دراسات سياسية

الإسلام والديمقراطية

 كثيرة هي المصطلحات التي يعج بها الخطاب السياسي العربي وتتخبط بها ومعها الممارسة السياسية ، مصطلحات تتردد كل يوم وتشكل حيزاً كبيراً من هذا الخطاب، ولكن دون أن تكون متأصلة لا في ثقافتنا ولا في وعينا السياسي، مصطلحات أقحمت إقحاماً وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات ونظريات وسلع وعلوم وتكنولوجيا، ومن هذه المصطلحات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية ودولة الحق والقانون الخ.

ليس العيب في هذه المصطلحات وما تحيل إليه من دلالات وما تنتمي إليه من منظومات فكرية أو نظم سياسية، بل العيب في مَن يستورد هذه المصطلحات ويتعامل معها، وكأنها سلع قابلة للاستيراد والتصدير وأنها صالحة لكل زمان ومكان، دون محاولة لإعمال العقل لتبيئة هذه المصطلحات والمنظومات الفكرية التي تحيل إليها لتصبح مناسبة للخصوصيات التاريخية والموضوعية بما فيها الثقافية للمجتمع المستورد لها.

لا شك أن كثيرين يقولون بعالمية الفكر وعالمية القيم والنظم السياسية مادام ثبتت صلاحيتها ونجاحها في الدول المتقدمة، وبالتالي يقولون إن لحقوق الإنسان والمجتمع المدني والديمقراطية الخ، تعريفاً واحداً وإن ممارستها يجب أن تكون واحدة في جميع البلدان ونموذجها المثالي هو النموذج الغربي ، وهؤلاء يؤولون المقاربات التي تتحدث عن خصوصيات ثقافية ومجتمعية تبرر تعدد المفاهيم وتعدد الممارسات بالنسبة للمصطلحات المشار إليها وما شابهها، بأنها محاولة لإفراغ هذه النظريات من دلالتها الحقيقية، وبالتالي التهرب من دفع استحقاقاتها. هذا القول لا يخلو من صحة في حالة واحدة وهي توفر عنصر سوء النية عند من يتعامل مع هذه النظريات من مستورديها بحيث يسعى هؤلاء لتوظيف هذه القيم والمبادئ إلى أيديولوجيا يخدرون بها الجماهير ويسحبون بها البساط من تحت أقدام دعاة التقدم والتحديث السياسي والحقيقيين . إلا أنه من حيث المبدأ ومما هو علمي من منظور علم الاجتماع السياسي أن أية نظرية سياسية وأي مصطلح أو مفهوم سياسي، وأي فكر سياسي بشكل عام، لا يأخذ مصداقيته ولا يصبح علمياً إلا لأنه وليد بيئة اجتماعية وثقافية محددة ومعبر عنها في نفس الوقت، إنه نتاج لشروط تاريخية وموضوعية، وتغير هذه الشروط يفقد الفكر وما يرتبط به من ممارسة علميته وبالتالي عالميته، لأنه يتحول إلى فكر منفصل عن الواقع.
ومن هذه المصطحات التي استوردناها، الديمقراطية و ما صاحب تطبيقها المرتجل أحيانا في البلدان الإسلامية من إرباك وتخبط. فقد تباينت المواقف حول العلاقة ما بين الديمقراطية والإسلام ،فمن قائل أن الإسلام يتناقض مع الديمقراطية ، لان المرجعية في الإسلام بالنسبة للتشريع ولضبط السلوك الاجتماعي والسياسي هو القرآن والسنة ، وبعدهم القياس والاجتهاد، أما المرجعية في التشريع وتنظيم أمور الشعب في الديمقراطية فهي الدستور وما تتفق عليه الأغلبية ، ومن قائل أن لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام لأن الإسلام نص على الشورى ، والشورى هي الديمقراطية في رأيهم .هذا التباين لم يخلق حالة استقطاب حاد ما بين الطرفين ، حيث تباينت الأنظمة والجماعات الإسلامية في أسلوب تعاملها مع استحقاقات الديمقراطية أو التحدي الديمقراطي .

ففي عشرينيات القرن العشرين ارتأت تركيا تحت حكم مصطفي كمال أتاتورك أن الإسلام والخلافة الإسلامية هما السبب في تخلف تركيا وهزيمتها أمام الدول الغربية المسيحية ، والحل هو إقامة نظام علماني يفصل ما بين الدين والدولة ويهمش من دور الإسلام في الشأن العام ، وما زالت تركيا دولة علمانية وديمقراطية تحصر الإسلام في أضيق الحدود . وقد حاولت تونس في عهد أبو رقيبة السير على النموذج التركي ، وتمكنت من تهميش دور الإسلام والجماعات الإسلامية ، ولكنها لم تتمكن حتى اليوم من إنجاح مسلسل الانتقال الديمقراطي ، ودول إسلامية أخرى اتخذت موقفا وسطا فهي تعلن أن الإسلام هو دين الدولة وهو المصدر الرئيس في التشريع ، ولكنها في نفس الوقت تضيق على الجماعات الإسلامية المتشددة وتفسح المجال لحرية الرأي والمعتقد ، وتسمح بالتعددية الحزبية والسياسية وبانتخاب ممثلي الأمة وتوسع من مجال التشريع دون المسح بمدونة الأحوال الشخصية ، أي أن النخبة الحاكمة تأخذ بالعلمانية دون التصريح بذلك، وتوظف الدين في نفس الوقت للتعامل مع كتلة شعبية متدينة غير مهيأة لتقبل ثقافة الديمقراطية، ومن أمثلة هذه الدول المغرب ومصر والأردن والكويت وباكستان .أما دول أخرى فحكامها ونخبتها وغالبية شعبها، غير متقبلين للديمقراطية ،ثقافة وممارسة ، وبالتالي تطبق نظاما سياسيا تُوهم الناس انه امتداد لنظام الخلافة أو تطبيقا لنظام الحكم في الإسلام ، وعليه تمنع التعددية الحزبية والسياسية ، ولا تسمح بالانتخابات أو بتشكيل نقابات ، وتضيق على حرية المراة وحرية التعبير ، وتؤكد على أن القرآن والسنة هما مصدر التشريع ، ومن هذه الدول السعودية وبعض دول الخليج .فيما تمر إيران بتجربة فريدة تحاول فيها التوفيق ما بين الدولة الدينية التي وضع أسسها الخميني وضرورات الانفتاح على الديمقراطية وقيم العصر ، التي يدعوا غليها التيار الإصلاحي. وفوق كل ذلك تأتي جماعات الإسلام السياسي بكل مشاربها لتزيد من حالة الإرباك في الحقل السياسي عند المسلمين ، فجماعات تكفر المجتمع والنظام ، وأخرى تمارس الجهاد ضد كل من يعارضها الرأي ، وثالثة تلجأ إلى التقية ، ورابعة تتصالح مع النظام إن خدم مصالحها وتحاربه إن وقف في وجها ، وخامسة تشارك في الانتخابات وفي السلطة ، وسادسة ترفض الانتخابات وتقبل بشرعية النظام القائم ..الخ. 

إن إشكال العلاقة ما بين الإسلام والديمقراطية هو امتداد لإشكال نظام الحكم في الإسلام ، فما سبق أن تطرقنا إليه حول عدم الاتفاق على وجود نظرية أو إجماع حول نظام الحكم في الإسلام هو الذي أفسح المجال بعد أكثر من ألف و أربعمائة سنة من نزول الرسالة المحمدية ، لتفجر الصراع حول علاقة الديني بالدنيوي ولطرح السؤال مجددا لِمَن الحكم ؟. وكون أن الأمر لم يحسم سابقا فلا نعتقد أنه غير قابل للحل لو تم تحكيم العقل والمصلحة الوطنية، فلا تناقض بين الإسلام والديمقراطية ، لو فهم المسلمون بشكل جيد الإسلام وبشكل جيد الديمقراطية . 

إن مرجع الخلل في رأينا ليس في الديمقراطية بحد ذلتها ولا في النص الديني من حيث عدم تنصيصه على الديمقراطية والانتخابات، الخ، لان النص الديني كان يخاطب مجتمعا محددا وبلغة ومفاهيم وأمثلة من واقع حياته. فالنص، كلغة ومفردات، كان خاصا بالمجتمع العربي الإسلامي آنذاك، أما الإسلام كروح وكقيم فهو لكل زمان ومكان. فتطبيق الإسلام اليوم لا يعني بالضرورة إخضاع الواقع لنص محدد، بل استلهام روح الإسلام من النصوص، لما فيه خدمة الإنسان والمجتمع. وعندما نقول استلهام أو تأويل النص، فهذا يعني وضع نصوص وقوانين وضعية تستجيب لمتطلبات الحياة والعصر بما لا يتناقض مع روح الإسلام.وهذا الفهم لعلاقة التشريع بالنص المقدس ، سبق وان أشار إليه أبن قيم الجوزية (1293-1350) الذي فهم قول الشافعي “لا سياسة إلا ما وافق الشرع ” على انه يعني لا سياسة إلا ما وافق الشرع ولم يعارضه ، أما أن يفهم أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة في رأيه.

رفض وضع قوانين بشرية تنظم حياة الناس في مختلف مجالات الحياة، والتشبث والتقييد بالنص القرآني والحديث النبوي، من دون مرونة في التعامل، يعني إحدى فرضيتين: الأولى هي أن النص الديني، قرآنا وحديثا، يتوفر على إجابات حول مشاكل ومستجدات العصر، وإنه يشمل إجابة مباشرة على كل صغيرة وكبيرة في كل ما يتعلق بحياة الناس . هذا يعني أنه يمكننا أن ــ نجد في النص المقدس،ـ قرآنا وسنة ـ نصوصا حول العلاقات الدولية المعاصرة، ونظرية الدولة والاقتصاد والتأمين والشركات، وحبوب منع الحمل، وأطفال الأنابيب، والذرة، والاستنساخ… الخ، وهذا شيء غير موجود في النص الديني، ولا يمكنه أن يكون لأن النص الديني المقدس، سيبدو في نظر المسلمين الأوائل، غريبا وغير مفهوم، يتحدث عن أمور غريبة عنهم وغير مفهومة. والفرضية الثانية : هي القول بأن الله، جلت قدرته، لم يكن يدري ما سيطرأ على العالم من تحولات وما سيواجه من مشاكل وما سيستجد من نظم واكتشافات، وعليه، فإن هذه الأمور مرفوضة ويجب تجاهلها!. لا شك في أن الفرضيتين مرفوضتان. إذا، الشيء الأقرب إلى المنطق، وإلى حقيقة النص الديني هو القول بأنه يعود إلى الناس تأويل النص الديني والتعامل معه بيسر ووضع هذه التأويلات والتفسيرات في قوانين وضعية تجيب عن مشاكل العصر، وبما لا يجعلها تتناقض مع روح الإسلام ومبادئه السامية، بمعنى أن القوانين الوضعية -في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم الخ- تدخل في باب الاجتهاد في أمور مستجدة، وهذا يتفق مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”. 

إذا، فالقول بان الإسلام يتعارض مع الديمقراطية ،ليس من الإسلام بشيء ولكنه تأويل أو قراءة للنص المقدس من أشخاص أو جماعات يزعمون هذا التناقض ، لأن الديمقراطية الحقيقية ستضع السلطة بيد الشعب، فيما تنصيب هؤلاء لأنفسهم أمراء على المسلمين وقادة جماعات إسلامية أو أنظمة تدعي الإسلام ، يسهل عليهم احتكار السلطة . ونعتقد أنه مما يخدم الإسلام، هو التعامل بمرونة مع مقولة إعجاز النص القرآني، بدلا من تحويل النص المقدس إلى لغز وقيد على العقل، وحاجز أمام التطور والإبداع. فالقول بأعجاز النص القرآني- وبالتالي كل ما هو غير منصوص عليه يعد بعيدا عن الإسلام – كان ذا هدف معين عند نزول القرآن، وبالنسبة إلى أناس ومجتمعات محددة، لها لغتها وأوضاعها الخاصة.أما اليوم، في عالم متغير، وظروف مجتمعات ولغات وثقافات متباينة، فان التمسك بالفهم الجامد لإعجاز القرآن كلغة وتعبيرات، قد يسيء إلى الإسلام أكثر مما يفيده، التقييد بأعجاز النص، قد يقنع البعض من أصحاب اللغة العربية، ولكنه لا يستطيع إقناع أناس من لغات وثقافات أخرى، أما التركيز على روح الإسلام وقيمة الخلاقة فأنه أكثر قدرة على الإقناع لأنه يتعامل مع الإسلام كقيم وتربية حسنة، ويبعد عنه ما يلحق به من تعصب وانغلاق وتخلف، ويجعله قابلا لاستيعاب الأمور المستجدة ويفتح الباب واسعا للاجتهاد والتأويل أمام ذوي الاختصاصات في الأمور المستجدة، ويجعله قابلا للفهم من كل ثقافات العالم ، وبالتالي يفسح المجال لتقبل مبادئ الديمقراطية وكل فكر جديد يخدم الناس دون أن يمس بعقيدتهم. 

إن اقتران الديمقراطية بالعلمانية في الغرب ، كان وراء الحذر من الديمقراطية والعلمانية معا ، ويبدو أن ثقافة الاستبداد وانغلاق العالم الإسلامي على نفسه بالإضافة إلى هيمنة الإسلام المنغلق طوال قرون من الزمن ، هو ما جعل الناس يعتقدون أن العلمانية رديف الإلحاد وأن الديمقراطية تتناقض مع الإسلام. علمانية الغرب أعادت النظر ليس في الدين بحد ذاته، ولكن في وضع الدين في المجتمع ووظيفته وعلاقته بالمجالات الحياتية الأخرى. كما أن الديمقراطية أعادت إلى الإنسان إنسانيته وخلقت المواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته، وحددت علاقة الحاكمين بالمحكومين وأبرزت مفهوم إرادة الأمة وحقها في الثورة وفي تغيير حكامها، وجردت هؤلاء الأخيرين من حق احتكار الديني والمقدس أو التحدث باسم الإله، أي أنها أسقطت الشرعية الدينية عن الحكام. 

لاشك في أن الدين، كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر، وكقيم أخلاقية وروحية، قد لعب عبر التاريخ دورا مفصليا في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها. إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال، ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية، أي لولا توافر شروط موضوعية -سياسية اقتصادية اجتماعية- تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور. فالفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار، ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات، وفي ظهور طبقات ونخبات جديدة، تمردت على احتكار الدين من قبل البعض، وتمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين، وطرحت تأويلا جديدا للدين ودوره في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية. ففي ظل الإسلام -قرآن وسنة- شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات، وفي ظل الإسلام نفسه -قرآن وسنة- وصل العرب والمسلمون إلى الحضيض. فالخلل إذا، ليس في القرآن والسنة، ولكن في البشر المتعاملين معهما. الخلل في نظم وقيادات ومؤسسات ومثقفين، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا (السر الإلهي) ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة.

إن كل أتباع الديانات الأخرى، سماوية أو غير سماوية، والتي قد تكون أقل شأنا من الإسلام، لم ينتظروا إذنا من ربهم أو وحيا منه ليأخذوا بالديمقراطية و يطوروا أوضاعهم ويحسنوا شروط حياتهم، ولم يرجعوا نكسة أصابتهم أو أزمة تعرضوا لها إلى إرادة فوق بشرية، بل اعترفوا بأن الخلل فيهم ، في نظمهم وعلاقاتهم …، وبالتالي تحركوا بمحض إرادتهم وعن قناعة عقلية، وبدافع المصلحة، محيدين الرب من صراعاتهم وعلاقات بعضهم مع بعض، وانطلقوا وهم مؤمنون بأن عملهم على ما فيه خير الدنيا وتحسين ظروف وشروط حياة الإنسان، هو عمل يرضي الرب لان الرب لا يرضي لعباده أن يكونوا إتكاليين وسلبيين ضعفاء، وهم بذلك لم يتخلوا عن دينهم. فلا المسيحيون تخلوا عن مسيحيتهم، ولا البوذيون كفروا ببوذا، ولا اليهود تخلوا عن يهوديتهم، فعندما أصبح هؤلاء أقوياء قويت معهم دياناتهم.

وحيث إنه لا يعقل أن يكون الله رب العالمين ضد أن يكون عباده أقوياء ومتحضرين، فإن الرب، رب المسلمين والعالمين لابد أن يكون محبذا بل وداعيا إلى كل ما من شأنه رفع راية المؤمنين، بل ومحبذا كسر حاجز الخوف من المحرم المبالغ فيه، وغير المستمد من نصوص واضحة وصريحة في تناول القضايا الدنيوية، حيث أن الخوف من المحرم -المتخيل والمصطنع بل والمؤدلج وليس المحرم الديني الصريح النص – وإضفاء صفة التقديس على أوضاع وأشخاص باسم الإسلام، شيء يتناقض مع جوهر الإسلام ويسيء له أكثر مما ينفعه: أمر يرهب الناس ويبعدهم عن الإسلام بدلا من أن يقربهم إليه.وحيث ثبت بالممارسة أن الديمقراطية أفضل من غيرها من أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية ، منذ أكثر من خمسمائة سنة ، فما الذي يمنع من الأخذ بها بما يتوافق مع خصوصياتنا؟.

أم القول بأننا لا نحتاج للديمقراطية لان في الإسلام ما ينوب عنها وهي الشورى ، فهذا قول يحتاج إلى نقاش ، سواء بالمقصود بالشورى ، ومَن يشاور مَن ؟ ومدى إلزامية الشورى ؟ وحتى القول بان الديمقراطية هي الشورى فهذا يعزز قولنا بان الديمقراطية لا تتناقض مع الإسلام أو يمكن أيجاد مساحة للالتقاء والتفاعل بينهم ؟.
وردت كلمة الشورى في آيتين بالقرآن ، واحدة منها تخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام ،” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ” ،ووردت الكلمة في سورة الشورى كما يلي :”والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون “2 .ورود الشورى هنا لا يعني بالضرورة إنها مبدأ سياسي ، ذلك ” أن المعنى اللغوي لكلمة شورى مثله مثل سياق الآيتين ، لا يسمح باستنباط تصور دقيق ومفصل عن الحكم كما ينبغي أن يكون من المنظور الإسلامي…”3 .كما أن الشريعة لم تنظم طريقة تطبيق الشورى بل تركت الأمر للمسلمين ليتعاملوا معه حسب الظروف والأحوال .وإذا كان إجماع الفقهاء ذهب للقول بأن على الحاكم مشاورة الأمة في الأمور العامة ، إلا أن علماء المسلمين اختلفوا فيما إذا كان الحاكم ملزم بالأخذ بمشورة جماعة المسلمين أم لا ؟ أيضا اختلفوا في الجماعة التي يشاورهم ولي الأمر ، هل هم أهل الحل والعقد أم عامة الناس ؟ ومن هم أهل الحل والعقد في وقتنا الحاضر ؟.

إن أطروحتنا حول الشورى والديمقراطية ، تقوم على أساس إمكانية التوفيق بينهما وجعل هذا التوافق مدخلا لتأسيس نظام سياسي خاص بالدول الإسلامية يوفق ما بين التمسك بروح الإسلام والانفتاح على ما يفيد المسلمين من نظم سياسية واجتماعية واقتصادية ، وذلك بإعمال مبدأ الانتخابات الحرة والنزيهة ، فحيث انه يصعب اليوم تحديد من هم أهل الحل والعقد ،لكثرة عدد السكان وتعقد الظروف الحياتية والعلاقات الدولية ، ،فيمكن لمن ينتخبهم الشعب أن يكونوا هم أهل الحل والعقد ، لان الشعب لا بد وان يختار الأفضل والأصلح ، ولا يمكن لمن تنتخبهم الأغلبية إلا أن يكونوا مع المصلحة العامة وبالتالي مع ما يتوافق مع الإسلام ( ما اجتمعت أمتي على ضلال ). ولكن ضمان استقرار النظام السياسية وضمان عدم تحريف إرادة الأمة بما يتعارض مع مصالحها ومع الإسلام أيضا، كما جرى في التاريخ الإسلامي ، يجب أن يتم انتخاب الحاكم وان تكون الشورى التي تأتيه من المجلس المنتخب ملزمة له . 

إن الديمقراطية الحق والانتخابات النزيهة هما ضمان الحياة الكريمة والحرية بكل أشكالها ، وهما ضمان احترام المعتقدات الدينية للناس ، حكم الأغلبية هو ضمان ثقافة وهوية ودين الأغلبية ، وليس حكم الفرد أو القلة التي تنصب نفسها ناطقة باسم الإسلام والمسلمين دون تفويض من احد . ولكن هذا لا يعني أن ننسخ النموذج الغربي في الديمقراطية ، بل يجب تبيئتها لتتوافق مع ثقافتنا وخصوصيتنا، كما فعلت شعوب أخرى مثل ، اليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول الإفريقية.الديمقراطية لا تعني بالضرورة التغريب ، بل تحديث وحداثة للنظام السياسي . 

وفي الختام لا يسعنا إلا القول: إن أكثر الناس حرصا على الإسلام، هم أكثرهم حرصا على كرامة الإنسان وإنسانيته. فالإسلام ليس عبادة فقط ونصوص تحفظ وتقدس، ولكنه الإنسان أيضا، الذي وُجِد الدين من أجله، فقد جاء الإسلام لينقل البشرية من وضع التردي والعبودية إلى الحياة الكريمة. إن أكثر الناس -أشخاص أو حركات وأحزاب وأنظمة- إسلاما هم أكثرهم احتراما للإنسان وتحقيقا لمصالحه وصونا لحريته والتزاما بالعدالة والحق والإنصاف. 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى