعتمد مبدأ الاستقلال الذاتي، الثقافي منه واللغوي والاقتصادي والحقوقي بالنسبة لكل من الإثنيات والأعراق والشعوب الداخلة في الإمبراطورية. ولا يخفي الكاتب أمله في أن تكون الإمبراطورية الأوراسية قارية عظمى وهو ما يفسر قوله “نحو إمبراطورية أوراسية جديدة … فمعركة الروس من أجل السيادة على العالم لم تنته بعد” وأما الخطوات العملية لتحقيق ذلك فيرى الكاتب أنها تتمثل في النقاط الأربع التالية: تجميع الإمبراطورية، العودة إلى الدين والقومية، فتح الآفاق السياسية للقدرة العسكرية الروسية، فتح الآفاق الاقتصادية للإمبراطورية الروسية.

تطبيقات جيوبوليتكية

يتوقف المؤلف في الباب السادس أمام التطبيقات العملية للرؤية الجيوبوليتكية في مجال النزاعات الإقليمية، وخاصة في الامتداد الأرثوذكسي الذي يُشكل امتداداً ثقافياً لروسيا، ولذلك يستهل هذا الباب بدراسة “الجيوبوليتكا الأرثوذكسية” كمقدمة لتحديد موقع روسيا كوريث للإمبراطورية البيزنطية وممثلة لما يسمى “روما الجديدة”، ثم ينتقل لدراسة النزاعات الإقليمية التي اندلعت في يوغسلافيا السابقة وتداعياتها في البلقان والدول التي دخلت تاريخياً في النطاق الروسي للتأثير كبلغاريا ورومانيا. ليصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن التفرد الأمريكي الأطلسي في قيادة العالم هو موت وفناء، وأنه من الضرورة بمكان بلورة قطب أو مجموعة أقطاب لمواجه التفرد الأمريكي فيسمي الفصل الثالث من هذا الباب “قطبان على أقل تقدير … أو الموت” فالقبول بالنظام الكوني العالمي الجديد هو نوع من الاستسلام التام المعادل للموت، وبالتالي فليس هناك بديل آخر سوى العمل على بلورة تكتل جيوبوليتكي مناوئ للأطلسية، وليس مهماً برأي المؤلف تحت أي صيغة وبأي شكل يتم تكتيل هذا الحلف، المهم هو أن يتشكل وأن يكون مضاداً للعولمة.

أما الباب السابع فيتضمن أربعة نصوص من النصوص المؤسسة للجيوبوليتكا وهي: “المحور الجغرافي للتاريخ “لهيلفورد مكيندر، و”الأسس الجغرافية والجيوبوليتكية للأوراسيا” للروسي بيوتر سافيتسكي، و”الشيوعية فوق الإنسانية” لجان تيريار وأخيراً ” التوتر الكوني بين الشرق والغرب والمواجهة بين الأرض والبحر” لكارل شميدت.

أما في الباب الثامن والذي جاء تحت عنوان “بديلاً عن الخاتمة”؛ فإن المؤلف يناقش بعض آراء كارل شميدت حول المقولتان الأساسيتان في الطبيعة من منظور الجيبولتيكا ” الأرض والماء – البر والبحر” ثم ينتقل ليقدم مسرداً قيماً لأهم المصطلحات والمفاهيم الجيوبوليتكية.

خاتمة وتعليق

يمثل هذا الكتاب الذي بين أيدينا مرجعاً أساسياً في موضوعه من حيث غنى مضمونه وشمولية تغطيته لأهم المدارس والأفكار في علم الجيوبوليتكا منذ نشأته وحتى هذا اليوم، والكتاب يمكن تقسيمه من حيث المضمون إلى قسمين: الأول وهو ما يختص بعرض النظريات والآراء الأساسية في الجيوبوليتكا وهذا القسم هو الأكثر قيمة وأهمية بالنسبة للقارئ العربي حيث أنه لن يتسنى لهذا القارئ المهتم بالجيوبوليتكا أن يجد في مكان آخر هذا العرض التاريخي الفكري لتطور الجيوبوليتكا في كتاب واحد.

في حين أن القسم الثاني هو الذي يخصصه الكاتب لتطبيق موقفة الجيوبوليتكي في بلورة موقف ورؤية إستراتيجية تجاه التغيرات الكونية عموماً أو تجاه بعض النزاعات الإقليمية، وعلى الرغم من أهمية هذه المحاولات التطبيقية، لكنها تبقى محاولات خاصة تعبر عن موقف الكاتب ورؤيته الجيوبوليتكية.

لذلك فإن الاتفاق معه أو الاختلاف في هذه الرؤية عموماً أو في تفاصيلها ليس بذي شأن كبير، ذلك أن الجيوبوليتكا كعلم هو علم منحاز، ذلك أنها شئنا ذلك أم لم نشأ هي رؤية للعالم من زاوية الصراع، لذلك رأينا الكاتب في الفصول الأولى يدافع عن فكرة الصراع في التاريخ وأن الصراع هو أمر طبيعي في سياق الحراك التاريخي والحضاري الإنساني. والصراع هو صراع بين أطراف لكل منها رؤيته وتوجهاته الخاصة التي تمليها ظروف موضوعية لكنها تنتج في المحصلة رؤية ذاتية وموقفاً مصلحياً خاصاً، لذلك جاءت الجيوبوليتكا الكونية عند العلماء الأمريكان مختلفة كلياً عن تلك التي يقدمها الألمان أو الروس.

ليس هناك موقفاً جيوبوليتكياً قد يتفق عليه الشرق والغرب، العالم الإسلامي والأوروبيين، روسيا وأوروبا، قد يكون هناك تقاطعات ومواقف مشتركة، لكن الرؤية الجيوبوليتكية هي رؤية منحازة متباينة، تباين القارات وتباعدها. لكن قد يكون هناك أمم وشعوب تدرك موقفها الجيوبوليتكي وتعمل على أساسه وأمم وشعوب لا تدرك ذلك، أو أنها غير مؤهلة للعب دور، فالعالم لا يقيم وزن لأي أمة يقل تعدادها عن 200-300 مليون نسمة كما عبر عن ذلك جان تيريار.

وليس مهماً كذلك أن نطلق حكماً أخلاقياً على مثل هذا القول، إذ ليست الجيوبوليتكا هي المجال المناسب لذلك، فلكي تعارض رؤية جيوبوليتكية عليك أن تقدم أخرى أوسع منها أو أن تلتزم الصمت.

————-
كتابة محمد عادل شريح

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى