دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

إشكالية الشرعية في الأنظمة العربية

المقدمة
منذ عودة اشتداد الهجمة الإمبريالية على الوطن العربي بعد أحداث 11 أيلول 2001، تمت إعادة صياغة كثير من أسئلة الإشكاليات التي ما تزال قائمة في الفكر السياسي العربي ومنذ مرحلة ما بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي مقدمتها تناول الباحثون إشكالية الشرعية السياسية للأنظمة العربية على اختلاف أشكالها، وخاصة مع تعاظم التغلغل الخارجي الفكري والسياسي والعسكري، وتنامي دعوات الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة. ترافق ذلك كله مع إخفاق كبير على المستوى الداخلي في ذات المواضيع إضافة إلى إخفاقات التنمية المستدامة، عدا عن تراجع التعاون العربي – العربي إلى أدنى مستوياته، وهو ما كان قد شكل مصدرا مهما لاستمرار كثير من الأنظمة العربية. وفي ظل استهداف كثير من الأنظمة العربية سواء من الولايات المتحدة أم من المعارضة المحلية، وقع المواطن العربي في إرباكات التمسك بنظام لم يتبق له الكثير من الشرعية، وبين دعوات ظاهرها التحرر وباطنها التمهيد للاحتلال – وهو ما حصل أولا في العراق–.

لذا تحاول هذه الدراسة طرح موضوع الشرعية السياسية للأنظمة العربية سعيا للإجابة على سؤال البحث الرئيس، وهو: هل تستطيع الأنظمة العربية المحافظة على شرعيتها في ظل التحديات الدولية والإقليمية والمحلية الراهنة؟

أي أن الدراسة تنطلق من متغيرين رئيسين، متغير مستقل: التحديات الدولية والإقليمية والمحلية الراهنة، والمتمثلة بالتفرد الأميركي في إعادة صياغة الخارطة الكونية وهو أول ما انعكس على المنطقة العربية من احتلال للعراق وتهديد لدول أخرى ودعوات للتغير في القسم المتبقي منها، وترافق ذلك مع تحركات داخل المجتمع العربي التي بدأت تدرك قيمة المشروع الديموقراطي في مواجهة التدخل الخارجي، وبالتالي تتحرك نحو إنشاء مشروع ديموقراطي عربي، إضافة إلى تواجد قوى مؤمنة بالمشروع الأميركي والتي أصبحت تشكل عامل ضغط كبير على الأنظمة العربية، عدا عن قوى العنف التي تنطلق من إخفاقات الأنظمة العربية وتراجع شرعيتها. ومتغير تابع: يتمثل في المحافظة على شرعية الأنظمة العربية التي هي مطرح البحث. وذلك بالاعتماد على فرضية يعتقد الباحث أنها قد تشكل أساس تمشكل قضية الشرعية، وهي:

* إن الأنظمة العربية لم تَسْعَ بعد استقرارها، في العقود الثلاثة المنصرمة، إلى تعزيز شرعيتها بآليات ديموقراطية تكفل الرقي بمستويات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إنما تكتفي بتعزيز سلطتها من خلال سيطرتها على كافة مفاصل القوة في البلدان التي تحكمها. وهو ما يمهد لزعزعة تلك الشرعية وفق التحديات الراهنة بمستوياتها الثلاث. وتنطلق الدراسة في مقدمتها من تعريف “ماكس فيبر” للشرعية كتعريف اسمي لها، وذلك بوصفها “صفة تنسب لنظام ما من قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض المواقف العاطفية، أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بسبب قيامه بطرف وأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. ويعتبر النظام الحاكم شرعيا عند الحد الذي يشعر فيه مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة” (1).

ويرى د. خميس والي أن الشرعية مرتبطة بتحقيق الحد الأدنى من (2):

-السيادة. -المساواة التي تخلق وتبعث الشعور بالوطنية. -العدالة الاجتماعية. هذه العناصر الثلاث تدفع بالدراسة بالتالي إلى ربط مفهوم الشرعية بتحقيق مفهوم الأمن القومي، كما تراه المدرسة التنموية، والذي هو إضافة إلى تحيق حماية السيادة الداخلية والخارجية عن طريق القوات المسلحة، تحقيق التنمية الشاملة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أي أن السلطة السياسية تكتسب شرعية أكبر كلما حققت إنجازات أكثر في مستويات الأمن القومي، ويمكن قياس ذلك من خلال: -تحقيق سلامة أراضي الدولة، ووحدتها الإقليمية، وسلامة وأمن مواطنيها.

-استقلالية القرار السياسي للدولة عن الخارج، واعتباره انعكاسا لرغبات المواطنين في الداخل، ومحافظا على قيمهم ومعتقداتهم وساعيا إلى تطويرها.

-تحقيق معدلات متنامية من التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كافة المستويات(الدخل، الصحة، التعليم، المشاركة السياسية،…).

ويسير البحث وفقا لآليات المنهج المقارن الذي يقسم الأنظمة العربية إلى مجموعتين (تقليدية، ثورية) ويسعى من خلال المقارنة فيما بينهما إلى تناول جوانب شرعية كل منهما وآليات تعزيزها أو أسباب تراجعها.

ويقع البحث في فصول ثلاثة، يتناول الأول منها مفهوم الشرعية وأنواعها ومصادرها، وإسقاطات ذلك على الواقع العربي، أما الفصل الثاني فيبحث في آليات الشرعية العربية وأسباب تراجعها وسبل تحقيقها، ويأتي الفصل الثالث ليضع شرعية الأنظمة العربية أمام التحديات الراهنة، ومستقبل الأنظمة العربية في ظل التدخل الأميركي.

الفصل الأول مفهوم الشرعية

أولا: مفهوم الشرعية

تعددت التعاريف التي تتناول مفهوم الشرعية، إلا أنها في معظمها تتناولها بالربط والتوافق ما بين الحكومة والمجتمع، فينظر “ماكس فيبر” للشرعية بوصفها “صفة تنسب لنظام ما من قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض المواقف العاطفية، أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بسبب قيامه بطرف وأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. ويعتبر النظام الحاكم شرعيا عند الحد الذي يشعر فيه مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة (3) “.

وذهب “ماكيفر” إلى أن “الشرعية تتحقق حينما تكون إدراكات النخب الحاكمة لنفسها وتقدير غالبية المجتمع لها متاطبقين، وفي توافق تام مع القيم والمصالح السياسية للمجتمع، وبما يحفظ للمجتمع تماسكه (4) “.

ويعتبر “موريس ديفرجيه” أن “الحكومة التي تمثل رأي الشعب تتمتع بصفة الشرعية من حيث أصولها، وجذورها، وهيكلها، وتركيبها، وكل حكومة عداها تكون غير شرعية، فالشرعية ليست أكثر من مجموعة من المعتقدات يختلف معناها ومضمونها ومرادها باختلاف البلدان والأزمان(5) “.

ويرى “ليست” أن “الشرعية تكمن في قدرة النظام السياسي على توليد وتدعيم الاعتقاد بأن المؤسسات السياسية القائمة هي الأكثر ملاءمة لذلك المجتمع، ويقدر الأفراد والجماعات شرعية نظامهم السياسي أو عدم شرعيته، طبقا للطرق التي تلتقي بهاقيم هذا النظام مع قيمهم”. فيما يعرفها “غرين” بوصفها: “تشير إلى مواقف المواطنين تجاه كل من أشخاص وسياسات وقوانين ومؤسسات الحكومة، فحين تكون الشرعية عالية، يؤمن أكثر المواطنين، بأن الحكومة لها الحق في أن تعمل ما تعمله، وحين تكون الشرعية منخفضة يؤمن أكثر المواطنين بأن الحكومة خاطئة فيما تعمله ” (6).

ويرى د. خميس والي أن الشرعية مرتبطة بتحقيق الحد الأدنى من (7):

-السيادة.

-المساواة التي تخلق وتبعث الشعور بالوطنية.

-العدالة الاجتماعية.

أي أن كل نظام عربي يكون شرعيا عندما يتمثل مجتمعه، بحيث يعتبره متوافقا مع قيم ومصالح ومعتقدات ذلك المجتمع، وحيث أن المجتمع العربي قد انقسم على ذاته إلى تيارات رئيسة أربع، تراوحت وفقا لمراحل زمنية وجغرافية إلى: تيار ماركسي مرتبط بالشيوعية العالمية، وتيار قومي يأمل بتحقيق الوحدة العربية، وتيار إسلامي يبحث في الإسلام حلا لما يعانيه من إشكاليات تزداد تعقدا، وتيار انكفأ على ذاته معززا “السيادة الوطنية” تحت شعارات عدة، منها “الليبرالية”، و”الوطنية”.

ومنها ما حاول الدمج بين أكثر من نوع مما سبق. ووفقا لذلك فإن على كل نظام يحكم توجها من هذه التوجهات أن يتمثلها، وهو ما حصل بادئ ذي بدء، إذ أعلنت الأنظمة العربية – كل على حدة – أهدافها وفقا لتركيبة المجتمعات التي تحكمها، أو وفقا لما عبأت به الجماهير، غير أن هذا الإعلان لم يتجاوز حدوده إلى الالتزام الحقيقي الفعال والمستمر، واعتبرت شرعية الأنظمة العربية أمرا مفروغا منه لا حاجة للجدال فيه. ثانيا: أنواع الشرعية لا يمكن لأي مجتمع ديموقراطي تعزيز ديموقراطيته ما لم يكن يتمتع بشكل من أشكال الشرعية، ويمكن فهم مفهوم الشرعية بشكل أفضل إذا تمت تجزئته إجرائيا إلى ثلاث مكونات (8):

1- الشرعية الجغرافية: وتعني أن أولئك الذين يعيشون ضمن نطاق الدولة يقبلون حدودها الإقليمية أو لا يعارضونها على الأقل إلا عبر الوسائل الدستورية. فإذا لم يحس الأفراد والجماعات بشرعية الإطار الجغرافي للدولة، تتعرض العمليات السياسية الديموقراطية للتهديد، وفي الحالات المتطرفة قد يأخذ التهديد شكل حركات انفصالية تحاول تشكيل دولة منفصلة أو الانضمام لدولة أخرى عندما لا تتوافر للجماعات وسائل ديموقراطية لتحقيق الانفصال، فمن غير المحتمل أن يلتزموا بالعمليات الديموقراطية، ويصبح العنف أمرا حتميا فعلا. وبالتالي يصبح من الصعب أن تتم التفاعلات السياسية ديموقراطيا،على الأقل في الأقاليم محل التنازع.

2-الشرعية الدستورية، وتشير إلى القبول العام للدستور، أي البنية الرسمية للقواعد التي تحدد تنظيم وتوزيع القوة السياسية والتنافس عليها، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار، الأنواع المختلفة والممكنة للقبول، ويمثل تأسيس القواعد الدستورية أحد أصعب جوانب عملية الدمقرطة، بحسبان أن عملية التحول الديموقراطي تفتح المجال لمدى واسع من المصالح المتنوعة والمتعارضة.

3-الشرعية السياسية: وتشير إلى المدى الذي يعتبر المواطنون أن نظام الحكم القائم له الحق إجرائيا، في تولي السلطة، أي يمكن القول إن الحكومة تتمتع بشرعية سياسية عندما تعكس نتائج الانتخابات التنافسية تفضيلات الناخبين وفقا للقواعد والترتيبات الدستورية والمؤسسية. إن الشرعية السياسية لا يحددها التأييد أو المعارضة فقط، فهي قناعة المحكومين بأن من المقبول لديهم إطاعة إرادة النظام السياسي القائم، لكونها تنسجم مع قيمهم، ومبادئهم، وأخلاقياتهم، وأمانيهم، ومصالحهم (9).

ولابد من التمييز بين مسألتين فيما يخص الشرعية في الوطن العربي، شرعية الكيانات (الدول) من ناحية، وشرعية النظم السياسية التي تهيمن على هذه الكيانات من ناحية أخرى. فالدولة العربية القائمة اليوم، لم تأت كنتيجة طبيعة للتطور الاجتماعي، وإنما هي وليدة الاستعمار، في حين تتماهى السلطة مع الدولة في الوطن العربي (10).

ثالثا: الشرعية الدستورية لقد تم الترويج إلى أن السلطة تكون شرعية طالما التزمت بالقانون والدستور، وأن ما تقوم به من أعمال لا سلمية أو قمعية إنما يأتي في إطار حق استخدام القوة لفرض القانون. إن القول بأن السلطة تعمل وفق القانون وفي ذلك ضمان للشرعية، قد ينطوي على بعض اللبس أو الإبهام، لأن السلطة هي التي تضع القانون وتنفذه وتشرف على تطبيقه. ومن البديهي القول بأن من يضع القانون يستطيع أن يلغيه، وبهذا المعنى يكون كل نظام سياسي – حتى النظام الاستبدادي وغير المشروع – هو صانع شرعية. فالنظام السياسي الشرعي هو الذي يمتلك القدرة على الحكم من دون استعمال وسائل القمع والقسر والإكراه، ومن ثم تصبح الشرعية البديل الأكثر إنسانية لقواعد الإكراه أو الإجبار المادي والمعنوي التي يتم استخدامها لتسيير عملية الحكم (11).

وباعتبار الدستور “مجموعة من التدابير المكتوبة أو العرفية التي تحدد هوية الدولة وتضبط تنظيم السلطات العامة وعلاقاتها، وتحدد حقوق المواطنين وواجباتهم “. فبالإمكان ملاحظة العديد من النقاط في الدساتير العربية، ومنها (12): vيمكن تصنيف الدول العربية من حيث تاريخ إصدار دساتيرها إلى ثلاث مجموعاتأساسية:

1-دول عرفت حركة دستورية وصدر فيها الدستور لأول مرة قبل الخضوع للاستعمار الغربي، ومن نماذجها سورية ومصر. 2-دول عرفت أول دستور لها أثناء الحقبة الاستعمارية، ومن أمثلتها العراق ولبنان والأردن.

3-دول تأخر صدور أول دستور لها حتى تمام حصولها على الاستقلال كالمغرب والجزائر واليمن والكويت والبحرين. vيمكن تصنيف الدول العربية من حيث طريقة إصدار دساتيرها إلى ثلاث فئات رئيسة: 1-دول تصدر دساتيرها بمنحة من الحاكم وبموجب إرادته، وتكون بالتالي عرضة للتعديل أو حتى للإلغاء متى تراءى له أن يفعل ذلك (الدستور العراقي 1970، السعودي، العماني).

2-دول تصدر دساتيرها بطريقة ديموقراطية، بمعنى أنها تأتي ثمرة لجهود جمعية تأسيسية منتخبة، أو بواسطة لجنة منبثقة من البرلمان، وعادة ما يحاط تعديل هذا النوع من الدساتير بمجموعة من الاجراءات المعقدة التي تضمن استقراره ومعه كل المنظومة القانونية المرتبطة به.

3-دول تصدر دساتيرها بالمزاوجة بين الطريقتين السابقتين، بمعنى أن تنبع من لجنة معينة بواسطة القيادة السياسية، ثم تعرض لاحقا على الشعب للاستفتاء. vتتوزع الدول العربية، من حيث خبراتها الدستورية على ثلاث مجموعات رئيسة:

1-دول ليس لديها دستور، وقد انحصرت حاليا في ليبيا، إذ تعمل وفق إعلان دستوري مؤقت إلى أن يتم استصدار الدستور الدائم والذي صدر عام 1969 وبعد إلغاء دستور 1963.

2-دول لديها دستور، وهي الأغلبية الساحقة من الدول العربية.

3-دول تعاني ازدواجية دستورية، بمعنى أنها تعرف إلى جانب دساتيرها وثائق أخرى تنازع تلك الدساتير قوتها القانونية، وأحيانا تسمو عليها وتصبح هي المرجعية الأساسية للدولة، فإلى جانب الدستور اللبناني يتموضع ميثاق 1943 (الخوري – الصلح) وميثاق الطائف. vالسمات المشتركة بين الدساتير العربية في ظل ثلاث قضايا رئيسة هي الموقف من هوية الدولة، والعلاقة بين السلطات، وموقع حقوق المواطنين وواجباتهم منها (13):

1-فيما يختص بهوية الدولة، تنص كل الدساتير العربية على أن الإسلام هو دين الدولة – باستثناء الدستور اللبناني 1926–.

كما يقترن بتحديد الهوية الإشارة إلى مكونها القومي العربي، إذ تتعامل الدساتير العربية مع العربية بوصفها اللغة الرسمية ومصدر الانتماء – لم يتم ملاحظة التطورات التي أدرجت في الدستور العراقي الجديد–، وقد يعزز الانتماء العربي بالنص على أن الشعب جزء من الأمة العربية ويعمل على تحقيق وحدتها الشاملة، كما أن بعضها – دول المغرب– تضيف على ذلك انتماءات إقليمية.

2-تعبر الدساتير العربية عن خلل في إدارة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لمصلحة الأخيرة، مع تركيز خاص على دور رئيس الدولة في إدارة العملية السياسية، ويبدو ذلك أكثر وضوحا في الأنظمة الملكية. فالتدخل في عمل السلطة التشريعية قد يكون له سنده الدستوري، ويتم أحيانا من خلال تجاهل بعض نصوص الدستور التي تهدف على إقامة نوع من التوازن النسبي بين السلطات أو عبر تجميد تلك النصوص. كما وتتميز العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية بهيمنة الأولى على الثانية، فرغم النص على استقلال القضاء في جميع الدساتير العربية، إلا أن رئيس الدولة عادة ما يتدخل في عمل السلطة القضائية، دون أن تختلف النظم الجمهورية عن الملكية في هذا الخصوص، ومن أشكال التدخلات الشائعة، قيام رئيس الدولة بتعيين كبار القضاة.

3-وفيما يختص بحقوق المواطنين وحرياتهم، تنص سائر الدساتير العربية على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، لكن الممارسة تكشف في أحيان كثيرة عن فجوة بينها وبين النصوص القانونية، من خلالا احتكار أقليات سياسية أو حزبية أو سلالية للسلطة وممارسة التمييز ضد بعض الفئات الاجتماعية والأقليات، كما يحث في أحيان كثيرة أن تأتي القوانين الأخرى مقيدة لما أباحه الدستور. وعادة ما تميز الدساتير العربية بين الحريات العامة، مثل حرية الاعتقاد والعمل والتنقل والملكية، التي تبدي تلك الدساتير إزاءها درجات مختلفة من التسامح والمرونة، والحريات ذات الطابع السياسي، كحرية التنظيم والإضراب والرأي والتعبير، والتي غالبا مت تحاط بالقيود، وهناك دساتير تكفل هاتين الحريتين معا لكنها تقصرهما على الالتزام بإيديولوجية الدولة، فيما لم تتضمن بعضها أية إشارة لهاتين الحريتين.

غير أن هناك عارضين أساسيين يعطلان إعمال الحقوق والحريات العامة في الوطن العربي، فالأول هو الإعمال القانوني أو الفعلي لقوانين الطوارئ – فهناك دول تعلن العمل بها رسميا كسورية 1963، مصر 1981، الجزائر 1992، وهناك دول ما يزال العمل بها فعليا من دون إعلانها التزامها بذلك كالبحرين والعراق – قبل احتلاله–، والثاني محدودية المواثيق والاتفاقيات الدولية المتصلة بحقوق الإنسان التي تنضم إليها الدول العربية، وعادة ما ترفق بجملة من التحفظات تفرغها من مضمونها أو تكاد – كما حصل مع اتفاقية مناهضة التعذيب–.

كما يجب التمييز بين السلطة الشرعية ” التي تتوافق مبادئها العامة وثقافتها السياسية، وإيديولوجيتها وسياساتها، مع قيم المجتمع وقناعات أفراده ومصالحهم، وبين السلطة المشروعة ” التي تقوم استنادا إلى الدستور والقوانين النافذة وتخضع لهما في جميع تصرفاتها وممارساتها ” (14).

رابعا: مصادر الشرعية:

يرى ابن خلدون أن شرعية السلطة تعود إلى أحد العوامل التالية ” الطبيعة، التنظيم، الشرع ” (15). فيما يرى “فيبر” أن الشرعية السياسية يمكن أن تستند على واحد أو أكثر من المصادر التالية (16): ‌أ-التراث والتقاليد. ‌ب-الزعامة الكاريزمية. ‌ج-العقلانية القانونية. وحدد ديفيد إيستون عناصر الشرعية السياسية بأنها (17): ‌أ-المكون الشخصي. ‌ب-الإيديولوجيا: والتي هي منظومة الأفكار والمعتقدات التي تعبر عن سياسية النظام الحاكم. ‌ج-الشرعية البنيوية: والتي هي تأكيد على دور المؤسسات وهي النظير المقابل للعقلانية القانونية عند ” فيبر “، وتقوم على ثلاثة عناصر: -العنصر الدستوري. -عنصر التمثيل: وهو اقتناع المحكومين بأن من هم في السلطة يمثلونهم بشكل فعلي. -عنصر الإنجاز: أي أن الشرعية السياسية تتكرس من خلال الإنجازات التي تمت للمجتمع عن طريق النظام أو السلطة. كما ويضيف البعض الفاعلية كمصدر مهم لشرعية السلطة (18).

خامسا: عوامل فقدان الشرعية

إن من الأسباب التي قد تؤدي إلى ضعف أو فقدان الشرعية، أو وضعها موضع الشك والتساؤل من قبل المجتمع، عوما عدة منها (19):

1 – قد تكون أزمة الشرعية في أساسها مشكلة دستورية ومؤسسية، وتبلغ ذروتها عندما يرفض الناس تقبل المؤسسات الرسمية، وهو ما قد يكون أكثر وضوحا في دول العالم الثالث، إذ يوضح “لابالومبارا ” ذلك من خلال أن المؤسسات السياسية في دول العالم الثالث تفتقر إلى الشرعية عندما تكون امتدادا للمؤسسات التي كانت قائمة في عصر الاستعمار، كما أن المؤسسات الشرعية قد تفقد شرعيتها عندما تقع في أيد فاسدة، أو عندما تواصل إصدار مخرجات سياسية غير مقبولة شعبيا، أو عندما تكون غير قادرة على مواجهة المطالب والتكيف مع الظروف المتغيرة.

2- إن استقرار النظام السياسي الشرعي سيكون في خطر إذا ما انهارت فعاليته لمدة طويلة أو تكرار انهيارها لأكثر من مرة، كما هو الحال في البلدان المتخلفة، حيث كثيرا ما تأتي أزمة الشرعية فيها، من عجز سلطاتها عن إثبات فعاليتها في إدارة الشؤون العامة للبلاد، وبصورة خاصة عجزها عن تحقيق الإنجازات الكبرى في التنمية والتطوير.

3- انحسار مكانة السلطة وهيبتها نتيجة ضعفها.

4- عدم تمثيل النظام السياسي لقيم ومصالح المجتمع. الفصل الثاني الشرعية السياسية للأنظمة العربية إن الشرعية يجب أن تقوم على نوع من الثقافة السياسية والوعي الجمعي الوطني، الذي يدخل في قناعة الفرد، ليس فقط قبوله للسلطة العليا للحاكم، ولا حتى رضاه عن سلوكه السياسي، وإنما يرى فيه تجسيدا لهويته ولمبادئه الخاصة. إن مثل هذه الشرعية غير متوفرة لأغلب أنظمة الحكم العربية، وإن توافرت لبعضها فما هي إلا شرعية شكلية تأتي بها أجهزة الحكم ومؤسساتها الرسمية بالأساليب التعبوية التي عرفتها الممارسة السياسية العربية، ولذلك تشعر هذه الأنظمة بالقلق والخوف الدائم، وتحاول التركيز على أنها قوية وراسخة، وتمارس الاستعمال القسري والتعسفي للقوة في مواجهة أية معارضة سياسية أو اجتماعية، مستخدمة في الوقت نفسه سبلا متعددة لغرض خلق شرعيتها، وبأساليب الترهيب والترغيب.

ومع أن هذه الأنظمة كانت في فترة ما قادرة على استيعاب بعض صور المعارضة، إلا أنها ضاقت في السنوات الأخيرة، حتى بتقبل المعارضة الصورية، وأصبحت ظاهرة استمرار النظام الحاكم مصاحبا لواحديته في القيادة والفكر والإيديولوجيا، وأكثر من ذلك تجسيد ظاهرة أبوية الحكام. أما على مستوى الوضع الدستوري، فعلى الرغم من أن كل الدساتير العربية تظهر حالة من التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، إلا أن واقع الحال يوضح سيطرة السلطة التنفيذية التي هي في الأساس سلطة الحاكم أو رئيس الدولة وامتداداته على السلطة التشريعية. ويرى “هدسون”: “إن مسألة الحكم المركزية في العالم العربي هي مسألة الشرعية السياسية. فالنقص الحاصل في هذا العنصر السياسي الذي لا غنى عنه، هو السبب الأكبر للطبيعة المتقلبة للسياسة العربية وللسمة الاستبدادية وغير المستقرة للحكومات العربية القائمة ” (20).

ويفصّل “هدسون” الأنظمة السياسية العربية إلى قسمين، منطلقا من مقياس تعاملها مع مسألة الشرعية، فيرى أولا عددا من ” الملكيات التحديثية “، حيث لم تزل الشرعية الشخصية تؤدي دورا أساسيا، و”الجمهوريات الثورية” القائمة على شرعية مستحدثة (خارج الاستثناء اللبناني الوحيد)، ويرى خمسة مكونات أساسية لفهم مسألة الشرعية في الدول العربية، وهي (21):

1-الهوية العربية: وهي قائمة برأيه على عنصرين أساسيين: اللغة والدين، وهو يشير إلى أهمية الإسلام في الحياة السياسية، إن كان ذلك في مجال شرعية الحاكم أو في مجال تجميع المعارضة.

2-التعددية الثقافية، فهناك الأقليات إلى جانب الأكثرية العربية، والطوائف الدينية إلى جانب الإسلام.

3-أزمة السلطة العربية التي ضعفت قواعدها التقليدية في وقت لم تصبح قواعدها العقلانية قوية.

4-آثار الامبريالية في المنطقة، فثقل الهجوم السياسي الغربي على العرب والذي رافقه هجوم ثقافي أشد إيذاءا على الهوية العربية قد أضعف من قدرة الحكام العرب على إرساء بنى سياسية شرعية.

5-مسألة التحديث.

إن أزمة الشرعية تعتبر محصلة لمجموعة من الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية، وأن هذه الأزمة قد تفاقمت حدتها بفعل متغيرين إضافيين، أولهما: الإمبريالية، وثانيهما: التحديث. وبالتالي فقد أصبح من العسير على أغلبية النظم السياسية العربية أن تحقق إجماعا عاما حول قضايا الهوية، السلطة، التوجه الاجتماعي، التنسيق الإقليمي. ومن هنا يلاحظ أن العنصر الأساسي الأول لمشكلة الشرعية العربية، كما هي الحال في الدول المتخلفة عموما، يتمثل في كيفية تحقيق المشاركة السياسية المنظمة. أما العنصر الأخر، والذي يعتبر خاصية مميزة للنظم العربية من حيث أهميته، فيتمثل في تأثير ” الشؤون القومية العربية الجامعة ” على شرعية النظم القائمة في كل قطر عربي، مع اختلاف في الدرجات.

مما يعني أن مشكلة الشرعية في الوطن العربي تمتد إلى خارج حدود السيادة القطرية. ومن المصادر الخارجية للشرعية العربية يمكن تركيزها في طائفتين أساسيتين: أولهما – تتمثل في النفوذ الذي يمكن تعريفه عموما بالإحالة إلى الأدوات التقليدية للسلطة كالتهديد والإكراه والوعود والمكافآت التي تعمد النظم والحركات المجاورة إلى استخدامها، فمن المفهوم مثلا أن دولة معينة سوف تتدخل في شؤون الأقطار المجاورة عن طريق شرعية قائد سياسي أو نظام سياسي معين. وثانيتهما – تتجسد في مجموعة من المعايير التقويمية للمواقف والتوجهات والسياسيات، وبالتالي للشرعية، وتتلخص هذه المجموعة من المعايير في القضايا العربية المحورية، أي أن شرعية قائد معين في قطر عربي أو آخر تتحدد إلى حد بعيد بمدى التزامه بهذه القضايا العربية المحورية، وتعتبر قضية فلسطين في أول قائمة هذه القضايا (22).

ومن الملاحظ بعد استقلال الأقطار العربية أن بعض النخب السياسية قد أبقت على المصدر التقليدي الذي يستند إلى الإسلام معززا إلى الانتساب إلى أصول عربية قرشية شريفة، وبعضها الآخر حاول أن يبني مصدرا جديدا للشرعية تمثل بالمصدر الدستوري – القانوني، وتجسد ذلك في الأشكال الليبرالية البرلمانية والجمهورية. وحاول البعض التوفيق بين المصدر التقليدي والمصدر العقلاني في شكل ملكيات برلمانية دستورية. في حين أنشأت أنظمة على أساس الشرعية الثورية سواء أكانت قومية أو اشتراكية أو وحدوية عمادها نظام الحزب الواحد المتآلف والمتعاون في بعض الأحيان مع أحزاب أخرى بصيغة الجبهة أو الائتلاف، فيما جربت بعض الأنظمة العربية أكثر من مصدر من هذه المصادر في فترات زمنية متعاقبة بعد الاستقلال دون أن تستقر على واحدة منها (23). إن هذا التنوع والتخبط في مصادر شرعية الأنظمة العربية، لم يكن اختيارا حرا – ما بعد الاستقلال – لمجموعات النخب الحاكمة أو للمحكومين، كما لم يكن تعبيرا أمينا عن الخريطة الاجتماعية في كل قطر عربي، أو تجسيدا صادقا لخصائص نظام قيمي متسق، أو ثقافة سياسية مدنية موحدة، حتى داخل القطر الواحد، لذلك ظلت هذه المصادر جميعا، على تنوعها، قاصرة عن ملء فراغ الشرعية، وهو الفراغ الذي نشأ منذ انهيار المجتمع التقليدي ومعه شرعيته التقليدية في ” دار الإسلام “، والتي كانت الخلافة العثمانية آخر رموزها، ومن هنا شيوع عدم الاستقرار السياسي والاجتماعية طوال العقود الخمسة الماضية في معظم الأقطار العربية. ويلاحظ أن النظم العسكرية بدورها لم تستطع الفكاك من هذه ” الدائرة المفرغة “، حيث استندت إلى شرعية ثورية، عمادها القيادة الكاريزمية، أو الإيديولوجيا الثورية ونظام الحزب الواحد أو الحزب القائد، أو مزيج منهما معا، ولكنها عجزت عن تحويل إنجازاتها الثورية – في الحالات التي تحققت فيها هذه الإنجازات – إلى نظام مستقر له تقاليده وقواعده ومؤسساته. فهناك عدد من المسائل الكبرى التي ترتبط ببناء الدولة القومية الحديثة لم يتم حسمه، منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، ومنها: قضية الهوية، قضية السلطة، قضية المساواة، وهي المتطلبات الرئيسة الثلاث التي تعتبر أساس الدولة القومية الحديثة. والمقصود بحسم هذه القضايا هو تبلور إجماع شعبي واضح على المبادئ العامة لكل قضية (24).

أولا: شرعية الأنظمة الملكية العربية لقد استندت شرعية الأنظمة الملكية العربية إلى قاعدة الولاء الديني والقبلي، وإلى إيديولوجية رسالية ذات طابع أصولي شديد المحافظة أو إلى البعدين معا. غير أن “هدسون” يرى أن المكون الرئيس لهذه الأنظمة هو شخصية العاهل باعتبار أن هذه الأنظمة قائمة على السلطة الفردية. وهذه المصادر التقليدية قد نبعت من البنية الاجتماعية – الاقتصادية. غير أن معظم هذه الأنظمة قد أدرك أن مصدر الشرعية التقليدي الذي يستند إليه حكمها، بقدر ما يكون مهما فهو غير كاف للحفاظ على نظامها السياسي، لذا حاولت تدعيمه بمصادر إضافية للشرعية، من خلال تبني بعضها نظاما ليبراليا، وساعدها على ذلك التطور الحاصل في بنيتها الاجتماعية – الاقتصادية.

وإضافة على ما تقدم، فهناك مصدر حديث لشرعية هذه الأنظمة والمتمثل في الفاعلية التي أبدتها الأنظمة الملكية جميعا، والتي أخذت عدة أشكال،من أهمها:

1-تعميم برامج الخدمات والرفاه الاجتماعي، بما يحسن من صورة الأنظمة لدى مجتمعاتها، وخاصة في البلدان النفطية، أي الاقتراب من دولة الرفاه.

2-توسيع مجالات وفرص العمل والكسب والحراك الاجتماعي لأعداد كبيرة من الشرائح الاجتماعية. 3-إرساء قواعد وتقاليد ورموز تكرس المؤسسة الملكية مثل اختيار ولي العهد، وانتقال السلطة، وتحديد الاختصاصات بين أفراد أسرة الحاكمة. 4-إنشاء أجهزة مدنية وأمنية وعسكرية حديثة لتعزيز هيبة الدولة وامتداد سيطرتها على بقية أطراف الدولة والمجتمع. ورغم ذلك فإن الشعور بعدم الرضا يتزايد باستمرار في صفوف الجيل الجديد من الشباب، الذي لا يزال البعض منه يلتزم بالتقاليد الإسلامية السلفية، والبعض الآخر يطمح إلى توزيع عادل للثروة، والعدالة الاجتماعية، والأغلبية تتساءل عن شرعية هذه الأنظمة. وبالتالي فلا تزال هذه الأنظمة خائفة من توسيع دائرة المشاركة السياسية، وترفض أية محاولة لتسييس الجماهير في أقطارها. ثانيا: شرعية الأنظمة الجمهورية العربية أما فيما يخص الأنظمة الجمهورية، فهي على النقيض من الأنظمة الملكية، فقد قام واستند حكمها إلى قاعدة أن الشعب هو المصدر الأساسي لشرعية ممارسة السلطة، وهو ما نصت عليه المواثيق والدساتير التي جاءت بها ثوراتها، حيث وصفت هذه الثورات بأنها ثورات الجماهير والطبقات الشعبية. ومن ثم أصبح على هذه الأنظمة أن تجسد هذه القاعدة بـ “الأيديولوجية الثورية” بقدر ما عكست هذه الأيديولوجية مصالح الطبقات الشعبية الواسعة، وبقدر ما حملت طموحاتها وأهدافها. أو ﺒ “الزعامة الملهمة” لأن هذه الزعامة التي تكثّفت فيها كل مشاعر النضال والخلاص والبطولة الشعبية. ولقد اكتسبت الإيديولوجيا الثورية كمصدر للشرعية صدقية عالية لدى الجماهير العربية، ولكن اختلف وتفاوت استعمال مضمون هذه الإيديولوجية، إذ وصل إلى درجته القصوى في أنظمة “حزب البعث العربي الاشتراكي” في سورية والعراق، أما في مصر فقد تصاعدت الفكرة القومية لتصبح “دين الدولة” السياسي خلال أزمة السويس 1956 وإبان مرحلة الوحدة المصرية – السورية(1958 – 1961)، ثم تراجعت في فترة الستينيات والسبعينيات. ولقد تأثرت جميع الإيديولوجيات بتجربة 1952 بادئ الأمر وبتراث حزب البعث العربي الاشتراكي بدرجات متفاوتة، وأهم عناصر هذه الإيديولوجيات كانت الوحدة والحرية والاشتراكية، وحددت أعداء الأمة العربية بالاستعمار والصهيونية، مما جعلها مصدرا مقبولا للحكم لدى غالبية أبناء المجتمع العربي، إضافة إلى القدر الملموس الذي حققته على مستوى التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتغييررات في الهياكل الطبقية والمؤسسية، مع تصعيد آمال وطموحات مجتمعاتها (25).

ويمكن القول أنه في فترة المد القومي اكتسبت الإيديولوجيات الثورية مصداقية عالية لدى الجماهير العربية، وكانت أساسا قويا لإضفاء الشرعية على النظم التي تبنتها في الخمسينات والستينات. وحققت تلك النظم بدورها معدلات سريعة في مضماري التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. كما أنها تبارت مع بعضها البعض في تصعيد توقعات وآمال الجماهير في أقطارها نحو المزيد من الإنجازات، فكانت الفاعلية سبيلها لتكريس الشرعية. إلى أن جاءت هزيمة 1967 التي كانت الشرخ الأعظم في شرعية معظم النظم التقدمية، لأن هذه الهزيمة حدثت في ميدان القومية العربية، الذي يشكل المصدر الأساسي لهذه الشرعية. فعلى العكس من الأنظمة المدنية التي تعتمد في شرعيتها، أساسا على مصدر تقليدي، تدعمه بشكل ثانوي الإنجازات الداخلية والمهارة السياسية.

فإن المصدر الرئيس الذي استندت إليه الأنظمة العسكرية والعقائدية هو إيديولوجيتها الثورية، أي قدرتها على إحداث التغيير وتحقيق الأهداف الكبرى التي روجت لها ووعدت بإنجازها. فالأنظمة المدنية لم تعد بتحقيق المساواة والعدالة والحرية والاشتراكية والوحدة العربية وتحرير فلسطين. أما العسكرية والعقائدية فقد وعدت بكل ذلك وبأكثر منه، وجعلت من هذه الوعود مسوغ استيلائها على السلطة واستمرارها في توليها، بينما كان ما أنجزته دون الحد الأدنى الذي توقعته شعوبها على ضوء الوعود الضخمة التي أجزلت لها. في حين لم تعمد الأنظمة المدنية إلى تعبئة شعوبها سياسيا، ولم ترفع من توقعاتها الداخلية والخارجية، وبالتالي فإن ما أنجزته من برامج إصلاحية كان يمثل على كل تواضعه أكثر مما توقعته شعوبها منها. وقد صاحب انتكاس الأنظمة التقدمية والثورية، تضخم الثروات النفطية للأنظمة الملكية وتصاعد دورها في إدارة شؤون الوطن العربي، وأصبحت الأنظمة التقدمية تابعة ليس فقط لقوى خارجية، وإنما أيضا لأنظمة عربية هي نفسها تابعة لقوى خارجية. ومع نهاية السبعينيات كانت معظم هذه الأنظمة قد فقدت القدر الأكبر من شرعيتها وفعاليتها على السواء (26).

وإذا كانت الإيديولوجيات القومية قد ارتبطت بفكرة العروبة عموما في الوطن العربي فقد أصبحت إيديولوجيا الدولة الوطنية في الوقت الحاضر في بعض الأنظمة الجمهورية أكثر ملاءمة للسلطات القائمة وإن وصفت بالانعزالية أو الإقليمية أو القطرية، وقد تكون متخفية وراء شعارات قومية أو دينية سطحية، وخير من جسد هذه الظاهرة “بو رقيبة” في تونس، حيث ارتبطت الإيديولوجيا الوطنية – القطرية – بشكل وثيق بشخصنة السلطة (27). لقد مثلت الإيديولوجيا الثورية كمصدر للشرعية عقدا اجتماعيا صريحا أو ضمنيا بين الأنظمة الثورية والجماهير بقدر ما يلتزم هذا العقد بجملة أهداف وطنية وقومية، وعليه جعلت الأنظمة من هذه الأهداف مبررا لحكمها واحتكارها وممارستها للسلطة، بعكس الأنظمة الملكية التي لم تعبئ شعوبها سياسيا، ولم ترفع توقعاتها الداخلية والخارجية، ومن ثم ما أنجزته من برامج إصلاحية متنوعة كان يمثل على تواضعه، مستوى مقبولا لدى شعوبها، في حين أن ما أنجزته الأنظمة التقدمية على أهميته، كان في ظل الوعود أو الحد الأدنى في معظم الحالات ولا يرتقي إلى مستوى المضامين والأهداف التي تبنتها الإيديولوجية الثورية، وعلى هذا الأساس فقد معظم هذه الأنظمة القدر الأكبر من شرعيتها وفعاليتها على السواء، الأمر الذي جعل مصدر شرعيتها الإيديولوجي بلا مضمون حقيقي. ثالثا: وسائل تدعيم شرعية الأنظمة العربية لقد كان من الطبيعي أن تلجأ الطبقات الحاكمة العربية، في مواجهة نقص الشرعية داخل الدولة، إلى ساحة أوسع لتستقي منها الجزء المتبقي من مقومات الشرعية، وهي المبادئ القومية والدينية، وأصبح كل حاكم عربي يسعى إلى توسيع دائرته الجماهيرية خارج حدوده عن طريق مخاطبتها فيما يخصها، ويدخل في حيز مسؤوليات واهتمامات حكامها. ومن هذا التأييد الخارجي يحفز التأييد الداخلي ليضاف إلى القدر المحدود من الشرعية داخل بلده، وهو أيضا بهذا التوسيع في دائرة التأييد يوسع من دائرة نفوذ دولته، سواء في مواجهة دول عربية أخرى أو في معاملاته الدولية الأوسع. كذلك فإن تأثير دور الأمة أو دور العامل “العربي” في سلوكيات الأقطار العربية، يبدو أكثر بروزا عندما نحلل الخطاب السياسي للقيادات الحاكمة. فالحاكم العربي يراعي في خطابه السياسي أن يكون موجها إلى دائرة أوسع من دائرته القطرية.

ويبرز هذا الأمر ليس فقط عندما يتعامل مع خطاب سياسي يناقش سياسة إقليمية أو دولية، ولكن أيضا عندما يتعامل الخطاب مع قضايا داخلية، ويلاحظ ذلك في مشروعات وخطط التنمية الداخلية وفلسفات التخطيط وسياسات التعليم، إذ يطرح الخطاب المعلق بها في معظم الأحيان مسألة النموذج أو القدوة. بذلك يتميز الخطاب السياسي للحكام العرب بأنه يتجاوز حدود دائرتهم القطرية إلى دائرة أوسع، ويعتمد الإشارة إلى قضايا عربية عامة، ويركز على المبادئ والقواعد التي تميز مسيرة مرحلة معينة من مراحل التطور العربي، ففي مرحلة المد القومي كان التركيز في الخطاب على القومية والوحدة مع الإشارة إلى الإسلام. وفي مرحلة انحسار المد القومي وصعود المد الإسلامي صار تركيز الخطاب على الإسلام مع الإشارة إلى الأمة العربية بمضمونها الإسلامي. فكلاهما – القومية والإسلام – عنصران متكاملان في الخطاب السياسي العربي وكلاهما متوجهان إلى دوائر أوسع من الدائرة القطرية الضيقة، وكلاهما يضيفان إلى شرعية القيادات الحاكمة العربية داخل دولها، وكلاهما لم يتمكن نظام حكم في الوطن العربي – وبالذات تلك التي تتطلع لممارسة دور قيادي على المستوى العربي – من الاستغناء عنهما (28). فالذي حصل، تركيز شديد في عناصر القوة السياسية عند قمة الهرم السياسي، وقد قبلت الجماهير هذا الوضع لفترة من الزمن على أساس أن الأنظمة السياسية العربية وبالأخص الراديكالية، تسعى إلى تحقيق بعض الأهداف القومية، والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة التي خاضت في سبيلها هذه الأنظمة معارك شتى داخلية مع القوى السياسية المنافسة، وانتهت بتصفيتها والقضاء عليها، أو مع القوى الخارجية، وانتهت بهزائم أبرزها هزيمة عام 1967.

فيما تواجه هذه الأنظمة منذ الثمانينيات مشكلة تآكل شرعيتها السياسية كحصيلة لفشلها في الحفاظ على الاستقلال الوطني أو تحقيق التنمية، كما تواجه تهديدات الأمن من قبل القوى الأجنبية، وتعجز عن تحقيق قيم الديموقراطية والمشاركة السياسية، وكان رد فعل هذه الأنظمة لإنقاذ شرعيتها هو تطبيق استراتيجيتين: 1-النزوع إلى تعددية سياسية مقيدة لتخفيف الضغط عن النظام السياسي وإتاحة الفرصة للأصوات المعارضة أن تعبر عن نفسها، وذلك في حدود الدائرة الضيقة التي رسمتها للمشاركة التي تضمن إمكانيات تداول السلطة شكليا. 2-ممارسة القمع المباشر ضد الجماعات السياسية التي لم يعترف لحقها في المشاركة السياسية، أو التي لم تقبل بفكرة التعددية السياسية المقيدة، وفق الصيغة الغربية، وتهدف إلى الوصول إلى السلطة، وأهمها الجماعات الإسلامية الاحتجاجية. أما الأنظمة الملكية فبعضها أدرك تحول حركة التاريخ في اتجاه التعددية السياسية فسارع نحوها، وبعضها ما زال مغلقا على ذاته مصرا على الاعتماد على شرعية التقاليد (29).

إن السعي وراء مصادر للشرعية أدى بالضرورة ببعض الأنظمة والزعماء العرب لمباشرة سياسات “افتعال الأزمات”، فالنزاع في المنطقة مستوطن في حالات الصراع العربي – الصهيوني، وقضايا الحدود، والانقسامات الطائفية والعرقية، كلها أو بعضها تم تضخيمها ودفعها إلى مستوى الأزمة، وقد حدث وأن استخدمت بعض الأنظمة التي تشعر بتناقص شرعيتها أو ضعف مصدرها هذه المشاكل للتعبئة السياسية وتوظيفها لصالح نظمها الحاكمة، ومن ثم صرف الجماهير عن المشاكل الحقيقية ومنها التشكيك بشرعيتها. فالأنظمة السياسية العربية تستند إلى اعتبارات القوة المجردة أكثر من استنادها إلى اعتبارات الإرادة الحقيقية لمجتمعاتها، فشرعيتها هي شرعية الأمر الواقع، فلا هي شرعية القانون، لأن أدوات صنع القانون تقبض عليها السلطة التنفيذية بإحكام، ولا هي شرعية الظرف التاريخي الذي يبرر مؤقتا التغاضي عن ضرورة كون السلطة السياسية مستندة إلى أسس حقيقية من رضاء المحكومين بها، ومن الإقرار بمبدأ تداول السلطة السياسية بين مختلف القوى والجماعات السياسية. ولقد أدى فراغ الشرعية ببعض الأنظمة السياسية العربية إلى إثارة المخاوف من البدائل التي تطرحها بعض فصائل المعارضة، فيما لو حصل وتغير النظام القائم. فالأمر قد يفضي إلى ديكتاتورية إسلامية متعصبة ودموية، أو نظام ليبرالي فوضوي ضعيف يؤدي إلى الصراع والحرب الأهلية. فالأنظمة العربية قد دخلت أزمة شرعية حادة، والجانب الخطير لهذه الأزمة هو وجود وضع متفكك أكثر مما هو وضع ثوري، إنه وضع يبقى فيه النظام قائما ولكن من دون سند جماهيري أو رغبة حقيقية في بقائه.

مما يعني أن استقرار الدولة العربية سيستمر لبعض الوقت مرتكزا على قدرة القيادة السياسية على ممارسة سيطرة فعالة عبر القسر لتطويع أفراد وجماعات في البنيان الإداري والسياسي، وتوسيع الخدمات الاقتصادية والاجتماعية، مع توسيع قدر ملحوظ من المشاركة السياسية، وستستمر الأنظمة العربية في البقاء مرنة قابلة للتكيف طالما نفذت هذه العمليات، وقد تلجأ بعض الأنظمة السياسية العربية، بحثا عن الشرعية كما في السبعينيات والثمانينيات، إلى أسلوب الليبرالية السياسية الذي لا يعني إطلاقا الحريات لمختلف القوى السياسية للتعبير عن نفسها، إنما تعددية سياسية لا تكون معادية ومتناقضة مع النظام السياسي (30). ولابد هنا من التأكيد على بعض الحقائق، ومنها (31):

1-إن استمرار رئيس الدولة في منصبه ليس معيارا حقيقيا للاستقرار، فالمجتمع السياسي العربي، يشهد في الواقع صراعا عنيفا، وعلى الأنظمة السياسية أن تتأقلم باستمرار مع هذا الصراع.

2-إن ما نجحت به الأنظمة العربية، هو إخفاء الغليان وتأجيل الانفجار، وذلك من خلال تحكمها بوسائل الإعلام الداخلية ورقابتها الصارمة على إمكانيات الإعلام الخارجي في رصد الأحداث داخل هذه البلدان.

3-التراكم الهائل في مجالات القمع، والكبت، والمراقبة، والتفوق في الأجهزة العسكرية والأمنية والمخابراتية، القادرة على ضرب أشكال المعارضة الداخلية من دون أن تأبه لمبدأ أو قانون أو عقد.

4-إن نشأة نظام إقليمي عربي سياسي جديد يحكمه منطق الاستمرار السياسي في داخل كل دولة بفضل عدد من العناصر المتكاملة مثل تحسين شرعية بعض الدول التقدمية، واستمرارية الأنظمة المحافظة والنمو الهائل في الريع النفطي وتسربه إلى الدول غير المنتجة للنفط.

5-المجال الواسع لتحرك الأيديولوجيات.

إشكالية الشرعية في الأنظمة العربية (2)

الفصل الثالث التحديات الراهنة لشرعية الأنظمة العربية

أولا: الشرعية في تقرير التنمية الإنسانية العربية 2004 (32) أتى هذه التقرير ليتناول موضوع أزمة الشرعية التي تعاني منها الأنظمة العربية، في ذات الوقت الذي أصبحت فيه هذه الشرعية مصدرا للجدل والتحدي، فمن أهم القضايا التي تناولها تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004، أزمة الشرعية الدولية التي تعاني منها أو تفتقدها معظم الأنظمة العربية، التي تستند حسب قول التقرير، إلى شرعيات تقليدية (دينية / قبلية)، أو ثورية (قومية / تحريرية)، أو أبوية تدعي الوصاية على المجتمع بحكمة رب العائلة أو ” البطريرك “. وإلى هذه النماذج، أضاف التقرير ما يسميه البعض ” شرعية الابتزاز “، وهي تقوم على النظر إلى نظام ما بوصفه ” أهون الشرين “، وخط الدفاع الأخير ضد الاستبداد الأصولي أو ما هو أسوأ، أي ” الفوضى وانهيار الدولة “. وكما جاء في التقرير، فإن دولة الثقب الأسود، تستمر بفضل أجهزة التحكم والدعاية السلطوية، إضافة إلى ” تحييد النخب بالترغيب والترهيب، والمسارعة إلى عقد الصفقات مع قوى الهيمنة الأجنبية أو الإقليمية “. وباستمرارها، فإن عملها يكاد ينحصر في مصادرة أو الاستحواذ على قدرات وإمكانات وثروات طبيعية وبشرية، أو تعطيل ومنع وتخريب طاقات وديناميات أخرى. ويشير معدو التقرير إلى أنه في ظل دولة كهذه، تكون الهيمنة المطلقة للأجهزة الأمنية والعسكرية التي تفوق صلاحياتها صلاحيات أي جهاز آخر في الدولة، ويسخر القضاء (الاستثنائي غالباً) لإقصاء المعارضين والخصوم، أو تحجيمهم كحد أدنى. ويضيف التقرير أن الدساتير العربية أجمعت على استقلال القضاء وحرمته، والكثير منها نصت على العديد من ضمانات المحاكمة العادلة، لكن ما يرصده الباحثون ونشطاء حقوق الإنسان هو التباعد بين النصوص والواقع، لأسباب سياسية في معظمها، ” ففي النظم الشمولية ذات الزخم العقائدي المتحكم في أمرها، لا يستطيع القضاء أو القضاة أن ينأوا عن تأثير تدخل السلطة التنفيذية، بدعوى حماية الأسس العقائدية للمجتمع الشمولي “.

وإضافة إلى ذلك، ثمة بعض الدساتير العربية تحمل في صميم نصوصها تعارضاً مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان عبر تبني صياغات ذات طبيعة إيديولوجية أو دينية تصادر الحقوق والحريات العامة. وتبقى أخطر الانتهاكات التشريعية لحقوق الإنسان في العالم العربي، إشهار حالة الطوارئ على نحو دائم ومستمر، لعقود طويلة من الزمن، من دون وجود ما يستدعيها من أخطار، وفي ظل الطوارئ والأحكام العرفية تنتهك حرمات المواطن وحقوقه الدستورية و التشريعية، مثل حرمة المسكن والحرية الشخصية، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، والحق في الاجتماع والتنقل. كما أن حالة الطوارئ تنزع القدر الأكبر من سلطة المؤسسة التشريعية لتضعها في يد السلطة التنفيذية أو الحكم العرفي. وبغياب الشرعية أو دولة العقد الاجتماعي الطوعي، تتحول الدولة إلى دولة تسلطية متغولة، تخترق كل ثنايا المجتمع، تحتكر مصادر القوة والسلطة وتضع يدها على كل مستويات التنظيم الاجتماعي، وتجعل من نفسها ناطقة باسم الشعب والجماهير، مكرسة العلاقات الأبوية والرعوية على حساب العلاقات المدنية والمواطنية، وتماهي بين القائد الذي تحيله إلى رمز تاريخي، يعلو على المساءلة والمحاسبة، وبين الوطن والأمة، ومن أجل فحص نفسها تقوم بتأطير الفرد من المهد إلى اللحد، وكذا المؤسسات، مستندة إلى شرائع وقوانين بلا ضوابط أو معايير، أو قوانين الطوارئ المفروضة بالقوة والإكراه، وينحصر دور المواطنين أو الشعب آنئذٍ في الخضوع التام والطاعة والتبجيل، بدل المراقبة والمحاسبة، ويتعود الناس على الغش والتملق والوشاية، وتسود ثقافة الخوف بكل تبعاتها المدمرة، ويفقد المجتمع ككل أي استقلالية له تجاه ” دولة ” تبتلعه وتفترسه.

ويصير الفساد الاقتصادي والاجتماعي، جراء ذلك، نتيجة طبيعية للفساد السياسي، ويأخذ الفساد في بعض البلدان شكل ” الفساد البنيوي ” حيث يغدو الاستغلال الشخصي للمنصب والتصرف في المال العام أمراً طبيعياً في العرف السائد، ويؤدي استشراء الفساد إلى خلق شبكات أشبه بالمافيا، تعيق التنمية وتزيد من فقر الفقراء، وتفاقم من سوء توزيع الدخل والثروة، إلى جانب سوء توزيع القوة (السلطة) فيه. ثانيا: تحديات شرعية الأنظمة العربية يمثل الاحتلال الأميركي للعراق أكبر تحد للأمة العربية بأسرها، على مستوى الوجود، وبات واضحا أن الدول العربية جميعها (أنظمة وشعوبا) مستهدفة لنوع من الغزو الأميركي. ترافق ذلك بعجز واضح لدى معظم الأنظمة العربية في الحفاظ على ما استطاعت اكتسابه من شرعية في العقود السابقة، إذ أنها أولا لم تكن قادرة على حماية الأمة من الغزو الخارجي (العراق)، ويضاف إلى إخفاقها في تحرير ما اغتصب من أرض (فلسطين والجولان)، بل كان السلام المعقود مع “الكيان الإسرائيلي” أشبه بعملية استسلامية تنازلت عن كل مقومات القوة ووحدة الصف العربي. ونتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات انكشفت هذه الأنظمة أمام شعوبها، وسقطت ادعاءاتها بالتنمية والاستقلال والمحافظة على الهوية، عدا عن مواجهتها أو خضوعها لإملاءات أميركية تطال المعتقد والدين والقومية والهوية. وهو ما أنتج معارضة عربية بدأت تحصد شيئا من الشرعية على حساب الأنظمة من خلال تناولها للمحاور الرئيسة التي ينشدها المواطن العربي، وهو ما يضع الأنظمة العربية في تحد آخر ما بين الأسلوب القديم – محاربة المعارضة – وبين أسلوب لا بد منه وهو التعاطي مع هذه المعارضة بما يصون الوطن ويدعم النظام، ويضفي الشرعية على كليهما. ففي حين كانت الأنظمة الملكية والمستندة إلى مصادر شرعية تقليدية تحظى بدعم الولايات المتحدة في مواجهة الأنظمة الثورية، أصبحت هذه الأنظمة مستهدفة في مصادر شرعيتها، ومطالبة بإحداث تغييرات جذرية بإسقاط البعد الديني عن ذاتها، وإعادة تعبئة شعوبها بعيدا عن ” الإرهاب “، وإن كانت هذه الأنظمة حاولت التماهي مع المشروع الأميركي، غير أن شعوبها والتي باتت على يقين من مصادر شرعية أنظمتها، ما كانت قادرة على التخلي عن إرث عقود طويلة من الإيديولوجيا المحافظة، بل باتت تنظر لهذه الأنظمة بأنها قد فقدت شرعيتها، وبأنها لم تعد تتمثل شعوبها، وبدأت أعمال العنف ومطالب التغيير تظهر بقوة في هذه الدول، مما جعل الأنظمة الملكية أمام تحديين، التحدي الأميركي والتحدي الشعبي، ففي حين تميل إلى إرضاء العامل الأميركي، تحاول في ذات الوقت الالتفاف حول الشعب في محاولة إعادة صياغة المعتقد، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى التدخل مباشرة تجاه هذه الشعوب.

أما الأنظمة الثورية والجمهورية فقد باتت مطالبة بالتنازل وإلغاء الفكر الثوري وفي مقدمته الفكر القومي العربي، والانصهار ضمن الفكر شرق الأوسطي، من خلال تفعيل معاهدات سلام مع الكيان الإسرائيلي، والاندماج في السوق الكونية بعيدا عن سياسات الاستقلال الاقتصادي. وفي حين لقيت هكذا دعوات قبولا لدى بعض تلك الأنظمة، لم تكن أخرى مستعدة بشكل كامل لهذه الصيغة للعلاقات في المنطقة أو مع الولايات المتحدة، مما يتوجب أن تتوجه نحو إعادة تدعيم شرعيتها من خلال العودة إلى الشارع العربي واستخدام خطاب انتظره ذلك الشارع طويلا – خطاب المواجهة – مما سيكسبها مصداقية جديدة بحاجة إلى تدعيم فوري وقوي، فإذا كانت شعوب هذه الأنظمة باتت على استعداد لتجاوز إخفاقات كثيرة في مقابل تحقيق الأمن أمام المشروع الأميركي، فإن هذه الشعوب بحاجة إلى إجراءات فعلية تدعم مطالبها وتستمر إلى ما بعد تجاوز المحنة الأميركية، وتأتي في قمة مطالب هذه الشعوب، والتي تعتبر في الوقت ذاتها معاييرا حقيقية للشرعية: -صيانة السيادة الوطنية والمحافظة على الاستقلال. -تحقيق تنمية مستدامة وبأقصر وقت ممكن، على أن يتجلى ذلك على مستوى المعيشة وفرص العمل والعدالة الاجتماعية. -إعادة صياغة العقد الاجتماعي (الدستور) بما يتوافق مع متطلبات المرحلة القائمة. -بناء حياة سياسية مدنية قادرة على استيعاب كل أطياف الوطن. وتشمل ما تتطلبه من أحزاب وإعلام وحرية تعبير. -تدعيم قيم المجتمع الدينية والقومية، باتجاه العمل على إعادة طرح مشاريع حقيقية لصيانة تلك المعتقدات.

-احترام وتدعيم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبما يصون له كرامته. ويضاف إلى ذلك، ما تشهده معظم الدول العربية من ظاهرة ” الإرهاب ” والتي قد تشكل عاملا إيجابيا لصالح الأنظمة العربية، إن هي استطاعت القضاء على هذه الظاهرة أو على الأقل تحجيمها، فتضيف بذلك مكاسب جديدة تدعم شرعيتها من خلال قدرتها على حماية أمن الوطن والمواطن، وإن هي أخفقت في ذلك، فسيكون إيذانا بزعزعة داخلية لكثير من الأنظمة العربية التي قد تفقد بعضا من أو كل مواقعها أمام مطالب الأمن والاستقرار. الخاتمة على الرغم من إيجاز الدراسة، إلا أنها استطاعت أن تقترب من هدفها في تناول المفاصل الرئيسة لإشكالية شرعية الأنظمة العربية، محاولة الحصول على إجابة حول السؤال الذي بادرت إلى طرحه في مقدمتها إزاء قدرة الأنظمة العربية على المحافظة على شرعيتها في ظل ما يطرأ من تحديات في المنطقة العربية تقودها إلى الأسوء مما كانت عليه. وترى الدراسة أن الأنظمة العربية قد تكون أمام مفترق طرق حقيقي، ما بين الاتجاه أخيرا نحو شعوبها وتدعيم شرعيتها بهم ومن خلالهم بآليات ديموقراطية تضمن المشاركة السياسية الحقيقية لهم، في ظل ظروف الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إدراك البعدين الأساسيين المكونين لطبيعة هذه المنطقة (البعد القومي والبعد الإسلامي). وإما أن تظل على اقتناعها بأن الشرعية مصدرها من خارج المنطقة، وبالتحديد من الولايات المتحدة، والتي ما عادت لترأى أي نظام عربي شرعي، والتي أصبحت مخططاتها واضحة باستهداف الأمة بأسرها.

إذ تجد الدراسة أن التحديات التي يتعرض لها الوطن العربي اليوم باتت أكبر من أن يغض الطرف عنها، فالمشروع الأميركي الإمبراطوري بصيغة احتلالية قد بات داخل الوطن العربي، لا على حدوده أو يهدده، بل احتل جزءا منه ويمهد لمتابعة المسير في ذلك. وأصبح موضوع السلام مع الكيان الإسرائيلي مرتبطا بمشيئة هذا الكيان وبشروطه، وعلت أصوات تحاول عدم إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى موطنهم والتغاضي عن موضوع القدس بالتطرق فقط إلى ” القدس الشرقية “. في حين باتت الهوية القومية العربية بل والوطنية مهددة بالزوال في مشروعات إقليمية تجعل أولوية لدول الجوار بما فيها وأولها الكيان الإسرائيلي. في حين ارتهنتت الثروات العربية في مجملها للقوى الغربية الاستعمارية وبات معظم أبناء الوطن العربي مهددون بالفقر خلال سنوات قليلة، وهو ما قوض أيضا أي مشروع تنموي يمكن أن يظهر على المستوى المنظور. إضافة إلى تشظي المجتمعات العربية إلى عشائرية وطائفية وإقليمية تزيد من تهديد الهوية العربية الواحدة. عدا عن تعاظم خطر بعض الأقليات العرقية الانفصالية في الوطن العربي التي بدأت تشكل كيانات قد تكون نواة انفصال عن دولها. عدا عما يعانيه الوطن العربي من حركات تكفيرية تستخدم الإسلام كغطاء لعملياتها الإرهابية. جميع هذه التحديات وسواها، تشكل فيما تشكله تحديا قويا أما شرعية كل نظام عربي، حيث يقع على عاتقه مواجهتها جميعا في آن واحد، فإن بقيت الأنظمة العربية على أساليبها التقليدية في تغييب الشعوب وقمعها وامتطاء الركب الأميركي فهذا قد يعني زوال الأنظمة والأوطان وتشرد الشعوب وضياعها في جملة هذه المخاطر والتحديات.

وعلى الرغم من قنوط كثير من الشعب العربي من أنظمته، إلا أن توجها نحو الشعوب بانفتاح وديموقراطية ومصداقية للمشاركة معا في التصدي لهذه التحديات، سيكسب الأنظمة شرعية جديدة تستطيع الحفاظ عليها من خلال استمرارية العمل مع الشعب وله. ورغم نقاط القصور التي قد تكون الدراسة قد وقعت فيها، إلا أنها كانت محاولة للعمل على بحث السبل الكفيلة بدفع ما قد يهدد الوطن والمواطن. 

 

مراجع البحث: 1- د. خميس والي، إشكالية الشرعية في الأنظمة السياسية العربية: مع إشارة إلى تجربة الجزائر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه 44، الطبعة الأولى، شباط 2003)ص 22.

2- المرجع السابق، ص 30.

3- المرجع السابق، ص 22.

4- د. أحمد ناصوري، إشكاليات وتحديات النظام السياسي (جامعة دمشق، كلية العلوم السياسية، مجموعة محاضرات غير منشورة لطلاب دبلوم الدراسات السياسية، 2005).

5- د. خميس والي، مرجع سابق، ص: 23.

6- المرجع السابق، ص: 25.

7- المرجع السابق، ص 30.

8 – أ.د. محمد زاهي بشير المغيربي، الديموقراطية والإصلاح السياسي: مراجعة عامة للأدبيات (جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ندوة الديموقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي، 9/10/2005)، 

www.arabenewal.com. 9- د. أحمد ناصوري، مرجع سابق.

10 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 55.

11- المرجع السابق، ص 26 – 28.

12- د. علي هلال و نيفين مسعد، النظم السياسية العربية: قضايا الاستمرار والتغيير (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، شباط 2002) ص 131 – 139.

13 – المرجع السابق، ص 139 – 148.

14 – د. أحمد ناصوري، مرجع سابق.

15 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 32.

16 – د. أحمد ناصوري، مرجع سابق.

17 – المرجع السابق.

18 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 39.

19 – المرجع السابق، ص 43 – 50.

20 – المرجع السابق، ص 53، 54.

21 – المرجع السابق، ص 105، 106.

22 – د. مجدي حماد، جامعة الدول العربية (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كانون الأول 2003)ص 120.

23 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 104.

24 – د. مجدي حماد، مرجع سابق، ص 119.

25 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 111.

26 – د. مجدي حماد، مرجع سابق، ص 128 – 130.

27 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 112.

28 – د. مجدي حماد، مرجع سابق، ص 124، 125.

29 – د. خميس والي، مرجع سابق، ص 77.

30 – المرجع السابق، ص 118 – 253، 79.

31 – المرجع السابق، ص 71، 72.

32 – لمزيد من المعلومات، انظر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية 2004: نحو الحرية في الوطن العربي (عمان، المطبعة الوطنية، 2005). 

 

– عبد القادر نعناع – كاتب سوري – 23 مارس 2010

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى