الأمن القومي الجزائري و التحديات الإقليمية الصاعدة

يتناول هذا البحث ماهية التهديدات الأمنية التي تواجه الأمن القومي الجزائري و كيف سعت الجزائر لاحتواء هذه التهديدات و الحفاظ على أمنها القومي .

 

دحموح طاهر باحث دكتوراه في العلوم السياسية بالمدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية

مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 16 الصفحة 61.

الملخص:
التحولات الراهنة التي شهدتها منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي صاحبهما تنامي تهديدات ذات طبيعة معقدة ومتشابكة فيما بينها في إطار عبر وطني، أفرزت مضاعفات خطيرة على الأمن الوطني الجزائري في مجاله البري، بحكم موقع الجزائر الاستراتيجي كنقطة ارتكاز وتقاطع بين الدول المغاربية من جهة والساحل الإفريقي من جهة أخرى، جعلها تتأثر بمخرجات جوارها الإقليمي ومن أجل الحفاظ على أمنها الوطني عملت على تطوير وتكيف سياستها الأمنية وفق حجم وحدة التحديات والتهديدات.

مقدمة
شهد موضوع الأمن الوطني تحولات عميقة مست صلب محدداته ومهدداته، بسبب التحولات التي طالت الساحة الدولية خلال العقد الأخير من القرن العشرين، تغيرت أشكال وأنماط التحديات التي يتعرض لها أعضاء المجتمع الدولي واتخذت أبعادا جديدة، فلم تعد مهددات الأمن الوطني تقتصر على تلك الفواعل التقليدية والمتغيرات العسكرية المتمثلة أساسا في الدول والاعتداءات الخارجية وانتهاك سيادة الدول، بل امتدت إلى فواعل غير الدول ولم يبق مجالها محددا بحدود الدولة الوطنية بل تعداها، مما يدفع إلى ضرورة رصدها فيما وراء حدودها.

أسهمت التحولات الراهنة التي طرأت على الجوار الإقليمي للجزائر،إلى تعرض هذه الأخيرةفي دوائرها الجيوسياسية البرية لتحديات أمنية،تمثلت أساسا فيتنامي التهديدات اللاتماثلية المرتبطة بالإرهاب، المخدرات، الجريمة المنظمة، انتشار الأسلحة وغيرها… فضلا عن انهيار الدولة في ليبيا وطول المرحلة الانتقالية في تونس وصعوبة إعادة الاستقرار في مالي، واستمرار الاحتلال المغربي للصحراء الغربية مع تنامي التواجد العسكري الأجنبي في منطقة الساحل الإفريقي.

تعد الجزائر بحكم موقعها الاستراتيجي كنقطة ارتكاز وتقاطع بين الدول المغاربية من جهة وامتداد للساحل الإفريقي من جهة أخرى، وجدت نفسها مرتبطة أمنيا بعدة دوائر إقليمية غير مستقرة، وهذا ما يعني إمكانية تعرضها لعدة مخاطر من شأنها أن تهدد استقرارها وأمنها الوطني.

على ضوء ما سبق نطرح الإشكالية الآتية:

كيف يمكن للجزائر أن توفق بين المتطلبات المغاربية والساحلية لمواجهة التهديدات الأمنية التي تفرزها منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي؟

للإجابة على هذه الإشكالية نتناول الموضوع من خلال النقاط الآتية:

أولا: مفهوم الأمن الوطني

ثانيا: البعد الجيوسياسي للمغرب العربي والساحل الإفريقي

ثالثا: التهديدات الأمنية التي تفرزها من منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي وانعكاساتها على الأمن الوطني الجزائري

رابعا: آليات السياسة الأمنية الجزائرية لمواجهة واحتواء تهديدات المنطقة المغاربية-الساحلية

أولا: مفهوم الأمن الوطني

بدأت بوادر استعمال مصطلح الأمن الوطني بأبعاده المتضمنة حاجة الدول لما يحفظ وجودها وبقائها وسلامتها بعد الحرب العالمية الأولى بالبحث عن السبل الكفيلة لتحقيق الأمن وتفادي الحرب، إلا أن التوظيف الرسمي لمصطلح الأمن الوطني يعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء مجلس الأمن الوطني الأمريكي في 1947.

إن مفهوم الأمن الوطني مرهون بتحديد طبيعة الأخطار والتهديدات التي تهدده مما يضفي عليه نوع من التعقيد والنسبية نظرا لكون هذه التهديدات تتميز بالتغير والتحول حسب التطورات والتغيرات التي تطرأ على المستوى الدولي عموما وعلى المستوى الإقليمي و الوطني خصوصا، فبعدما كان مفهوم الأمن الوطني مقصور على الأعمال العسكرية التي تقودها الدولة للاعتداء على السلامة الترابية لدولة ما، كما جاء في تعريف الموسوعة السياسية :” هو تأمين سلامة الدولة ضد أخطار خارجية وداخلية قد تؤدي بها إلى الوقوع تحت سيطرة أجنبية نتيجة ضغوط خارجية أو[1] انهيار داخلي” ([2])

إلا أن تطور مفهوم الأمن من الأمن الدولاتي إلى الأمن الإنساني بمختلف أبعاده ومضامينه جعل الأمن الوطني يمتد إلى وراء إقليم الدولة لتحقيق أمنها ، فإن البحث عن مسألة الأمن الوطني الجزائري ما كان له أن يتجاوز التحولات الجديدة التي مست موضوع الأمن الوطني، ولا أن يغض الطرف عنها انطلاقا من مسلمة، أن بناء الأمن الوطني وإن تعلق بالدولة الوطنية وتحدد بها فإن محدداته أوسع من أن تنحصر في حدودها كما أشار إليه، “والتر ليبمان” Walter LIPPMANN في تعريفه: “الأمن الوطني هو قدرة الدولة على متابعة سير مصالحها بنجاح، ووفقا لما تراه موافقا لمصلحتها في أي مكان من العالم”. ([3])

ثانيا: البعد الجيوسياسي لمنطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي.

1-الأهمية الجيوسياسية للمغرب العربي.

أ-تحديد المجال المكاني للمغرب العربي:

المغرب العربي وفق النظرة الفرنسية يقصد به كل من تونس، الجزائر، والمغرب الأقصى لكن بعد إنشاء اتحاد المغرب العربي 1989 بانضمام كل من ليبيا من الشرق وموريتانيا من الغرب أصبح المغرب العربي ذو دلالة يضم 5 دول وهي تونس، الجزائر، المغرب الأقصى، ليبيا، موريتانيا.تقدر مساحة المغرب العربي بحوالي 591 785 5 كلم2، يمثل 20% من مساحة القارة الإفريقية و 40% من مساحة العالم العربي، الواقع في شمال غرب القارة الإفريقية وهو الجزء الغربي للعالم العربي والإسلامي على التوالي.([4])

ب-الأهمية الاستراتيجية للمغرب العربي:

تتجلى الأهمية الاستراتيجية للمغرب العربي بموقعه الذي يتوسط العالم وفي الوقت ذاته يشكل همزة وصل بين القارات الثلاث أوروبا، آسيا، إفريقيا، كما تعد المنطقة كمحور تلاقي أربعة دوائر جيوسياسية:الدائرة الشرق أوسطية (MENA)، الدائرة الإفريقية، الدائرة الأوروبية (الشراكة الأورو-متوسطية) والدائرة الأطلسية(الحوار مع الحلف الأطلسي)، كما تتوفر المنطقة على أهم معبر للملاحة البحرية الدولية “مضيق جبل طارق”، فالمغرب العربي جزء لا يتجزأ من مصلحة واهتمامات الدول الكبرى.([5])

ج-المحدد البشري:

تعد الجزائر على رأس الدول المغاربية من حيث عدد السكان 39.5 مليون نسمة وذات النسبة لأكبر في النمو الديمغرافي بـ 2,15% بعد موريتانيا مقارنة بباقي الدول المغاربية، وكما نعلم أنها الأكبر مساحة، حيث تربط جغرافيا بين مشرق ومغرب المنطقة المغاربية التي يصل مجموع سكانها 92.8 مليون نسمة، هذا العدد من السكان يمكن أن يساهم في تطوير الاقتصاد المغاربي إذا تم حسن استثمار وتوجيه هذه الطاقة البشرية إلى جانب ثروات المنطقة، ويمثل في نفس الوقت سوق استهلاكية ضخمة. بالرغم من التفاوت في توزيع السكانإلا أن الشعوب المغاربية تتقاسم عدة مقومات تجمع فيما بينها وتشجعها على الوحدة: دين، لغة، تاريخ…إلخ.([6])

د-المحدد الطاقوي:

تحظى المنطقة المغاربية بأهمية بالغة على الصعيد الطاقوي نظرا لاحتوائها على نسب معتبرة من الثروات الطبيعية على المستوى العالمي، وعليه تقدر احتياطات النفط في ليبيا بـ 48 مليار برميل أي %2,9 من الاحتياط العالمي وتحتل بذلك المرتبة 14 عالميا، بينما الجزائر يقدر احتياطها بـ 12,2 مليار برميل وتحتل المرتبة 17 عالميا أما الغاز الطبيعي فاحتياطات الجزائر تصل إلى 4,5 مليار م3 بنسبة %2,4 من الاحتياط العالمي فتحتل المرتبة الرابعة من حيث التصدير والسادسة من حيث الاحتياط.([7])

فإذا كانت ليبيا والجزائر تحتلان الصدارة في البترول والغاز الطبيعي فإن المغرب الأقصى يتوفر على مواد معدنية هامة، فهو ثاني منتج للفوسفات في العالم، والأول عالميا من حيث الاحتياط بنسبة 70%، بينما موريتانيا غنية بالحديد إذ تنتج 31 مليون طن سنويا دون ذكر المعادن الثمينة التي تزخر بها المنطقة عادة ما لا يفصح عنها.

بالإضافة إلى الأهمية الطاقوية التقليدية للمنطقة المغاربية هناك طاقات متجددة لا تقل أهمية عن النفط والغاز، وهذا ما تم تأكيده من خلال مشروع ديزرتك DESERTEC الذي أطلقته ألمانيا سنة 2009 لتزويد أوربا بالطاقة الشمسية من شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وعليه هذه الأرقام والمعطيات تزيد من الأهمية الجيوسياسية للمنطقة المغاربية على مختلف الأصعدة الإقليمية والدولية.

2-الأهمية الجيوسياسية للساحل الإفريقي

أ-تحديد دول الساحل الإفريقي:

ليس هناك إجماع في تحديد منطقة الساحل الإفريقي حيث يتداخل عدة عوامل(الجغرافي، السياسي، الاثني…إلخ) فتارة تتسع المنطقة وتارة تضيق بإدخال دول وعزل أخرى حسب عدة اعتبارات. تمتد منطقة الساحل الإفريقي من الجهة الشرقية للقارة من البحر الأحمر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا بحوالي 6000 كلم، المتربعة على عدد من الدول ذات الوجود الكلي والنسبة الأكبر لمساحتها في هذا الرواق الذي يتراوح عرضه من 500 كلم إلى 700 كلم من جهة وهي: إرتيريا، السودان، التشاد، النيجر، مالي، موريتانيا، سنغال، غامبيا، ودول ذات التوغل المتوسط والنسبي لمساحتها من جهة أخرى وهي: أثيوبيا، نيجيريا، بوركينافاسو.([8])

بينما الأمم المتحدة تحدد الساحل الإفريقي في تسعة دول وهي: السنغال، موريتانيا، مالي، بوركينافاسو، النيجر، نيجيريا، التشاد، السودان، إريتريا.([9])

فهذا التحديد الجغرافي البحت لا يعبر عن كل الدول التي تتأثر بمخرجات المنطقة، فالساحل الإفريقي ذو امتدادات ثلاث: الامتداد الأول: هو ذلك الفضاء المنفتح على البحر الأحمر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا الممتد من القرن الإفريقي في كل من: الصومال، جيبوتي، إرتيريا، إثيوبيا مرورا بالسودان، تشاد، النيجر، مالي وموريتانيا. الامتداد الثاني: شمال الامتداد الأول ويشمل كل من الجزائر وليبيا. الامتداد الثالث: على جنوب غرب الامتداد الأول يضم السنغال، غينيا، ساحل العاج، بوركينافاسو، ونيجيريا.([10])

ب-المحدد البشري:

الظروف الطبيعية القاسية وعجز بعض الدول في توفير الحاجيات الأساسية للسكان عبر كامل التراب الوطني، يجعل السكان يتمركزون في مناطق دون الأخرى، في النيجر 6% من السكان يتمركزون في القسم الجنوبي الغربي للبلاد فالعاصمة نيامي بحوالي 000 900 ساكن مما يجعل ¾ من الإقليم شبه فارغ، وفي مالي العاصمة باماكو بحوالي 1,5 مليون ساكن أي 12% من مجموع السكان، بالمقابل النصف الشمالي قليل السكان.([11])

تتميز الجماعات الاثنية في الساحل بالتعدد والتنوع فهي جماعات يصعب إحصائها بشكل دقيق، في مالي هناك على العموم 23 اثنية موزعة على 5 مجموعات أساسية:( ماند ينق، بولسار، فولتايك، صاحريان، سنغاي) مما يجعل الوحدة الوطنية تتعرض لاضطرابات وهزات، كل اثنية تحاول السيطرة على الأخرى وفرض نفسها، في ظل غياب الاحترام والاعتراف بالآخر، وهو الوضع السائد في بقية الدول الساحلية الذي يتراوح بين التعقيد والأكثر تعقيدا، الأمر الذي يجعل الطريق إلى تحقيق وحدة وطنية حقيقية بمثابة وعاء تصب فيه مختلف الاثنيات ليس بالأمر الهين، فضلا عن الجغرافيا الطبيعية الصعبة والهشاشة الاقتصادية التي تجعل هذه الاثنيات في حالة ثوران وهيجان لكون بقائهم على قيد الحياة مهدد.([12])

ب-المحدد الطاقوي:

تعتبر منطقة الساحل الإفريقي خزانا هاما للموارد الطبيعية باحتضان أراضيها لمصادر الطاقة ولمختلف أنواع الثروات المعدنية النفيسة والنادرة إلى جانب البترول والغاز، الأورانيوم، الفوسفات، الذهب، الزنك، النحاس…إلخ، ذات قيمة أولية لتكنولوجية المواصلات والأسلحة الحديثة.

للتأكيد على ثقل المحدد الطاقوي في هذه المنطقة نلاحظ لغة الأرقام المتعلقة بالاحتياطات الطاقوية التي تحويها البلدان الساحلية، تملك نيجيريا احتياط يقدر بـ 37,2 مليار برميل، كما تملك النيجر 300 مليون برميل.([13])

بينما الأورانيوم الذييعتبر من أهم مصادر الطاقةللتسلح النووي الذي يمس الأمن والسلم الدوليين، تعد النيجر ثاني دولة إفريقية في إنتاج الأورانيوم بنسبة %7,8بعد ناميبيا بنسبة 8,4%، كذلك مالي تتوفر على احتياط معتبر من الذهب، الأورانيوم، النفط خاصة بعد اكتشافات حوض تاوديني (Taoudenni).([14])

الملاحظ أن هذه الاحتياطات تلعب دورا محوريا في تحريك اللعبة التنافسية بين مختلف الشركات الساعية لنقل الموارد الأولية الضرورية لصناعاتها، ليلحق بمختلف هذه الثروات مختلف شبكات التوصيل الطاقوي من غرب إفريقيا إلى المتوسط والمحيط الأطلسي، خط أنبوب العابر للصحراء الرابط بين نيجيريا والجزائر مرورا بالنيجر لنقل الغاز إلى جنوب أوربا عبر البحر المتوسط، وكذلك من السودان باتجاه آسيا عبر البحر الأحمر، ومن حقول خليج غينيا اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية عبر المحيط الأطلسي.

منطقة الساحل الإفريقي كلها تقريبا تحتوي على ثروات مشاعة تبحث عمن يستعملها ويوظفها، لاسيما أمام ضعف دولها وافتقارها للوسائل والإمكانات والقدرات التي تسمح لها باستغلال هذه الثروات.

3-الجزائر كنقطة ارتكاز في تقاطع منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي:

ترجع أهمية الجزائر الجيوسياسية إلى تموقعها في شمال غرب القارة الإفريقية وتتميز بشساعة حدودها البرية، فتعد قلب دول المغرب العربي وحلقة الوصل بين أطرافه وفي الوقت نفسه تمثل شبه زاوية متوغلة وبعمق في البصلة الإفريقية.([15])

الجزائر بمكانتها الاستراتيجية تتعدى الدائرة المغاربية والساحلية إلى المستوى الإقليمي (بوابة إفريقية)، حيث تبلغ مساحتها 741 381 2 كلم2 وهو ما يعادل 8% من المساحة الكلية للقارة الإفريقية* لتصبح على رأس قائمة الدول العربية والإفريقية من حيث المساحة. فالجزائر بحكم موقعها وشساعة مساحتها تتقاسم حدودها البرية مع 7 دول، 5 عربية** واثنان إفريقية على 3 جهات. يحدها من الشرق: تونس وليبيا مجتمعة ب 1893 كلم، بينما يحدها من الجهة الجنوبية: النيجر ومالي مجتمعة بـ 2332 كلم، ويحدها من الجهة الغربية: المغرب الأقصى، الصحراء الغربية،موريتانيا مجتمعة ب 2081 كلم.([16])

وعليه فالجزائر وحدة مساحية مترامية الأطراف تربط بين منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي بمجموع حدود برية تفوق 6 آلاف كلم، الأمر الذي يجعل من الجزائر عرضة لكل التهديدات التي تفرزها المنطقتين المغاربية والساحلية في ظل التطورات الراهنة المتزامنة مع التنافس الدولي، مما يتطلب على الجزائر هندسة سياسة أمنية لمواجهة هذه التهديدات بل وإبعادها من المناطق المحاذية لها.

ثالثا: التهديدات الأمنية التي تفرزها من منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي وانعكاساتها على الأمن الوطني الجزائري

1-الإرهاب العابر للأوطان.

بالرغم من الاهتمام الذي حظيت به ظاهرة الإرهاب في الدراسات القانونية والدوليةإلا أن الظاهرة لا تزال عصية عن التعريف، ذلك أن التعريفات التي قدمت بشأنها هي شديدة التباين والاختلاف، فالإرهاب من الناحية اللغوية يشير إلى: “إثارة الخوف والفزع” أما من الناحية لاصطلاحية فالإرهاب الدولي العابر للأوطان يعني: “ذلك الاستخدام المنظم للعنف بشتى مظاهره المادية والمعنوية من طرف فواعل مختلفة بصورة تثير حالة من الخوف والفزع، وتخلف خسائر جسيمة في المنشآت والأرواح وتتجاوز تأثيراتها حدود الدولة الواحدة وذلك لتحقيق أهداف سياسية، إيديولوجية، بالشكل الذي يتنافى مع أحكام القوانين الداخلية والدولية”.([17])

وتعدّ منطقتي الساحل الإفريقي والمغرب العربي من أبرز المناطق الجغرافية التي تشهد حركية وديناميكية الإرهاب العابر للأوطان الذي أصبح يمثل ظاهرة عالمية منتشرة في جميع مناطق العالم بل أصبح تنظيم عالمي متعدد الأفرع والشبكات. تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي (AQMI) التي تعتبر كفرع إقليمي من التنظيم العالمي للقاعدة منذ 2007 إلى جانب الجماعة الإسلامية للقتال الليبية والجماعة الإسلامية للقتال التونسية وكل من أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا MUJAOو بوكو حرام في نيجيريا، مما أدى إلى تنامي التواجد العسكري الأجنبي بطريقة مباشرة وغير مباشرة أمام هشاشة الدول وعجزها في مواجهة هذه الموجات الإرهابية.([18])

وتعتمد هذه الجماعات الإرهابية على آليات عمل متعددة كاستهداف المواقع الحيوية لدول المنطقة وفي هذا تجدر الإشارة إلى استهداف “تيقن تورين” بالجزائر، وتعتمد كذلك على أسلوب الرهائن والمواجهة المسلحة المباشرة مع دول المنطقة على شاكلة ما وقع في موريتانيا وكذلك في مالي وغيرها من الدول.

2-الجريمة المنظمة:

الجريمة المنظمة العابرة للحدود باتت تشكل إحدى الأولويات بالنسبة للمجتمع الدولي باعتبارها تعرقل الجهود التي تبذلها الدول في مجال التنمية كما أنها تضعف النسيج الاقتصادي الوطني فضلا عن كونها تهدد الأمن الوطني والاستقرار الدولي، ومن بين الخصائص الجوهرية التي تطبع ظاهرة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان، نجد أنها لا تقتصر على إقليم الدولة الواحدة فحسب، بل تتعداه إلى أقاليم الدول الأخرى كما تقوم عصابات الجريمة المنظمة على عدة تقاليد ومنها: البناء الهرمي لتشكيل العصابات، الولاء والطاعة للرؤساء، تقسيم مناطق النفوذ.([19])

إن الانفلات الأمني الذي تشهده منطقة الساحل الإفريقي والمغرب العربي يشكل أحد العوامل المساهمة في تنامي ظاهرة الجريمة المنظمة بكل أبعادها وأشكالها، حيث تجارة المخدرات تعرف رواجا كبيرا لاسيما بعد تحول المنطقة إلى مكان عبور للمخدرات الصلبة مثل الهيروين، الكوكايين… من أمريكا اللاتينية لأوروبا عبر إفريقيا الغربية ثم الساحل الإفريقي وعبر المغرب العربي.([20])

3-التداخل بين الإرهاب العابر للأوطان والجريمة المنظمة:

لقد أصبح الترابط الموجود بين الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة من بين المسلمات الثابتة عند دارسي المعضلات الأمنية، ذلك أن الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي والمغرب العربي تستند في أنشطتها وعملياتها الميدانية على تحالفات مع فواعل أخرى غير دولاتية ومن أبرزها تنظيمات الإجرام المنظم. ويمكن رصد هذا التداخل والتعاون الموجود بين الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة في المنطقتين في مجموعة من النقاط ولعل أبرزها ما يلي: التعاون والحماية المتبادلة، التأمين والدعم الوظيفي المتبادل، فالجريمة المنظمة تمول وتمون الجماعات الإرهابية وهذه الأخيرة توفر الحراسة وتؤمن طرق ومسالك التهريب لها.([21])

ثمة تداخل وتحالف خطير في المنطقة المغاربية-الساحلية بين الجماعات الإرهابية من جهة وعصابات الجريمة المنظمة من جهة أخرى بالنظر إلى وجود شبكة من المصالح المتبادلة بين الطرفين، الأمر الذي يساهم في تعقيد الوضع والمشهد الأمني في المنطقتين، خاصة بانتقال جماعات الجريمة المنظمة من جرائم اقتصادية إلى جرائم سياسية بالتحالف مع الجماعات الإرهابية مثلما حدث في مالي الأمر الذي عجل بالتدخل الفرنسي في المنطقة، نظرا لضعف الدول الساحلية عسكريا، إداريا، جمركيا لمنع تغلغل منظمات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية و عرقلة تكامل الأدوار فيما بينهما.

4-انعكاسات التهديدات الأمنية في منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي على الأمن الوطني الجزائري.

أ-انعكاسات أمنية:

الهجمات الإرهابية

تزامنت الاعتداءات الإرهابية على الجزائر بتدهور الأوضاع في كل من ليبيا ومالي لتأخذ منحى تصاعدي حسب التتبع الكرونولوجي لهذه الأحداث: بدأت أول هذه الإرهاصات باختطاف والي إليزي في جانفي 2012، ثم في 04 مارس من نفس السنة تم الهجوم على مركز الدرك الوطني بمدينة تمنراست، ليليها اختطاف الدبلوماسيين الجزائريين في (قاو) GAO بمالي يوم 06 أفريل 2012، وفي 30 جوان 2012 تفجير سيارة مفخخة بمقر القيادة الجهوية للدرك الوطني بورقلة.([22])

لتصل هذه الاعتداءات إلى ذروتها بالهجوم الإرهابي على قاعدة الحياة بعين أميناس “تقن تورين”: الذي وقع يوم 17 جانفي 2013 مباشرة بعد التدخل الفرنسي في شمال مالي يوم 11 جانفي 2013 ، حيث يمكن أن نقرأ في أبعاد هذا الاعتداء أنه اعتداء بالغ الخطورة لكونه استهدف عصب الاقتصاد الجزائري الذي يمثل حوالي 98 بالمئة من مداخيل الجزائر لتركيع وإضعاف الدولة الجزائرية، وكذلك لخلق حالة من اللاأمن لدى المستثمرين الأجانب لمغادرة الجزائر، كما أنه بمثابة إعلان أن الأراضي الجزائرية أصبحت جزء من مسرح عمليات الجماعات الإرهابية.

فكلّ هذه الاعتداءات تهدف إلى ضرب استقرار الجزائر واستفزازها وإدخالها في هذا المستنقع من الأزمات الذي تتعدد فيه الفواعل وتتضارب المصالح، كما هي بمثابة إشارات ورسائل للضغط على الجزائر لتتراجع على بعض المواقف والقرارات، لكن ما يجب الانتباه والالتفات إليه أن هذه الاعتداءات أثبتت وكشفت على ثغرات وفجوات في الإجراءات الأمنية الاحترازية التي اتخذتها الجزائر في تعاطيها مع جوارها الإقليمي، بحيث يجب إعادة التقدير وإدراك القصور في سياستها الأمنية بتكيفها وفقا للتغيرات والتطورات الآنية كلما استدعى الأمر ذلك.

انتشار الأسلحة وتهريب المخدرات:

ساعد الانفلات الأمني الراهن في كل من ليبيا ومالي على رواج تجارة الأسلحة والمخدرات، وهذا ما نلاحظه خلال الأرقام الآتية حوالي 20 مليون قطعة سلاح صغيرة تسربت من ليبيا إلى الساحل الإفريقي،و3000 قاذفة أرض-جو، وحسب أجهزة الاستعلام البريطانية تعد ليبيا أكبر سوق أسلحة سوداء في العالم، حيث تم العثور على أسلحة مضادة للطيرانمن قبل وحدات الأمن الوطني الجزائري مدفونة تحت الرمل “بعين أميناس” المشكلة خطر حقيقي على الطيران المدني والعسكري في الجنوب الجزائري، مما أدى إلى توسيع دائرة تجارة الأسلحة، التي صاحبها ظهور عدة جماعات مسلحة كل واحدة تسعى للاستفادة من الوضع الأزموي فضلا عن القاعدة في المغرب الإسلامي (AQMI).([23])

كما سبق وأن تطرقنا إلى تعدد أوجه نشاط الجريمة المنظمة، غير أنه يعد التهريب والمخدرات بكل أنواعها تهديدا حقيقيا للجزائر نظرا لانخراط المغرب الأقصى في عملية إنتاج وتجارة المخدرات وتصديرها إلى الجزائر، حيث حجزت السلطات الجزائرية ما يزيد عن 181 طن من المخدرات خلال سنة 2014 وفي 2013 حوالي 200 طن، وهو ما يؤثر سلبا على الاقتصاد الوطني وعلى فئات الشباب.([24])

2-انعكاسات اقتصادية:

إن النفقات المالية الضخمة الموجهة للتجهيزات المادية والبشرية للقوات العسكرية، التي يتم خصمها من خزينة الدولة لتصدي لمختلف الحركات الأزموية المنتشرة على الحدود، تحسب كلها على حساب تحقيق التنمية الاقتصادية في الجزائر التي مازالت تعاني التبعية لقطاع المحروقات بشكل فادح وخطير، حيث أسعار النفط تتميز بالارتفاع والانخفاض المفاجئ وهذا ما بدأت تعاني منه الجزائر منذ جوان 2014 إلى اليوم بتراجع أسعار النفط، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على دورها ومدى قدرة تأثيرها بل وحتى الصمود أمام حالةاللا استقرار التي تحيط بها، فضلا عن أمواج اللاجئين المتدفقة إلى الجزائر، فإن كان الأمن محوري وضروري لقيام الدولة فالتنمية الاقتصادية لا تقل أهمية لبقاء واستمرار الدولة*.([25])

3-انعكاسات ذات أبعد متعددة:

من أجل تفادي قيام كيان سياسي جديد في مالي يمكن أن يقود إلى مشروع انفصالي توسعي، مهدد للوحدة الترابية الجزائرية وأمن المنطقة نظرا لانتشار العبر الوطني للطوارق بين 5 دول: الجزائر، ليبيا، مالي، النيجر، بوركينافاسو، تكفلت الجزائر بالوساطة في مالي واتبعت الملف عن قرب لمنعه من تجاوز الخطوط الحمراء، وقطعت أشواط كبيرة حيث وصلت في 10 مارس 2015 بإعداد بيان اتفاق السلام، وما تأخير الأطراف على توقيعه إلا نتيجة للتوظيف الخارجي للطوارق لأبعاد استراتيجية ومصالح اقتصادية من جهة، وتشويش وخلط الأوراق من طرف بعض القوى الإقليمية من جهة أخرى، من بينها المغرب الأقصى الذي يخلط الأوراق بين حق الشعوب في تقرير مصيرها وحق الانفصال للأزواد و يراهن على إنشاء دولة الأزواد في مالي على حساب الجزائر بدعمها استقلال الصحراء الغربية.

إن التهديدات إلى غاية الوقت الراهن كانت متنوعة لكن ما يزيد من خطورتها، هو احتمال انتقال عدوى داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) إلى ليبيا والساحل الإفريقي نظرا للبيئة الخصبة التي يمكن لها أن تحتضن التنظيم، حيث تصبح المنطقة مركب إرهاب إقليمي.

ثالثا: آليات السياسة الأمنية الجزائرية لاحتواء التهديدات في منطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي.

1-الآليات السياسية والدبلوماسية.

أ-على مستوى المغرب العربي:

الجزائر كانت دائما سباقة في طرح آليات التعاون بين دول المغرب العربي وضرورة تعزيز العمل المغاربي المشترك في ظل التطورات والتحديات التي تعرفها المنطقة وهذا ما أكده وزير الخارجية الأسبق “مراد مدلسي” في أشغال الدورة 31 لمجلس وزراء خارجية اتحاد المغرب العربي بالرباط في افتتاح الأشغال أن: «سعي الجزائر إلى التركيز على موضوع التعاون الأمني في منطقة المغرب العربي، ينطلق من قناعتها بأن مسألة استتباب الأمن في المنطقة هي مسألة الجميع”، وهو ما يستلزم تضافر الجهود لإقامة تعاون مغاربي فعال في هذا المجال، خاصة أمام تزايد الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للأوطان».([26])

الوساطة الجزائرية في ليبيا:

تبنت الجزائر مقاربة أمنية تقوم على أولوية الحوار السياسي داخل ليبيا دون تدخل أجنبي، ومن هذا المنطلق دعمت الجزائر مبادرات الحوار السياسي في ليبيا التي انطلقت في 29 سبتمبر 2014 برعاية البعثة الخاصة للأمم المتحدة لليبيا، كما احتضنت الجزائر عقد اللقاءات والمفاوضات الأولى بين الأطراف الليبية في10و11 مارس 2015.([27])

انطلقت الجولة الثانية من الحوار الليبي في الجزائر في13 أفريل 2015 إذ صرح “عبد القادر مساهل”* «أن حل الأزمة الليبية بين أيدي الليبين وأن الجزائر حريصة جدا على إنهاء الأزمة الليبية وحالة الانقسام»، فالجزائر تعمل جاهدة للوصول إلى مخرج لهذه الأزمة المرتبطة ارتباطا وثيقا بأمنها الوطني لما لها من انعكاسات مباشرة عليه، وقطع الطريق لبعض الأصوات المطالبة بالتدخل الخارجي في ليبيا الذي ليس له أي فرصة لتحقيق الاستقرار.([28])

كما يلاحظ أيضا على الصعيد السياسي والدبلوماسي بروز حيوية في العلاقات الجزائرية التونسية، الأمر الذي يظهر من خلال زيارة الرئيس التونسي “الباجي قايد سبسي” للجزائر يوم 04/03/2015 بدعوة من الرئيس الجزائري، ثم المبعوث الشخصي لرئيس التونسي” قروي شابي” في 29/04/2015، ومؤخرا رئيس الحكومة التونسي “الحبيب الصيد” بدعوة من الوزير الأول الجزائري يوم 15/05/2015، فهذه الحركية تدل على اهتمام الجزائر بتونس الجديدة وضرورة مرافقتها للحفاظ على استقرارها في ظل وضع داخلي صعب ومحيط خارجي متأزم على الحدود الليبية، لتفادي أي تدهور محتمل يؤثر سلبا على الجزائر.

ب-على مستوى الساحل الإفريقي

تكرس الجزائر دائما أولوية التحرك الجماعي وأسبقية المؤسسات الإقليمية كالاتحاد الإفريقي في حل مشاكل الساحل الإفريقي، حيث رافعت الجزائري من أجل إنشاء قوة إفريقية للرد السريع للأزمات والنزاعات الإفريقية والذي ظهر جليا خلال القمة 22 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت في 30 جانفي 2014 بأديس أبابا (إثيوبيا) كما دعت الجزائر إلى ضرورة إنشاء منظمة إفريقية لشرطة “أفر يبول” لتنسيق عمل الدول الإفريقية في المجال الأمني لمواجهة كل التحديات الأمنية، وذلك خلال المؤتمر الإفريقي لمدراء والمفتشين العامين لشرطة الذي انعقد في الجزائر في 10 فيفري 2014 بمشاركة 40 دولة إلى جانب الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإنتربول.([29])

الوساطة الجزائرية في مالي:

إن موقف الجزائر الرسمي من أزمة مالي هو أولوية الحل السياسي بين الحكومة المالية والطوارق دون إشراك الجماعات الإرهابية التي شاركت في عملية الانفصال، كما أن معالجة الأزمة يكون في إطار دول الساحل الإفريقي دون تدخل أجنبي، بادرت الجزائر إلى إنشاء اللجنة الثنائية الاستراتيجية حول شمال مالي في جانفي 2014.

فبعد أربعة جولات من المفاوضات في الجزائر توجت الجولة الخامسة في 01 مارس 2015 بتوقيع الأطراف المالية والفصيل الأول لحركة الأزواد التي تضم (الحركة العربية للأزواد، التنسيقية من أجل شعب الأزواد، تنسيقية الحركات والجبهات القومية للمقاومة) بالأحرف الأولى على اتفاق السلم والمصالحة، فيما فضل الفصيل الثاني لحركة الأزواد التي تضم (الحركة الوطنية لتحرير أزواد، المجلس الأعلى للأزواد، والحركة العربية الأزوادية) أخذ مهلة للتشاور، إلى غاية 15 ماي 2015، حيث وقعت كل الأطراف المالية على تنفيذ اتفاق السلام ب “باماكو” ، إذ كللت الوساطة الدولية برئاسة الجزائر بالنجاح.([30])

إنّ هذا النجاح الدبلوماسي والسياسي مرهون بمدى إلتزام الأطراف بتنفيذ اتفاق السلام نظرا لفشل سلسلة الوساطات التي قادتها الجزائر بين مالي والطوارق منذ التسعينات، التي كانت ظرفية ومؤقتة وخاصة أن الوضع الحالي أكثر تعقيد بتعدد الفواعل (القاعدة في المغرب الإسلامي، التواجد العسكري الأجنبي، التنافس الدولي، انتشار الأسلحة…) مما يجعل الوصول إلى توافق كلي في التصورات والمواقف أمر في غاية الصعوبة، نظرا لتداخل عدة مستويات محلية إقليمية ودولية.

إعادة توجه الدبلوماسية الجزائرية إلى إفريقيا (العودة إلى الأصل):

شكلت بداية سنة 2015 منعرج في السياسة الخارجية الجزائرية بتحولها بشكل ملفت إلى الدائرة الإفريقية وهذا يعود بالخصوص إلى التحولات الجذرية التي عرفتها المنطقة المغاربية-الساحلية التي لها انعكاسات مباشر على الأمن الوطني الجزائري، ومن أجل السعي لإحتواء التهديدات القادمة من مجلاتها البرية الحيوية، لابد من نسج علاقات مع دول القارة عموما والمنطقتين خصوصا، وأن تحقيق الأمن يستدعي إشراك ومساهمة الجميع وتكاتف الجهود نظرا للطبيعة العبر الوطنية للتهديدات.

وفي ذات المغزى عملت الجزائر على إبعاد والتقليل من تغلغل الأطراف الخارجية في قضايا المنطقتين فالسبيل إلى ذلك هو تكثيف الاتصال مع الوحدات المعنية من قريب أو من بعيد حيث تم رصد ستة عشر زيارة رسمية عالية المستوى في أقل من ستة أشهر(01/01/2015 إلى 15/05/2015)، مما يدل على الاهتمام الجزائري الكبير والعميق في آن واحد لتطورات الراهنة في المغرب العربي والساحل الإفريقي، وما التعديل الوزاري الأخير14/05/2015 بتنصيب وزيرين على رأس وزارة الشؤون الخارجية “رمطان لعمامرة” وزير الدولة و الشؤون الخارجية والتعاون الدولي و”عبد القادر مساهل “وزير الشؤون المغاربية والإفريقية والجامعة العربية إلا دليل على تفعيل الآلة الدبلوماسية الجزائرية على كل المستويات وتأكيد إرادة الجزائر على ضمان أمنها الوطني.([31])

2-الآليات الأمنية والعسكرية.

1-على المستوى المغاربي:

اجتماع وزراء خارجية المغرب العربي حول إشكالية الأمن في 09/07/2012: المخصص لبحث إشكالية الأمن في المغرب العربي، دعت الجزائر لوضع استراتيجية أمنية مغاربية شاملة،تنبثق عنها اليات عملية وهياكل متخصصة في مختلف الجوانب لمواجهة المشكلات الأمنية بالمنطقة. وفي نفس الإطار جاء لقاء غدامس بين ليبيا والجزائر وتونس حول مراقبة الحدود وتنمية المناطق الحدودية في 2012،من أجل دراسة الوضع الأمني السائد على حدود الجزائر وتونس وليبيا وسبل دعم التعاون بينها والوسائل الداعمة للتعاون من أجل ضمان الاستقرار والأمن والتنمية في المناطق الحدودية.([32])

2-على مستوى الساحل الإفريقي:

قامت الجزائر بتجسيد مجموعة من الآليات الأمنية والعسكرية لمواجهة التهديدات المختلفة التي تشكل خطرا على أمنها الوطني والتي يمكن رصدها في النقاط الآتية:

لجنة الأركان العملياتية المشتركة CEMOC: تبلورت خلال الاجتماع المنعقد في أوت 2009 بين كل من الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر المعروفة بدول الميدان التي أصبحت مدينة تمنراست مقر لها في 21 أفريل2010، تهدف إلى التنسيق في السياسة الأمنية للدول الأعضاء لوضع استراتيجية موحدة لمكافحة الإرهاب، وتتكون لجنة الأركان العملياتية المشتركة من أربعة خلايا (خلية العمليات، خلية الاتصالات، خلية اللوجستيك، خلية الاستعلامات)، كما تعمل ميدانيا في فضاء مشترك بين الدول الأربعة يتراوح من 1956 كلم طولا على 933 كلم عرضا.([33])

وحدة الدمج والتنسيق UFL: تأسست عام 2010 وهي تضم كل من الجزائر، مالي، موريتانيا، النيجر، بوركينافاسو، ليبيا، التشاد، تعمل على التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بين الدول الأعضاء بشأن تحرك ونشاط الجماعات الإرهابية في المنطقة، لوضع خطط مشتركة والتحرك جماعيا في مواجهة الإرهاب.([34])

تعزيز الإجراءات الأمنية الداخلية: خاصة فيما يتعلق بجنوب البلاد بهدف مراقبة الحدود وضمان أمن حقول البترول والغاز، وذلك من خلال إنشاء المنطقة العسكرية السابعة في مدينة إليزي، كما قامت بنشر 30000 جندي على الحدود الغربية والجنوبية، وإقامة 30 قاعدة عسكرية على الحدود مع مالي والنيجر وليبيا، فضلا عن إبرام اتفاقيات ثنائية لتعزيز التعاون العسكري، من خلال تبادل المعلومات حول الجماعات المسلحة وتوحيد العمليات الأمنية على الحدود.([35])

3-الآليات الاقتصادية

إن تطور مفهوم الأمن أدى بدوره إلى تطور أساليب مواجهة المعضلات الأمنية وعلى هذا فالتهديدات الأمنية لا يمكن احتوائها وتطويقها بالاعتماد على الإجراءات والتدابير العسكرية فحسب، وإنما أيضا يتوجب تفعيل المداخل والمقاربات السوسيواقتصادية لمعالجة الظاهرة الأمنية.

مما أدى إلى ضرورة المزواجة بين الأمن والتنمية فحاولت الجزائر توظيف العامل الاقتصادي كمدخل لتحقيق أمنها الوطني الذي يعد مصلحة حيوية تتطلع إليها السياسيات العليا للدولة، من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية التي ليست وليدة اللحظة والتطورات الراهنة، بل تنطلق المقاربة الاقتصادية الجزائرية لاحتواء التهديدات في إفريقيا بشكل عام ومنطقتي المغرب العربي والساحل الإفريقي بشكل خاص، بدعم جهود التنمية في القارة السمراء في غاية دعم قدراتها على مواجهة كافة التحديات الماثلة أمامها، وذلك عبر دعم الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا “النيباد” كمبادرة تنموية متكاملة الأبعاد لتنمية شاملة في إفريقيا.([36])

كما بادرت الجزائر بتقديم مساعدات اقتصادية ومالية لدول الجوار سواء المغاربية التي طالتها أحداث الحراك العربي مثل تونس بمساعدات مالية تقدرب 100 مليون دولار في شكل قروض إمتيازية، ([37]) والدول الساحل الإفريقي من خلال إنشاء صندوق لفائدة مشاريع تنموية لبناء بنى تحتية في مدن “قاو” و “كدال” و “تمبوكتو” بمبلغ يقدر بـ 10 ملايين دولار أمريكي لإنشاء مراكز التكوين المهني والتعليم، ومراكز للطب والصحة وحفر أبار للشرب، وهذه المبادرات تكون بالتعاون المشترك للدول الساحلية والدعم القوي من الجزائر.ومسح 902مليون دولار من الديون ل14 دولة إفريقيا أغلبيتها دول ساحلية. ([38])

فكل هذه المساعدات منطلقها أن أمن الدول المجاورة هو من أمن الجزائر لاسيما أن انفلات الوضع الأمني في الدول المحاذية للحدود الجزائرية سيؤدي إلى إفراز مضاعفات خطيرة على الأمن الوطني الجزائري، والواقع أن هذه المساعدات هي استثمار في الأمن الوطني وبمعنى أخر هذه المساعدات المالية في الحقيقة آليات استباقية وقائية لإحتواء التهديدات الأمنية القادمة من دول الجوار ومن ثم تحقيق مطلب الأمن الوطني.

 

خاتمة

ترتبط الجزائر بمنطقتين استراتيجيتين تدخل ضمن مجالها الأمني الحيوي وفي نفس الوقت ترقا بهما خصائصهما الجيوسياسية إلى مناطق جيوستراتيجية بامتياز على المستوى الدولي مما يجعلها تدخل ضمن جدول اعمال استراتيجيات القوى الدولية، فالأحداث المتسارعة والتغيرات التي تشهدها المنطقة المغاربية- الساحلية جعلت الأمن الوطني الجزائري منكشف على أكثر من صعيد من خلال هشاشة دول الجوار: تونس مازالت لم تخرج من مخاض التحول الديمقراطي، ليبيا انتقلت من دولة فاشلة إلى دولة منهارة، مالي ضحية الحركات الانفصالية والتدخل العسكري الفرنسي، نيجر وموريتانيا دولتان تعانيان ضعف وعجز في العديد من المستويات و القطاعات، المغرب الأقصى يزاوج بين العداوة والمنافسة بسبب الحدود وقضية الصحراء الغربية، مما ولد بيئة ملائمة لتنامي الجماعات الإرهابية وبناء علاقات تعاونية مع تجار الأسلحة والمنظمات الإجرامية.

إن المقاربة الجزائرية فيما يتعلق بمواجهة التهديدات الآتية من المنطقتين متعددة الأبعاد، والتي تتجسد من خلال تفعيل مجموعة من الآليات السياسية والدبلوماسية، الأمنية والعسكرية، الاقتصادية والتي تقتضي بالأساس مبادرات محلية وطنية، ومبادرات تعاونية وتنسيقية بين دول المنطقة، قائمة على الحوارالسياسي وأولوية العمل الإقليمي المشترك، إلا أنها اصطدمت بعراقيل مختلفة تمثلت أساسا في انقسام دول المنطقة لاعتبارات مختلفة ولعل أهمها ارتباط معظم تلك الدول بأطراف خارجية.

إن صمود الجزائر وحماية جدار أمنها الخارجي من مختلف التهديدات القادمة من المنطقة المغاربية-الساحلية دليل على قدرة ونجاعة وكفئ السياسة الأمنية المنتهجة، لكن كلما تمكنت الجزائر من صياغة سياسة أمنية ذات أبعاد استباقية ووقائية كلما زادت فرص احتواء التهديدات الأمنية (الفعل بدلا من رد الفعل). وهو ما يتطلب إتباع سياسات واستراتيجيات اتجاه المنطقتين مدروسة بدقة متناهية، لأن أي خطأ في التقدير أو القرار يمكن أن تكون له انعكاسات كارثية على مستقبل الأمن الوطني الجزائري في جوار يجمع بين الحركات الأزموية المعقدة ورهانات وترتيبات القوى الخارجية.

  • عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، الجزء الأول، لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985، ص 331.
  • منصور لخضاري، استراتيجية الأمن الوطني في الجزائر 2006-2011، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر3، تخصص علوم سياسية و علاقات دولية، 2013، ص65.
  • جمعة أحمد سويسي، المغرب العربي التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية«. (رسالة ماجستير، قسم العلاقات الدولية، كلية لعلوم السياسة والإعلام، جامعة الجزائر، 2004-2005)، ص 21.
  • L’Afrique du Nord et les pays du Maghreb : télécharger du :http://portail-du-

fle.info/index.php?option=com_content&view=article&id=54&Itemid=135, 12.02.2015, 10h00.

  • Paul Baltat, le grand Maghreb des indépendances à l’an 2000. Alger:edition caphomic, 1990, p13.
  • BP Statistical Review of word Energy, UK: Pureprint Group, June 2013, p 06.20.
  • Yves Lacoste, dictionnaire de géopolitique. France: edition flammario, 1995,p 1346.
  • مجلس الأمن،تقرير الأمين العام عن الحالة في منطقة الساحل، نيويورك:الأمم المتحدة، 14جوان2013، ص02.
  • إسماعيل دبش،الوضع في الساحل الإفريقي بين الواقع الإقليمي والتأثيرات الدولية من خلال الأزمة في مالي (منذ 2010)، مجلة دراسات الدفاع والاستقبالية استراتيجيا، الجزائر: المعهد العسكري للوثائق والتقويم والاستقبالية، العدد: الأول،2014، ص 55.
  • Gérard François DUMENT.la géopolitique des populations du Sahel, Revue géopolitique Diploweb.com, 2010, p 3.télécharger du :http://portail-du-fle.info/index.php?option=com_content&view=article&id=54&Itemid=135, 12/02/2015, 10h00.
  • Pauline POUPART. Identités religieuses, ethniques, tribales, au cœur des crises, questions internationales, N :58, DILA, November –December 2012, p 36.

)12(BP. Statistical Review of world energy, Op.cit. p 6.

  • دبش، مرجع سابق، ص 61.
  • صالح سعود، الاستراتيجية الفرنسية حيال الجزائر. الجزائر: طاكسيج كوم للدراسات والنشر والتوزيع، 2009، ص 89.

*أصبحت الجزائر أكبر دولة في المنطقة العربية والقارة الإفريقية منذ جويلية 2011 بعد تقسيم السودان.

** الصحراء الغربية ليست بدولة بعد ذات سيادة، هي تحت احتلال المغرب الأقصى منذ1975.

  • منصور لخضاري، الإمدادات الجيوسياسية للأمن الوطني في الجزائر. مجلة شؤون الأوسط. فصلية متخصصة محكمة تفي بالاستراتيجيات الإقليمية، بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد: 143، 2012، ص 7.
  • مشهور بخيت العريمي، الشرعية الدولية لمكافحة الإرهاب. عمان: دار الثقافة، 2009، ص 19، 20.
  • ولفرام لاخر، الجريمة المنظمة والصراع في منطقة الساحل، مؤسسة كارنغي للسلام الدولي الشرق الأوسط، بيروت. سبتمبر 2012، ص03.
  • نفس المرجع السابق، ص 62، 63.
  • نفس مرجع سابق، ص 07.
  • حمزة حسام، الدوائرالجيوسياسية للأمن القومي الجزائري. (رسالة ماجستير، قسم العلوم السياسية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة قسنطينة، 2010-2011)، ص 95.

*إقليم خارج عن مراقبة أو سيطرة الدولة، للمزيد اطلع على:

Amel CATTARUZZA. Zones grises, interstices durables de la carte politique ?Relecture critique d’un concept géopolitique, Bulletin de l’association des géographes Français, mars2012.

  • O. la fin d’une douloureuse épreuve, Journal El Watan, Algérie. N° :7265, 31/08/2014, p03.
  • Amrane M. MEDJANI. Le boom du trafic d’armes : frontière Algéro-Libyenne,Journal El watan week-end, Algérie. N° : 219, 21/06/2013, p 04.
  • APS (Algérie presse service). Plus de 181 tonnes de résine de cannabis saisies en Algérie en 2014, Journal El Watan, Algérie.N: 7476, 07/05/2015, p 32.

*من أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي توجيه كل قدراته إلى الصناعة العسكرية وإهماله للتنمية الاقتصادية، انصاع في اللعبة الأمريكية ولم يتفطن لذلك وانهار من الداخل.

  • عمر فرحاتي. أثر التهديدات الأمنية الجديدة في الساحل على الأمن في المغرب العربي، (المؤتمر المغاربي الدولي حول التهديدات الأمنية للدول المغاربية في ضوء التطورات الراهنة، الرهانات-التحديات، كلية العلوم السياسية، جامعة ورقلة، 27-28 فيفري 2013)، ص 18.
  • مخلوف ساحل، من أجل مقاربة شاملة لمواجهة التحديدات الأمنية في الفضاء المغاربي. (أشغال الملتقى الوطني المغرب العربي والتحولات الجهوية:أي تنسيق لمواجهة التحديدات الجديدة،الجزائر.المعهد العسكري للوثائق والتقويم والاستقبالية، النادي الوطني للجيش، 15-01-2014)، ص 115.
  • كمال القصير. جيوبوليتيك المغرب العربي: قراء في ديناميات عام2014، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة. 01 حانفي2015، ص 04.03.

*وزير للشؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية بعد التعديل الوزاري الأخير في 16/05/2015، بعدما كان وزير مكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية.

  • آمين بالعمري. ليبيا تدشن أولى خطوات السلام، جريدة الشعب، الجزائر. العدد: 16624، 21/05/2015، ص 12.
  • آسيا منى. التهديدات الأمنية تواجه بالتعاون المشترك، جريدة الشعب، الجزائر. العدد: 16334، 11/02/2014، ص 05.
  • الجزائر تقف إلى جانب مالي في تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة، جريدة الشعب، الجزائر. العدد:16722، 16/05/2015، ص 05.
  • رئيس الجمهورية يجري تعديلا وزاريا، جريدة الشعب، الجزائر. العدد: 16722، 16-05-2015، ص02.
  • ساحل مخلوف، مرجع سابق، ص 111.
  • Beloutar M.CH. Le fruit d’une vision commune, les dossiers d’El Djeich, lumière sur les grandes questions2000-2012, Alger. Numéro spécial, établissement des publications militaires, janvier 2013, p147.
  • Aïda Ammour, Op.cit. p 3, 4.
  • شمسة بوشنافة، استراتيجية الاتحاد الأوربي للأمن والتنمية في منطقة الساحل (استراتيجية من أجل الساحل): الرهانات والقيود. (المؤتمر المغاربي الدولي حول “التهديدات الأمنية للدول المغاربية في ضوء التطورات الراهنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة ورڤلة، 27، 28 فيفري 2013)، ص 23.
  • لياس زوين، الجزائر وصياغة مفهوم العمق الساحلي الصحراوي بين المكانة الجيوسياسية وضرورات الدور الاستراتيجي، مجلة دراسات الدفاع والاستقبالية استراتيجيا، الجزائر. العدد: 02، السداسي الثاني 2014، ص 138.
  • Salim CHENA. le Sahara et le sahel dans la politique Algérienne territoires menacés, espace menaçants, recherches internationales, Paris. N: 97, octobre-decembre2013, p142

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button