إشكالية بناء الدولة المدنية ضمن ظاهرة الطائفية


يدور الحديث عن الطائفية والطوائف في أوساط الناس من ذوي الثقافة وغيرهم، وغالباً ما يتم التركيز على توصيف الظاهرة وعدم التعريف بها، وهذا نهج متأت عن جهل لجوهر ومضمون الظاهرة وجذورها التاريخية. هذا ما يحدث فعلاً وخصوصا في ظل هيمنة ثقافة التغالب والادعاء وحب التظاهر والارتقاء التي غالبا ما تكون سائدة خلال فترات التحولات الهامة إن لم نقل الكبرى والتي يصاحبها حالة فك عقدة اللسان للإنسان المقهور والمهمش من قبل الأنظمة السلطوية والأعراف الاجتماعية الاستبدادية، وإن كان هذا نابع عن جهل أو قلة معرفة فإن هناك من يسعى ويبذل جهداً فكرياً كبيراً من أجل أن يظل سر نشوء وترعرع الظاهرة الطائفية مستورا موارى خلف ستائر القدسية والأغطية الأيديولوجية التي تسعى لتأبيد حالة الجهل والعمى الفكري لجمهور مضلل معطل مكبل بقيود ايدولوجيا قوى ترى في الظاهرة الطائفية وتأييدها خدمة كبرى لدوام سيطرتها، سواء في سدة السلطة الحاكمة أو على وسادة ومنبر المجتمع عبر جمهور مقهور ومبهور ومضلل يقاد بسلاسل وهمية ترسم عليها رموز مقدسة، يوحى للمقاد من خلال استحضار أشباحها أنها تعطي دعمها وتدعم هؤلاء باعتبارهم وكلاء وأمناء ومستودع سر هذا المقدس.
وهنا لابد من سؤال: هل الظاهرة الطائفية هي ظاهرة تخص الدين الإسلامي دون غيره؟

طبعاً إن الجواب سيكون بالنفي حتما حيث إن هذه الظاهرة موجودة في كافة الأديان سواء السماوية منها أو (الوضعية) كما هو حال التشظي والانشقاق في كافة الحركات والأحزاب السياسية العقائدية، وهذا هو حال المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها، وهذا مما يجب أن يوفر للعقل دليلاً قوياً كون هذه الظاهرة ليست وليدة عقل خارق مفارق أو نتاج مفكر متأمل، إنما هي حالة نابعة ومولدة من رحم حراك اجتماعي دائم التغير والتبدل والتجدد باعتباره صراع مصالح قوى وطبقات وفئات اجتماعية مختلفة ذات بنية تحتية معينة، وفي مستوى من التطور أو مستوى معين من الصيرورة تستدعي أن يكون لها غطاءا ايدولوجيا في البنية الفوقية يدعم وجودها ويؤمن لها الركائز الفكرية للديمومة والبقاء في حلبة الصراع الدائر بينها وبين نقيضها الطبقي.
لكن الذي يهمنا هنا ضمن هذه الدراسة هي الظاهرة الطائفية كما تمظهرت في الطوائف الإسلامية وبالخصوص ما أطلق عليه (الطائفة السنية) و(الطائفة الشيعية) باعتبارهما محور الصراع الطائفي على امتداد التاريخ العربي الإسلامي ودوله المختلفة منذ عصر صدر الإسلام ولحين التاريخ.

إن من يتفكر جذر نشوء الظاهرة الطائفية يستطيع أن يستنتج أنها ليست مشكلة إيديولوجية وإنما هي مشكلة سياسية في الأصل، أو تمظهرت وترعرعت في رحم الصراع بين طبقة التجار ومواليهم وبين جمهرة فقراء المسلمين، عرب وغير عرب، لتسلم منصب وصولجان السلطة والحكم، وقد تم تغطية وجه الصراع الحقيقي بين المصالح بغطاء من النصوص والطقوس وانتعش سوق رواة الآيات والحديث والذي يبدو انه واقع حال خالي الغرض لو تم تفكره أفقيا كصراع بين صحابة رسول الله(ص) بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية، ولكن لو يتم تفكره عمودياً لتوضحت معالمه الطبقية في ذلك العصر، فبعد أن تمكن- تجار قريش من إقصاء كل ما عداهم من المهاجرين والأنصار ممن بذلوا المال والدماء والتضحيات الجسام في نصرة وثبات الإسلام، استبعدوا من الخلافة نظراً لعدم وجود صلة قرابة دم تربطهم برسول الله(ص) كون الرسول من قريش، بمعنى إن حق القبيلة أولى بالخلافة حسب ما زعموا وكأنهم نسوا أو تناسوا حديث النبي (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى) فاختزلوا التقوى في صلة الرحم والدم، ولعل قصة مقتل سعد بن عبادة الأنصاري الذي دخل المنافسة مع أبي بكر لخلافة الرسول كممثل للأنصار من قبل الجن معروفة في هذا المجال فتم اغتياله والتخلص منه، انتقل الصراع بعد ذلك من قريش وغيرها من قبائل العرب إلى مَن مِن قريش هو الأحق بالخلافة؟؟

نرى أن قريشاً وتجارها تنكرت لمبادئها التي أقصت بموجبها بقية المسلمين من حق الخلافة ألا وهي علاقة قرابة الدم والذي يستوجب أن يكون الإمام علي(ع) أو فلنقل بني هاشم هم الأولى في الخلافة وفق مبدأ القرب من رسول الله(ص).

وقد كان هذا الإقصاء مبنياً على أساس المصالح الطبقية، وقد أتى متخفياً ومستتراً خلف حزمة كبيرة من النصوص والروايات المتصارعة، واستطاع أن يكسب المعركة السياسية متخلياً عن قاعدة المبادئ التي تمسك بها الإمام علي وأنصاره ومشايعوه.

فارتأت ارستقراطية قريش أن تختار أبو بكر الصديق(رض)، الصديق والنسيب للرسول ليكون مقبولا من قبلها لتسنم الخلافة، والغير مرفوض بقوة من قبل عامة المسلمين وفقرائهم رغم ميلهم للإمام علي وأنصاره كمالك الأشتر وأبي ذر الغفاري وسواهما، أي حصل ما يشبه الهدنة والتوافق الطبقي آنذاك وإن كان قلقا، وقد انعكس على خيار أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب الذي لقب بالفاروق حيث كان أكثر ميلاً للمبادئ الإسلامية وللفقراء والتمسك بالقيم التي جاء بها الإسلام وعدم المجاملة في قول الحق وتحققه، كما كان مجلسه مفتوحا أمام الإمام علي(ع)، أي إن صوت المبادئ وصوت فقراء المسلمين كان مسموعاً بشكل واضح في ديوان خلافة عمر وقد جسدتها المقولة المشهورة (لولا علي لهلك عمر) والتاريخ يتحدث بالكثير من الشواهد المؤكدة حول هذا الأمر وقد ذهب عمر ضحية توجهه هذا، فإن كانت يد الاغتيال فارسية الانتماء فإن العقل المدبر عربي أموي قرشي النسب ارستقراطي الانتماء الطبقي، أراد بهذه الفعلة أن يتدارك هيمنة أنصار كفة فقراء المسلمين بقيادة الإمام علي والغفاري وأنصارهما فالتقى بقتل عمر دافع الثأر القومي الفارسي والحقد الطبقي الارستقراطي العربي الأموي خصوصاً الذي عبر عن حقيقة خيانة أهل الثروة والمال لمبادئهم مهما كانت تدعي الرفعة والسمو حينما تتهدد مصالحهم الطبقية الممثلة في انحياز عمر لصالح الفقراء والحد من ثراء الأغنياء، فقد روي عن عمر في آخر أيامه قوله: (لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لألحقن أخرى الناس بأولاهم حتى يكونوا في العطاء سواء). كما ذكر عنه (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء)[1]

فباغتيال عمر عجلوا وصول الخليفة الثالث عثمان بن عفان(رض) لتولي الخلافة باعتباره الأنموذج الأمثل لتحقيق طموحات تجار وارستقراطية قريش بقيادة معاوية بن أبي سفيان لتحقيق مقاصدهم لحيازة الثروة من الغنائم التي بدأت تتدفق بكميات هائلة على بيت مال المسلمين نتيجة التوسع في الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الثاني (رض).

وقد كان ما كان في عهد الخليفة عثمان بن عثمان(رض) حيث أصبح بيت مال المسلمين حكرا على بني أمية وأشراف قريش فتملكوا أطيانا وضياعا وكنزوا سبائك الذهب والفضة وملك أيمانهم الجواري والعبيد وقطعان من الإبل والمواشي تبهر الأبصار، في الوقت الذي كان يعاني فيه عامة المسلمين من الفقر والفاقة والعوز. (لقد بالغ عثمان في إسناد هذه الطبقة فوضع بيت المال تحت تصرفها وأطلق للصحابة وغيرهم اقتناء الأموال وتملك العقارات والتنقل بين الأمصار دون أي قيد)[2]

وأدناه نموذج لمدى كنز المال والغلال لعثمان وبعض مناصريه في ذلك العهد:
(عثمان بن عفان/ من النقد: 150 ألف دينار ومليون درهم، قيمة الأراضي والعقارات 100 ألف دينار.
الزبير بن العوام: من النقد 50 ألف دينار/ أموال مختلفة: 1000 فرس و 1000 عبد)[3]
وللتاريخ قول كثير في هذا الوقت من وصف حركات المعارضة والرفض والتمرد على ما آلت إليه الحال وطريقة صرف وتوزيع الأموال، وقد كان أبو ذر الغفاري صوتاً هادراً لا يهادن في كشف هذا الظلم والحيف دائم التحريض على الرفض والثورة من اجل العدل والمساواة بين المسلمين، فنبذ منفياً ومات وحيدا في الربذة بأمر من عثمان وبتحريض من معاوية، وقد كان نفيه وموته أحد أقوى أسباب تراكم الغضب لعامة المسلمين ضد عثمان، وكان ما كان من أمره تحت فورة وغضب مناصري العدل والمبادئ الذي تتوج بقتل عثمان ومبايعة الإمام علي من قبل جمع فقراء المسلمين الثائرين باعتباره إمام الفقراء والمقهورين وميزان الحق والعدل. وطبعا لم تستكن ارستقراطية قريش وعقلها المدبر معاوية بن أبي سفيان حيث البس النزاع قميص عثمان والمطالبة بثأره، فكان مظهراً واضحاً من مظاهر قوى الاستئثار الطبقي لينتقل الصراع من ساحة الأفكار والروايات إلى ساحة السيوف والرماح والصراع الدامي الطاحن بين مختلف الأطراف الذي حاولت العديد من الأقلام والدراسات ذات النظر الأفقي أن تصوره عداءا شخصيا بين أفراد وروايات ووصايا، وليس صراعا بين مصالح فئات وطبقات مستأثرة وطبقات محرومة ومهمشة. انه صراع بقيادة أهل الإيثار بزعامة الإمام على وأهل الاستئثار بقيادة معاوية ورهطه.

فهل كان خلاف طلحة و الزبير وأعوانهما مع الإمام علي(ع) وصحبه خلافاً شخصياً أم خلافاً على كمية ونوع العطاء من الغنائم وإعطائهم المناصب، فكان باعثا لمعركة (الجمل) بزعامة عائشة أم المؤمنين رمزاً شخصياً ومشخصنا للصراع للتجتمع حول ناقتها الجموع المؤملة والمضللة، ومن المعلوم إن استمرار الصراع والمعارك الدامية بين معاوية ابن أبي سفيان نقيب بني أمية وأهل الثروة والجاه ضد الإمام علي نقيب بني هاشم ورمز المستضعفين والفقراء، وخصوصا معركة صفين وما نجم عنها وما تلاها من أحداث وانقسام صفوف المسلمين، حتى انتهت باغتيال الإمام علي(ع) في محراب صلاته في الجامع من قبل ابن ملجم، فلم يستطع إمام الفقراء أن يتفرغ ولم تثنَ له الوسادة خلال خلافته لتركيز مبادئه وخططه ومساعيه لنشر قيم الإسلام الجوهرية في العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربة الاستكبار، وقد وصف هادي العلوي فترة حكم الإمام علي بالحدث العابر نتيجة لقصر المدة والانشغال في المعارك والحروب فـ(…حكم علي بن أبي طالب كان أشبه بحدث عابر في خضم الأحداث، وانقضت سنواته الأربع في مكافحة التمردات التي أثارها عليه أشراف العرب وأدت في النهاية إلى انهيار الخلافة واستيلاء الأمويين كممثلين للطبقة العليا على السلطة، ليفتحوا صفحة جديدة في حكم الاستغلال)[4].

وبغض النظر عن ظاهر من يقف وراء جريمة مقتل الإمام علي(ع) إنما كانت بتدبير ارستقراطية قريش وبزعامة معاوية وأنصاره، مما قلب موازين كفة الصراع لصالح قوى الثراء والمال والسلطة، كل هذه المعارك الطبقية الدموية الطاحنة بين الأثرياء ورموزهم، وبين الفقراء ورموزهم من المسلمين دارت تحت يافطة من هو الأحق بالخلافة؟؟؟ متخفية تحت حجج ونصوص وروايات منقولة ومنحولة ومفبركة مخفية حقيقة هذا الصراع والذي امتد كما هو معروف قروناً من الزمان طوال الحكم الأموي والعباسي والعثماني وما بعدهما ولحين التاريخ، تحت ما يسمى الصراع الطائفي بين السنة بمختلف أطيافهم وأوصافهم وبين الشيعة بمختلف أطيافهم وفرقهم (بدأ الشيعة حزباً سياسياً تحول بالتدريج إلى حركة معارضة سرية، وفي النهاية تطور إلى طائفة دينية بارزة … ولكن زعماء الشيعة فشلوا في انتزاع الخلافة من السنة فإنهم عانوا من بطش السلطة الحاكمة، هذا البطش الذي بات دوماً مصير هذه الحركات، لقد اكتسب الشيعة الكثير من مميزات أقلية مضطهدة)[5]. وهنا يتبادر للذهن سؤال يقول: ما هو سبب الإخفاقات المزمنة لحركات الفقراء ومن ينذرون أنفسهم للدفاع عن جوهر الرسالات الإنسانية على امتداد التاريخ العربي الإسلامي؟؟؟
نرى إن السبب الرئيسي لذلك كامن في بنية هذه التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية وطبيعة الدولة الريعية الخراجية مما حال دون بلورة طبقة برجوازية ناهضة منتجة، بل كتلة هلامية من التجار المرابين والعبيد والأقتان والحرفيين والصناع الصغار جندت ووضبت بمجموعها لخدمة متطلبات قصر السلاطين من وسائل الراحة والترف والكماليات لهم ولحاشيتهم ونسائهم وجواريهم وغلمانهم، وكانت تعتمد على توفير مستلزمات جندها وعساكرها عن طريق الاستيراد والمتاجرة المبنية على مبدأ وأسلوب المقايضة، أو طبقة التجار المستوردين وليس المنتجين وبالاعتماد على جلب أعداد كبيرة من العبيد والجواري للعمل في قصور وضياع الأمراء والسلاطين وأمراء الجيش.

كانت هناك إرهاصات لنواة طبقة برجوازية منتجة في بدايات العصر العباسي، رافقتها حركة فكرية فلسفية صاعدة عرفت باسم المعتزلة أو الفكر ألمعتزلي وخصوصاً في البصرة والكوفة وبغداد باعتبار هذه المدن من اكبر حواضر المدن العباسية، وقد تبنى بعض خلفاء بني العباس وخصوصا المأمون هذه الحركة، فقطعت السلطة طريق تطورها الطبيعي وهي لم تزل تحبو كحال مولدتها البرجوازية الناشئة، فقد كانت هذه الحركة تدعو إلى عقلنة أساليب وآليات الحكم وبناء الدولة، واعتمدت التفكر والتدبر العقلي المتسائل بعيدا عن التقليد والجمود النصي المتبع في إصدار الأحكام والقرارات والافتراءات، متأثرة في كثير من أطروحتها بالفلسفة اليونانية والفارسية التي برع العديد من (أهل الذمة) في ترجمتها إلى اللغة العربية، ومن بين هذه الحركات والدعوات حركة أخوان الصفا وغيرها من حركات المتصوفة ومن تم اتهامهم بالزندقة والارتداد، حيث كانت حركة فكرية تمور بالحياة والتساؤل والحركة بين معتزل متفلسف ورافع سيف محارب أو مرتدي خرقة متصوف أو لا مبال ماجن أو موال للحكم والسلطان، إنها إرهاصات عصر تنوير لم يكتب لها الحياة والتطور بسبب انسدادها الموضوعي الكامن في البنية الاجتماعية الاقتصادية القاصرة. لم تطل فترة ازدهار هذه الفلسفة ونفوذ هذه الطليعة الطبقية الداعية للتثوير والتنوير التي لم تكن متوائمة مع طبيعة الدولة الخراجية ونظام توريث السلطة والخلافة غير المنسجمة مع الفكر المتسائل المتجاوز، ولا تتفق مع الآلية الثيوقراطية التوريثية في الحكم، فأدار لها خلفاء بني العباس بعد المأمون ظهر المجن وحورب أنصارها ومتبعوها والداعون إليها كما حورب رافضوها في بداية الأمر، بالعكس مما حدث في الغرب حيث كان للبروتستانتية دور كبير في دعم نضال البرجوازية الصاعدة وتقدمها في هدم سلطة الاستبداد الإقطاعي وتطور الصناعة والتجارة حيث يذكر ماكس فيبر (من المعروف جيدا إن البروتستانتية كانت احد أهم العوامل في تطور الرأسمالية والصناعة في فرنسا)[6].

لاشك إن التاريخ يحدثنا عن انتفاضات وحركات وثورات دامت سنينا طوال تقارع السلطات الثيوقراطية الوراثية، ومن هذه الثورات والانتفاضات ثورة الزنج (كانت ثورة الزنج حركة ضيقة لا تنطوي على برنامج دقيق ونظرية تضمن لها البقاء والانتشار الواسع)[7] وعموم جمهرة الفلاحين والداعين للعدل والمساواة وحركة البابكية وثورة القرامطة والإسماعيلية، بالإضافة للمعارضة العلوية المستمرة طوال الحكم الأموي والعباسي وما بعده تحت حجة أحقيتهم بالخلافة والحكم باعتبارهم أهل بيت الرسول، هذا الحق المهدور الذي غالباً ما يكون سترا للكثير من الطامحين للسلطة والثورة أن يتستر به وباباً عن طريقه يدخل قلوب المتذمرين والناقمين على السلطان في مختلف العصور، ولكن سرعان ما يعادون وينكلون برموز العلويين (أهل الحق) عند وصولهم سدة الحكم كما فعل العباسيون عندما استتب لهم الأمر بعد إسقاطهم للخلافة الأموية.
لم تستطع هذه الزعامات لهذه الانتفاضات والثورات أن تتجاوز عجزها الموضوعي بإنتاج أيدلوجيتها الخاصة بها المعبرة عن مصالح القوى المنضوية تحت لوائها من الفلاحين الفقراء أو العبيد أو من أبناء القوميات المضطهدة والمحرومة، بل ظلت متلفعة برداء الأيديولوجية الدينية السائدة لتنتج ركائز نقيض طبقي واضح المعالم والأهداف، بل غالبا ما تستند إلى خطاب أخلاقي والعودة إلى المثل والمبادئ التي تدعيها الطبقة الثيوقراطية النقيض، مما جعلها تدور في نفس الفضاء الفكري والثقافي لنقيضها دون أن تستند إلى نظرية أو منهج فكري يفكر وينظر لأسباب استغلالها وينير لها طريق ووسيلة وأداة الخلاص والانعتاق من نفس التشكيلة والبنية المحددة والكابحة والمعيقة لتطورها وهيمنتها، فالتاريخ يتحدث عن الكثير من انتفاضات العبيد (سبارتاكوس) وما قبله وما بعده وكذلك انتفاضات الفلاحين وعموم المقهورين، ولكنها كانت تحصد الفشل والانكسار ومنها ثورة (1920) ضد الاحتلال البريطاني للعراق، بسبب عدم وجود قيادة فلاحيه للانتفاضة، وإنما كان قادتها من قوى إقطاعية وعشائرية حيث يذكر ل.ن.كوتلوف (كان للمواقف السياسية لقيادة الثورة أثر كبير في تقرير مصيرها. وكان تكوين القيادة بالأساس من رجال الدين وشيوخ القبائل، وكان للفئات الانهزامية نفوذ كبير في قيادة الثورة)[8].

وكأن مفاتيح النصر والتحول الجذري في تاريخ الشعوب وضعت في يد وعقل الطبقة البرجوازية التي استطاعت أن تعي ذاتها وتعمل لذاتها وتنتج فكرها ونظريتها في المكان والزمان المناسبين لتحرز الانتصارات الكبرى في التاريخ على نقيضها الطبقي الإقطاع والحكم الاستبدادي الثيوقراطي والملوكي المطلق بمختلف أطيافه وتمثلاته بما فيه عزل الدين السياسي وعزل الكنيسة وممثليها عن السلطة والدولة، وبذلك تمكنت من عزل سلطة وتحكم رجال الدين على رجال السياسة والحكم بعد أن كان لا دين بلا سياسة ولا سياسة بلا دين كما هو الحال ما قبل فترة النهضة والتنوير وما قبل الثورة الصناعية، فعمدت البرجوازية الغربية إلى وضع أناجيلها وقوانينها وثقافاتها العملية الإنسانية الأرضية على شكل دساتير خاصة بها تسند بناء دولة ديمقراطية حديثة في العديد من البلدان المتطورة كبريطانيا وفرنسا وغيره من البلدان الأوربية وكما ورد في البيان الشيوعي: (تجر البرجوازية إلى تيار المدنية كل الأمم، حتى أشدها همجية، تبعا لسرعة تحسين جميع أدوات الإنتاج وتسهيل وسائل المواصلات إلى ما لا حد له…. وتجبر البرجوازية كل الأمم، تحت طائلة الموت، أن تقبل الأسلوب البرجوازي في الإنتاج وأن تدخل إليها المدنية المزعومة… فهي باختصار تخلق علما على صورتها ومثالها)[9]، ولكن هذا الحراك لم يحصل في البلدان الخراجية المتخلفة نظرا لبقاء رحمها قاصرا عن حمل وولادة طبقة برجوازية منتجة لتكون النقيض الفاعل للطبقة الثيوقراطية الإقطاعية في الماضي وشللها كطبقة قطوازية – اشتقاق من قبل الكاتب مركب من الإقطاع والبرجوازية باعتبار الأخيرة مرتبطة برحم الأولى ولم تزل في البلدان التابعة – في العصر الراهن وتبنيها وتسترها بالأيديولوجية الطائفية وليس بأيديولوجية الطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة بانية دولة الحداثة في العالم المتحضر كما يذكر ذلك مهدي عامل (إن ما يميز الأيديولوجية “الطائفية” من حيث أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية هو بالتحديد، علاقة الضرورة التي تربطها، في تكونها التاريخي، وفي حركة تجددها أو إعادة إنتاجها، بالنظام السياسي للسيطرة الطبقية، وبالدولة، أداة هذه البرجوازية الكولونيالية، هو بالضبط كونها أيديولوجية سياسية لا أيديولوجية دينية، وفي هذا يكمن طابعها الطبقي البرجوازي الذي تتميز الأيديولوجية الدينية)[10].

ومن ميزات البرجوازية أنها تحقق ذاتها وكذلك تمهد الطريق وتقدم الأدوات والوسائل لحفار قبرها ونقيضها الطبقي لطمرها، الطبقة العاملة وأنصارها بعد أن تعي ذاتها وتعمل لذاتها، وهذا ما لم يحصل ولم يتوج بالانتصار لحين التاريخ!!!
إن الذي يهمنا من العرض الموجز أعلاه بيان حقيقة ما يسمى بالصراع الطائفي والجذر التاريخي للطوائف، هذا الستار الأيديولوجي الذي تتخفى خلفه القوى الطامحة للسلطة السياسية بعد أن موهت وغطت وطمست جوهره كصراع بين فئاته وطبقاته الاجتماعية.
(إن العنف الطائفي في كل مكان من العالم لا يقل اليوم فجاجة، ولا يقل اختزالية، عما كان قبل ستين عاما. فوراء دعم الوحشية الفظة، يوجد أيضا اضطراب مفاهيمي حول هويات الناس، يحول البشر متعددي الأبعاد إلى مخلوقات ذات بعد أحادي)[11].

الظاهرة الطائفية في العراق المعاصر:-
وبعد أن عرضنا للجذر التاريخي للطائفية وطبيعة القوى المستفيدة من تأبيدة وتكريسه يجدر بنا الإجابة على السؤال التالي: ماذا تمثل الطائفية في العراق المعاصر؟ ومن هي القوى المستفيدة من ترسيخ الطائفية في المجتمع العراقي؟ وما هو السبب الكامن وراء هيمنة الفكر والسلوك الطائفي في عصرنا الراهن؟
وللإجابة عن السؤال الأول نقول: إن الطائفية في عراقنا المعاصر تتمثلها وتتخفى تحت قناعها الطبقة البرجوازية العراقية التابعة والمعاقة وبالتحالف والتخادم مع الإقطاع المولد والشريك معها والذي وجد استمرار وجوده ونفوذه في ظل هذه البنية النيوكولنيالية في عصر الامبريالية، وبالخصوص في طورها الفاشي المسلح الحالي كعولمة رأسمالية مسلحة، بعد أن دخلت عصر أزمتها الخانقة وتخليها عن قيمها ومبادئها وقت نهوضها وعنفوانها في مرحلة الرأسمالية التنافسية وصراعها ضد قوى الملكية الإقطاعية الدينية الاستبدادية، حيث فصلت الدين عن الدولة وأنهت الصراع الدامي بين الطوائف المسيحية خصوصاً كالصراع بين الكاثوليكية المعيقة للهيمنة البرجوازية الصاعدة وبين البروتستانتية المساندة لهذه الطبقة الناهضة الداعية إلى الحكم الديمقراطي الدستوري وما إليه من شعارات الحداثة الأوربية. وليس خافيا سر الإمبراطورية العثمانية بالسير على نهج الإمبراطوريات الإسلامية السالفة وتبنيها للطائفة (السنية) في الحكم والعمل على استبعاد وتهميش الطائفة (الشيعية) التي أصبحت مرجعية للقوى المعارضة المستبعدة والمهمشة والمستغلة طبقيا من أبناء القومية العربية، ومن مختلف القوميات والأديان والطوائف الأخرى غير الإسلامية وغير العربية، وقد عمل سلاطين عثمان على سد الطريق أمام قوى الشعب المنتج من عمال وفلاحين ووطنين أحرار ونواتات البرجوازية الوطنية لتكون مدركة وواعية لذاتها وتخوض معاركها الوطنية والقومية والطبقية ضد مستغليها، فأججت نيران الطائفية والعشائرية لكسر شوكة القوى الوطنية المستنيرة والحؤول دون تحذر الوعي الوطني والطبقي في المجتمع العراقي, واستمرار تبعيته للسلطنة العثمانية كدولة خراج ريعي إقطاعي استبدادي كابحا أي تطلع لقواه ونواتاته التقدمية بالنهوض باعتبارها حاملة لواء بناء دولة الحداثة الذي تبناه فيما بعد كمال أتاتورك باني ومؤسس تركيا الحديثة، وإن كان لازال يحمل بذور هشاشته وعجزه الموضوعي.

في العراق واصل الاستعمار الانكليزي عمل العثمانيين ولكن بأكثر واشد جهنمية وحنكة وعلمية في تأصيل وتأبيد هذه الظاهرة في المجتمع العراقي، بعد الاحتلال الانكليزي للعراق (انشأ الانتداب البريطاني الكيان العراقي عام 1921 كدولة تحكمها نخبة أقلية سنية)[12]، ومن يقرأ الوثائق والدراسات والمذكرات الصادرة عن رموز ومسئولي الاستعمار البريطاني النافذة آنذاك يضع يده على هذا المسعى المحموم في التعامل مع الشعب العراقي على أساس عشائري وطائفي والعمل على تقريب وترغيب بعضها وترهيب واستبعاد الأخرى وحسب درجة الولاء للاستعمار ومخططاته، هذا مما يثير النزاع والصراع والفرقة بين طبقات وفئات المجتمع العراقي وإطالة فترة غياب الوعي الوطني والطبقي وبالتالي إطالة عمر الاحتلال والاستغلال ونهب الثروات. وقد كان الإبعاد والشك والريبة من (الطائفة الشيعية) العراقية برموزها المعروفة آنذاك بسبب تزعمها للمقاومة الوطنية العراقية ضد الاستعمار الانكليزي على الرغم من حصولها على ولاء من (المستبدة) وبعض المشايخ العشائرية الإقطاعية والعقارية ذات المنافع الشخصية الضيقة، فمن يقرأ مذكرات المس ببل العقل المدبر والمفكر والمهندس للاحتلال البريطاني للعراق في وصفها لفئات المجتمع العراقي لا يراها تحيد عن الوصف العشائري والطائفي والعرقي عندما تتحدث عن تركيبة المجتمع العراقي آنذاك، مبتعدة تماماً عن ذكر طبقاته وفئاته على أساس اجتماعي وعلاقتها بعلاقات الإنتاج القائم حينها، حيث نجد أوصاف عربي، كردي، آشوري، تركماني، صابئي، أزيدي، سني، شيعي…الخ هي السائدة في خطاب المحتل البريطاني ورموزه. وقد عمل قادة الاحتلال البريطاني على حرف الأيديولوجية الدينية المقاومة والمحرضة ضد الانكليز واحتلالهم للعراق لتكون أيديولوجية طائفية عرقية، وبذلك تحول الشعب العراقي إلى شعب طوائف وعشائر وأعراق وليس شعباً من الطبقات والفئات الاجتماعية التي تخوض صراعها على الأرض وليس تحتها في قبور مندرسة أو فوقها في سماء مفارقة.

وقد استطاع الاستعمار البريطاني أن يحقق بعض النجاح في هذا المضمار عن طريق خيانة طبقة القطوازية العراقية للقيم الوطنية وتبعيتها موضوعيا لقوى الاحتلال والاستغلال تماشيا مع مصالحها الأنانية الضيقة كطبقة مسخ مكونة من إقطاع مستبد معيق للتطور والحداثة وبرجوازية ضعيفة مشلولة ومجهضة من قبل قوى الرأسمال الاستعماري المحتل ارتبطت موضوعيا بقوى الرأسمال العالمي في علاقة صيرورة لا يمكن أن تنفصم عراها لا بموت واندحار إحداها عن طريق نقيضها الوطني والطبقي المتمثل بقوى الشعب المكافحة المحرومة من عمال وفلاحين وكسبة ومثقفين ووطنين أحرار حينما يخوضون صراعهم على أسس اجتماعية وطبقية وطنية واضحة كاشفين زيف التضليل والتجهيل الذي تمارسه طبقة القطوازية وأسيادها لإظهار هذا الصراع بمظهر الطائفية والعرقية، وكما يذكر حنا بطاطو (فإن هذه الزمر وحدت صفوفها وأدركت مصالحها المشتركة في القضايا الحاسمة، من قبل إعفاء طبقتهم “طبقة ملاك الأرض” من الضرائب، والإقصاء العملي للطبقات الأخرى من المناصب الهامة في الدولة، ثم وهذا الأهم، الدفاع عن النظام الاجتماعي الذي كان ينفعهم جميعا)[13]
إن الانحدار نحو الأيديولوجية الطائفية التي تحاول أن تخفي وجهها السياسي وسعيها للهيمنة الطبقية على السلطة السياسية في البلدان التابعة ومنها العراق إنما هو خصيصة تميزت بها هذه الطبقة وتفردت بها عن البرجوازية في البلدان الرأسمالية المتطورة بقدر ما ارتبطت بها ارتباطا بنيويا غير قابل للانفصام في عهد الامبريالية وطورها الرأسمالي المعولم المسلح في عصرنا الراهن حيث إن الإرهابية هي أعلى مراحل الامبريالية والذي يبدو انه آخر مراحلها الذي سيقود حتما إلى نهاية العالم على الكرة الأرضية أو نهايتها على يد نقيضها الذي يأخذ بالاتساع باستمرار، فليس العمال وحدهم ولا أنصار البيئة ولا العلماء ولا عشاق الحرية والديمقراطية الحقيقية ولا شعوب العالم الرازحة تحت الاستغلال الرأسمالي بل هم جميعا الآن في مواجهة موت أو حياة مع الامبريالية في طورها الإرهابي المسلح. فمن اجل أن يكرس الاستعمار البريطاني وجوده ويديمه سلك مختلف الطرق والوسائل لتصنيع طبقة سياسية ذات صفة عشائرية وطائفية قادرة على الإمساك بالسلطة وفق الأجندة الاستعمارية البريطانية بشكل يموه حقيقة الصراع الوطني والطبقي بين الشعب العراقي والاستعمار البريطاني باعتباره مستغلا ومحتلا لأرض وشعب العراق بكافة طبقاته وفئاته وأعراقه وأجناسه وطوائفه والذي يفترض أن يكون عدو الجميع وطنيا وطبقيا في آن واحد، وجد التاج البريطاني أن خير طبقة تمثل مصالحه هي طبقة القطوازية العشائرية الطائفية يقف على رأسها ملك مستورد ذو نسب علوي ولكنه ليس شيعيا ولا سنيا خالصا، إنما جلبته غريزة الحكم وليس دافع حب الشعب أو الأمة وهو محمول على أكتاف المستعمرين حيث (وصل فيصل إلى العراق في الثالث والعشرين من حزيران عام 1921… وبالرغم من تلك الظروف التي هيأها المستعمرون الانكليز إلا أن عميلهم استقبل ببرود عند قدومه إلى العراق)[14].
ففي الوقت الذي كانت هذه السلطات الاستعمارية تواجه بالحديد والنار المطالب المشروعة للعمال والفلاحين والفقراء في المدينة والريف وتمنعهم من حقهم في التنظيم المهني والنقابي والسياسي وخصوصا انتفاضات فلاحي الوسط والجنوب وعمال السكك والنفط وبعض رؤساء العشائر والقبائل المهمشين من قبل قوى الاحتلال، وتحارب نخبه الطليعية المستنيرة كما يذكر خليل احمد خليل: (تتلاقى الثقافة العادية والسياسة العادية عند جامع مشترك: العداء للنخبة المعرفية والعلمية الحديثة وإرهاب هذه النخبة بالذات، بدءً من استبعادها وصولاً إلى تكفيرها وتهجيرها…. وتكون ذروة العداء مخصصة للعلماء اليساريين عموماً والماركسيين خصوصاً، لا بوصفهم معارضين اشتراكيين وديمقراطيين للرأسمالية كما هو حالهم الفعلي، بل بتوصيفهم الأيديولوجي المصطنع بأنهم “مرتدون” و”كافرون”… وباسم هذه التوصيفات يهيج الجمهور، وتصدر له فتاوى الاغتيال والإرهاب، التي يعول مطلقوها على “متطوعين” من هذا الجمهور بالذات)[15].

نراها تقدم مختلف أنواع الدعم لزعماء العشائر والطوائف الموالين لها (إن 1،7% من الملاّك استحوذوا على1 ،63% من الأراضي)[16]. وتسعى لاقتسام السلطة فيما بينهم ومن المعروف المغزى من تشريع قانون العشائر وقوانين حظر الأحزاب الديمقراطية واليسارية منها على الخصوص، وبذلك داس المستعمرون بجزماتهم على أفواه رموزهم التي ادعت أنهم (جاؤوا محررين لا فاتحين). وليس خافياً ما أثير آنذاك من فتن طائفية وعرقية بهندسة ودعم ومساندة قوى الاستعمار والطبقة القطوازية العراقية لغرض إلهائها عن قضاياها الأساسية في معارك جانبية في الوقت الذي مارست قمعاً وحشياً على كل الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية والوطنية العراقية كانتفاضات الفلاحين في 1935 و1936 وانتفاضة 1948 و1952و 1956 وإقدامها على جرائم إعدام ونفي وشنق العديد من رموز الحركة الوطنية والعمالية في العراق ومنهم قيادة الحزب الشيوعي العراقي في شباط 1949.

هل الطائفية بضاعة بريطانية؟
إن من يدعي ذلك يقع في وهم كبير فالظاهرة الطائفية سابقة على الاستعمار البريطاني المسلح على العراق وهي ولادة طبيعية من رحم الطبقة القطوازية في عصر الامبريالية الاحتكارية الاستعمارية عبر فعلها القهري في قطع مسار التطور الرأسمالي الطبيعي لهذه البلدان على يد برجوازية وطنية منتجة كما حصل في الغرب الرأسمالي. وإن قوى الاستعمار لم تكن حيادية من هذه الظاهرة، بل سعت من اجل تنميتها وتأييدها وازدهارها والعمل على كونها الثقافة السائدة في المجتمع العراقي، رغم ذلك فقد سجلت القوى الديمقراطية واليسارية العراقية أمثلة رائعة في مقاومة وكشف زيف وخطورة ومرامي هذه الثقافة الاستعمارية وخدامها وقد أحرزت انتصارات متميزة في الحفاظ على الروح الوطنية العراقية المناهضة للاحتلال والاستغلال. وقد تتوج هذا الكفاح المرير بالحدث الهام في 14 تموز 1958 بقيادة نخبة من الضباط الأحرار المدفوعين بدوافع مختلفة منها وطنية وقومية وطبقية ودينية بالإضافة إلى بعض دوافع السلطة والجاه والشهرة. كانت السلطة بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم هذا القائد الذي أقدم على العديد من القرارات والقوانين والانجازات لصاح الشعب العراقي والحد من استغلال الشركات الاحتكارية البترولية العالمية وضرب بعض مصالح الطبقة الإقطاعية، حاول أن يمسك صولجان السلطة من الوسط ويوازن بين مصالح الطبقات الاجتماعية المختلفة عبر قرارات ومواقف فردية مع الانحياز الأكبر لصالح فقراء الفلاحين والعمال والكسبة من خلال قانون الإصلاح الزراعي الأعرج وقانون رقم (80) في التأميم الجزئي لحقول النفط بالإضافة إلى قانون الأحوال الشخصية لإنصاف المرأة، وإعطاء فسحة كبيرة للعمل النقابي والمهني والسياسي والديمقراطي للقوى اليسارية والديمقراطية العراقية بمعنى إعطاء حيز من الحرية القانونية لنشوء منظمات مجتمع مدني في العراق. مما أثار حفيظة وخوف الطبقة القطوازية المتخادمة مع بعض الرموز الدينية مما حدا بها إلى تناسي صراعاتها الطائفية والعرقية وتتحد سنة وشيعة عرباً وأكراداً وتركماناً خلف مصالحهم الطبقية التي أصبحت مهددة بفعل مد يساري عارم في الشارع العراقي الذي بدا وكأنه يمر في حالة من صحوة وطنية وطبقية هائجة ليتوحد وينتظم في أحزاب ونقابات وجمعيات وروابط لتدافع عن مصالحها الوطنية والطبقية التي حرم منها طيلة قرون من زمن الاضطهاد والاستغلال (هذا الواقع أخاف القوميين… وفي شهر آذار 1959 بعد شهر واحد من إلقاء القبض على (عارف) بادر العقيد الشواف إلى إعلان ثورة في الموصل، لكنها لم تكن محكمة التنظيم فما لبثت أن قضي عليها بعد سفك دماء غزيرة)[17].

وما شهدته بغداد في عيد العمال العالمي في الأول من أيار 1959 من مسيرة مليونية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي ومنظماته المهنية والديمقراطية، فكان مشهدا لم يشهد له العراق مثيلا من قبل، مما افزع قوى الظلم والظلام بكافة توصيفاتها ومشاربها وانتماءاتها لتسفر عن وجهها الفاشي وهي تعيش أزمتها ولحظة احتضارها في معركة موت أو حياة في الدفاع عن مصالحها الطبقية الاستغلالية فسعت إلى تشغيل كل معامل ومختبرات ومولدات أوهامها الأيديولوجية لحرف الصراع عن مساره السياسي كصراع مصالح اجتماعية ووطنية ليغلف بالأوهام القومانية الشوفينية والتعصب العرقي والطائفي لتقذف به في وجه نقيضها وعدوها الطبقي الشارع العراقي اليساري لاختراق المناطق الرخوة في منظومته المناعية لمقاومة حملات التضليل والتجهيل العرقي والعشائري والطائفي، بالإضافة إلى توظيفها المبالغ فيه لسلوكيات وأفعال بعض الأفراد المندسين واليساريين المتطرفين والغوغاء تحت يافطة الشيوعية والشيوعيين. هنا بالضبط حدث إجماع الطبقة القطوازية لتمزق بأنيابها ومخالبها الحاقدة المعبأة بحقد طبقي لا يوصف شعار اليسار العراقي في كون الاشتراكية طريقاً للحرية والسعادة للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب العراقي، وقد سعت إلى تضليل العقل الجمعي ألقطيعي للجمهور لتحقيق أهدافها، ومما يجدر الإشارة إليه أن خليل احمد خليل يعرف الجمهور بـ(مجموعة الشغيلة ومستضعفي رأس المال، وأكثرهم اضطهادا، اقلهم تنظيما وتربية واستعدادا للتنظيم)[18].

فقد تخلت القطوازية عن كل شعاراتها الوطنية ومحاربة الاستعمار وعن قيمها العشائرية الايجابية وعن كل مبادئها الدينية التسامحية بطلب العون والتعاون المباشر المفضوح من دول عربية وأجنبية وخصوصا ممثلي الاحتكارات النفطية والمخابرات الأمريكية لإجهاض (ثورة) الرابع عشر من تموز في الثامن من شباط الأسود 1963. حيث أسفرت هذه الطبقة عن وجهها الفاشي في ممارسة السلطة ضد أعدائها الطبقيين تحت شعارات معاداة الشيوعية والدكتاتورية الفردية والشعوبية!! فظهرت بأبشع وأقسى أنواع الدكتاتورية الفاشية، وأسوء أشكال الشوفينية القومية، ولسنا بحاجة إلى سرد أحداث هذه الفترة المظلمة من تاريخ العراق على يد عصابات البعث ومؤازريه الذين أغرقوا البلاد والعباد من كل الطوائف والقوميات والأجناس ببحر من الدماء.
ومن اجل تدارك ضياع السلطة هيمن عارف القوماني الطائفي على السلطة السياسية والذي حاول تجميل وجهه البشع باعتباره المخلص من فاشية البعث وحرسه اللا قومي بعد أن خلص الشعب من (ديكتاتورية قاسم والخطر الشيوعي الهدام والملحد) معتمدا جمهورا حائراً خائراً مغلوباً على أمره (جمهور عمالي فلاحي، كدحي، يجري التلاعب به بوصفه جمهورا دينيا لإبعاده المظهري عن لعبة السياسة، ولإدماجه العضوي في آلة السلطة وهي آلة حرب طبقية، وأول هذه الحرب، لعبة (تلاحم) السياسي والديني بالجمهور أو بعامة الشعب، تحت شعار (من الشعب وإلى الشعب)[19]. ولكنه قد أسفر عن طائفيته في أكثر من موقف (كان تكاتف الزمر الحاكمة المتعاقبة منذ تشرين الثاني 1963 على الأقل قد عبر عن نفسه بصورة متكررة وإن تكن غير حصرية – في أشكال محلية، طائفية، قبلية أو شبه قبلية)[20]. أي أن هذه الطبقة ظلت تعيش أزمتها المزمنة والمتجددة فانتهى حكمه بنهايته المفجعة وانتهى حكم شقيقه على يد البعث وبدعم مخابراتي مكشوف ومستتر من دول الرأسمال العالمي وذلك لقطع الطريق على محاولة أو محاولات قوى يسارية عراقية للاستيلاء على السلطة من قبضة عارف الرخوة، وبذلك أعادت تعبيد الطريق ثانية أمام ربيبها البعث للامساك بالسلطة وبواجهة جديدة هذه المرة تتزيا بزي أقصى اليسار والثورية والاشتراكية والحرية مخفية جوهرا فاشيا وطائفيا متعصبا باعتباره الفئة والشريحة الأكفأ من طبقة القطوازية العراقية وأكثرها شراسة وحرباوية لتحقيق أهداف وأجندات أسيادها.

فقد كان لصدام وتياره في حزب البعث دوراً مدروساً كبيرا ومخططا له بدقة لتكريس حكم الطائفة في العراق وقمع كافة الطوائف الأخرى سواء عن طريق التقتيل أو التضليل، وقد كرس كل قدرات الدولة وإمكاناتها المالية باعتبارها دولة بترولية لتكريس حكمه الفاشي الطائفي العشائري وتمكين طائفة بعينها وعشيرة أو قرية بعينها من الهيمنة الكاملة على السلطة تحت غطاء الحزب وحكمه الشمولي. ومن يقرأ الكتاب الهام لـ اريك دافيس (مذكرات دولة السياسة القائد. والهوية الجماعية في العراق الحديث) ترجمة حاتم عبد الهادي/ إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1 2008، سيطلع على حجم ما بذله النظام من اجل تصنيع ذاكرة تاريخية تكرس حكم طائفة بعينها وتهيئ الأرضية الفكرية لحكم الدكتاتور الإله الفرد، ومحو كل معلم من معالم الصراع الطبقي وطمسه تحت يافطات مختلفة باعتباره صراعا حضاريا وشعوبيا وطائفيا .. ومن هذه الإجراءات: إعادة كتابة التاريخ .. توظيف المثقفين لخدمة مشروعه .. إعادة العشائرية .. إلغاء صفة عامل وتوصيفه بالموظف .. إغلاق التربية والتعليم، والتعليم العالي ليكون حكرا للحزب القائد .. السيطرة على الصحافة .. توظيف الدين المطيف (سنيا) لخدمة السلطة من خلال وعاظ السلاطين .. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى مهزلة شروط عضو المجلس الوطني الذي أنشأه الديكتاتور باعتباره غطاءا شرعيا لنظام حكمه، فمن هذه الشروط إن يكون عضو المجلس الوطني:

(ج/ مؤمنا بمبادئ وأهداف ثورة 17-30 تموز المجيدة وأن تكون مساهمته في المعركة المقدسة ضد العدوان الفارسي سواء بالمشاركة أو التطوع أو التبرع أو في نتاجات فكرية أو أدبية فعالة ومتميزة وتتناسب مع قدراته وإمكانياته وان يكون مؤمنا بان قادسية صدام قد عززت بالمجد هام العراق وأنها الطريق الذي ليس سواه من طريق للحفاظ على العراق أرضا وسماء وأمنا ومقدسات)[21].

(وقد منعت الثورة بعض العناصر من الترشيح لعضوية المجلس الوطني وهم: كما جاء في التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع “أعضاء الحزب الشيوعي لخيانتهم للوطن والشعب والثورة والمنتسبون للفئات السياسية العميلة والمعادية للثورة كما منع من الترشيح من سبق أن كان عضوا في المجالس النيابية في العهد الملكي الرجعي، وحرم المدانون بجرائم الخيانة والتجسس والعمالة والجرائم العادية المخلة بالشرف)[22]. ولا نظن أن هذه الآليات (الديمقراطية) وما خلفت من مقابر جماعية بحاجة إلى تعليق أو توضيح كي يلمس الفرد مدى خوف وهشاشة هذه الفئة من كل صوت معارض أو ناقد، فلا صوت يعلو على صوت القائد (الإله الواحد الأوحد الخالد المخلد).

مفهوم الدولة وأشكالها
لا نريد أن ندخل في تفاصيل وأشكال الدول ونظريات نشوئها وتكونها، حيث إننا نرى أن الدولة حسب تعريف الواقعية التاريخية هي سلطة طبقة محددة ضمن تشكيلة اجتماعية اقتصادية معينة تفرض من خلالها هذه الطبقة وحلفائها سلطتها لقمع ولجم وإخضاع الطبقات الاجتماعية الأخرى.
أي أن الدولة هي حاجة اجتماعية ناتجة عن صراع وحراك طبقات المجتمع تكون فيه السيادة للطبقة الأقوى، ولا تنتهي الدولة إلا بانتهاء الصراع الطبقي بانحلال الطبقات، وبذلك تضمحل الدولة نظرا لانتفاء شرط وجودها.

ولكن الذي يحدث أن الطبقات الاستغلالية غالبا ما تخفي حقيقة هيمنتها الطبقية على السلطة وخدمة طبقتها فتظهر وكأنها الممثلة لكل طبقات وشرائح المجتمع.
هذا الوصف للدولة يظهر جليا وواضحا في ظل حراك اجتماعي تقليدي في حالة وجود طبقات اجتماعية واضحة الحدود والميزات كما هو الحال بالنسبة للإقطاع والفلاحين والبرجوازية والطبقة العاملة وما بينهما من فئات اجتماعية وسطية.

أما في حالة البلدان التابعة غالباً ما تكون الدولة مصنعة من قبل قوى خارجية غازية ومستعمرة، وبذلك تكون كياناً وجسماً غريباً على المجتمع في ذلك البلد، وهذا ما حصل في العراق تحت مظلة الاستعمار البريطاني حيث كانت بريطانيا هي حاضنة وراعية الدولة العراقية التي لم تكن نتيجة للحراك الاجتماعي الداخلي، ومن نتائج ذلك أن كان ملك العراق الأول مستوردا من خارج العراق على بلد تم تحديد حدود سيادته من المحتل البريطاني ووفق ما يضمن مصالحه وأجنداته الآنية والمستقبلية. وبذلك فقد كانت الطبقة الحاكمة مختارة ومنتقاة من قبل ممثلي التاج البريطاني وليس من الشعب العراقي، فكانت مكونة من كبار الإقطاع والذين كانوا أيضا من كبار شيوخ العشائر والقبائل بالإضافة إلى التجار والبرجوازية الناشئة التابعة للرأسمال العالمي، مما شكل طبقة هجينة سنطلق عليها اسم الطبقة القطوازية. وقد استبعدوا كل القوى الديمقراطية وممثلي الفئات والطبقات الشعبية من عمال وفلاحين ومثقفين…الخ، بل كانوا ممثلين في البرلمان على أساس عشائري وطائفي وليس على أساس طبقي أو مهني، مما ساعد كثيرا على انتعاش الطائفية والعرقية والعشائرية، ومن العوامل المساعدة اكتشاف الثروة النفطية في العراق التي وفرت للدولة الناشئة موردا ريعيا لتمويل مؤسساتها وقواها القمعية كدولة استهلاكية ريعية كابحة لنمو وتطور القوى المنتجة في كل مجالات العمل والإنتاج الصناعي والزراعي وكما يشير إلى ذلك خليل احمد خليل: (نلاحظ غياب الظروف الاقتصادية كالثورة الصناعية والعلمية التقنية ونمط الإنتاج الصناعي العالمي، مقابل نمط إنتاج رعوي زراعي ريعي غير موات في العالم العربي لنشوء جمهور واع، قادر على حكم نفسه بنفسه، كما نلاحظ القطيعة التاريخية بين الجمهور وحاكميه، فالجمهور مجرد “شاعر” يهيم في وادي حياته الشخصية، والحاكم في واد آخر، مع قلة مستبدة، مستبيحة لجمهور متخيل، لكنه موجود ومباح لمن يستغله)[23].

(إن الجماهير التي يعزى إليها صنع التاريخ، إنما تستعمل غالبا لصنع تاريخ لفئات أو طبقات أخرى، كالنحل الذي يُسرق عسله (أكله) وكالأشجار التي تؤخذ ثمارها)[24].

هذا الحال مكن الدولة من تصنيع طبقة وسطى مرتبطة بالسلطة وليس بعجلة الإنتاج مما افقدها القدرة على الضغط على السلطات المهيمنة من اجل إشاعة روح الديمقراطية وبناء دولة الحداثة معتمدة على قواها المدنية الحديثة على أساس اجتماعي مهني ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية كممثلة لطبقات وفئات وشرائح اجتماعية منتجة، كما هو الحال في نشوء دولة الحداثة في أوربا والعالم ما بعد الثورة الصناعية، ولكن خوف قوى الرأسمال العالمي وتوابعه القطوازية العراقية من تنامي نقيضها الطبقي والوطني، الطبقة العاملة العراقية والفلاحين والطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة، عملت على كبح جماح هذه الطبقات والشرائح وشل بناها التحتية المولدة كالزراعة والصناعة المتطورة والعمل على إشاعة ثقافة استهلاكية غير منتجة لتأبيد حالة الشرذمة الطبقية وإدامة حالة الضياع والضعف والميوعة الطبقية لدى الطبقات المستغلة المنتجة وعدم نموها العددي وعرقلة تطور وعيها الطبقي. وكما يذكر جاريث ستانسفيلد (كان تأثير النظام ألريعي مدمرا لأية إمكانية لنشوء أو تطور حكومة تمثيلية، وإذا اتخذت الدولة، التي سيطر عليها حزب البعث دور “الرازق” أو “الواهب” العطوف بالنسبة للغالبية الكبرى من الفئات الاجتماعية، لم يبق كثير حافز يحث الأفراد على الانتماء إلى قوى سياسية تتوخى برامجها قلب الأوضاع القائمة)[25].

إن هذا السعي يؤشر التناقض في سلوكيات قوى الاحتلال والاستغلال الاستعماري التي تسعى لبناء دولة الحداثة بأدوات ما قبل الحداثة كالعشيرة والطائفة، أي استخدام مكونات المجتمع الأهلي في بناء دولة الحداثة المدينية، وبذلك تبدو براقة حديثة المظهر ولكنها متعفنة متخلفة الجوهر.
ماهو السر الكامن وراء تعثر بناء دولة الحداثة في العراق الآن؟؟؟
من كل ما تقدم نريد أن نقول إن أزمة السلطات الحاكمة في العراق هي أزمة هيمنة طبقية نابعة من عوامل خارجية وأخرى داخلية موضوعية وذاتية متداخلة مرتبط كل منها بالآخر في علاقة صيرورة ضمن بنية اجتماعية اقتصادية مولدة لمثل هذه الأزمات ومعيقة كل جهد لبناء دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة، دولة المواطن الحر وليس دولة الطائفة والزعيم والعشيرة لتكون دولة الطائفية التي (هي هذا الشكل التاريخي المحدد الذي تمارس فيه هذه البرجوازية عجزها الطبقي عن ممارسة سيطرتها الطبقية)[26].

وقد كان عقل سلطة الرأسمال الأمريكي المسلح المحتل للعراق واعياً لمثل هذا الحال تماماً وأتى متوافقا ومنسجما تماما مع نظريته في الفوضى الخلاقة أو البناءة، فعمد إلى بناء ما اسمي بمجلس الحكم في العراق باعتباره الهيئة التشريعية لنواة الدولة العراقية ما بعد انهيار الدولة الديكتاتورية الصدامية على أساس عرقي طائفي سافر وليس مستترا واحدبا كما كان الأمر في عهد الديكتاتورية فجاء مجلس الحكم (شيعيا، سنيا، كرديا) لان هذا (التمثيل السياسي “الطائفي” يحقق للبرجوازية هدفها.. ويولد عند تلك الطبقات الكادحة الوهم الطبقي بأن لها قوة سياسية لأنها “طوائف” وبأن قوتها السياسية هي بقوة ممثليها السياسيين، والحقيقة هي أن تلك القوة السياسية التي يسميها الزعماء التقليديون من تمثيلهم “طوائفهم” ليست “طائفية” وليست “فردية” إنها تظهر هذا المظهر منها على أساس إخفاء طابعها الطبقي البرجوازي الفعلي)[27]. إن هذا الأمر يشير إلى مدى الأزمة الخانقة التي تمر بها الرأسمالية العالمية في عصر عولمتها المسلحة، حيث عمدت إلى استخدام أدوات القرون الوسطى في بناء دولة العراق في عصر الذرة والانترنيت وغزو الفضاء، فبعد أن رفعت غطاء القمع الديكتاتوري عن بوتقة الصراع في المجتمع العراقي الذي ظل مكبوتا وآسنا لفترة عشرات من السنين مما أدى إلى تغول أشناته وطحالبه وتضخم قشوره وبثوره وتفتت وتحطم جواهره، فسادت العرقية والطائفية والعشائرية على المضمون الاجتماعي للحراك باعتباره صراعا طبقيا بين طبقات وفئات اجتماعية فاعلة في عملية الإنتاج والبناء وليست طوائف وأعراق كمنتج لواقع الميوعة الطبقية والنزعة الاستهلاكية للطبقة القطوازية التابعة باعتبارها طبقة طفيلية غير منتجة. وهذا الحال وقف سدا منيعا مانعا ومعيقا لبناء دولة المؤسسات الديمقراطية المدنية الحديثة أو ما يسمونه بدولة (القانون) محولا كل الادعاءات إلى خطاب فارغ لا يرتكز إلى واقع مادي معقول. فكيف يمكن أن تبنى الدولة الحديثة بممثلي الطوائف والعشائر والأعراق التي بطبيعتها طاردة ونابذة ومقصية للآخر، وتسلك وفق(سوانيها) وأعرافها ونصوصها المقدسة وليس وفق دستور الدولة وقوانينها. إن تخبط الكثير من الأفراد وأحزاب الإسلام السياسي، هذا التخبط المرعي والمرحب به من قبل قوى الرأسمال الأمريكي إنما يثبت مدى قصور طبقة القطوازية في بناء دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة ودوام توالد أزماتها بشكل دوري، والمجيب على سؤال خليل احمد خليل (لماذا لم نصل حتى عصرنا إلى دولة مؤسسية حديثة، دولة الجمهور، لا دولة النبات الاذخر- ذلك الحشيش الأخضر الطيب الرائحة الذي يستعمل للقبور والبيوت معا- أو ذلك التدعدع – المشي التاريخي، مشية الشيخ الكبير أو السير ببطء والتواء)[28]. وقد وفرت الرحم والحاضنة التشريعية المولدة لهذه الأزمات في ما سمته بالدستور العراقي الدائم بالرغم من أنها وضعت له خاتمة ناسفة لكل بنائه في المادة (142)، لأنه جاء متناقضا يضع رجلاً في طريق الحداثة ويضع الأخرى في ما قبلها، فظل عالقا بينهما لا يعرف إلى أين يسير معبرا أفضل تعبير عن حقيقة الطبقة القطوازية وهجانتها وضياعها وهي تدور في حلقة مفرغة في فضائها الداخلي المشبع بروح النفعية والفساد واللا وطنية والتبعية، لا تريد أن تقطع حبلها السري المرتبط بالرأسمال العالمي وكما يؤشر ذلك جاريث ستانسفيلد (يمكن تصنيف الأحداث والتطورات في العراق، الآن، على أساس مثلث النزاع الذي خيم شبحه على الدولة العراقية من تأسيسها: دور الزعامة التقليدية المسند إلى تمرد سني بسبب الخوف من فقدان السلطة، والقومية الكردية تذكي اندفاعا إلى الحكم الذاتي مقرونا بإشارات إلى ميول انفصالية ممكنة، أما التهميش الشيعي السابق فإنه يدفع قادة الشيعة إلى فرض إرادتهم على مؤسسات العراق الجديد)[29]، ولكنها تعمل بجد لطرد وإقصاء وتهميش نقيضها الوطني والطبقي من عمال وفلاحين ومثقفين وبرجوازية وطنية منتجة، أي بالإجمال كل شغيلة اليد والفكر المؤهلين لحمل راية التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية ومؤسساتها الحديثة ودستورها الذي يعتمد الإنسان العراقي المواطن المنتج الحر بغض النظر عن الدين والطائفة والجنس والعرق، وكما عرفها الأستاذ حسين درويش العادلي (الدولة هي ذات جماعية مدنية تعتمد التكافؤ والتعاون والتضامن والولاء الوطني القافز على أُطر العِرق والطائفة والقبيلة والعائلة، وهي المؤسِّسة للمصالح العُليا على حساب مصالح الكانتونات الضيقة التي تُحاول اغتيال الدولة وابتلاعها لصالح عصبيات وعصبويات فئوية مصلحيه مقزّمة .)[30]. وكغيره من الكتاب والباحثين الذين يعطون تعاريف فضفاضة للدولة وأشكالها دون البحث والإشارة إلى طبيعة الطبقة الاجتماعية ذات المصلحة في بناء وديمومة الشكل المشار إليه من الدول، كان يثار سؤال من هي الطبقة الاجتماعية ذات المصلحة في بناء دولة الحداثة الدستورية الديمقراطية؟

.. هل معنى هذا أن لا خلاص للشعوب التابعة ومنها الشعب العراقي من هيمنة قوى الرأسمال الأجنبي وتوابعه (الوطنية) فتظل مسلوبة السيادة وفاقدة الإرادة والقيادة القادرة على بناء دولة المواطنة الحرة الديمقراطية؟ .. هل سيكون الخلاص بتحرر قوى الرأسمال من عقدة الاستعمار والاحتكار والاستغلال والاستعباد لتفك اسر الشعوب من هيمنتها واستغلالها، بمعنى هل هناك إمكانية أن تغير الرأسمالية العالمية الاحتكارية جوهرها الطبقي الاستغلالي وتعلن توبة (ابن آوى) عن أكل الدجاج؟ أو هل يتحول الأسد إلى أكل الحشائش حاله كحال الغزال أو الحمار؟! .. هل يمكن أن تنتخي الطبقة القطوازية لوطنيتها وتنتصر لحقوق وطموحات شعبها في التحرر والاستقلال والرفاه وتنتفض بوجه سيدتها ومرضعتها وحاضنتها الرأسمالية العالمية؟!..
من الملاحظ طبعا أن هذه الأسئلة تحمل في ثناياها استحالة الإجابة عليها بالإيجاب وإلا لاستطاع الإنسان أن يحول حلمه إلى واقع عبر تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفسية وبذلك سيختفي مفهوم الخسيس والنفيس حسب قانون الوفرة والندرة، وتنتهي كل أسباب الحيازة والاكتناز!!!
فما هو طريق الخلاص إذن؟

باعتبارنا منحازين إلى منهج التفكير والتنظير الواقعي التاريخي، نفترق طبعاً هنا عن منهج المثالية الطوباوية الأخلاقية وكل ما يتعلق بمنهجها الميتافيزيقي السائد الآن فيما تذهب إليه من حلول القائد الضرورة المخلص، سواء بالبديل الظاهر أو المستتر ونرى أن الإنسان تسيره ظروف حياته اليومية المعاشة على الأرض وليست المعلقة في سماء الأوهام، وبذلك فهو مخير في إرادته وسعيه لبناء حاضره ومستقبله، ولكن المطلوب هنا أن يكون قادرا على وعي ذاته متحررا من أوهامه ممزقا لعصائب تضليله وتجهيله التي تقيده بها الطبقة القطوازية وأسيادها من قوى الرأسمال والاستغلال العالمي.
في واقعنا الحالي على الطبقة النقيض ونقصد بها الطبقة العاملة العراقية وحلفائها كل شغيلة اليد والفكر وكل أحرار العراق من البرجوازية الوطنية والكسبة والمثقفين أن ينزعوا عنهم عصائب التضليل الطائفي والعرقي باعتباره الغطاء الأخطر الذي يديم حالة الاستغلال والاحتلال وحالة الشرذمة والتشتت ويديم نار الصراعات الطائفية والعرقية التي هي بالأساس صراعات سياسية بالمقام الأول. وهذه العصائب السوداء ساعد على بقائها كما يذكر مهدي عامل محقا (ضعف الأحزاب التقدمية “وضعف الحزب الشيوعي منها بوجه خاص” في تمثيلها المصالح الطبقية الفعلية لأوسع الطبقات الكادحة، هو الذي كان يسمح للصراع الطبقي أن يتحرك في شكله الرئيسي كـ”تعايش طائفي” هو الشكل الملائم لسيطرة البرجوازية، لهذا كان سلاح الطائفية هو السلاح الأيديولوجي الرئيسي في ممارسة البرجوازية سيطرتها الطبقية، وكان الشكل “الطائفي” هو الأفضل لنظامها السياسي)[31]. فليست الطائفية قدرا عراقيا محتوما بل هي وليدة ظروف اقتصادية اجتماعية ثقافية معينة عجزت الذات (الفرد) والذات (الحزب) والذات (الطبقة) من تفكرها والتحرز من جراثيمها وإفرازاتها المحفزة لكوامن اللاوعي ودهاليزه المظلمة لبعث الحياة وتهيئة الظروف المناسبة للطائفية والعرقية والقبلية لتكون هي الطاغية على سطح الوعي والسلوك، وإخفاء جوهر الصراع الطبقي والوطني في ظلامه الدامس. هذا العجز الذي تحاول ماكنة أيديولوجية هائلة لقوى الاستغلال والاحتلال الرأسمالي المعولم وصنائعه من القطوازية إدامته وتأبيده، والعمل على حرفه عن طريقه عبر نشر (طناطل وسعالي ومسوخ) الإرهاب والطائفية والعرقية والقبلية لتكون الطبقات الشعبية المحرومة والمكلومة وقوداً يوفر الحياة المرفهة والأمان للطبقة القطرجوازية وأسيادها وإحكام سيطرتهم على مقاليد السلطة والدولة بعد أن تمكنت من زج هذه الطبقات في أوهام محاربة طناطلها وسعاليها ومسوخها. وإحكام سيطرتها على الجمهور وعزله عن ممثليه الحقيقيين (فالعالم العربي الذي يفترض أن يتوجه يسارا، أي انتقادا من تناول مشكلاته الحديثة والمعاصرة جرى القطع داخله بين نخبه العلمية وجمهوره، بحيث صار الجمهور العام متاحا ومباحا لآخرين، منهم السياسيون ومنهم الدينيون السياسيون)[32]. وقد برعت الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة في العراق في محاولتها لتأطير الصراع في شكله الطائفي تحت ما يسمى بـ صراع المكونات الطوائف داخل قبة البرلمان أو المجلس النيابي، والذي سبق وأن قال عنه الشاعر الرصافي (عَلمٌ ودستور ومجلس أمة … كل عن المعنى الصحيح محرف) فلا خوف من هذه الطبقات ضمن هذا الإطار ولكن: (مصدر الخوف الطبقي بالضبط قدرة هذه الطبقات على الانفلات من الضوابط “المؤسسية” أي من أجهزة البرجوازية، السياسية الأيديولوجية للطبقة المسيطرة وعلى التحرر منها في ممارسات صراعها الطبقي، ولعل أهم هذه الضوابط على الإطلاق هو المجلس النيابي)[33]
وإن من يرى حال وصورة ومهازل البرلمان العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية ولحين التاريخ لابد أن يسلم بالمقولة أعلاه، إن العيب ليس في مؤسسة البرلمان ولكن العيب في الآليات والظروف وواقع الحراك الاجتماعي الذي أوصل (ممثلين) مزيفين أنانيين إلى قبة البرلمان مخفين حقيقة كونهم ممثلين للقطوازية تحت ستار تمثيل الطائفة والعرق والعشيرة. إن هناك عوامل عدة تساعد أن تجعل المستور منظورا واضحا أمام عيون هذه الجماهير المحرومة ومنها أن تتمكن طلائعها من وعي لاوعيها الذي يعكسه موضوعها الاجتماعي الفاسد المتعفن المتخم بثقافة الطبقة القطوازية وأسيادها ومنها الطائفية والعرقية، وأن لا تنجرف في التيار السائد فتتحول إلى طائفة من الطوائف أو قبيلة من القبائل وتعلق في سنارة السلطة لتتحول بذلك من كونها عامل تنوير وتغيير إلى عامل تخدير للجماهير المضطهدة تستغله الطبقة المهيمنة لإدامة سلطتها (ليس للعقل العلمي/ العلماني “النزيه” أن يخلط بين حقائق علمية، حادثة تاريخيا وحقائق اعتقاديه، سائدة اجتماعيا، بل عليه أن يدرسها في حقولها كما هي، من دون إسقاطات وادعاءات، كما يحلو للبعض من رجال سياسة أو دين، ممن يلحقون العلمي بالإعتقادي أو بالعكس بقصد الهيمنة)[34]. كما أننا نتفق تماما مع المفكر الماركسي الكبير سمير أمين الذي يحذر القوى اليسارية من أن تقع فريسة المنافسة على السلطة وكرسي الحكم في مثل ظروف بلدنا وسواه من البلدان التابعة والمهمشة (الخطأ الاستراتيجي هو اعتبار أن مرحلتنا هي مرحلة تدعو إلى المنافسة من اجل الاستيلاء على الحكم، بينما هذا الاستيلاء لا معنى له طالما لا توجد في الساحة قوة اجتماعية شعبية تستطيع أن تفرض نفسها على القوى الأخرى الداخلية -سواء كانت تتجلى في نظم الحكم أم في بديل الإسلام السياسي وهما وجهان للعملة نفسها- والخارجية)[35]. ينبغي أن يكون لهذه القوى برامج واضحة ومحددة تعمل من اجل إجبار السلطات على إعادة روح العمل المنتج في مفاصل المجتمع العراقي ومحاربة ثقافة الاستهلاك، فبالعمل والعلم المنتج تصقل معارف الإنسان ويتعمق وعيه الوطني والطبقي، مما يساعد على وضوح الاصطفاف الطبقي ويخلص المجتمع من الميوعة الطبقية واختلاط الألوان والأوراق باعتباره كتلة هائجة مائجة تقودها رياح السلطة حيث تشاء، قد تسكن وتصمت صمت الأموات أو تهتاج هيجان (تسونامي) المدمر والمخرب، وكليهما سلبي ومدمر ومعرقل لمساعي بناء دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة المواطنة الحرة المستقلة، كما يجري على يد المنظمات الإسلامية السياسية أو ما يسمى بحركات الإسلام الجذري اليميني، وكما يقول سمير أمين واصفا تعاطفه مع الشباب الثائر الذي ينظم إلى الحركات الإسلامية (افهم تماما عواطف الشباب الثائر الذي ينظم إلى الحركات الإسلامية- الجذرية ظاهريا، فإن غضبه هو غضبي وغضب كل من لا يقبل الواقع الراهن المقبض، والمستقبل المسدود تماما، ولكن هذا الدافع السليم لا يكفي في حد ذاته ليكون أسلوب الثورة فعالاً بل رأيت أن هذا الأسلوب يخدم موضوعيا مشروعا آخر غير المشروع الذي يتصوره الشباب الثائر في ذهنه، يخدم مشروعا رجعيا حليفا للاستعمار هو أسلوب ناجح في إدارة الأزمة لا غير)[36].
ويتفق خليل احمد خليل تماما مع ما ذهب إليه سمير أمين في ضرورة وجود ركيزة أو موضوع فاعل للديمقراطية والعلمانية حيث يقول: (من الواضح سوسيولوجيا، أن لا معنى لأي كلام فوقي عن ديمقراطية وعلمانية، من دون جمهور قابل للعلم والعلمانية وللديمقراطية)[37]
العمل على تفعيل عمل المنظمات المهنية والنقابية ومؤسسات المجتمع المدني على أساس المصالح الاجتماعية وليس على أساس الولاءات الطائفية والعرقية والقبلية.
يجب النضال لحماية الثروة الوطنية العراقية وخصوصا النفط والغاز من استغلال وهيمنة الشركات الرأسمالية الاحتكارية، واستغلالها استغلالا وطنيا من حيث التنقيب والاستخراج والتصدير والتصنيع، ولتكون الثروة النفطية ومواردها عامل تمكين للإنسان العراقي ليكون مبدعا ومنتجا وليس عامل تسكين مؤقت ليكون مستهلكا معطلا إتكاليا غير منتج، والعمل لبناء اقتصاد زراعي صناعي ثقافي معرفي منتج وليس وسيلة للنهب والتبذير والبذخ الاستهلاكي غير المسئول كثقافة تتبارى فيها مختلف فئات وأطياف الطبقة القطوازية على حساب فقر ومعاناة أغلبية أبناء الشعب العراقي.
إن ما تقدم وحسب ما نرى ونزعم ونجتهد يفسر لنا سبب طغيان الظاهرة الطائفية في عراق اليوم وكذلك يوضح مدى اثر وارتباط سيادة هذه الظاهرة بالعوامل المعرقلة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة في العراق على مدى تاريخ تكوّن الدولة العراقية ولحين التاريخ. ينبغي للقوى الديمقراطية واليسارية العراقية أن تدرس طبيعة جمهورها بدقة وعناية وتفهم سيكولوجياته ومواطن قوته وضعفه والعمل على بث روح التفاؤل والفاعلية بين صفوفه ووضع البرامج الكفاحية لهذه القوى اعتمادا على النتائج والتوصيات الملموسة والعملية التي يوصي بها علماء النفس والاجتماع حيث (لم يدرس -الجمهور- بعد في ذاته، كموضوع سوسيولوجي، غير افتراضي ولا متخيل كموضوع تاريخي، تصاغ له أيديولوجيات لا تناسب حالته المعرفية، ولا ثقافته الشعبية، المترسبة في قاع اجتماعه وقيعان لاوعيه التاريخي أيضا)[38]. وهو ما يفسر لنا سبب الأزمة السياسية في عراق ما بعد الاحتلال والتي امتدادها مكشوف إلى ما قبل الاحتلال كما تأملها الملك فيصل الأول (وقد تأمل في موزائيك التنافر العراقي، ذات مرة وقال: ليس هناك بعد، شعب عراقي، بل كتل متنافرة من البشر مجردة من أية فكرة وطنية، غارقة في الخرافة والجهل، وتفتقر إلى أية رابطة مشتركة، وميالة إلى الفوضى ومستعدة أبدا للتمرد على أية حكومة مهما كانت … كانت تأملات الملك فيصل هذه في ثلاثينات القرن العشرين، إلا أن الأسى الذي يميزها على غياب الوحدة الوطنية لا يزال صداه يتردد في أروقة “سلطة التحالف المؤقتة” بعد قرن تقريبا)[39] وكان كذلك في ظل الديكتاتورية الصدامية ولازال قائما في ظل الوضع الراهن، إنها وبشكل مكثف أزمة هيمنة طبقية مزمنة مرافقة لطبقة قطوازية عاجزة وطبقة عاملة معاقة ومضللة، هذه الأزمة التي تتمظهر بمظاهر مختلفة وتديم نفسها عبر الحروب الخارجية أو الداخلية تحت مختلف الذرائع القومانية والعرقية والطائفية والذي لا تريد رموز السلطة الملكية أو الجمهورية قبل وبعد الاحتلال الاعتراف بها، وبذلك يبقى مشروع إقامة دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة معاقا معطلا ومؤجلا، فهذه الظروف المحبطة والمجهضة لآمال وطموحات الأغلبية المهمشة و(هي المسئولة عن ظاهرة عامة نجدها في جميع أقطار “العالم” الرابع المهمش، وهي هجرة النضال من أرضية الواقع الاجتماعي الغائبة إلى سماوات البديل “المطلق” ذي الطابع الثقافوي أو الديني)[40]. وتحاول هذه القوى أن تؤطر نشاط وحراك جموع الكادحين والمهمشين عبر أقنعة تقنعت بتمثيلهم في البرلمان وعدم نزولهم للشارع للكفاح من اجل حقوقهم .. فكما يقول مهدي عامل: (الصراع السياسي بانتقاله من المجلس إلى “الشارع” ينتقل من إطاره الطائفي المؤسسي، الذي هو فيه بالفعل صراع سياسي بقدر ما هو لعبة سياسية – سميت حاضرا في العراق بـ”العملية السياسية” – بين أطراف الطبقة المسيطرة الواحدة، إلى إطار آخر يستحيل فيه بالفعل صراعا سياسيا طبقيا، بسبب دخول الجماهير الشعبية فيه طرفا رئيسيا، في تحددها بقوة سياسية مستقلة، وهذا ما تخشاه البرجوازية – القطوازية- لأنه خطر مباشر على سيطرتها الطبقية)[41].
في نهاية البحث نأمل أن تغفر لنا العقول المبصرة ما قد نكون قد وقعنا فيه من تجاوز في التأويل أو خلل في اشتقاق المفهوم أو المصطلح أو زلل في الاستنتاج أو عدم دقة في الاقتباس، فلا نظن أن هناك عملاً يولد كاملا، فما أن يكتمل الموضوع أو الكائن حتى يموت ليفتح الطريق لمولود وموضوع جديد. ولاشك أن تغطية مثل هذا الموضوع الشائك والمهم والمعقد ولفترة تقارب الـ(2000) عام ومتابعة جذوره وتطور دوافعه كظاهرة عالمية وليست عربية إسلامية بحاجة إلى عدة مؤلفات وليس دراسة أو بحث من عدة وريقات مما قد يوفر لنا العذر في التكثيف والاختزال وأحيانا مجرد الإشارة إلى أحداث وظواهر هامة.

____
[1] هادي العلوي –أضواء على معضلة الكنز في الإسلام- ط1(1962) – ص24.
[2] نفس المصدر ص25.
[3] نفس المصدر ص26.
[4] نفس المصدر ص33.
[5] الدكتور فيبي مار- تاريخ العراق المعاصر-العهد الملكي-ص9- ترجمة مصطفى نعمان احمد الطبعة الأولى 2006.
[6] ماكس فيبر- الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية- ترجمة محمد على مقلد – مركز الإنماء القومي بيروت.
[7] الدكتور فيصل السامر –ثورة الزنج- ص188 الطبعة الثانية مكتبة المنار –بغداد-1971
[8] ل.ن.كوتلوف – ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق –تعريب الدكتور عبد الواحد كرم- مكتبة النهضة بغداد الطبعة الثانية ص(164).
[9] ماركس وانجلس- في الاستعمار- دار التقدم موسكو –(ص9).

[10] مهدي عامل – مدخل إلى نقض الفكر الطائفي- مركز الأبحاث منظمة التحرير الفلسطينية- الطبعة الأولى(ص35).
[11] امارتيا صن – الهوية والعنف (وهم المصير الحتمي) عالم المعرفة – يونيو 2008 ترجمة سحر توفيق (174).

[12] إسحاق نقاش/ المجتمع العراقي –حفريات سوسيولوجية- ص221معهد الدراسات الإستراتيجية-مجموعة مؤلفين –ط12006
[13] المجتمع العراقي – حفريات سوسيولوجية – مجموعة مؤلفين ص23

[14] ل.ن.كوتلوف نفس المصدر السابق (ص165).

[15] خليل احمد خليل –سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني – ص89.

[16] عصام الخفاجي –رأسمالية الدولة الوطنية –دار ابن خلدون ط 1 (1979)ص174خليل احمد.

[17] جرجيس فتح الله المحامي – العراق في عهد قاسم- اراء وخواطر 1958- 1988 الجزء الثاني-دار نبز للطباعة والنشر السويد- 1989.
[18] خليل-سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط- الطبعة الأولى 2005(ص14) المؤسسة العربية للنشر والتوزيع.
ونحيل القارئ الكريم – لعدم سعة مجال البحث لاستعراض محتويات هذه الوثائق إلى الاطلاع على كراس بقلم كاظم الحلفي تحت عنوان (الشيوعية كفر والحاد) الصادر (بموافقة وزارة الإرشاد على طبعه بكتابها المرقم 9 والمؤرخ 5-1-1960) مطبعة القضاء- النجف لتتضح أمامه صورة الصراع الدائر آنذاك وأساليبه ووقت توقيته في هذه الفترة بالذات ومقارنته ليكون نتيجة لما ورد في (الكتاب الأسود اعترافات الشيوعيين) الصادر عن وزارة الإرشاد في 1963 في بغداد وما فعله البعث ضد كل من قاوم انقلابهم الفاشي وخصوصا من الشيوعيين واليساريين وعموم العراقيين الأحرار حيث يدعي تسجيل -اعترافات الشيوعيين العراقيين التي حملتها رسائلهم إلى المجلس الوطني لقيادة الثورة في الفترة الواقعة بين 28 شباط و4 آذار من سنة 1963-، وما يهمنا هنا كشف ستار التضليل الذي تستتر خلفه هذه القوى مخفية حقيقتها الطبقية كقوى استغلالية موالية لرأسمال العالمي وتحالفها معه وليس نبش ماض أليم يجب أن لا يتكرر.
[19] جرجيس فتح الله المحامي – العراق في عهد قاسم ج2-دار نبز-السويد 1989 – ص640.
[20] حنا بطاطو – المجتمع العراقي – مجموعة مؤلفين ص32.

[21] مجموعة مؤلفين- النظرية العامة في القانون الدستوري في العراق – وزارة التعليم العالي والبحث العلمي –جامعة بغداد كلية القانون 1990 (ص424).

[22]نفس المصدر (ص425).
[23] خليل احمد خليل – سوسيولوجيا الجمهور- ص129.
[24] نفس المصدر ص89.
[25] جاربث ستانسفيلد – المجتمع العراقي- حفريات – سوسيولوجيةص352.
[26] خليل احمد خليل- سوسيولوجيا الجمهور-(ص129).
[27] نفس المصدر (ص90).
[28] خليل احمد خليل – سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني- ص120.

[29] جاربث ستانسفليد – المجتمع العراقي –حفريات- مجموعة مؤلفين- ص345.

[30] مهدي عامل – مدخل- ص(38).
[31] نفس المصدر السابق (ص113).

[32] حسين درويش العادلي –نظرات في الدولة العراقية –موقع البرلمان العراقي الالكتروني.

[33] مهدي عامل – مدخل- ص215.

[34] خليل احمد خليل – سوسيولوجيا- (ص11).
[35] د.سمير أمين (في مواجهة أزمة عصرنا) (34).
[36] سمير أمين – في مواجهة أزمة عصرنا- سينا للنشر ص287

[37] خليل احمد خليل –سوسيولوجيا- (ص179).
[38] نفس المصدر- (ص286).
[39] جاريث ستانسفيلد المجتمع العراقي –حفريات- ص349.
[40] سمير أمين- في مواجهة أزمة عصرنا – ص288
[41] مهدي عامل – مدخل – (ص115).

——————————————–
بقلم: حميد الحريزي – 04-04-2010

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button