دراسات سياسية

ابستمولوجيا علم السياسة

يظهر مصطلح “الإبستمولوجيا Epistomologie في اللغة الفرنسية Epistemology في اللغة الإنجليزية ، ويتضح علاقته بنظرية المعرفة عند تحليله لغويًا .. فمصطلح Epistemologie في اللغة الفرنسية مشتق من الكلمة اليونانية Episteme التي تعني “العلم” أو “المعرفة العلمية” والمقطع “Logie” الذي يعني في أصله اليوناني “Logos” أي “نظرية” ، وبالتالي فإن كلمة “إبستمولوجيا” تعني حرفيًا “نظرية العلم” .
ويقدم “أندريه لالاند” تعريفاً للإبستمولوجيا يرى فيه أن هذه الكلمة تعني فلسفة العلوم ، والتي تعني دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها بغية تحديد أيها المنطقي “لا النفساني” ، وقيمتها ومداها الموضوعي .
نظرية المعرفةأوالإبستمولوجيا Epistemology كلمة مؤلفة من جمع كلمتين يونانيتين : episteme بمعنىعلم وlogosبمعنى : حديث ، علم ، نقد ، دراسة فهي اذا دراسة العلوم النقدية . تعتبرنظريةالمعرفةأحد فروع الفلسفةالذي يدرس طبيعة و منظورالمعرفة، المصطلح بحد ذاته (إبستمولوجيا) يعتقد أن من صاغه هو الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرير .
يعرفها لالاند في معجمه الفلسفي بأنها فلسفة العلوم ، وهي تختلف بهذا عن علممناهج العلوم ( ميثودولوجيا ) لأن الايبستمولوجيا تدرس بشكل نقدي مبادئ كافة انواعالعلوم و فروضها و نتائجها لتحديد أصلها المنطقي و بيان قيمتها .

معظم الجدلو النقاش في هذا الفرع الفلسفي يدور حول تحليل طبيعةالمعرفةو ارتباطهابالترميزات و المصطلحات مثل الحقيقة ، الاعتقاد ، و التعليل (التبرير) . تدرسالإبستمولوجيا أيضا وسائل إنتاجالمعرفة، كما تهتم بالشكوكحول إدعاءاتالمعرفةالمختلفة . بكلمات اخرى تحاول الإبستمولوجيا أن تجيب عن الأسئلة : “ماهيالمعرفة؟” “كيف يتم الحصول على المعرفة؟” . و مع ان طرق الإجابة عن هذه الأسئلة يتمباستخدام نظريات مترابطة فإنه يمكن عمليا فحص كل من هذه النظريات على حدة .
الفصل الأول :

“الإبستمولوجيا” مدلول المصطلح

اختلف الباحثون في المعنى الدقيق، إن وُجد، لكلمة إبستمولوجيا فإذا رجعنا إلى الأصل الاشتقاقي لهذا اللفظ وجدنا أنه مركّب من (ابستيمه)EPISTÉMÉ ومعناه(العلم)، ومن(لوجيا) LOGIE وهي تدل على(المقال) ، أو علم ، نقد ، نظرية ، دراسة … . وفي هذا المستوى اللغوي رأىالمعجم العام للعلوم الاجتماعية، أنها تعني(علم العلم)، لكن المُصطلح يغدو –هنا- أكثر التباساً .

إنها كلمة مستحدثة. فهي لا توجد في معجم(ليترة)، ولا في معجم”لاروس الجديد المصوَّر”. ويذهب(روبرت) إلى أنها ظهرت أول ما ظهرت في المعاجم الفرنسية في”ملحق لاروس المصوَّر” سنة1906. وقد كان(جدل لاشيله) في حوالي ذاك التاريخ، حيث كان معجم(لالاند) الفلسفي يهيأ للظهور، يعد هذه الكلمة كلمة جديدة مؤسفة.

و قد قال مؤلفا تعريف “الإبستمولوجيا” في”معجم اونيفرساليس” إنها كلمة قديمة جداً، أو إنها على الأقل مؤلفة من مواد قديمة جداً، ولكن استعمالها حديث لا يسبق القرن التاسع عشر ضمن مفردات الفلسفة المتخصصة. وهذه الكلمة يقابل ظهورها تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم، فيما يذهب (لالاند) في”معجمه” إلى أنها تدل على فلسفة العلوم. فهي ليست بوجه خاص دراسة الطرائق العلمية، لأن هذه الدراسة موضوع علم المناهج (الميثودولوجيا)، و الأخيرة جزء من المنطق، كما تتوافق عليها المدرسة الفرنسية في الفلسفة، كما أنها ليس تركيب قوانين علمية أو استباقها بالافتراض.

الإبستمولوجيا، بالدرجة الأولى، دراسة نقدية لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها ونتائجها بغية تحديد أصلها المنطقي(لا النفسي) وقيمتها ومداها الموضوعي. ويرى العوا أن من الموائم ترجمة هذا اللفظ الأعجمي بعبارة”نقد العلوم”، باعتبار النقد إيضاح تقويم يصدر حكماً في أمر بما له وما عليه معاً، إن لم يكن من الأفضل الحفاظ في اللغة العربية على اللفظ بصيغته الأجنبية بوجه الإطلاق، ونحن نميل لهذا الاتفاق ، فهي نقد للعلم أكثر منها علم للعلم ، فالأخير ينزع عنها صفتها الفلسفية،وكذلك فإن نظرية العلم تبدو حطاً من قدرها الفلسفي، إذ يُلحقها بالعلم ولا تبدو –كما هي عليه فعلاً- رؤية فلسفية وليست نظرية فحسب للعلم.

ويجب أن نتذكر دائماً أن المصطلح بدا بهذا الشكل من الإشكالية نظراً لعدم القدرة على إيجاد الفواصل أو الحدود النهائية بين الإبستمولوجيا والعديد من المجالات كالميتودولوجيا(علن المناهج) أو الغنيزيولوجيا( نظرية المعرفة) أو الكريتيريولوجيا (علم المعايير).

ولئن كانت الكلمة جديدة فإن روبرت بلانشيه يرى أن ما تدل عليه لم يكن بالشيء القديم جداً. فكل فلسفة تنطوي على بعض تصور للمعرفة،و مثال ذلك(أفلاطون) الذي يعرض منذ وقت بعيد في(تيتاوس) نظرية عن العلم بالمعنى الواسع.

ولكن كلمة”علم” قد تحلت منذ القرن الثامن عشر بمعنى أضيق وأدق، وهو المعنى الذي نرمي إليه عندما نتحدث اليوم عن”أكاديمية العلوم”، أو عن الثقافة العلمية، أو عن تطبيقات العلم..الخ. ففي القرن الثامن عشر، وبعد الدفع الذي حققه(غاليله)، وهو دفع حاسم، غدا العلم غير مستقل استقلالاً كافياً عن الفلسفة. وكذلك الحال لدى(نيوتن)، فضلاً عن(ديكارت)، إذ كان العلم يُعرض بعنوان”مبادئ الفلسفة” وستستمر عبارة”الفلسفة الطبيعية” ذائعة لدى الإنكليز حتى نهاية القرن التاسع عشر للدلالة على الفيزياء. وكذلك كان اللفظ الألماني لمعنى العلم WISSENSCHAFT لا يزال على العكس يحتفظ ببعض المعنى الأوسع الذي كان يميل فيه سابقاً إلى الامتزاج بمعنى الفلسفة.

ويرى بلانشيه أن أفضل كتاب في القرن الثامن عشر يشكل إرهاص ما سيصبح الإبستمولوجيافي هو”المقالة التمهيدية للموسوعة” بقلم(دالمبر). وفي مستهل القرن التالي يمكن عدّ الممهدَّات الآتية وهي الجزء الثاني من كتاب(دوغالن ستورت) بعنوان”فلسفة الفكر الإنساني”(1814) وكتاب(اوغست كونت)”دروس الفلسفة الوضعية وكتاب(جون هرشل) بعنوان”المقالة التمهيدية للفلسفة الطبيعية”(1830). ولكن الكتابين الرئيسين اللذين نختار عدّهما طوعاً مما ندعوه اليوم الإبستمولوجيا، ولو أن الكلمة لما توجد آنذاك، فقد ظهرا في وقت واحد بوجه التقريب في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر: الأول يتصل بالعلوم الصورية، المنطق والرياضيات، وهو كتاب(برنار بوالزانو) بعنوان WISSENSCHAFTSLEHRE، والكتاب الآخر يتصل بعلوم الطبيعة وعنوانه”فلسفة العلوم الاستقرائية” وقد وضعه(ويليام وهويل) سنة1840.

إن كلمة WISSENCHAFTSLHRE التي كتبها(بوالزنو) في مقدمة كتابه تسمح بالإمعان، فهي تقابل من الناحية الحرفية في اللغة الألمانية ما تعني كلمة الابستمولوجيا المستلهمة من الإغريقية في اللغة الفرنسية أي: نظرية العلم. وعلى الرغم من ذلك فإن اللفظين، الألماني والفرنسي،(أو كلمةEPISTEMOMGY باللغة الإنكليزية) ليسا مما يمكن استبدال أحدهما بالآخر بدقة. لأن اللفظ الأول لم يكن يحتفظ من أصوله الأقدم في الغالب إلا ببعض معنى أوسع من المعنى الذي تحلى به اللفظ الآخر من رسم دلالة على مجال أضيق فهو لا يتميز على الدوام تميزاً جلياً عن لفظERKENNTNISCHTHEORIE الذي يدل على”نظرية المعرفة” بوجه عام. وإذن فإنه يتسم بسمة فلسفية أجلى. بل أنه قد يحظى بتوسيع أكبر جداً ما دام هذا اللفظ ذاته WISSENSCHAFTSLEHRE هو الذي اختاره(فيخته) حوالي سنة(1800) عنواناً لعرض- أو بالحري للعروض المتعاقبة لفلسفته بأسرها

إن عبارة نظرية العلم WISSENSCHAFTSLCHRE تدل لدى(بولزانو) على معنى أدق، هو المعنى الذي تشير فيه كلمة WISSENSCHAFT دلالة دقيقة على المعرفة العلمية، بصرف النظر عن أي شكل آخر من أشكال المعرفة، وإن دراسته تتناول، أكثر ما تتناول، بكثير من الانتباه الدقيق، بحرص جمّ على الصرامة، بحث مفاهيم المنطق الرئيسة مثل قابلية الاشتقاق. وهي تبشّر على هذا النحو بالأسلوب، وتستبق إلى بعض المشكلات مما يطالعنا اليوم في بحوث ما وراء المنطق.

ويذكّرنا بلانشيه بأننا نطلق الآن تعبير”ما وراء العلم”، من أجل حالات أخص لكلمتي”ما وراء الرياضيات” و”ما وراء المنطق”، فنطلقه على دراسة”تلي” العلم وهي تتناول العلم فتتخذه بدوره موضوعاً، وتتساءل، وهي ترقى إلى مستوى أعلى، عن مبادئه، وأسه، وبنياته، وشروط صحته،الخ. ولهذا يرى أن الإبستمولوجيا، وهي تفكير في العلم، إنما تدخل هي ذاتها، بهذا الوصف، في”ما وراء العلم”، ولا يمكن تمييزها عن”ما وراء العلم” إلا بفويرقات أن ما وراء العلم يبين في العادة حرصاً أقصى على أن ينقل إلى مضماره أسلوب العلم ذاته ومقتضياته، فلا يكاد يكون من الممكن إذن أن يتصدى لممارسته إلا العلماء الاختصاصيون، في حين أن الابستمولوجيا تقف في الغالب بالإضافة إلى العلم على بعض مسافة، وهي لا تزال تحتفظ بسمة فلسفية متميزة إلى حد كبير أو صغير، وعلى الرغم من مساعيها للتقليل من شأنها.

وفي حوالي سنة(1900)، عندما بدأ التساؤل بجد عن بعض مبادئ ما سيدعى العلم”المدرسي”، نمت الحركة الكبيرة المسماة”نقد العلوم”كانتقاد موجه ضد الوثوقية العلمية، حيث تناولت طبيعة القوانين، ونظريات الفيزياء.

وقد كانت”أزمة الأسس” التي انطلقت من متناقضات الفئات ترغم علماء الرياضيات في الوقت ذاته على التساؤل، هم أنفسهم، عن مبادئ علمهم. وقد انصرف إلى هذا التساؤل، أكثر من انصرف(كوتلوب فريجه) في ألمانية و(برتراند رسل) في انكلترة. وباتصال الكفاءة العلمية والتفكير الفلسفي على هذا النحو، وهو اتصال توجيه بصورة قاهرة حال العلم ذاتها وقد جعله الاختصاص العلمي الناجم عن نمو العلم أمراً نادراً باطراد، وجدت الإبستمولوجياذاتها، وقد تكونت بوصفها مبحثاً أصيلاً. وهذا الوضع الراهن هو الذي جاء داعماً عمادها.

ويرى العوا أن الطريف في الأمر، وهو غير مباغت حقاً، أن الباحثين الإبستمولوجيين من أمثال(مايرسون)و(دوهم) و(برنشفيك) و(بوانكاره) و(رسل) والوضعيين وأصحب(نادي فيينا) و(باشلار) وأتباعه من طراز(بانكليم) و(داكوني) و(كرانجر) يمضون وراء أهدف متباينة بشأن تعريف وموضع تطبيق الابستمولوجيا، كذلك يفعل (بوبر) في مقدمة الطبعة الإنكليزية للكتاب”منطق الاكتشاف العلمي” (1958) معتبراً :” أن المشكلة المركزية في الابستمولوجيا كانت وتبقى مشكلة نمو المعرفة والسبيل الأفضل لدراستها هي دراسة نمو المعرفة العلمية”.

ويذهب(جان بياجه) إلى هذا الوضع بالذات عندما يقول :”إن المشكلة المركزية في الابستمولوجيا هي تبيان هل تنحلّ المعرفة إلى مجرد تسجيل المرء معطيات منتظمة سلفاً بصرف النظر عنه في العالم الخارجي(الفيزيائي أو المثالي) أم أن المرء يتدخل في المعرفة وفي تنظيم موضوعاتها كما حسب(كانت)”.

فالإبستومولوجيا التكوينية هي نوع خاص من الإبستمولوجيات حيث رأى بياجيه أن الخطأ العقيم الذي ارتكبه الفلاسفة قد كمن في نظرتهم إلى المعرفة كواقعة نهائية وليس كسيرورة، وقد ذهب بدوره إلى أن جميع القضايا العلمية قابلة للمراجعة والتصحيح (والنقطة الأخيرة يوافقه عليها باشلار عندما يعتبر أن العلم هو تاريخ تصحيح أخطاء العلم) وبالتالي فالمنهج التكويني في الإبستمولوجيا يستلزم النظر إلى المعرفة من زاوية تطورها في الزمان أي كتكوين من ناحية وباعتباره لم ولن يكتمل من ناحية أخرى، وهذه الأخير تتطابق مع رؤية باشلار لما يسميه الفلسفة المفتوحة

ولا بد عندما نود أن نوغل أكثر في تعيين المفهوم أن نُلاحظ أنه ستُطالعنا مشكلتان أساسيتان: الأولى مشكلة وحدة العلوم، وهي مطروحة لدى(كونت) و(مايرسون) مثلاً، وقد زعزعها (باشلار)، ثم مشكلة وحدة أشكال المعرفة: إذ يرى باحثون مثل(مايرسون) أن هناك استمراراً بين المعرفة العامية والعلم، ويرى آخرون مثل(باشلار) وأتباعه أن ثمة انقطاعاً بل انقصاماً بين المعرفة والحس المشترك إزاء العلم هو ما يدعوه بالعقبة الإبستمولوجية.

الفصل الثاني

المجال الإبستمولوجي

بات واضحاً لكل من عالج موضوع الإبستمولوجيا أنه من العسير رسم تخوم تفصلها عن المباحث المجاورة، سابقة الذكر. والأمر شأنه شأن كل مسعى للتعريف. أنه، بادئ ذي بدء، مسألة مفردات، وإذن مسألة قرار حرّ لا ينمّ عما هو صواب أو خطأ، بل عما هو مناسب، كما يُقر بلانشيه إذ مهما تتباين طريقة تحديد معنى الكلمة، ستبقى تخوماً متحولة، لأن مشكلات الابستمولوجيا تتجاوز وتتناول في آنٍ مجالات كنا قد وضعناها خارج تلك التخوم ومنها العلاقة بين الإبستمولوجيا وكل من :

1. الإبستمولوجياونظرية المعرفة:

تختص نظرية المعرفة كما بات معلوماً في إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله ومظاهره، وما إذا كانت المعرفة ممكنة وبالسؤال عن أدواتها وحدودها وقيمتها، وتأسست في سياقها هنا عدة مذاهب منها المذهب العقلي الذي يعتبر العقل هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة وفيه تتأسس معرفة قبلية فطرية ، والمذهب الحسي- التجريبي الذي يُحيل المعرفة إلى الحواس باعتبار العقل صفحة بيضاء TABU LA RASA والمذهب الحدسي الذي يُحيل المعرفة إلى الحدس الذي لا يُتوافق على تعريف صارم له!

وتبدو علاقة الابستمولوجيا بنظرية المعرفة -بشكل أولي- كأنها علاقة الجنس بالنوع،حيث أن الابستمولوجيا تقتصر على شكل وحيد من أشكال المعرفة، وهو المعرفة العلمية. وعلى الرغم من ذلك فإن التمييز سرعان ما ُيمحّي عندما نُرجع النوع إلى هذا الجنس وحده، كما هي الحال لدى المؤلفين الذين يطلقون تعبير المعرفة على المعرفة العلمية وحدها ويرون أن كل ما عدا ذلك لعب لفظي خلو من أي مدى معرفي. وذاك ما كان عليه، مثلاً، موقف الوضعيين- المحدثين في(فينا)، وهوموقف الاختبارية المنطقية التي جاءت في أعقابهم.

وعلى ذلك فإن(كارناب) لا يعترف بصحة نظرية المعرفة إلا في حدود إرجاعها إلى الإبستمولوجيا، بل، وبوجه أدق، إلى تحليل العلم تحليلاً منطقياً. وفي فرنسة جعل(ل. روجيه)، الذي يتفق في هذه النقطة مع الاختبارية- المنطقية، عبارة”كتاب المعرفة” عنواناً لكتابه الذي يقول فيه أن ليس ثمة من معرفة إلا المعرفة العلمية. فهنالك”علوم زائفة” و قد ُبتَّ في شأنها منذ زمن بعيد. وهذا ما يقف وراء افتخار(ديكارت) بأنه لم ينخدع بوعود السيميائي ولا بتنبوءات المنجّم وأضاليل الساحر”

و يلاحظ بلانشيه هنا أنه على الرغم من ذلك، فإن(ديكارت) هذا كان هو نفسه يجعل العلم تابعاً للميتافيزياء مثلما تتغذى الشجرة بجذورها، واليوم أيضاً، يرجع إلى العلم ذاته أن يقول هل تعترف بسمة علمية تسم أبحاث التخاطر، أو حتى مجرد الفراسة أو قراءة الخطوط لاستشفاف سجية أصحابها. بل وكذلك حال المباحث التي يجمعها عنوان(العلوم المعيارية” ولكن، بالمقابل، ليس من باب المسألة العلمية أن نطلب معرفة هل توجد إمكانات معرفية خارج العلم أم لا توجد. فمثل هذا السؤال يرجع إلى نظرية عامة عن المعرفة، يكون أحد أغراضها الأساسية هو، بوجه الدقة، تحديد وضع المعرفة العلمية بين أشكال أخرى يمكن تصورها عن المعرفة. ترى هل توجد طرائق معرفية تمنح من دروب أخرى غير دروب العلم أم لا توجد؟. فقد قال فريق من الباحثين بوجود ملكات غير فكرية، أو فكرية جزئياً، كالقلب”ذي الأسباب التي لا يعرفها العقل”، أو الحدس بوصفه”غريزة ينيرها الذكاء”: وهذا ما يسوّغ صحة معرفة صوفية أو ميتافيزيائية. ويقترح آخرون توجيه ملكاتنا الفكرية ذاتها في منحى آخر، شطر”حدس الذوات”، ونؤسس إذ ذاك علماً ظواهرياً فيما وراء العلم بالوقائع. بل إننا، حتى لو قابلنا مثل هذه المزاعم بالرفض، فإننا إنما ننخرط بذلك في أفق فلسفة ما عن المعرفة.

إن التفريق النظري بين الإبستمولوجياوبين نظرية المعرفة ضروري مع الاعتراف حقاً بأن هذا التمييز لا يُراعي في الواقع على الدوام، وذلك أولاً لأسباب تتصل بالمفردات وحدها. ففقدان اسم بسيط يمكن أن يُشتق منه نعت وظرف يجعل من اليسير الاستعاضة عن عبارة”نظرية المعرفة” بكلمة أيسر هي كلمة”الإبستمولوجيا”.

وقد حاول المعنيون تدارك هذا المحذور بنحت كلمة(علم المعرفة) GNOSELOGIE. ولكن هذه الكلمة لا تكاد تستند إلى جذر وربما استعلمت في اللغة الإيطالية أحياناً، و لكن يبقى استعمالها أمراً نادراً في اللغتين الفرنسية والإنكليزية وهي تكاد أن تكون غائبة في اللغة الألمانية اللهم إلا في شكلها المدرسي في لفظي EKENNTNITHEORIE أو ERKENNTNISLEHRE.

ولكن ( جان بياجه)،مثلاً، يعدّ”الإبستمولوجيا” و”نظرية المعرفة” أمرين مترادفين. ذلك أن العلم والفكر العلمي، إنما ينشئ أحدهما الآخر بالتدريج ودون أن يبلغا حال الإنجاز في تطور المجتمعات وفي نمو الفرد سواء بسواء. وإذ ذلك تكون كل إبستمولوجيا تكوينيةً، سواء تناول الأمر تاريخ العلوم أو علم نفس الطفل،وهي تتسع بالضرورة لنظرية المعرفة، ما دامت تتوخى اجتياز جميع المراحل التي نبلغ بها ما نعدّه اليوم معرفة علمية – أي أن ننظر إلى المعرفة في أشكال يمكن أن نحكم بأشكال سابقة للعمل، والتي لا نستطيع، بالرغم من ذلك، أن نمنع عنها أية قيمة علمية ما دام وجودها قد هيأ لضروب التقدم اللاحقة.

زد على ذلك أن مجرد توحيد الإبستمولوجيابنظرية المعرفة، وإن كان اليوم لا يكاد يتسق مع الممارسة، فإنه لم يزل ناشطاً لدى كثير من المؤلفين الذين يقرونه دون مناقشة كما لو أنه أمر بديهي. من ذلك المقالة الطويلة في”موسوعة الفلسفة”(1967) الفرنسية، الخاصة بالإبستمولوجيا، وقد ورد فيها التعريف الآتي:”إن الإبستمولوجياأو نظرية المعرفة هي فرع من الفلسفة يعنى بالطبيعة، وبمدى المعرفة، وبمقولاتها التمهيدية، وبأسسها، وبالثقة الممنوحة لها”. ويلي ذلك عرض تاريخي طويل يمتد من العصر القديم اليوناني إلى”فلاسفة اللغة العادية” مروراً على الأخص بالقديس(توما) وبـ(سبينوزا) و(شوبنهور). وقد عرفت”الموسوعة البريطانية” Britanica الإبستمولوجيا بألفاظ شبه مماثلة:”إنها فرع الفلسفة المعني بمشكلات الطبيعة وحدود المعرفة والاعتقاد وصحتهما”. أما”الموسوعة الإيطالية” فقد اكتفت في كلمة” الإبستمولوجيا” بالإحالة على كلمةGNESOLOGIE. ولنلاحظ، على العكس، أن”موسوعة يونيفرساليس”(1970) تقف في أقصى الطرف المقابل وترفض الاعتراف بأي رباط يصل الإبستمولوجيابالفلسفة.!

2ـ الإبستمولوجياوفلسفة العلوم:

يرى بلانشيه أن من شأن التمييز الدقيق أن يزداد عسراً بين الإبستمولوجياوفلسفة العلوم، وذلك من جراء مرونة هذه العبارة الأخيرة.

فثمة من يعترض على السمة الفلسفية للمبحث الابستمولوجي ويرى أن المهمة لأولى للإبستمولوجيا تمثل في تعيين معيارقبلي لكل معرفة علمية.

فإذا نظرنا إلى فلسفة العلوم بالمعنى الأوسع وجدنا أن الإبستمولوجيافصلاً من فصولها، أو طرازاً من طرز ممارستها. وعلى هذا النحو صاحبا كتاب “قراءات في فلسفة العلوم” بتمييز أربع وجوه مختلفة لفلسفة العلم:

• دارسة علاقاته بالعالم وبالمجتمع.

• السعي لوضع العلم داخل مجموعة القيم الإنسانية.

• المحاولات الفكرية التي تنطلق من نتائج العلم وتجاوزها لبلوغ ما يمكن تسميته فلسفة الطبيعة.

• التحليل المنطقي للغة العلم.

وقد أعلن فايغل و برودك أنهما يتمسكان بهذه الدلالة الأخيرة؛ وهي وحدها التي يمكن أن تتسق مع ما تشير إليه كلمة الإبستمولوجيا.

ويمضي بعض الإيبستمولوجيين إلى أبعد فيقطعون الجسور بين المفهومين، وكأنهم يسعون إلى صون الإبستمولوجيا، كمصطلح جديد من فساد يصيبها من الفلسفة!، الأمر الذي يُقارب بين المفهوم والعلم بمسعىً للابتعاد غير المبرر عن الفلسفة ، وهذا ما يجعل بلانشيه يلاحظ أنهم يتحاشون استعمال هذه الكلمة الأخيرة،و هو ما يميل إليه أولئك الذين لا يعترفون بأي شكل للمعرفة سوى الشكل العلمي وينفون بذلك كل فلسفة لا تنحل إلى تحليل العلم، شريطة أن يكون هذا التحليل ذاته بحسب طرائق علمية. وهذا الموقف لا ينطلق دائماً من اتخاذ موقف مضاد للفلسفة، إذ أن الإبستمولوجياباتت تفلت أكثر فأكثر من قبضة الفلاسفة، وتنتقل إلى العلماء أنفسهم، وهذا سمة من سمات الإبستمولوجياالمعاصرة الماثلة في اضطلاع العلماء المختصين بالمشكلات الابستمولوجية بالتدريج، وذلك ليس نتيجة وضع عابر، بل لأن الأزمات الحديثة التي زعزعت مختلف العلوم والثورات التي لزم عليها التعامل معها، قد أرغمت أولئك الذين يمارسونها على العودة إلى مبادئها، والتساؤل عن جوهرها. فقول(برنشفيك) إن ضروب تقدم العلوم ليست نحو الأمام دوماً، بل إنها قد تكون انعكاسية هو الذي جعل (ج. فراي) يميز ضروب التقدم الخطية عن ضروب التقدم الدائرية، وهو الذي جعل باشلار يتحدّث عن القطيعة الإبستمولوجية باعتبارها المضمون الذي يقف وراء عدم جعل تاريخ العلم تاريخ تقدم خطي بل هو تاريخ الزمن العمودي أو تاريخ المنفصل أيضاً في العلم.

غير أن الإبستمولوجياقد تحولت إلى مبحث من مباحث الفلسفة على مستوى الدراسات الأكاديمية في الإبستمولوجيا. فالإبستمولوجياليست من صنع العلماء، وهي لا تخاطبهم إلا عَرَضاً. ومن شأن الفلسفة أن تعنى عناية عفوية بفلسفة علوم، بهدف إيضاح سبل المعرفة العلمية وتحديد الموضوعات التي تتناولها وتبيان صحتها، أي تبيان أساسها في مضمار الحقيقة، ولكن مسار هذه المعرفة الفلسفية يمرّ بمعرفة العلماء؛ فالمعرفة العلمية، والرياضيات هي ضابطها الرصين ، هي معرفة متحررة من الحس،و متصلة بآلية البرهان ، لكنها عاجزة عن البرهان على حقيقة براهينها الخاصة،و عاجزة عن العثور في ذاتها على أساس مقالها. ولذا يترتب على الفيلسوف أن يعترف في وقت من الأوقات بتخطي صعيد العلم ليكتشف في مكان آخر،ما ينطوي على شروط حقيقته الخاصة. وهنا نلمس إفادة الفلسفة من فلسفة العلوم: إنها لا تجد في المعرفة العلمية موضوع المعرفة وحسب، بل تجد كذلك ما يميز خصوصيتها. وبعبارة أخرى: إن فلسفة العلوم نشاط هادف فيه يتقرر مصير الفلسفة ذاتها ما دامت الفلسفة تمنح منها كفالة وجودها ذاته، وما الحكم(السلبي) على العلم إلا، في الوقت ذاته، حكم(إيجابي) على الفلسفة.

ليس بين العلم والفلسفة في نظر(ديكارت) أي انقطاع، وإنما بينهما اتصال مستمر. وعلى هذا النحو لا يجد الفيلسوف أمامه من سبيل أفضل من محاكاة العالم واتخاذ العلم أنموذجاً ونقل شكل محاكمات العالم إلى مجالات أخرى يقول:”إن هذه السلاسل الطويلة من الحجج البسيطة والسهلة، التي تعوّد علماء الهندسة استعمالها للوصول إلى أصعب البراهين، أتاحت لي أن أتخيل أن جميع الأشياء، التي يمكن أن تقع في متناول المعرفة الإنسانية، تتعاقب على صورة واحدة، (مقالة الطريقة- القسم الثاني). وعلى هذا النحو لا تتميز الفلسفة بمضّادة العلم، بل بالاستمرار معه. إنها تقلّد العلم، تعيد إحداثه،و تجعله يستمر. ولكن صلتها بالعلم صلة مفارقة ما دامت تسعى إلى استباقه. وبينما كانت الفلسفة في نظر(أفلاطون) خارج العلم، وتأتي بعده، أصبحت لدى(ديكارت) ضمن العلم، وفي منطلقه. لقد صارت الفلسفة بوصفها معرفة أساسية، معرفة الأسس التي تمكن تصورها في منطلق النظام الذي تتكون منه أو في نهايته سواء بسواء. وقد أسهم(كانت) في مزيد من جلاء مسعى إقامة مشروع فلسفي على أساس فلسفة العلوم. فلئن عرفت الرياضيات والفيزياء كيف تلجان”طريق العلم اليقيني” وجب على الفلسفة والميتافيزياء أن تسيرا على الدرب ذاته. وبذا يترتب على مقال الفيلسوف المرور قبلئذٍ بتمهيد انتقادي. فهو مقال عقلي لأنه محدّد بشروط الإمكان التي ترسم حدوده. وعلى هذا النحو يتضح أن الرياضيات والفيزياء هي من علوم التجربة بالنسبة إلى الشروط القبلية المتصلة بإمكان وجودهما.

ويتضح إذن أن علاقة الفلسفة بالعلم علاقة هادفة على نحو تحققها في فلسفة العلوم. حيث يكون العلم ذريعة التفلسف. ويتجلى نشاط هذا التفلسف بتعيين منزلة المعرفة العلمية أولاً.

ويتجلى نشاط التفلسف في مضمار العلم في مشكلة هي مشكلة حدود المعرفة، ولا سيما المعرفة العلمية. فهذه المعرفة، على نقيض المزاعم التي تُعزى إليها للتمكن من فضحها، لا تقدر على أن تعرف كل شيء.

وأما المشكلة الثالثة فهي تتعلق بمفهوم(العلم) (بالفرد)، حيث لا علم بالمعنى العام في ممارسة العلماء، بل ثمة منظومات معرفة نوعية نامية توائم موضوعاتها أو تعالجها، مثال ذلك المنطق الرياضي، الكيمياء الحيوية، التحليل النفسي. فهذه المباحث الحقيقية ليست مستقلة، رغم فصلها الإجرائي. غير أن لها استقلالاً ذاتياً على نحو نسبي: إنها لا تجمد البتة في نطاق تصنيف ثابت لا يتغير، بل هي، على العكس، تصدر عن تبادل موصول بين وسائلها وأغراضها.

وهذا التبادل يغيّر تخومها ويخضعها على الدوام لشروط محدّدة ومتبدلة داخل تاريخ علوم حقيقي. وينجم عن/جهل/ تجاهل الفلسفة لهذه المعطيات المتصلة بممارسة العلماء الحقيقية أن استحدث الفلاسفة فكرة(علم) سرمدي يُظن أن فكرته البسيطة توجد خارج كل تاريخ، ولكن فلسفة العلوم، بل فلسفة(العلم) بالمفرد لا تلبث أن تستبدل بهذا الموضوع المثالي موضوعات حقيقية هي الطرز المتنوعة التي يعلم عليها العلماء مادياً، والتي بالانطلاق منها يبنون بآن واحد نظرياتهم والروابط الموضوعية التي يتيح تمنيتها إن وهم(العلم) لا يوجد إذن إلا لدى الفلاسفة. وإن فلسفة العلوم لتردّ هذا الوهم.

ولكن أغلب الباحثين يعزف اليوم عن هذا التعريف الواسع ويرون أن للإبستمولوجيا وظيفة أدق وأكثر تحديداً. فالإبستمولوجياهي مبحث نقدي، وبذا يتحدد مجال نشاطها. وهي تدرس شروط إمكان إنتاج معارف علمية. وهي بذاتها دراسة وضعية، ودراسة خاصة، وهي تفترض توافر طرائق وتقنيات محدّدة، وكأنها جزء مقتطع من فلسفة العلوم، جزء يطرح أسئلة وضعية عن مسيرة المعرفة العلمية، ويتخذ ما يتوصل إليه من أجوبة منطلق حكم على طبيعة هذا المعرفة ووسائلها وغاياتها.

ولكن كل إبستمولوجيا ليست تاريخية بالضرورة.ففلسفة العلوم سبقت الإبستمولوجيا، كما سبقت نظرية المعرفة تلك الفلسفة. والجدير بالذكر أن فلسفة العلوم في نظر(كانت) ومن بعده كانت أشبه بلجنة مراقبة تضبط شروط صحة المعرفة التي يسارع العلماء بطبعهم إلى تحاشي قراراتها ولكنها تلاحقهم بما يتوجب عليهم من الموانع والمحظورات والتصنيفات بذريعة حمايتهم من الخطر، خطر موهوم هو خطر وقوع العلم في التعسف أو الوسواس. وعلى الإبستمولوجياأن تزوّد العلماء بالسلاح الذي يعينهم على دفع الحالات الحرجة، وأن تنير سبلهم.

يقول(باشلار): “إن العقل ينمو في جو الأزمة. وكل نضج فكري مزعوم بشكل عائقاً في درب المعرفة”. وهنا دور الفلسفة وبالتحديد الإبستمولوجيا.

ويجب التنويه إلى “انفصام الفكر العلمي الحقيقي الحديث عن مجرد فكر النظام والتصنيف” وكذلك ينبغي”أن نميز كل التمييز الفكر العلمي النظامي الذي يعمر مخبر البحث عن الفكر العلمي الزمني الذي يلقى أتباعه في دنيا الفلاسفة”.

وإذ يُقر روبرت بلانشيه أن الرجوع التفكيري إلى مبادئ العلم وطرائقه لا يوجب على الدوام الانخراط في فلسفة، وليس كل ما وراء العلم فلسفياً بالضرورة، ولكنه يلاحظ أنه بما أن التفكير يتسع لازدواج غير محدود وأن كل ما وراء اللغة يمكن اعتباره بدوره موضوع ما وراء لغة من درجة أعلى – وذلك كلما رقينا في معراج تسلسل ما وراء اللغة، فإننا سنرى بالتدريج رجوع العلماء لمناقشة المشكلات الفلسفية القديمة في أشكال متجددة، وكذلك انقسام العلماء، كانقسام الفلاسفة ، إلى فريقين لا يستطيعان التفاهم حول معنيي الكلمة: الاتفاق على حلّ، ولا حتى أن يتفاهم بعضهم مع بعض تفاهماً صحيحاً.فإذا حرصنا على تمييز الإبستمولوجياعن الفلسفة وجب إما أن نقول إن الإبستمولوجياجزء من فلسفة العلم من حيث اختلاف السعة، وأنها الجزء الأقرب من العلم بلا ريب، واليوم أكثر من أي وقت مضى، من حيث روحها وطرائقها، أو نقول إن الإبستمولوجيا تشغل منطقة متوسطة بين العلم والفلسفة وأنها تفيض بطرفيها في كل منهما. لكن هذه المحاولة من بلانشيه توسّطية وكأنها تريد اعترافاً بالإبستمولوجيا إزاء سطوة العلم، في الوقت الذي تشكل فيه مبحثاً مستقلاً لا تحتاج فيه إلى كل هذا التلطّي خلف العلم أو الاعتراف بدلالته، ففلسفة العلوم مساحة مختلفة تتقاطع أحياناً مع الإبستمولوجيا وتتباين أحياناً أخرى لتأخذ شكلها الخاص.

3ـالإبستمولوجياوعلم المناهج (الميثودولوجيا):

الميتولوجيا اشتقاقاً تأتي من (Méthode) وهي مُشتقة من (Méthodos) اليونانية ومعناها الطريق إلى أو –لاحقاً- المنهج المؤدي إلى … ، وبعد تطور الكلمة باتت تدل على مجموعة العمليات العقلية والعملية (الممارسة: البراكسيس) التي يقوم بها العالم من بدء بحثه إلى نهايته من أجل الكشف عن حقيقة أمر أو واقع ما والبرهان على الفرضيات الموضوعة للوصول إليه.

والواقع أن علم المنهج هو مناهج ،لأن لكل علم طريقته أو الوسيلة المنهجية التي يتم اعتمادها، فبعضها تجريبي وبعضها يتجاوز ذلك إلى الرياضيات … والأهم أن الميتودلوجيا لا تأتي قبل العلم إنما هي تتبع فلسفي للطريقة التي سار عليها العالم حتى وصل إلى النتيجة التي استدعت بالنظر إلى مصداقية منهجه إلى تحوّل هذا المنهج إلى طريقة عامة تستدعي اعتبارها منهجاً يستوجب التعميم علمياً والدراسة فلسفياً، حيث أن ليس على الفيلسوف أن يُعين للعالم المنهج بل يدرس بعد قيام العمل العلمي منهجه. وقد يناقش وينتقد، كل ذلك من أجل صياغتها صياغة نظرية منطقية قد تفيد العالم في بحثه، وتجعله أكثر وعياً لطبيعة عمله.

وبحسب “كلود برنار”: فإن المناهج و طرق البحث العلمي”لا يتم تعلمها إلا في المختبرات، حينما يكون العالم أمام مشاكل الطبيعة وجهاً لوجه، يصارعها ويشتبك معها. فإلى هنا يجب توجيه الباحث المبتدئ أولاً. أما البحث الوثائقي L‘Erudition والنقد العلمي، فهما من شأن الرجال الناضجين، ولا يمكن أن يثمروا إلا بعد البدء في التدريب على العلم وتحصيله في معبده الحقيقي، أي في المختبر العلمي”. ثم يضيف قائلاً:” إن العمليات الفكرية الاستدلالية لا بد أن تتنوع لدى المجرب، إلى غير نهاية، نظراً لتنوع العلوم، ولتفاوت الحالات التي يعالجها- العلم- صعوبة وتعقيداً. أن العلماء، بالذات المختصون منهم في العلوم المختلفة- هم وحدهم المؤهلون للخوض في مثل هذه المسائل”.

وهكذا، فإذا كانت الايبستيمولوجيا تتناول بالدرس والنقد مبادئ العلوم وفروضها ونتائجها لتحديد قيمتها وحصيلتها الموضوعية، فإن الميتودولوجيا تقتصر، في الغالب على دراسة المناهج العلمية، دراسة وصفية تحليلية، لبيان مراحل عملية الكشف العلمي، وطبيعة العلاقة التي تقوم بين الفكر والواقع خلال هذه العملية. فهناك فرق بينهما في مستوى التحليل فمستوى التحليل في الميتودولوجيا، علاوة على كونها تتناول كل علم على حدة، مقصور في الغالب على الدراسة الوصفية، في حين أن الايبستيمولوجيا، فضلاً عن طموحها إلى أن تكون نظرية عامة في العلوم، ترتفع إلى مستوى أعلى من التحليل، وهو مستوى البحث النقدي الرامي إلى استخلاص الفلسفة التي ينطوي عليها، ضمنياً، التفكير العلمي. إن من جملة المسائل التي تناولها بالنقد، المناهج العلمية ذاتها، تبحث عن ثغراتها وتعمل على معالجتها. وكما يقول”جان بياجيه” بحق، فإن”التفكير الايبستيمولوجي يولد دائماً بسبب”أزمات” هذا العلم أو ذاك، أزمات تنشأ بسبب خطأ في المناهج السابقة وتعالج باكتشاف مناهج جديدة”. ومن هنا يمكن القول:” أن الايبستيمولوجيا هي ميتودولوجيا من الدرجة الثانية”.

السؤال يطرح نفسه هنا على بلانشيه : هل ينبغي اعتبار الإبستمولوجياوعلم المناهج (الميثودلوجيا) مبحثين متمايزين والاقتصار على القول بارتباطهما وحسب أم يجب النظر إلى أن علم المناهج (الميثودلوجيا) يدخل في الإبستمولوجيا، على العكس، دخول عنصر من عناصرها؟. إن معجم(لالاند) يفرّق أحداهما عن الأخرى ويرى أن الإبستمولوجيا، بالمعنى الدقيق، ليست”دراسة الطرائق العلمية، فهذا الدراسة موضوع المنهجية، وهي جزء من المنطق”، على اعتبار أن السياق المدرسي الفرنسي لا يزال مُصراً على وضع علم المناهج في ملكوت المنطق، حيث في حوالي سنة(1900) كان من الشائع في التعليم الجامعي الفرنسي إضفاء معنى واسعاً جداً على كلمة منطق. فكانوا يقسمونه إلى قسمين: منطق سُمّي منطقاً عاماً وهو ينصرف عن الموضوعات التي تشكّل مادة المعرفة ويكون موضوعه الأساسي هو المنطق الصوري؛ ومنطق خاص أو تطبيقي، وهو يدرس الطرائق الخاصة بكل علم من العلوم المختلفة. وهكذا تندرج علم المناهج (الميثودلوجيا) في المنطق على أنها أحد شطريه. ولكن توسيع كلمة منطق على هذا النحو لم يبق موافقاً لما ندعوه اليوم باسم المنطق. فعلم المناهج ، حتى لو جاور المنطق، يظل غريباً عنه.

هل يتراصف علم المناهج (الميثودلوجيا) مع الإبستمولوجياتراصفاً بسيطاً؟ إن من الصعب الانصراف إلى دراسة مبادئ العلوم المختلفة وقيمها ومداها الموضوعي دراسة انتقادية، كما يقول(لالاند)، دون التساؤل في الوقت ذاته عن طبيعة وقيمة الطرائق التي تبني بها ذاتها وتصل إلى معرفة ذات قيمة موضوعية.

وقد أصاب ( بياجه)، ومعه باشلار ، بملاحظته أن التفكير الابستمولوجي يولد على الدوام بمناسبة”أزمات” هذا العلم أو ذاك لذا نجده يدمج تحليل الطرائق العلمية في الإبستمولوجياومن الشاقّ في الواقع فصل هذين النظامين من البحث أحدهما عن الأخر. وعندما أبرز(هنري بوانكاره) دور المحاكمة الإرجاعية في الرياضيات فإنه كان يقوم بعمل منهجي. ولكن ازدياد أهمية مفهوم الإرجاع واستعمال الطرق الإرجاعية جعلا من المحال أن يهمل الابستمولوجي دراستها بإحالتها على سواه. وكذلك نجد الباحثين في تيار من أوسع تيارات الإبستمولوجياالمعاصرة وهو التيار الذي ينهل من الاختبارية المنطقية، نجدهم يكثرون دراسة الاستقراء وشروط تحقيق القضايا التجريبية أو تأييدها..الخ، دون أن يذهب بهم الظن البتة إلى عدّ هذا الدراسة جدولاً مفارقاً. يتضح إذن أن من المناسب ألاّ نضع علم المناهج (الميثودلوجيا)في مجال المنطق، إلا بمعنى غير سائد بل منتهٍ من معاني الكلمة عند الاضطرار، وإنما نضعها حقاً في نطاق الإبستمولوجيا.

4ـ الإبستمولوجياوالعلوم الإنسانية:

إن العلوم الإنسانية ، من حيث هي علوم بالمعنى الواسع للكلمة، تقدم للإبستمولوجيا أحد موضوعاتها. ولذا فإن علاقة الإبستمولوجيابهذه العلوم هي، من الناحية المبدئية، شبيه بعلاقتها بالعلوم الرياضية أو بعلوم الطبيعة. والإبستمولوجياتقع بالنسبة إليها في مستوى أعلى تهيمن منه عليها. إنها تهيمن عليها من مستوى أعلى متفاوت العلو. وبقدر انبثاق التفكير الابستمولوجي مباشرة عن ومآزق العمل العلمي نجد يبقى قريباً جد قريب من هذا العمل باعتبار نوعيته: فالإبستمولوجيا الداخلية للرياضيات مطبوعة انطباعاً قوياً بروح الرياضيات وطرائقها، وهي غريبة كل الغرابة عن العلوم الإنسانية. بينما نرى، لسبب ذاته، أن التحليلات التي يقوم بها علماء وعلماء النفس وعلماء الاقتصاد واللغويون والتي يتنازعون فيها حول طريق معالجة دراساتهم ومتابعتها، لا تزال مطبوعة بطابع البحوث ذاتها التي تشكل موضوع هذه العلوم. ولكن ذلك لا يعني أخيراً أنها أقل تميزاً عنها من حيث طبيعتها مثلما يتميز ما رواء العلم عن العلم الذي يتناوله. وكما يرجع الفكر إلى مبعدة عن موضوعه ليتسنى له ضم جملة أوسع فإنه يتخلص شيئاً فشيئاً من الجانب النوعي لهذه الجملة. وبذا ندرك أن الإبستمولوجيا العامة التي تتناول جملة العلوم لا يبدو أنها تنتمي إلى العلوم الإنسانية بأكثر من انتمائها إلى الرياضيات أو الفيزياء.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الأمور أكثر تعقيداً مما يبدو، وفي وسعنا أن نتساءل، ونحن نقلب المنظور رأساً على عقب: هلاّ تنتمي الإبستمولوجيا برمتها إلى العلوم الإنسانية من بعض أوجه الاعتبار.
من الملاحظ،أن موقع الإبستمولوجياهو من جهة العلوم المسماة”معنوية” أو”إنسانية”. وقد شغل كثير من الإبستمولوجيين، ومنهم (باشلار) مقعده في(أكاديمية العلوم المعنوية والسياسية)، واحتل كرسيه الجامعية في(كلية الآداب والعلوم الإنسانية).
ونحن نذكر مثلاً أن(برودبل) كان يميز ضمن أربعة طرز مختلفة للتفلسف في العلم، واحد منهم هو طراز تخلى عنه هو ذاته في آخر المطاف، وهو دراسة علاقات العلم بالعالم وبالمجتمع. العلم بوصفه نشاطاً إنسانياً، وظاهرة اجتماعية. وكذلك فإن(ريخنباخ) يرسم ثلاث مهمات متعاقبة للإبستمولوجيا:
الأولى تتصل بعلم النفس وعلم الاجتماع، وهي تجري في”سياق الاكتشاف”.ثم يلي”سياق التسويغ” وهو عمل”إعادة بناء عقلي” لطريقة الاكتشاف. وأخيراً مهمة نقدية بالدرجة الأولى، وهي تبدأ سلفاً لدى إعادة البناء العقلي. ولكنها تتخلص الآن تماماً من علاقاتها بعوامل الاكتشاف الاختبارية. وإن الثانية التي تفترض بدورها الأولى. فإذا فهمنا حق الفهم ألفينا أننا نميز بوجهين: الأول وصفي، والآخر انتقادي، وكلاهما يقوم على اتخاذ العلم موضوع الدراسة: سواء من حيث أنه يوجد بوصفه واقعاً من طبيعة نفسية واجتماعية وتاريخية، وأما من حيث زعم العلم أنه يبلغ حقيقة لا شخصية ولا زمينة.

إذ ذاك يمكن البتّ بإبعاد تاريخ العلوم وعلم النفس الاكتشاف العلمي عن مضمار الإبستمولوجيا، ما داما ينتميان إلى علوم اختبارية متصلة بمعرفة الحوادث، وهما يجريان في الإطار المكاني- الزماني، بينما يتميز تحليل العلم من الناحية المنطقية بأن له طبيعة أخرى. وفي إثر إنجاز هذا الاختبار الأول يجب الإسراع إلى اختبار ثان حتى نزيده دقة: أترانا ندعم تفريق هذين النوعين من البحث أم نقرّ بأن على الإبستمولوجيا أن تستمد غذاءها إلى حد كبير أو صغير من المعلومات التي قد تستنتجها من التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس بالرغم من تميزها عنها التميز كله؟ لقد اعتنق التصور الأول الإبستمولوجيون المنتمون إلى الاختبارية المنطقية. وقد اتخذت أعمالهم، بالدرجة الأولى، موضوعها ما نعده اليوم بالمعنى الدقيق، أي العلم الحاضر. وهذا ما يغني عن الرجوع أي رجوع إلى تاريخه المنصرم. وقد اقتصروا على ما يمكن إدراكه فيه من موضوعية، أي على لغته، ليتخذوه موضوع تحليلهم- وهذا ما يستبعد أي تدخل من جانب العناصر الذهنية. ولئن برهنت هذه النظرة إلى الإبستمولوجيا على جدارتها، فإن ذلك لا يمنع توافر دروب بحث أخرى. أفلا يرجع قصر التحليل على العصر والتغافل عن الطريقة التي قد تكون بها بالتدريج، ألا يرجع في آخر المطاف إلى نقل قسم كبير مما يبق العلم وأعدّه، بما في ذلك العلم المدرس، إلى ما قبل تاريخ العلم تماماً، وعلى الأقل إلى نوع من عصر وسيط علمي؟ أولا نجازف من ناحية أخرى، بالسقوط في شكل أقصى من أشكال الاسمية باقتصارنا اقتصاراً منهجياً على الدالّ وحده، وكأنه يلغي ذاته بذاته ولا يتطلع فيما وراء ذلك إلى مدلول؟
إن أفضل الأوضاع الممكنة بصدد مسألة علاقات الإبستمولوجيا بالعلوم الإنسانية إنما يبدو لنا على النحو الآتي: فمن جهة أولى، عدم قصر الإبستمولوجيا على تحليل اللغة العلمية، فذاك تصور خصب ولكنه ضيق وجزئي. وقبول حقل بحوث أوسع للإبستمولوجيا، وبالدرجة الأولى البحوث المتصلة ببناء العلم تدريجياً وبنشأة الفكر العلمي ونموه، وهذه البحوث تستلزم اللجوء إلى العلوم الإنسانية ومن جهة أخرى، العزوف من جراء ذلك عن تصنيف الإبستمولوجياضمن العلوم الإنسانية، وعدم الحطّ من شأن الإبستمولوجيابوضعها على قدم المساواة مع بعض العلوم التي تهدف هي إلى اتخاذ موضوعاً، حتى ولو كان التفريق غير جلي دوماً من الناحية العملية بين الغاية والوسائل، بين ما هو خاص بالابستمولوجي وبين التعاليم التي سيطلبها من التكون النفسي والتكون الاجتماعي ليدرك غرضه، إن الابستمولوجيين الأمريكيين يرجعون بوجه عام إلى مناهل اللغة المصوغة من أجل تحليلاتهم.

ولكننا لن نستخلص من ذلك صواب نقد الإبستمولوجياإلى جانب العلوم الصورية أما الابستمولوجيون الأوروبيون فإنهم يلجأون في الغالب، وبصورة منهجية، إلى مناهل العلوم الإنسانية. ولكن رجوعهم هذا لا يبدو لنا أنه سبب كافٍ لانضواء هذه العلوم تحت لواء الإبستمولوجيا. ويبقى من البديهي أن ليس لحوافز هذا اليسر الإداري الذي قد يملي هذا التقارب أن تتدخل هنا.
الفصل الثالث
البحث الإبستمولوجي والبحث العلمي
تخلصت الابستمولوجيا بالتدريج من نظرية المعرفة التي كانت تُعدّ عند (لوك) و(كانت)، المشكلة التي تمهد لكل فلسفة.
ونحن نعلم أن منطلق الفلسفة الكانتية هو التساؤل عن إمكان العلم. ولكن ذلك لا يتيح لنا النظر إلى(كانت) على أنه ابستمولوجي. أولاً، لأن تحليله العلم قليل الارتباط بالظرفية. وهو يقتصر على بعض مفهومات أساسية اعتبرت ضرورية وحاسمة. ثم لأن مسألة إمكان العلم لم تعالج لذاتها، بوجه خاص، بل بوصفها وسيلة لحل المشكلة الحقيقية، مشكلة أن نعرف هل من الممكن أن نضفي على الميتافيزياء سمة علمية كالتي تتسم بها هندسة(اقليدس) وفيزياء(نيوتن). إن عنوان الكتاب المتضمن عرضاً شعبياً لـ”نقد العقل المحض” والذي يختص ثلثاه الأوليان بالتساؤل عن إمكان قيام الرياضيات المحضة وعلم الطبيعة:”مقدمات لكل ميتافيزياء مقبلة يمكن أن تبدو في إهاب علم”، إنما هو كتاب صريح الصراحة الكاملة. وكذلك ليس في مكنتنا أن ننسب إلى الإبستمولوجياكتاب(لاشليه) بعنوان”أسس الاستقراء”، وكتاب(اميل بوترو) بعنوان”جواز قوانين الطبيعة”، على الرغم مما يبدو من هذين العنوانين. وإن تحليل العلم فيها يتجه في الواقع إلى أغراض فلسفية، ويستخدم من أجلها، وهذه الأغراض لا تتخطى فلسفة العلم وحسب، بل فلسفة المعرفة بوجه عام.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الإبستمولوجياالحالية لا تستطيع أن تجيز لنفسها إغفال تعاليم الفلاسفة القدامى إغفالاً تاماً، لأنها تلقى في الحق مشكلات كثيرة قديمة أثارت قلقهم من قبل، وهي اليوم تبدو في أشكال متجددة دقيقة بحسب حال معارفنا الحاضرة. وإن الخلافات المعاصرة المتعلقة بأساس الرياضيات وبطبيعة الماهيات الرياضية تعيد طرح معركة الكليات.

ومن الطبيعي، بادئ ذي بدء، أن سيكون من باب التبسيط التام إقامة التقسيم الثنائي بين عالم إبستمولوجي وفيلسوف إيبستمولوجي على أساس الأصل الفكري للباحث الابستمولوجي.فبعض الابستمولوجيين علماء أصبحوا فلاسفة وخلفوا أسماءهم في تاريخ الفلسفة بأكثر منه في تاريخ العلوم: مثال ذلك(كورند) و(مايرسون) و(كونست). بل قد يتفق أن يمضي بعضهم، ومثلاً(ادينغتون) أو(جينز)، إلى تعميمات ميتافيزيائية لا تخلو من التهور. وأما الحركة في الاتجاه المعاكس فنادرة، ولكن فيلسوفاً لم يعد يجازف اليوم بأن يقوم ببحث ابستمولوجي دون أن يتزود من قبل بثقافة علمية، وعلى الأقل في مجال معين من مجالات العلم: (ج. كافايلس) في الرياضيات، و(ب. ففريه) في الفيزياء، و(ج. كانكيلم) في البيولوجيا. وكذلك علينا ألا ننسى أولئك الذين تحلوا، منذ البدء، بثقافة مزدوجة، كما هي الحال غالباً في نطاق الاختبارية المنطقية، أو حال(باشلار) في فرنسه. وبوجه أعم، علينا أن نبل وجود علماء غير الذين كان(كانت) ينعتهم بذوي العين الواحدة، لأن عين الفلسفة تعوزهم من جهة، ومن جهة أخرى وجود فلاسفة ذوي فضول علمي، وروح علمية.

ومن شأن أعمال الإبستمولوجياأنها تربط هذين الطرفين المتباعدين وسيكون من التعسف السعي لتحديد أين تبدأ هذه الأعمال وأين تنتهي.

إن الكتابين الكبيرين اللذين وضعهما(ليون برنشفيك) :”مراحل فلسفة الرياضيات” و”التجربة الإنسانية والعلمية” يدخلان أحياناً في مضمار الإبستمولوجيا(بياجه) وأحياناً يبعدان عن ذاك المضمار تماماً(روجيه) : وهما في الواقع يطلبان من تاريخ الأفكار العلمية رفد فلسفة متصورة سابقاً ودعمها. ونحن نقترب في أعمال(اميل مايرسون) و(غاستون باشلار) من إبستمولوجيا مستقلة: بالتأكيد إن(مايرسون) ينتهي إلى نظرية عامة عن المعرفة، ولكنه لا ينطلق منها. أما(باشلار) فإن فلسفته الأولية تنجز ذاتها وتتعدد بنيتجة تحليلاته. وعلى الرغم من ذلك فإن الاختبارية المنطقية لا تكاد تجنح لقبول مثل هذه الأعمال في إطار الإبستمولوجيابسبب ارتباطاتها، من حيث طريقتها ونظرياتها، بالتأمل الفلسفي
السؤال يطرح نفسه هنا: ما هي النظرية العلمية الخالية هي أيضاً من أي تضمن فلسفي؟.فلقد أحدثت نظرية الجاذبية الكلية خلال نصف قرن شرخاً بين الديكارتيين والينوتونيين، وهي ذات بعد فلسفي. وفي الرياضيات تتجلى التضمنات الفلسفية في المناقشات المتصلة بأساس تحليل التفاصيل والتكامل.و ينخرط المرء، سواء رغب أم لم يرغب، انخراطاً فلسفياً، عندما يدخل في تفسير (الكانتوم) المكاني الزماني في الميكانيك النسبية على أنه”تمكين الزمان”أو”تحريك المكان” وعند تفسيره لا حتمية الميكانيك الكوانتية على أنها أساسية أو أنها ظاهر حتمية خفية.

وعوضاً عن تمييز إبستمولوجيا علمية وأخرى فلسفية، وقد يكون من الأفضل أن نميز في الإبستمولوجياطريق بحث علمي عن طريق بحث فلسفي مع مراعاة حالات الانتقال بينهما ، وذلك بحسب الأسلوب المتبع الأقرب إلى أسلوب الفلاسفة.

ولكن ربما سيكون من الأفضل بلا مراء أن نميز ما يمكن أن ندعوه إبستمولوجيا داخلية إلزامية عن إبستمولوجيا خارجية اختبارية؛ و نعني بالإبستمولوجياالداخلية أو الإلزامية تلك التي تولد، بنوع ما، بخطوات العالم نفسه، وهي التي تقتضيها المشكلات المطروحة داخل علمه ذاته. وعندئذ يقوم العالم بعمل إبستمولوجي دون أن يريد، وتقريباً دون أن يعرف. ولهذه الإبستمولوجيالديه سمة ظرفية، وهي تنزع إلى الاندماج في عمله العلمي. وأما الإبستمولوجياالتي ننعتها بأنها خارجية واختبارية فيه أكثر انفصالاً. وهي ذات فائدة نظرية خالصة أعظم، وهي تطلب لذاتها بوصفها غاية، وليست مجرد وسيلة وبهذا المعنى يمكن أن نصفها بأنها فلسفية على نحو أكبر.

1. التحليل المباشر أو اللازمني

وثمة تقسيم ثانٍ لطرق البحث الابستمولوجي وهو يتقاطع مع التقسيم السابق ويتناول الاهتمام بالعلم المعاصر من حيث دراسته إما من وجهة نظر سكونية أو متزامنة، وفي بنيته الحالية، وإما أن يتعلق، على العكس، بتتبع العلم من حيث نشأته ونموه، وإذن بالنظر إليه من زاوية لا متزامنة أو تطورية. وعلى هذا المنوال يمكن، كما يقول(بياجه)، تمييز طرائق تحليل مباشر عن طرائق تكوينية.

التحليل المباشر يهمل البعد الزمني وينظر إلى العلم كما يتجلى في وجوده الحالي، وهو سبيل البحث الذي يحظى بتفصيل العلماء تفصيلاً شبه طبيعي، ولكن دون أن يكون إلزامياً. كما فعل (هنري بوانكاره) في الدراسات المختلفة التي تضمنتها الكتب الأربعة الشهيرة له والتي تتناول علاقات الرياضيات بالمنطق وطبيعة المحاكمة الرياضية وعلاقة المكان الهندسي بالمكان التصوري ودلالة النظريات الفيزيائية وبنية المبادئ.وهو لم يلجأ إلى استخدام المفردات العلمية التقنية إلاّ في الحد الأدنى. وإن معارضته للفلسفة اللوجسيتة الأولية، أي لإرجاع الرياضيات إلى المنطق، قد ساقته إلى أن يرفض معها، في الوقت ذاته، التقنية اللوجستية، أي اللغة الرمزية ذات الدقة الأعظم والتي يقدمها الوجستيك لتحليل العلم.

2. التحليل التاريخي- النقدي

إن الحاضر في مجال العلم، شأنه في سائر الشؤون الإنسانية، لا يمكن فهمه فهماً جيداً إلا بالماضي. والبعد التاريخي يقدم لنا وسيلة تحليل جيدة إذ يفصل شتى العناصر التي أسهمت في نشأة مفاهيم علمنا ومبادئه بالتدريج، وذلك من حيث التأريخ وظروف الظهور.

إن مثل هذه الإبستمولوجياتتميز عن تاريخ العلوم من حيث أن هذا التاريخ هو بالنسبة إليها وسيلة، لا غاية. وإن بحثها المستند إلى التاريخ بحث نقدي بالدرجة الأولى: غرضه الانطلاق من التعاليم الصادرة عن دراسة ماضية لتمييز العناصر التي تضافرت في تشكيل العلم والمثل الأعلى العلمي ذاته.

ولكن من العسيرأيضاً، إجراء فصل تم الوضوح بين المبحثين؛ فمن جهة أولى، قد يكون لجوء الابستمولوجي إلى التاريخ لجوء متقطعاً وتابعاً الظروف، أو أن يكون، على العكس، مستمراً ومنهجياً. ومن جهة أخرى، إن تاريخ العلوم ينوس كذلك بين حدين. فمن الجائز بحسب الاهتمام بالموضوعية التاريخية تصور هذا التاريخ على أنه جملة حكايات شبه غريبة من أسماء خاصة وتواريخ وإذ ذاك نجدنا ونحن نحدد سوى تاريخ معني بالمعقولية، أمام تأريخ بأكثر من حيال تاريخ حقيقي. وأن مثل هذا التاريخ، وهو تاريخ أفكار، لا يمكن أن يجري في نفس أسلوب تاريخ الحوادث، لأن التسلسل من طبيعة مختلفة في الحالتين.وإن ما نسميه مجازاً حركة الأفكار لا يخضع للعلية الفاعلة خضوع أجسام بل يخضع لتوجيه غائية ماثلة في طلب الحقيقة. وسواء تناول الأمر أفكاراً علمية أو أخلاقية أو جمالية، الخ فإن تاريخها لا يمكن كتابته إلا من حيث إدراكه من داخل إن صح القول. زد على ذلك، وللسبب ذاته، إن ظاهرة الإرجاع الزمني، وهي تحملنا على أن نضفي على الماضي أنوار الحاضر لوصف الظاهرة وصفاً معقولاً، وتوجب إعادة كتابة التاريخ في ظل جيل، إنما يزداد تأثيرها أيضاً، كما لحظ(باشلار)، في مجال تاريخ العلم بأكثر منه في تاريخ الحوادث المادية. ولذا فإن كل تاريخ علوم يختلف عن تاريخ السرد المحض، وهو شيء فلسفي إلى حد ما. والحق أننا قد نتردد في بعض الأحيان لدى نقد مؤلف في عداد المؤرخين أو في عداد الابستمولوجيين. والحالة تكون سهلة تسبياً، كما بصدد(ميلو) أو(دوهم)، فهما بالحري مؤرخان في بعض آثارهما، على الرغم من أن النظرات الفلسفية لا تعوزهما، وهما بالحري إبستمولوجيان في أثار أخرى حيث يلجاًان إلى التاريخ غير مرة. ولكن قد يتفق أيضاً أن يتداخل الأمران تداخلاً شديداً بحيث يستطيع نظام العَرْض وعنوان الآثار وحدهما تمييز ابستمولوجي تاريخي مثل(اميل مايرسون) عن مؤرخ ابستمولوجي مثل(ا. كواره).

لا يتردد بعض الباحثين للقول إن المبحثين ينصهران في آخر المطاف في مبحث واحد، وإنه”لا توجد إبستمولوجيا إلا وهي تاريخية كما لا يوجد تاريخ علوم بالمقابل إلا وهو ابستمولوجي؟
” كما يفعل قاموس فلسفي محترم كاليونيفرساليس. ونحن قد نفهم فعلياً كيف تذوب الإبستمولوجيافي تاريخ العلوم حيث يصبح النمو الزمني في الأخير مفهوماً بوصفه حركة جدلية، وهذا التاريخ يتسق مع نوع معين من الفلسفة؛ نعني الفلسفة الجدلية . وعلى هذا النحو يزعم الزاعمون أنهم يجعلون الإبستمولوجياأكثر علمية، والمسعى هنا لا ينتهي إلى غير معارضة وثوقية بوثوقية.

يقول(ر.مارتان) في كتابه”المنطق المعاصر وإسباغ الصبغة الصورية”(1966( :”بما أن الفلسفة قد أقلعت منذ زمن بعيد عن أن تملي على العلوم مبادئها وطرائقها فإن ثروتها الوحيدة هي أن تتخذ الفكر العلمي الناجز وموضوعها”. والحق أن ظهور الإبستمولوجياقد أماط اللثام عن اضطرار الفلسفة إلى اتخاذ منهج جديد ينقذ من هذا الإبهام.

ولا يسع الباحث في هذا النقطة إلا الرجوع إلى بعض تاريخ الابستولوجيا فيدرك أثر الأزمات العلمية الحديثة. ومثلاً أزمة أسس الرضيات، والنظرية النسبية، وميكانيك الكوانتا، الخ. يقول(كوايره):” لقد عانينا من انهيار أفكرنا القديمة، وجهدنا للتكيف مع أفكار جديدة، وبتنا أقدر من أسلافنا على فهم أزمات الماضي ومناظراته”.

إن الإفادة من تاريخ العلوم تتراوح بوصفه تأريخاً بسيطاً أو بانتهائه إلى مسعى الفحص عن الصنوف المعقَّدة لتفاعل التصورات. وفي وسع الفلسفة أن تجني من هذا التاريخ مواد نظرية المعرفة، أو أن تلّم بالشروط التاريخية لظهور بعض المفهومات، وربما بسبل إلغاء القيمة الراهنة لبعضها الآخر. وقد يكون تاريخ العلوم مادة بها تقييم الفلسفة ما يسمى نظرية العلوم أو الإبستمولوجيا، وتكون كل إبستمولوجيا آنئذ، بوجه من أوجه الاعتبار، إبستمولوجيا تاريخية، وهذا ما ذهب إليه بعض تلاميذ(التوسير).

ولابد للإبستمولوجيا من يقظة تتيح مثلاً إيضاح صيرورة العلم الضرورية بربط معرفة ماضية بتحليل حاله الحاضرة وبتبيان تعلق هذه الحال الحاضرة بجميع العناصر التي تؤلف إمكانها.

وبذا يؤدي تاريخ علم إلى معرفة يقظة لمنظومته الحالية ويحذف بصورة موقوتة كل ما يتصل بتاريخه البائد.

3. الإبستمولوجياالتكوينية:

يبدو أن الفهم السليمللموقف الذي تدعو إليه الإبستمولوجيا التكوينية مع بياجيه يقتضي النظر إليه انطلاقامن رغبته في تجاوز العيوب التي يعاني منها الموقف الوضعي وخاصة في شكله المحدث،والذي يغفل النظر إلى المعرفة في نشأتها وصيرورتها وتكوينها، فضلا عن اعتباره لقطبيالمعرفة كمعطيين ثابتين وسابقين عن المعرفة. في هذا الاتجاه إذن يمكن اعتبارالإبستمولوجيا التكوينية محاولة لتجاوز الطرح التقليدي لمشكلة المعرفة، وللإشكاليةالعامة لفلسفة العلوم.
فإلى أي حد يمكن اعتبار الإبستمولوجيا التكوينية علما؟وما طبيعة تصورها لنمو المعرفة؟ وما هي المناهج التي تستخدمها في دراستها لنشأةالمعرفة وتكوينها؟

I- الإبستمولوجيا التكوينية كعلم.

إذا كانتالإبستمولوجيا كما يرى بياجيه قد شكلت طويلا أحد الفروع الأساسية للفلسفة حين كانكبار الفلاسفة – مثل ديكارت وليبنتز- في نفس الوقت علماء مبتكرين، ومنظرين للمعرفة، فإن وضعية العلوم وحالتها الراهنة على مستوى التمايز التدريجي للمعرفة قد بينت أن “المستجدات الإبستمولوجية قد نشأت من تفكير العلماء في شروط المعرفة ضمنتخصصاتهم…” .
من هنا نلاحظ أن موقف بياجيه من الإبستمولوجيا كتحليل ودراسةلتكوين المعرفة ينطلق من عملية وضع حدود وبالتالي التمييز بين البحث العلمي والبحثالفلسفي.
إن هذا التمايز بين البحثين لا يقوم انطلاقا من طبيعة الإشكاليات التيتتم معالجتها على مستوى العلم والفلسفة، ولكنه يتحدد انطلاقا من مدى شمولية مختلفالإشكاليات المطروحة على صعيديهما، إذ أن الفلسفة تميل إلى طرح تساؤلات ذات نوعيةعامة، تنصب على الواقع في كليته، بينما ينزع العلم إلى معالجة أسئلة أكثر خصوصية لاتتناول إلا جزءا من الواقع، وبالإضافة إلى ذلك فإن الفرق بين الفلسفة والعلم يتجلىمن خلال المنهج المعتمد من طرفهما. فالفلسفة لا يمكنها الاعتماد إلا على التأملوالتفكير، بينما يستخدم العلم مناهج أمبريقية واستنباطية صارمة وقابلةللمراقبة.
بناء على هذا التمييز بين العلم والفلسفة *
ينشأ تمييز آخر بينالإبستمولوجيا العلمية والإبستمولوجيا الفلسفية. فإذا كانت الإبستمولوجياالميتافيزيقية تطرح مشكلة المعرفة في ذاتها، فإن الإبستمولوجيا التي تريد لنفسها أنتكون علمية – انطلاقا من ضرورة تخصيص وتحديد أسئلتها- تتخلى عن مشكلة المعرفة فيعموميتها وتضع حدودا لمجال فعاليتها، أي أن التحليل التكويني يرفض وجهة النظرالميتافيزيقية ليتساءل عن كيفية تكون ونمو المعارف، ليكون في النهاية “علم تكونالعلوم”.

-الإبستمولوجيا التكوينية كعلم لنمو المعرفة.

الإبستمولوجياالتكوينية عند بياجيه هي “إبستمولوجيا بيولوجية تتأسس على مفهوم النمو”.
يتضحإذا أن الإبستمولوجيا عند بياجيه مقترنة بعلم هو البيولوجيا، بل نجد هنا مقارنةصريحة بينهما، ما دامت البيولوجيا تدرس نمو الكائن الحي في الزمن.
من خلال هذهالمقاربة نستطيع استخلاص مفهوم بياجيه للمعرفة وتعريفه لموضوع الإبستمولوجياالتكوينية.
1.إن معرفة ما – علمية كانت، أو قبل علمية- هي بمثابة بناء حي، وهنانكون أمام اعتبارين اثنين:
الأول: أنها ليست ثابتة ولا مطلقة، يقول بياجيه ليسعلينا أن نتساءل عما هي المعرفة العلمية ككل ساكن، بل علينا أن نضع السؤال: كيفتنمو المعارف وتتزايد؟ و لانها خاضعة للنمو في الزمن، دون بداية ولا نهاية. وفيهومن خلاله تنبني وتتحول بفضل تفاعل الذات العارفة وموضوع المعرفة. وبهذا الشكل فإنالمعرفة لا تعدو أن تكون نسبية في مرحلة ما من سيرورة تكونها.
الثاني: إنالمعرفة مثل أي كائن حي، ليست تجميعا لعناصر مختلفة ومستقلة، ولكنها تكون “كلا” يتبنين وينتظم خلال مراحل نموه وحسب قوانينه الخاصة.
2.إن موضوع الإبستمولوجياالتكوينية ليس هو المعرفة في ذاتها، بل هي المعرفة المطروحة من ناحية نموها فيالزمن، وهكذا فإن التحليل التكويني يجب أن يبرز ميكانيزمات هذا النمو، وبمعنى آخرفإنه يجب أن يشرح كيف يتم الانتقال من “معرفة قليلة الجودة إلى معارف أكثر غنىوثراء” * أي من حالة من المعرفة ناقصة إلى معرفة أعلى. ولا على مستوى كل نوع منالمعرفة –وهكذا نحصل على ابستمولوجيا خاصة بكل علم.
ثم على مستوى المعرفة عامة. وتكون الإبستمولوجيا التكوينية، في شكلها المعمم، هي دراسة الميكانيزمات المشتركةلمختلف أشكال النمو.
إن تحليل التكون الحقيقي للمعرفة، يتحقق عبر مستويين:
* على المستوى الفردي، حيث يدرس بياجيه تكون بعض مفاهيم وبنيات التفكير منذ الولادةإلى سن الرشد (المنهج النفسي التكويني).
* على المستوى التاريخي يدرس نموالمعارف عبر تاريخ الفكر العلمي (المنهج التاريخي النقدي).
هذان المنهجانيمارسان رقابة متبادلة الواحد على الآخر، ويتعاونان معا: وهكذا تبين بياجيه واكتشفتوازيا بين ميكانيزمات نمو المعارف الفردية والوسائل المساعدة على تطور الفكرالعلمي الجمعي.
إن الإبستمولوجيا التكوينية لا تتساءل إذن إلا على نمو المعارف،ولكنها تسلم على عكس الأفكار اللاتكوينية، أن ميكانيزمات هذا التكاثر والنمو تستطيعأن تخبرنا عن طبيعة المعرفة في حد ذاتها. وهكذا فبعد استبعاد الخطر الميتافيزيقيالذي تمثله الإبستمولوجيا الفلسفية، يؤكد بياجيه أن التحليل التكويني يهيئ حلاللسؤال الأساسي ” “ما هي المعرفة في ذاتها؟” ولو أن هذا التهييء يمكن أن يبرز بأنهليس من الممكن إيجاد جواب شاف.

III- مناهج الإبستمولوجيا التكوينية: المنهجالنفسي-التكويني، والمنهج التاريخي النقدي:

* تقتضي كل معرفة وجود بنيةووظيفة لهذه البنية وهكذا فإن دراسة بنية عقلية ما تشكل عملية تشريحية، أماالمقارنة بين بنيات متعددة فهي بمثابة تشريح مقارن. كما أن تحليل الوظائف يطابق عملالفيزيولوجيا من جهة أخرى، وفي حالة الوظائف المشتركة، يطابق هذا التحليلالفيزيولوجيا العامة.
لنفكر أولا في التشريح المقارن بين البنيات العقلية، ما هيالطريقة التي يعتمدها التشريح المقارن في تحديداته لشبكات التنظيم الخاصة بهذهالبنيات؟
* نجد أنفسنا أمام منهجين متمايزين ومتكاملين في ذات الوقت:
-المنهجالأول هو المنهج التاريخي النقدي، ويقوم على متابعة تسلسل البنيات، للمقارنة ضمنهافيما بين البنيات العقلية، مثل البنيات الخاصة بالمفاهيم المركبة والتي يستخدمهاالتفكير العلمي، كما يقوم بمتابعة نمو المفاهيم المستخدمة من طرف علم ما عبرتاريخه، من جهة، يكون من السهل بناء بعض التسلسلات بالتتابع المباشر أو من خلالتحديد نظام الارتباطات المستخدمة من جهة أخرى ، إذ يمكن المقارنة مثلا بين مختلفأشكال القياس – في المكان والزمان– ، ومختلف الكميات الفيزيائية … الخ- لنجد فيسياقاتها التاريخية الخاصة بعضا من الارتباطات الثابتة نسبيا.
ولكن المنهجالتاريخي النقدي يبقى من جهة أخرى، محدودا داخل حقل تاريخ العلوم نفسها ليركز علىمفاهيم تم بناؤها واستخدامها من طرف تفكير مبني مسبقا. ويبقى هذا المنهج في الغالبقاصرا عن الاستجابة لمتطلبات المقارنة النسقية، ذلك أن هناك تسلسلات ، تنفلت نهائيامن إمكانية التحليل، من جراء الصعوبة الكبرى لإثبات تتابع واضح.
لهذا السبب نجدهذا المنهج (الذي يهتم بالتسلسلات المباشرة والارتباطات كما هو الشأن في علمالتشريح المقارن، يصبح بالضرورة في حاجة إلى أن يدعمه منهج ثان، هو المنهج الجنيني Embryologique، أو النفسي التكويني psychogénétique ويقوم هذا المنهج على تمديدالمقارنة وتوسيعها لتشمل اللحظات الأكثر أولية في النمو التطوري للفرد، ويعني ذلكبناء كل المفاهيم الأساسية أو المقولات الفكرية التي يمكن رسم خريطة تكونها عبرالنمو العقلي للفرد من الولادة إلى سن الرشد.
صحيح أيضا أن نمو الطفل يتأثربالوسط الاجتماعي، والذي لا يلعب فقط دور المحرك، بل يلقن كذلك جملة من المفاهيمتتضمن في ذاتها تاريخا جمعيا. وإذا كان الفرد في طور التكوين يتلقى الإرث الاجتماعيبهذه الطريقة، وهو الإرث الذي تشكل من طرف الأجيال السابقة، فمن الواضح إذن أنالمنهج التاريخي النقدي الذي تحول إلى منهج اجتماعي- نقدي، هو الذي يوجه المنهجالنفسي- التكويني. ولكنه ليس واضحا جدا، أن الطفل لما يتلقى المفاهيم المتشكلة فيالوسط الاجتماعي، يستطيع تحويلها وتمثلها ببنياته العقلية المختلفة، مثلما يتمثلالوسط الذي يتكون من الأشياء المحيطة به.

هذه الأشكال من التمثل وتتابعها تشكلمعطيات ليس بإمكان السوسيولوجيا والتاريخ تفسيرها، ومن خلال دراستها يصبح المنهجالنفسي- التكويني موجها بدوره للمنهج التاريخي- النقدي.
ومن أجل أن يكون التعاونبين المنهجين التاريخي- النقدي والنفسي التكويني، مثمرا، ومن أجل تطور الفكر العلمينفسه، يلزم بطبيعة الحال أن يحصل التعاون كذلك بين العلوم الحقة أو الدقيقة وعلمالنفس. ذلك أنه بين العلماء المنتمين للعلوم الحقة، والمهتمين بالإبستمولوجيافعلماء الرياضيات هم الميالون أكثر إلى الاهتمام بالاعتبارات التكوينية أو النفسيةعلى الأقل. ويفسر ذلك كون مواضيعهم تم ابتكارها بواسطة الاستنتاج أو الحدس، أي دوناللجوء إلى آلات المختبر، وهو ما جعل علماء الرياضيات أكثر استعدادا للاستفادة منالمعطيات النفسية. كما أن الفيزيائيين بدورهم اقتربوا من علم النفس في الفترةالمعاصرة كما هو الشأن بالنسبة لألبرت إنشتاين الذي نصح بياجيه (سنة 1928) بدراسةحدس السرعة هل يقتضي في تكونه فهما مسبقا للتوقيت، أو أنه يتكون بمعزل عنه. وتدخلهذه المشكلة ضمن موضوع السببية الفيزيائية عند الطفل.

يلاحظ إذن أن مهمةالإبستمولوجيا التكوينية مزدوجة، فهي من جهة بمثابة دراسة نفسية للنمو الفكري،بوصفها تسعى إلى تفسير مشكلة نمو المعارف. لكنها حينما تعتمد التحليل التاريخيالنقدي تميل أكثر إلى ضبـط العلاقـات القائمة بين العلـوم مبرزة ما يربط الذاتبالموضوع في اتجاه فهـم أعمق للمعرفـة الإنسانيـة.

الابستمولوجيا بين الفلسفة والعلم
لعل ما حققته علوم الطبيعة من نجاحات باهرة سيما في مجالي الفيزياء والكيمياء كان مدعاة للتراجع الحاصل في مضمار الفلسفة بعد ان كانت هذه الاخيرة امأً للعلوم والمحدد لها في النظام العام للفكر الانساني .. لكن ـ منذ القرن التاسع عشر ـ طفقت تلك العلوم تنفصل عن امّها حتى قال اغيست كونت : (( آن الاوان لنحد من غرور الفلسفة )) ، وحجم عملها واناط بها فقط مسؤولية تنظيم العلوم وتنسيق نتائجها .. غير ان تلك المهمة ما برحت تنحسر بعد ان استبدل (( الانجلوسكسونيون )) الفلسفة بالمنطق واطمانوا الى تقليده تلك المهمة .
يمكن القول ان استقلال العلوم عن الفلسفة نجم عن اعتماد هاتيك العلوم على الرياضيات التي لا تحتاج الى علل ما ورائية لكي تكون يقينية .. بخلاف ما كان ما يظنه (( ارسطو )) من (( ان حقيقة الموجودات تكمن في عللها القصوى )) .
من هنا ميز (( كانت )) بين الاحكام الرياضية والاحكام الماورائية واسبغ المشروعية على الاولى فيما وصم الثانية بالسببية في تكوين في تكوين اوهام العقل ، وبقول آخر فان العلوم تهتم بالكيفية التي تجري بها الاحداث لا باسبابها وعللها القصوى التي هي مركزالبحث الفلسفي المبني دائما على السؤال : لماذا ؟ .
كانت الابستمولوجيا في الماضي تعرف بكونها خطابا فلسفيا حول العلم أي مجرد كلام حول اصول العلم ونتائجه ، فيما صار معناها بعد انفصال العلوم عن الفلسفة الى خطاب علمي حول العلم او دراسة علمية للعلم او تسمى (( علم العلوم )) .
فيما خلصت النظرة العلمية الجديدة الى اسباغ معنى اكثر جدوى على الابستمولوجيا عندما وسمتها بانها بحث نقدي في مبادىء العلوم واصولها واهدافها وعلاقتها بالانسان والمجتمع والطبيعة .. لكننا يجب ان نستدرك فيما اذا عتبرنا الابستمولوجيا ـ كنظرية منطقية تضبط اسس وقواعد علم ما ـ هي ذاتها علم ، لانها والحال هذه تحتاج بدورها الى نظرية اخرى تضبط اسسها وقواعدها وهكذا دواليك .. الامر الذي يمنعنا من دراسة العلوم بذات رموزها وقواعدها لان محاولاتنا هذه تضطرنا الى تجاوز اسس ذلك العلم للاحاطة بالظروف والمشكلات الناجمة عنه .
فالعالم يبقى عالما ما دام ينتج فرضيات ويجري تجاربه لغرض التاكد من صحتها ، لكنه يصبح ابستمولوجيا عندما يتساءل عن تاثير هذه الفرضيات وتجاربها على تصوراتنا للواقع والحقيقة .. لذلك تجاوز (( انشتاين )) .. } ممارسته الفنية للفيزياء ليتساءل عن مدى ادراكها للواقع ، وعن سر نجاعتها { .
فالابستمولوجيا ليست فلسفة اذا اردنا بها تلك الافكار الفضفاضة والتصورات الفخمة التي يقصد منها تبرير نظرية ما مثل نظرية (( المثل )) لافلاطون .. ولكنها فلسفة اذا نظرنا اليها على انها } تفكير جدي ينبع من المشكلات الحقيقية التي تطرحها العلوم والتي تمس الانسان ومكانته في الطبيعة والمجتمع { .
ان اهم مشكل في الابستمولوجيا الحديثة هو انها تطرح اشكالية علاقة العلوم بالواقع ( الواقع الذي نحس به تلقائياً ) ، فقديما كانت العلوم فروعا للفلسفة التي تعد ( صناعة الصناعات وحكمة الحكم ) كما عند ارسطو الذي اخضعها الى منطقه ، واعتقد بانه منطق قار وان علومه بالتالي قارة ومطلقة .
حيث بني المنطق الارسطي على مبادىء ثلاث هي مبدا الهوية ومبدا عدم التناقض والمبدا الثالث المرفوع والتي اعتقد بانها تعصم العقل من الخطا .. ولعل من نافلة القول ان التجربة اليومية والعلاقة التلقائية بالواقع تؤيد هذه المباديء .. لذلك فقد اخذ الناس شرقا وغربا بافكار ارسطو وعلومه واعتبروها حقائق مطلقة ، فقد سماه العرب ( الحكيم ارسطو ) ولقبوه ( المعلم الاول ) ، كما كان يعتبر مقياس الحقيقة ابان العصور الوسطى في الفلسفة المدرسية المسيحية التي سعت الى عقلنة اللاهوت المسيحي .. بيد انها انتهت اخيرا الى حالة من الجمود والتحجر العقلي والتخبط الفكري مما حدا بعلماء عصر النهضة والعصور التالية الى الاعراض عنها وارساء اسس العلوم الطبيعية على العقل والمشاهدة الحسية والتجارب العلمية ، وهذا ما عرف بالنظرة العلمية القديمة التي تطورت لاحقا الى مذهب مادي صارم يؤمن بازلية المادة ويرفض كل ما هوغيبي ويبنى على اساس علل الضرورة والصدفة .. ثم انتهت هذه النظرة الى الالحاد والاستهتار بالقيم الروحية والاخلاقية وفسرت السلوك تفسيرا غريزيا فسيولوجيا . وفي مطلع القرن العشرين برزت الى الوجود نظرة علمية جديدة كان من المع روادها آباء الفيزياء الحديثة كانشتاين وبور وغيرهم ، واجمعت اراء هؤلاء العلماء على ان الكون قد بدا في لحظة محددة من الزمن ، فثبت بما لا يدع مجالا للشك ان المادة ليست ازلية ، وآمنوا بعقل ازلي الوجود يدبر هذا الكون واسع الارجاء ويرعى شؤونه .. ثم جاء جيل اخر من العلماء انتهوا من ابحاثهم الى ان الانسان مكون من عنصري الجسد الفاني والروح الخالدة .
واخيرا ظهرت حركة جديدة في علم النفس تؤمن بالقيم الاخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والفكرية والنفسية .
وهكذا يتبين بان النظريات العلمية الجديدة ترفض الدراسات الارسطية وتتحفظ على النظرة العلمية المادية ، وان فحوى النظرة الجديدة هو دراسة المشكلات الابستمولوجية الاساسية .. القائمة على العلاقة بين النظريات العلمية بالواقع المحسوس ، وسر نجاعة تلك العلوم .. وحدود التفسير العلمي والكشف عن حقيقة تلك العلوم .. واهدافها وموقع الانسان والمجتمع في كل ذلك الخضم المتلاطم .

خاتمة

إن العلم لا يفهم بدون إطاره الفلسفي والتاريخي، والفلسفة هي تلك الشجرة الضخمة التي تؤلف الميتافيزيقيا فيها الجذور العميقة الضاربة في التربة، والعلوم المتفرقة بما فيها الطب والهندسة والكيمياء والكوسمولوجيا والانثروبولوجيا هي فروعها الممتدة في السماء.
كما أن هناك علاقة جدلية بين العلم والفلسفة، فالعلم يقوم بقفزات نوعية من حين لآخر منشئاً قطيعةً معرفية “ابستمولوجية” مع المستويات العلمية السابقة، كما حدث مع فكر “ابن رشد” والفلسفة اليونانية؛ حيث تم الدخول إلى فضاء معرفي جديد، يقوم على منظومة الشك ـ اليقين، والتجربة ـ الاستقراء.
كذلك الحال في فلسفة “رينيه ديكارت” التي دشَّنت الدخول إلى عصر عقلي جديد، ينطبق هذا أيضًا على فكر “إيمانويل كانط” الذي أرسى في كتابه “نقد العقل الخالص” بناء الميتافيزيقيا على الضرورة الأخلاقية، كما ينطبق على “غاليلو” الذي رأى أن الوجود له لغة خاصة به هي لغة الرياضيات، وفي اللحظة التي نفك رموزها نصل إلى الحقيقة النهائية فيها.
وأما “اسحاق نيوتن” فقد استطاع في لحظة تجلي روحية أن يقتبس من روح الكون قبسًا يسطر فيه كتابه الموسوم “الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية” حيث حرر قوانينه المشهورة الثلاثة في الميكانيكا، وبنى نظاما في غاية التناسق والانسجام، واستطاع اكتشاف قانون الجاذبية، وكان ذلك عام 1687م في الوقت الذي كان الأتراك العثمانيون ينهزمون أمام أسوار فيينا في حملتهم الثالثة.
وبقيت هذه المنظومة المعرفية حتى اهتزت الأرض من تحتها مرة أخرى، وكان ذلك من خلال التراكم المعرفي حيث تولدت النظرية النسبية وميكانيكا الكم، فتم إزالة مفاهيم “كانط” بالزمان والمكان القبلي، وإزالة المكان والزمان المطلقين عند نيوتن، وتم دمج الزمان بالمكان فأصبح الزمان البعد الرابع، والطاقة بالمادة فأصبحا وجهان لعملة واحدة.
وأما ميكانيكا الكم فقد شطبت مفهوم “الحقيقة الموضوعية” و”الحتمية” في القوانين، تلك التي وصلت منزلة التقديس في القرن التاسع عشر للميلاد، من خلال مبدأ الارتياب الذي جلاَّه الفيزيائي الألماني “فيرنر هايزنبرغ” والبريطاني “بول ديراك”.

العلم لا ينمو إلا في إطار خاص، وفي مناخٍ عقلي مناسب تستنبت بذوره بكل رحمة وحب، وهذا الإطار الفلسفي هو الذي يشكل مرجعية العلم في أول الطريق؛ ليتحول مع الوقت إلى “الإيديولوجيا” الخانقة لكل تقدم، مما يحتاج إلى “ابستمولوجيا” جديدة محررة، وهكذا يمشي نظم التاريخ.

سيطر الفكر اليوناني لنحو سبعة عشر قرنا، وتحول مع الوقت إلى طاغوت رهيب، وهكذا أحرق أناس من أجل آراء بطليموس في النظام الشمسي مع كل مظاهر التصدع في النظرية.

وسيطرت فكرة “الآتوم ـ ATOM” أي الذرة أنها الجزء الذي لا يتجزأ، حتى أنهت هذه العقيدة الوثوقية تجربة آلامو جوردو في تفجير السلاح النووي.

وكان الانعطاف التاريخي على يد رواد الفكر في العالم الإسلامي، فهم الذين أنهوا سيطرة المنطق “الصوري” ليُدفع العقل بالاتجاه القرآني، أي تأمل الواقع “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت” وهكذا ولد مبدأ “التجربة والاستقراء” فكان العقل الإسلامي يلعب الدور المحوري المفصلي في نقلة العقل الانساني، من المرحلة “الأسطورية” إلى المرحلة “العلمية” خلافا لما ذهبت إليه الوضعية على يد “أوجست كومت” ثم الوضعية المنطقية بعد ذلك على يد “إرنست ماخ” النمساوي، اللذين رأيا تطور العقل الإنساني يتنقل من المرحلة البدائية إلى المرحلة الميتافيزيقية، ليصل إلى المرحلة العلمية الوضعية.

صحيح أن “أوجست كومت” انتبه إلى القوانين التي تحكم المجتمع، وبذلك يكون قد تابع مسيرة ابن خلدون في إدراك قوانين المجتمعات، ولكنه لم ينتبه وغفل عن التجلي الإسلامي في إطلاق الشرارة العقلية الكبرى عبر كل التاريخ.

وهذه النقلة القرآنية واضحة جداً من النسق القرآني الذي ألغى فكرتين:

ـ المعجزة كدليل مادي للوحي في الوقت الذي كررها تكرارًا واضحًا في عشرات الأمكنة للأنبياء الآخرين، وهذا يشي بتدشين عصر جديد.

ـ وكذلك فكرة ختم النبوة؛ فالقرآن بهذه الكيفية توسط عصرين وفصل بين مرحلتين، فهو من العالم القديم، ولكنه بشر بمولد العقل الاستدلالي ودعا إلى تثبيته كونه أمرًا كسبيا.

وهذا يفيدنا أيضاً بأن نفهم القرآن بأنه ليس كتاب فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب، بل هو ذلك الكتاب الذي يولد المناخ العقلي الذي يفرز كل هذه العلوم.

ونفهم من هذا أيضاً أن عمليات اللهاث لاعتصار الآيات لاستخراج الكشوفات العلمية منها منهج خائب في عدة مستويات؛ فسرعة الضوء كشفها “فيزو” بوسائط فيزيائية بحتة، وبدون نصوص مقدسة يرجع إليها، في الوقت الذي يسعى البعض لمحاولة اكتشافه في بعض الآيات!

وضمن هذا المناخ الصحي نبت قديما العلم الإسلامي، ويمكن أن ينبت مرة أخرى ضمن نفس الشروط، وبنفس هذه الدورة التاريخية ارتفع أناس؛ فإساحق نيوتن لم يكن لينقدح في ذهنه قانون الجاذبية لأنه رأى سقوط التفاحة، فجده طيب الذكر لم يحرك فيه منظر سقوط تفاح الحقل، أكثر من فاكهة قضمها أو قدمها لحماره!

كذلك الحال في “دينيس بابين” الذي رأى في تراقص غطاء أبريق الشاي مفاتيح طاقة البخار.

وأما ديكارت التي كانت الذبابة تطن مزعجةً بجانب أذنه فقد أوحت له بمبادئ الهندسة التحليلية، حيث استطاع بعبقرية أن يمزج علم الجبر بالهندسة. وليته فعل نفس الشيء مع البعوض المجرم الدموي فاستنبط علمًا آخر نافعا!

وفي السنة التي أعلن فيها “كوبرنيكوس” نظامه الشمسي الجديد كان “فيزاليوس” يشق الطريق عبر الجسم البشري للمرة الأولى في التاريخ الأوربي، فيدخل عالم “التابو” أي تشريح الجسد الميت الذي كان يعد مسه بعد الموت حجرًا محجورًا. وهكذا فحل المعضلات العقلية الكبرى والانبثاق العلمي مرهون بتغير المناخ العقلي والإطار الفلسفي لروح العصر، الذي يُمكِّن الجماعات الإنسانية من إعادة النظر في المنظومة المعرفية التي تحملها.

المصادر

حسن لشهب

-درسالإبستمولوجيا، ص: 52.
– Logique et connaissance Scientifique Encyclopédie de la pléiade، ص: 10.
– Logique et connaissance Scientifique Encyclopédie de la pléiade، ص: 10.
PP: 10-11 Psychologie et Epistémologie, * نقلا عن درسالإبستمولوجيا، ص: 54
– Introduction à l’Epistémologie pénétique, P.U.F 1950, P : 5.
-Epistémologie pénétique, vd 1, PARIS, P.U.F, 1950, C.H, 3 et 4.
– Epistémologie génétique, C.F Chapitre IV.
*(عن درس الإبستمولوجيا Psychologie et épistémologie, p: 31)
– J. Piaget : Programme et méthodes de l’épistémologie génétique in Epistémologie génétique et recherches psychologiques N° 1 des études d’Epistémologie génétique” PARIS, P.U.F, 1957

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى