دراسات سياسية

إحتلال العراق …و الديمقراطية المستحيلة

تشكل الديمقراطية أحد المداخل الأخلاقية التي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية توظيفها لتبرير عدوانها على العراق (2003) ، فتم الربط بين الديمقراطية كقيمة ،مع مبدأ الحرية كغطاء معياري وسياسي لاحتلال عراق الحضارة و الثقافة و الإنسان ،فتم منذ البداية التهجم على “همجية ” نظام صدام حسين باسم “الحرية ” التي أرسلت عن طريق الصواريخ ، المدافع و القنابل النووية النضب… فتم تحطيم ليس فقط تمثال صدام حسين و تخريب و تهريب التراث الإنساني ببلاد الرافدين ،و لكن بالأساس قتل روح الأمل عند العراقيين و فتح “علبة البندور ” ( في المثيولوجيا الإغريقية القديمة ) الحاملة لكل أنواع و أصناف الشر و الآلام ، و اليأس و التشاؤم …فانتقل عراق الحضارة لعراق الدمار و الفتنة ….

لقد كانت الديمقراطية مجرد غطاء لتلميع وجه أمريكا العدواني القبيح بتجميليات الحرية الزائفة القائمة على الاحتلال و الإحتيال ، القمع و القتل ،و الخداع و النفاق ، فعلى الإنسان الحر عالميا ،عربيا،  أمريكيا و عراقيا أن يدرك أن منطق العدوان كان بعيدا عن هذه القيم النبيلة (الحرية و الديمقراطية ) أو المخاطر المنجرة عن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (لم تعثر الولايات المتحدة على أي دليل على الأكاذيب التاريخية لباول أمام مجلس الأمن حول أدلة قطعية عن البرامج السرية العراقية في المجال النووي …؟).
فالولايات المتحدة لم تكن لتكترث بالحريات و لا  بالحقوق في دول أخرى إن لم تكن هناك منافع تقتضي التضحية بالأرواح الأمريكية و صرف الملايير (مئات الملايير ) من الدولارات في العراق .
فالولايات المتحدة لم تكف منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان 1979 عن التأكيد عن القيمة الإستراتيجية للخليج العربي ،و على أن النفط مكون أساسي في فلسفة الأمن القومي الأمريكي (مذهب كارتر 1980) .
فالنفط إذن كان المحفز الأساسي (وليس الوحيد ) في تحريك الآلة الدبلوماسية و القانونية و العسكرية و الاقتصادية ضد العراق بعد عدوانه على الكويت في 02 أوت 1990 و الذي حول العراق إلى مخبر للقانون الدولي الجديد ،خاصة بعد استصدار مجلس الأمن القرار660 (08أوت 1990)  و الذي فتح المجال أمام الولايات المتحدة لتجتهد باسم حماية الأمن الدولي و حقوق الإنسان لإنشاء محميات للأكراد في شمال العراق تغيب فيها (بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ) رموز الدولة العراقية ( خاصة الأمن و الجيش ) ثم تلتها عمليات فرض مناطق  لحظر الطيران للقوات الجوية العراقية فوق المناطق الكردية (في الشمال) و الشيعية ( في الجنوب ) حماية من بطش الأقلية السنية لهم… ؟  فكان بالتالي و منذ البداية التأسيس لحركية فتنة الطائفية خاصة باستقطاب و إسترجاع و تمويل و توظيف عدد من المرجعيات الشيعية و الأحزاب الكردية و بعض الشخصيات السنية في إطار مجلس للمعراضة العراقية في الخارج ، و ذلك بقصد إعطاء غطاء عراقي للحق الأمريكي في التدخل المادي في العراق باسم الحريات المدنية و السياسية و حقوق الإنسان ….

فبقي العراق منذ أوت 1990 عرضة لكل أشكال العقوبات (24 قرار من مجلس الأمن منفذ في حق العراق لغاية 2003  منها الدبلوماسية و العسكرية و الاقتصادية ، مع حظر التعامل الاقتصادي و التجاري إلا في حدود المراقبة الأممية ، و في ظل الحفاظ على الحد الأدنى الإنساني من الحاجات الغذائية و الطبية و التي أدت إلى قتل أكثر من مليوني طفل ورضيع من سوء التغذية و ضعف الاستشفاء  ، كما تفشت البطالة و انتشر الفقر و تفكك المجتمع أخلاقيا و اجتماعيا. هذا ما ساعد على خلق شروط ” التدخل الذكي” ( حسب المنطق العسكري الأمريكي ) و منها : التذمر المعيشي ،اليأس الفردي و الجماعي ،الإحباط و فقدان الأمل وغياب الطموح . فالغاية من هذه الإستراتيجية هي فصل الدولة عن المجتمع ، تكوين آليات لما بعد نظام صدام حسين و ما بعد حكم حزب البعث (المعارضة العراقية من الخارج ، الميليشيات المسلحة المدربة من طرف المخابرات الغربية من الغرب و عبر العالم ) لتكون فواعل وسطية بين قوات الاحتلال و إدارتها من جهة و الشعب العراقي المحبط و المحتل من جهة ثانية .
فكانت القرارات الأولى للحاكم المدني الأمريكي المقيم (بريمر) قائمة على تفكيك المؤسسات السياسية و الأمنية و العسكرية باسم اجتثاث البعث ، مع التأسيس لقواعد جنائية لتجريم رموز نظام صدام حسين مع إدراج المكون المحلي من خطط مع بعد العدوان و المتمثل في المعارضة السياسية العراقية ،من أجل إضفاء نوع من المشاركة “العراقية ” في الحكم ،و لكن دون شرعنته مع الاحتفاظ بالحق و القدرة على التأسيس لنظام دستوري “على المقاس ” يعكس الأولويات الإستراتيجية و المستقبلية الأمريكية في العراق و في المنطقة العربية و الإسلامية ككل .

فالدستور العراقي لما بعد العدوان ، و إن بني على النمط التوافقي الذي سمح بالتمثيل النسبي لكل المكونات الطائفية العراقية في السلطات السياسية و المؤسسات التنفيذية
(الرئيس كردي ،رئيس الحكومة شيعي ،رئيس البرلمان سني ) إلا أنه أسس لمنطق طائفي حدي زرع الفرقة ،و جلب الفتنة و أسس لحركية تفكيك تغذيها يوميا سلوكات الاحتلال المخترقة لقواعد الحرب و اتفاقيات جنيف  من جهة و كذلك انتشار مراكز العنف و أصحاب قرارات الموت.. ..  فعراق الدم نتاج لفلسفة الحرب الديمقراطية الأمريكية التي لم تنتج إلا نهاية لوحدة شعب و كينونة دولة  فلا يمكن تصور ما قبل العدوان في المستقبل كل بوادره سلبية مليئة بصراعات حول الولاء لأمريكا لتقاسم الثروات النفطية و الماء … و لكن أكثر من ذلك فأكبر احتمال هو عراق مفكك  و صراعي و متصارع …. إنه منطق “الفوضى البناءة ” لمدافع الديمقراطية الأمريكية.
فلقد أنتجت هذه الفوضى موت أكثر من 700 ألف عراقي و تهجير قرابة  المليون
و نصف المليون ،مع تراجع خطر في مؤشرات الأمن الصحي و الغذائي و الثقافي الفردي و المجتمعي في العراق في حين تقوم الولايات المتحدة بتحويل العراق لحلقة وصل إستراتيجية في منظورها الجهوي ،فهي تعمد على جعل الشيعة في العراق مدخلا للتطبيع المستقبلي مع إيران ،لكون هذا البلد حيويا على  مستوى النفط
و التأثير الجهوي ( الشيعة في أفغانستان ، باكستان ، الخليج العربي و الشام ) فالتقارب مع إيران سوف يضمن تحقيق حلم كارتر و اللوبي النفطي الأمريكي المتمثل في الهيمنة على طريق النفط و الممتد من بحر الصين شرقا للمحيط الأطلسي غربا و مرورا بمركزه في الخليج العربي و بحر قزوين .

كما يشكل هذا الاحتلال أيضا إعادة لتشكيل فلسفة الاحتواء الإستراتيجي الأمريكي اتجاه الصين و الاتحاد الأوروبي … و هذا ما دعى إليه (منذ أواسط التسعينات ) رجل المخابرات و الكاتب الأمريكي غراهام فولر … فالعراق بالمنظور الأمريكي ،هي حلقة وصل إستراتيجية بين الخليج و آسيا الوسطى ، بين الفرس و العرب ، بين العرب و الأتراك و بين السنة و الشيعة …. فديمقراطية العراق في ظل المعادلة الإستراتيجية العالمية الحالية ، و في ظل التفكيك الطائفي الداخلي مستحيلة …. فمستقبل العراق مرهون أكثر بنتائج الحرب منه بالحسابات الداخلية للسلم … فالسلم الديمقراطي الأمريكي لن يكون (للأسف) إلا دمويا في عراق الحضارة و الأصالة و الطموح .
 
د.أمحند برقوق، أستاذ محاضر، قسم العلوم السياسية و العلاقات الدولية (جامعة الجزائر) و المعهد الديبلوماسي و العلاقات الدولية (وزارة الخارجية)

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى