السياسات العامة

أهم نماذج ونظريات إتخاذ القرار في السياسة العامة

تحتل عملية صنع القرار أهمية متزايدة في العلوم الإجتماعية والإنسانية خصوصا في مجالات السياسة والإدارة الحكومية،ويهتم علماء السياسة والإجماع خاصة في الدول المتقدمة بصورة خاصة بنماذج ومداخل ومفاهيم لغرض صنع وتنفيذ القرارات في مؤسساتها المختلفة ،ويحاولون التوصل إلى طرق ومبادئ عملية يستخدمها الإداريون وصانعوا السياسة لمواجهة المشاكل والمواقف التي تتطلب إتخاذ قرار معين. ونتيجة للتقدم الملحوض الذي أحرزته العلوم السلوكية ، التي أثرت حقل العلوم السياسية بجملة من الإختيارات لدراسة القرارات وسلوك الهيئات والمؤسسات الحكومية، وسياستها المختلفة على أساس كونها مجموعة قرارات يساهم في صنعها مجموعة من الجهات الرسمية والغير رسمية .

فالإدارة الحكومية والسياسة التي تتبناها الحكومة في الشؤون الداخلية والخارجية تمثل مجموعة من القرارات التي يمكن إخضاعها للدراسة والتحليل من حيث معرفة مكونات القرار والخطوات التي يمر بها وأهم المداخل

التي يتم إستخدامها لذلك،مع العلم أن النظريات والمنطلقات تعد ضرورية لأغراض التحليل والبحث وتسهيل الإتصالات وتقديم الإسهامات والإيضاحات والتبريرات اللازمة الفهم وصنع السياسات العامة ، فبدون هذه

النظريات الإرشادية والمعايير المنهجية يتعذر التحليل والتركيز على العناصر الأساسية أو تحديد المعلومات اللازمة لذلك يقول إندرسون:”….فالذي نجده ونصل إليه يعتمد جزئيا على ما نبحث عنه في إطار المفاهيم والنظريات البحتة” (1).هذا يعني أن مختلف النظريات والمداخل تبقى إرشادية يهتدي إليها صناع السياسة حتى تثبت خطاهم وتسدد رميهم في سبيل خدمة المصلحة العامة إن تأكد ذلك .ونركز هنا إلى أهم النظريات والنماذج،و أخرى ضمن عملية التحليل لاحقا ولعل من أهم هذه النظريات:

أ/نظرية إلإتصـــال:

إنطلاقا من فكرة أساسية مفادها أن الإتصال هو شريان الحياة السياسية، وصورة هذه الحياة ومظاهرها ما هي إلى رسائل دلالات مختلفة، يمكن أن نقول أن ثمة علاقة جوهرية بين عملية الإتصال وعملية صنع السياسة العامة، إذا يحظى الإتصال في حياة الأفراد والجماعات والمنظمات والدول بمكانة كبيرة لا يمكن أن نحددها.فهو يسري فيها سريان الدم في العروق إذا يمكن منحه في جميع الإتجاهات فلا أحد يمكن أن يتكيف مع المحيط الذي يعيش فيه إلا من خلال العمليات الإتصالية (نقل المعلومات)،فهذا بمفهومه البسيط ينطبق على الحكومات والدول إذا تشكل عملية الإتصال فيها المرتكز الأساسي للقيام بنشاطاتها ووظائفها، ومما زادت الطينة بلة هو وسائل الإتصال والإعلام والتكنولوجيات المتطورة والمتلاحقة في مجال الإتصال التي عظمت الإتصال وزادت من إستخدامه من خلال القيام بالبحوث الإتصالية والقدرة على تحليل وتبادل المعلومات في كل الإتجهات.

يعتبر الإتصال شريان الحياة للنظام السياسي، فبدونه يعجز عن الإستمرار إذ يعد عالم السياسة الأمريكي كارل دوبيش karl -Deutsch أول من إستخدام الإتصال كبؤرة إهتمام للتحليل السياسي في كتابه- العصب الحكومي-.حيث يرى دوييش أن عملية الإتصال جوهرية لأي نظام سياسي، فهو يستقبل الرسائل باستمرار وتقوم وسائل الإستقبال بتلقى المعلومات في صورة رسائل لتنقل إلى مراكز صنع السياسة العامة، أي المعلومات المختزنة في ذاكرة الحكومة من نظم معلومات، سجلات . . . . الخ (1).

إن دراسة السياسات العامة من زاوية نظرية الإتصال تعني دراسة السلوكيات والأفعال المتعلقة بتبادل المعلومات و الرسائل بين الفاعلين السياسيين، بالتركيز على قنوات تدفق وإنسياب المعلومات وأنواعها وكذلك

القواعد التي تحكم العملية داخل النظام السياسي و مدى تجانسها، فنظام الإتصال في حد ذاته نظام للمعلومات، والمعلومة هي علاقة نمطية بين الأحداث، والإتصال هو نقل هذه الأنماط من العلاقات.

ولذلك أخذ ديوتشالمعلومة كوحدة تحليل و إعتبرها جوهر العملية السياسية وتكون الإتصالات أكثر فاعلية بحسب المعلومات أو الجهات الموجهة إليها ومضامينها وقوتها،كما يمكن أن تفقد المعلومات قيمتها بسبب التشويه أو سوء الفهم للرسائل وتقديرها.لذلك حدد –دوتش- مفاهيم تتعلق بتدفق المعلومات ومعالجتها وتتضمن (الحملlodd“)ويعني مجموعة المعلومات والرسائل القادمة إلى النظام أي ظغوط البيئة وكل ما يستدعي إستجابته ثم (طاقة التحملcapacity.lodd “) التي تشير إلى القدرة على إستقبال كل المعلومات الواردة ومعالجتها، والتي تتوقف على درجة دقة المعلومات ثم (الإستدعاءrecll“)ويعبر عن قدرة النظام على الإستفادة من الخبرات السابقة التي يمكن أن تفيد في تحليل المعلومات(1).

هذه عناصر تتعلق بالمعلومات من خلال نموذج الإتصال الذي يمكن من خلاله معرفة ما قد ينشا خلال عملية صنع السياسات العامة من علاقات أو بؤر لتدفق المعلومات، حيث أصبح لنموذج الإتصال دور لا ينكر في دراسة مشكلا ت وقضايا عديدة من حيث التركيز على كل الفاعلين في الحياة السياسية، من وسائل الأعلام والمؤسسات الرسمية والنظم البيروقراطية . . . . .الخ، ويصور لنا هذا النموذج عملية صنع السياسات العامة كشبكة من الإتصال في جميع الإتجاهات وصورة تدفق وإنسياب المعلومات وقنواتها.

إن مدخل الاتصال يعد من أبرز المداخل في دراسة السياسة العامة فهو يعد مدخلا أساسيا وفعالا للقيادات السياسية، حيث يتم بواسطته نقل وتبادل المعلومات والرسائل بكل أشكالها،ويعتبر أيضا آدات يتم من خلالها الربط بين أجزاء التنظيم،خاصة إذا إتصف بقوة الاقناع والإستجابة الاجابية بعيدا عن التشويش وسوء تفسير المعطيات. لكن هذا لا يعني أن الإتصال تعطينا صورة صادقة عن جميع بؤر المعلومات فقد تكون هناك فواعل يصعب تحديدها وإستخدام القياس على جميع الظواهر، فالنموذج له ماله من محاسن كما له قصور في جوانب عدة.

ب/ نظرية النظم:

تندرج هذه النظرية تحت مظلة التوجهات السلوكية، حيث تقوم على منطلق أساسي يعتبر السياسة العامة على أنها استجابة للواقع( النظام السياسي)وهي أحد مخرجاته، ويعود الفضل الكبير في إرساء قواعد هذه النظرية إلى عالم السياسة الأمريكي – دافيد إستونثم تبعه آخرون كألموند و دوييش وغيرهم، حيث عمل إستون على تطوير هذا النموذج بناء على نظرته للحياة السياسية على أنها نسق يتفاعل أخدا وعطاء مع البيئة

الخارجية، ومثله بالكائن الحي وبعملياته الوظيفية من غذاء وتنفس. . . . . الخ. حيث تقوم النظرية على مفاهيم أساسية كإطار تحليلي يبسطه إستون في دائرة متكاملة ذات طابع ديناميكي من التفاعلات السياسية التي تبدأ بالمدخلات(inpts) وتمثل كل ما يدور في البيئة، وكل ما يتلقاه النظام (حكومة- مؤسسة. . ) من مطالب)(demandsأو تأييد (support ) ، فهي بمثابة المادة الأولية (الخام) التي يعمل ويحرك بها النظام وهذا ما يسمي بعملية التشغيل أو التحويل لترشيح كل الخيارات والمطالب داخل النظام وهو ما وصفه إستون ب (العلبة السوداء)*.ومن خلال عملية التحويل يتم إنتاج ما يسمي بالمخرجات(outputs) وهي ما يطرحه النظام إلى البيئة من (موارد،قرارات، سياسات. . . .الخ،فهي ردود أفعال النظام أو إستجابه للمطالب الفعلية أو المتوقعة التي ترد إليه من البيئة، وهي أيضا وسيلة تفاعل بين النظام كنسق مع باقي الأنساق الفرعية الأخرى. وتنتهي العملية بالتغذية الإسترجاعية(feedback) التي تقوم بالربط بين نقطتي البداية والنهاية بين المدخلات والمخرجات كرد فعل لما قد حدثه المخرجات من آثار في البيئة سلبا أو إيجابا1.

هذا بصورة مبسطة عن عناصر النظرية، لكن الذي يهمنا هنا هو كيف تنظر النظرية إلى السياسات العامة، حيث تعتبر أن ما يقدمه النظام السياسي هو الدعم والمطالب والخيارات للقيام بعمليات صنع السياسات العامة التي تمثل كل ما يطرحه النظام لي إشباع حاجات الأفراد والجماعات وخدمة الصالح العام، هذا التوزيع والإحلال للمورد والقيم…الخ تمثل السياسة العامة المعبر عنها بمجموعة من الأفعال والسلوكات الصادرة عن صناع السياسة والتي تطرح في شكل قرارات وسياسات يتم تنفيذها وتحويلها إلى نتائج واقعية ملموسة. ولا تتوقف العملية عند هذا الحد بل تعد التغذية الإسترجاعية أحد مفاتيح إستمرار أي نظام، والتي تشير إلى التأثير الذي تحدثه السياسات العامة في الواقع البيئة وكذلك في خصائص النظام السياسي ذاته وتولد السياسة العامة مطالب جديدة تؤدي بدورها إلى مخرجات أخرى فهي بذلك تساهم في استمرار النظام وبقائه.

فالنظرية تفيد في ترتيب وتبسيط الحقيقة في الحياة السياسية لضمان تحليلها ودراستها بوضوح، وفهم العلاقات القائمة في النظام السياسي، وتناول ما يختص بالسياسات العامة بشكل مبسط وواضح وتحديد مظاهر السياسة العامة، وكذلك توجيه التركيز نحو الأسباب ذات العلاقة بنتائج السياسية العامة، كما تساعد النظرية على الإهتمام بالمتغيرات والظروف البيئية على صعيد النظرية والتطبيق، كما يعطينا التحليل النظمي تحقيقا عمليا للسياسة العامة وتناول ظواهر الواقع الحقيقي وتأكيد صحتها وإختبارها. وتساهم النظرية في تقديم

شروحات وإيضاحات مهمة مطلوبة إزاء السياسة العامة كما تقدم فرضيات حول أسباب ونتائج السياسات بالشكل الذي يجعلها قابلة للدراسة والتحليل فهذه النظرية تنظر للسياسة من منطلق النشاط والعملية كظاهرة حركية دنيا مكية مستمرة يترجمها النظام السياسي بعملياته التشغيلية إلى تطبيقات فعلية في الواقع فالسياسات العامة الإستخراجية، (الضرائب) أو توزيعية (موارد، حاجات. . . .الخ أو رمزية(ثقافية) ماهي إلا تعبر عن مدخلات أ, مخرجات يتلقاها أو يطرحها النظام السياسي في علاقته مع البيئة الداخلية أو الخارجية.

وهكذا تكون السياسات العامة نشاط متواصل يحقق بقاء وإستمرار النظام السياسي، كما تعد النظرية النظم من أهم النظريات وأكثرها شيوعا وإستخداما في حقل السياسات العامة ، فهي لا تدل كثيرا عن كيفية صنع السياسات ( أي ما يحدث في العلبة السوداء ) أو عملية التحويل ومع ذلك فهي مفيدة إلى أبعد الحدود في معرفة آليات صنع السياسات العامة سواء تعليق الأمر بالمدخلات وتأثيرها في صنع السياسات أو تأثير السياسات العامة في البيئة ومطالبها، وكذلك تعطي تصور عن القوى والعوامل التي تدفع النظام لتحويل المطالب إلي سياسة عامة من جهة والمحافظة على تفاعله وإستمراره من جهة أخرى.

رغم هذه الأهمية الكبيرة إلاَ أن النظرية تنظر إلى الحياة السياسية من صورة آلية ديناميكية، ولا تعطينا تفسيرا عن العلاقات، والتفاعلات والإتصالات التي تنشب في خضم عمليات صنع السياسات، ولا تعطي أهمية كبيرة لأثر السلوك في عملية التغيير فهي تركز بصورة كبيرة على الإستقرار ولا تدرس ردود الأفعال على حقيقتها ولا تعبرها رسائل تحمل أكثر دلالة للنظام بل تنظر إليها كمعلومات واردة بصورة آلية تؤدي إلى موارد أخرى، وعلى أساس هذا النقد جاءت نظريات أخرى إنبعثت عنها نذكر منها.

ج/ نظريات الرشد الشاملة ( النموذج الكلي الرشيد ):

إن الإدارة الحكومية لها خصائصها المتميزة ، ويتميز القرار الحكومي عن القرار في المنظمات الخاصة بوجود دور مهم لكل من اللجان البرلمانية وجماعات المصالح والوزراء وكبراء موظفي الدولة والخدمة المدنية والأحزاب السياسية والنقابات…الخ، فكلهم يلعبون أدوارا مؤثرة في عملية صنع القرار . وبناءا على هذه الحقيقة يمكن إعتبار أن هذه النظرية من أكبر النظريات إنتشارا وقبولا رسميا ، وهذا للوصول الى سياسة موضوعية وعلمية وأكثر واقعية والتي تحقق النتائج المطلوبة ، حيث تقوم هذه النظرية على النموذج العقلاني الذي يحقق الرضى لجميع الأطراف والمستويات وتحتوي هذه النظرية على العناصر التالية :

* أن صانع السياسة يواجه مشكلة أو قضية عامة قابلة للتحديد والدراسة وذلك يفرزها عن باقي المشاكل الأخرى .

* توضيح وترتيب الأهداف والقيم التي ترشد صانع القرار حسب الأولوية والأهمية.

* فحص جميع الإقتراحات والبدائل لغرض مواجهة المشكلة .

* تقدير النتائج التي قد تترتب عن إختيار كل بديل وكلفته ومنفعته ، والآثار المتوقعة وطرحها وتحليلها في ضوء العائد منها بالقياس .

* مقارنة البدائل بشكل محسوب لضمان تحديد البديل الأفضـل.

* إختيار البديل التعظيمي الذي يمكن أن يحقق الغرض والقيم والأهداف المتوخاة منه على أفضل ما يكون على أساس أنه البديل العقلانـي. (1)

وعلى أساس هذه العناصر يقوم النموذج على إفتراض اقتصادي ,حيث يرى بأن السياسة الرشيدة هي تلك التي تحقق أكبر عائد إجتماعي , أي أن الحكومة عليها أن تختار سياسة عامة التي ينبغي أن يتمخض عنها مكاسب وعوائد للمجتمع بشكل يعبر عن تحقق فوائد كبيرة,وهذا يؤكد على أن السياسة العامة تكون رشيدة عندما يصبح هناك فرق إيجابي بين القيم التي تحققها وبين القيم التي تم التضحية بها بالشكل الذي يؤكد(عظمة وأفضلية البديل)*، حيث قال (دال روبرتRobert Dahl) :”يضل عدد كبير جدا من الخيارات السياسية أسيرا لضباب عدم اليقين ,لأن الأحكام الأخلاقية والقيمية في ميدان السياسة منتشرة وقوية ومعقدة“… (1).

إن هذا القول في تقديرنا صادق إلى أبعد الحدود بالنظر إلى الواقع العملي للسياسات العامة,فيبدوا هذا النوع من النظريات براقا جدا ، لكن لا يمكن أن يتحقق الرشد بصفة مطلقة في السياسة ولا في غيرها،هذا ما أثبتته التجارب العملية ,ففي الواقع لا يكون صناع السياسة في مواقف تمكنهم من إكتساب كل المعرفة التي يحتاجونها للقيام بفعل عقلاني رشيد على نحو تام فيما يتعلق بالمسائل السياسية الهامة.وعلى أساس القصور في بلوغ الرشد الكامل , كان هذا النموذج محل نقد شديد من قبل العديد من العلماء وعلى رأسهم عالم السياسة الشهير شارللندبلوم(LindBlom.ch) من منطلق أن صانعي القرار لا يواجهون المشاكل بواقعية

ووضوح,فهي تفرض توفر معلومات كاملة حول المشكلة التي تساعده على وضع تصور دقيق للآثار التي تسببها. لكن هذا لا يمكن تصوره في الواقع فالحاجة إلى المعلومات مستمرة ,والتغيرات المستقبلية وصعوبة الحسابات ممكنة،كذلك من زاوية التناقض الموجود بين القيم الشخصية لصانع السياسة وقيم وتصورات المواطنين وردم هذه الهوة بشكل تام مستحيل جدا بالإضافة إلى التكاليف الغير المنظورة (1).هذه الإنتقادات وأخرى تؤكد أن متحذوا القرارات الحكوميون كثير ما يواجهون إختلافا في المواقف حسب إختلاف القيم ووجهات النظر, والضغوط السياسية والمساومة وتبادل المصالح التي يتأثرون بها و التي تأثر على درجة العقلانية والرشد.

د/النظرية التدريجية (نموذج الرشد المحدود)_*:

تهتم هذه النظرية بجزء محدد من البدائل ,وعدد قليل من النتائج والآثار المترتبة لكل سياسة بديلة حيث يمكن أن تحدد عناصر هذه النظرية في النقاط التالية:

1- إن الأهداف والمقاصد المطلوب تحقيقها متداخلة وليست منفصلة أو مستقلة.

2- يقوم صانع القرار بالتعامل مع بعض البدائل لإيجاد الحل المناسب للمشكلة.

3- أن عملية المفاصلة المطروحة بين البدائل,وينبغي أن تركز على عدد من نتائج كل بديل و آثاره والتي تشكل جوهر العلاقة والارتباط مع الأهداف دون غيرها

4- إعادة النظر باستمرار في المشكلة التي تواجه صانع السياسة,لان هذا النموذج يسمح ويتطلب إعادة النظر في العلاقة القائمة بين الأهداف والإمكانيات,وبإحلال التناسب بينها ويفسح المجال للقيام بالتعديلات المطلوبة,وتطويع الأهداف بالشكل الذي يضمن السيطرة على المشكلة.

5- أن المشكلة القائمة لا يوجد قرار واحد ووحيد لها.ولا يكون مثاليا, و إنما الاختبار الجيد السليم للقرار هو الذي لا خلاف عليه ومتفق حياله في ضوء التحليلات.

6- يتصف النموذج التدريجي بالطرح العلاجي ،فهو يحافظ على التواصل والاستمرار مع الحاضر,ويستجيب بمكوناته وظروفه بأكثر من كونه منطلقا نحو أحداث تغييرات نوعية في الأهداف المستقبلية للمجتمع (1).

هذه العناصر تعطى لنا تعريفا للنموذج التدريجي أو الرشد المحدود كما وصفه دال,على انه أخذ وعطاء وإتفاق بين المشاركين بكل أوصافهم في عملية الصنع،كما يوفر هذا النموذج المواءمة السياسية لكونه يساهم في سهولة التوصل إلى إقامة إتفاق إزاء الموضوعات والقضايا محل المساومة,وحسم الخلافات وتقريب وجهات النظر بينها,وهذا النموذج يفيد في التقليل من الأخطاء في ظل جو من عدم اليقين،وهذا منطقي جدا في الواقع العملي. وهذا من منطلق أنك تريد مثلا أن تجابه الشك في أمورك بطريقة مجدية لا يسعك إلا البحث عن حلول مرضية بدلا من حلول كاملة مثالية وذلك لتبديد ضباب عدم اليقين وليس لإجلائه نهائيا.هذا ويؤكد ليندبلوم أن هذا النموذج أو المدخل يمثل عملية صنع القرار في المجتمعات الديمقراطية التي تتعالى فيها الأصوات إتجاه القضايا العامة,لأن القرار والسياسات هي حصيلة المرونة والمساومة بين الأطراف والموافقة المتبادلة بين المشاركين ويقول “..طالما يعمل صانعوا القرار تحت ظروف غير مؤكدة بالنسبة للآثار المستقبلية لنشاطاتهم فالقرارات التراكمية تخفض من مخاطر المجازفة والتكاليف وظروف عدم التأكد..” (1).

وفي ضوء ما سبق يتضح لنا أن هذا المدخل يبدو أكثر عقلانية وواقعية من سابقه ويمكن أن يعطي قرارات عملية ومقبولة جدا ومحدودة,ويعبر بصدق عن الأهداف والخطوات المثقلة بمتغيرات البيئة ،بعيدا عن الأهداف المثالية التي لا يمكن بلوغها ,ويركز على التخطيط قصير المدى وهو التخطيط الذي دعا إليه لندبلوم في وضع السياسة العامة وإتخاذ القرار.وهناك نموذج آخر يدمج بين النموذجين يدعي ( نموذج الفحص المختلط)Mixed.Scanning1.

إن الساسة وصناع القرار والعاملين بالسياسة ينتابهم القلق بسبب الدرجة العالية من عدم اليقين المحيطة بهم,وأيضا الكثير من محلليهم،وذلك بسبب المستوى المنخفض للمعرفة التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد الأولويات وصياغة المقترحات،وكذا الفشل الواضح والقصور الذي نجم عن النظريات السابقة من نظريات كلية ومحدودة ومختلطة, ليبدأ التركيز في الآونة الأخيرة على الأساليب البيانية والرياضية والتجريبية لتقليص الخلل في صنع السياسات العامة وكذلك عن طريق التجريب المقصود ، أو من خلال الإختبارات التي تسبق السياسات .فهناك العديد من النظريات التجريبية (النماذج الرياضية)1 الأكثر شيوعا وإستخداما في حقل السياسات العامة كبحوث العمليات, ونظرية الألعاب و شجرة القرار …الخ. و تعتمد لإيجاد أفضل الحلول للمشاكل الممكن حلها والتي تتسم بطابع التعقيد مثل توزيع الموارد بشكل أمثل، أي تستعمل لضبط السياسات الإستخراجية والتوزيعية على حد سواء.

وهناك العديد من الأساليب التجريبية المعتمدة في عملية رسم السياسات وصنع القرار فالدراسات الإمبريقية والقياس والنماذج الإحصائية أصبحت قوام عملية وضع السياسات بل أحد حقول علم السياسة ككل،فالقرن الحالي أصبح يعني فيه بصورة مزايدة بدراسة الظواهر السياسة بصورة علمية، فهناك إجراءات علمية عميقة لدى علماء السياسة وخبرائها للتطوير هذه الأساليب قصد تحقيق الموضوعية والمصداقية للممارسات السياسية مهما كانت لمجالاتها. إن إجراء إختبارات مسبقة ضيقة النطاق مسيطر عليها ومدروسة جدا هو أمر يمكن تحقيقه، ويعد أكثر حكمة.وبالتالي تبقى النماذج والنظريات الكمية تلعب دورا كبيرا في عمليات رسم السياسة، خاصة لكون العملية معقدة يصعب تحليلها في ضوء التقلبات المستمرة للبيئة الداخلية والخارجية…الخ، وهناك العديد من الإعتبارات خلقت إتجاهات أخرى تنادي بضرورة النظر إلى السياسات العامة من زاوية العلمية،أي إعتبارها مجموعة من العناصر يؤدي كل عنصر وظيفة معينة في إطار عملي محدد.

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى