دراسات سياسية

الإعلام السوري والأزمة الداخلية

 

  بداية فمن المعروف أنَّ الازمات تحظى باهتمام وسائل الإعلام التي تلعب دورًا مهمًا في توجيه الرأي العام، إذ يُعتبر الإعلام سلاحًا عصريًا فاعلًا في تغطية الأزمات بكل فروعها وأشكالها، لما له من قدرات هائلة في الانتقال عبر القارات، واجتياز الحدود دون عقبات مهما كانت القوانين المانعة. وبإمكانه نشر الخبر أو الأخبار لأحداث عدة، والتأثير بدرحة كبيرة في الرأي العام العالمي، وإجراء تحولاتٍ تحولًا في المسار السياسي العام، إضافةً إلى رد الأزمة لفاعليها. وفي ظل خيبة أمل المواطنين من إعلام السلطات الموجه غير الفاعل والقابل للإقناع الذي يعمل على (تجميل صورة الواقع) وتزيينه (ميتافيزيقيًا)، فإنّهم يتوجهون إلى متابعة الإعلام الغربي العالي التصنيع والتقانة، والذي يبني خطته على أسس علمية واضحة مدروسة بواسطة خبراء ومتخصصين وأكاديميين ومستشارين يملكون الخبرات العلمية، ولهم باع في إنتاج الأزمات السياسية وإرباك النظام العربي، وإشغاله في البحث عن السبل والوسائل (مهما كانت) للخروج من هذه الأنفاق، ورغم وجود من يخطط من الخارج، إلاَّ أن الأسباب الداخلية هي الأرض الخصبة الجاذبة. 

  هنا لم يشكل الإعلام السوري مثلًا في بداية الأزمة القدرة الكافية على إقناع المواطنين بما يجري في الشارع، وذلك بسبب الانبهار بالفضائيات المتطورة، وضعف إمكانيات الإعلام السوري، إضافةً إلى تجاهله للكثير من الأحداث، فهذا الإعلام يقول إن وسائل الإعلام “المحرضة والمضللة” تشكل (90%) من الأزمة التي تمر بها سورية، بعدما ابتعد عن الموضوعية في حربه النفسية لقلب الحقائق، وتشريع التفتيت والإيحاء بضرورة تقسيم سوريا والاعتداء على الرموز الوطنية مثل محاولة تغيير العلم الوطني والإساءة إلى الجيش العربي السوري وكل منظمات الدولة ومؤسساتها الحكومية، وبحسب التعبير الرسمي فإن إطلاق الأكاذيب والفبركات الإعلامية يندرج ضمن الحرب النفسية التي تهدف إلى التأثير على نفسية المواطنين السوريين لإسقاط الدولة. 

  كما هو الحال في جميع الأزمات السابقة التي واجهتها الدولة السورية، فقد مثّل الإعلام الرسمي السوري نقطة تجاذب حادة في المعركة التي يواجهها نظام الرئيس بشار الأسد منذ أكثر من عامين ونصف عام، بين منتقد لدور هذا الإعلام وعمله كأداة بيد النظام وعدم قدرته على التحول إلى إعلام مهني قومي يتحدث باسم الدولة السورية ككل، ومدافع عنه كإعلام ملتزم وموجه، وإن كان يعترف بمعاناة هذا الإعلام بوسائله المختلفة من نقاط ضعف مهنية وتقنية ولوجستية كثيرة.

  يتكشّف يومًا بعد يوم أن ما جاهد النظام السوري لمنعه منذ اللحظة الأولى، وهو دخول وسائل الإعلام الحيادية، نوعاً ما، إلى أرض سوريا، ليس فقط كي لا يتم نقل الحقيقة، أو جزء منها، بل ليبقى النظام قادراً على تكذيب كل ما يقال، حينما يغدو الثوار على الأرض أسرى لمحطات فضائية بعينها تمكّنهم من نقل يوميات الثورة وبطش النظام، وبالتالي أسرى لأجندات هذه المحطات بعينها! مما يجعل إعلام الثورة يفقد القليل من مصداقيته بعيون المراقبين عن بعد، والسبب الرئيسي هو المحطات المضيفة لتلك الأخبار والمعلومات. مما يعني أننا اليوم، وبعد مرور عام ونيف على اندلاع الثورة السورية، بحاجة ماسّة للكشف عن كثير من المعلومات والحقائق المغفلة في الثورة، والتي يؤثر غيابها على صورتها الخارجية والداخلية. 

  في كل مرة يعتقد فيها السوري أنه وصل إلى آخر مراحل الذهول، يطل الإعلام الرسمي بأدواته الساذجة التي تتعمد أسلوب الهجوم والتهويل وتكذيب الحقائق، مخيباً لآماله من جديد، حينها يقف الذهول نفسه مذهولاً. 

  لقد غاب ملف اللاجئين السوريين عن الإعلام السوري الحكومي منذ بدء الثورة السورية، إلا أن تعاطي أهم الصحف العربية والدولية مع الأزمة، دفعه أخيراً إلى تخصيص مساحة خجولة للحديث عنه، لكن بلسان حاكمه وخدمةً لقضاياه. إذ حاول الإعلام السوري بقنواته، وصحفه الحكومية، تبرئة نفسه وإسقاط المسؤولية عن المسبب المباشر في إزهاق أرواح المدنيين الغارقين في البحار، والمغامرين بأرواح أبنائهم. 

  فما كان من الإعلام إلا أن يستغل حوادث الغرق الأخيرة، لتبييض صفحته، وليرسل للعالم رسالة كيدية، مفادها أن “الجماعات المتطرفة الإرهابية هي المسؤولة عن أزمة اللاجئين السوريين، إلى جانب سياسات دول أميركا والاتحاد الأوروبي، وأضحت أزمة اللاجئين والرأسمالية الأوروبية”، عنوان رتيب لمادة “صحافية”، نشرتها جريدة “تشرين” الحكومية التابعة للنظام السوري في عددها الصادر، الخميس الماضي. وبرأيه أن “المعاملة المروّعة، في الأسابيع الأخيرة، للاجئين في أوروبا الوسطى مرورًا بدول البلقان وإيطاليا، تكشف وجهَ الرأسمالية الأوروبية الغليظ والوحشي. 

  أما قناة “تلاقي” فقد أعلنت على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” أن “الحكومة السورية تدين بأشد العبارات تعامل الدول الأوروبية غير الإنساني مع اللاجئين السوريين الذين هجّرتهم الجماعات الإرهابية المسلحة. 

  فيما أوردت وكالة الأنباء “سانا”، خبرًا يقول “عقد مجلس الوزراء السوري جلسته الأسبوعية وناقش ملف الهجرة خارج سورية، وأشار مجلس الوزراء إلى واقع التعامل المخزي لبعض الدول الأوروبية مع المهاجرين إليها ومخالفتها أبسط مبادئ حقوق الإنسان، ما يجعل سلوكها منسجماً مع سلوك التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تدفع المواطنين في بعض المناطق إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية”. 

  إذاً السلطة السورية وإعلامها الحكومي، مصرّان على التعامل مع المتلقي على أنه كائن غبي، فالجميع يعرف أن الكثير من الباصات تقف في التكية السليمانية في العاصمة دمشق، لتهريب شبابها إلى النقطة الأولى من رحلة اللجوء “تركيا”، وأن سماسرة التهريب يملؤون شارع الثورة وعلى “عينك يا تاجر”. 

  أما قناة “سما” المعروفة بماضيها تجاه محاكاة الواقع السوري، هي الأخرى عزت أزمة اللاجئين إلى “العالم الذي تكالب على أطفال سورية، وسلم سنين عمرهم للشاطئ المتوحش لتذروهم الأمواج من بطن حوت اللجوء، وتحولهم لصور، على العالم أن يعلن الحداد من أجلها”، بحسب ما جاء في مرثيةٍ، أداها مذيع أخبار المسائية، عقب حادثة مقتل الطفل السوري عيلان الكردي.  

فيما اكتفت “الإخبارية السورية” ببث تقرير مطول عن تزوير جوازات السفر السورية، وظهر فيه صورة جثة الطفل الغريق على شاطئ تركيا، وفي وقت لاحق ظهر أحد المحللين على شاشتها واعتبر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هو المسؤول الأول عن مقتل اللاجئين. 

  بناءً على ذلك، فإن الحديث عن واقع هذا الإعلام من الداخل، وفي ظروف استثنائية، كتلك التي مرت بها البلاد منذ منتصف شهر آذار/ مارس 2011، يمكن أن يغيّر العديد من القناعات والرؤى المتكوّنة من علاقة وسائل الإعلام الرسمية بالسلطة السياسية وأجهزتها المختلفة، ويوضح على نحو أعمق وأدق نقاط القوة والضعف وتأثيراتها المباشرة في أداء وسائل الإعلام الرسمية، تتضافر عوامل عدة في المسؤولية عن الحالة التي وصل إليها الإعلام الرسمي، منها ما هو مرتبط بموقف وطريقة تعامل مؤسسات السلطة السياسية مع هذا الإعلام، ونظرتها إلى أهمية إصلاح مؤسساته، ومنها ما هو متعلق بالواقع المؤسساتي والمهني للمؤسسات الإعلامية الرسمية، والتشريعات والقوانين الناظمة لعملها. 

  ففي الشق الأول المتعلق بموقف السلطة السياسية، تؤكد الوقائع المتكوّنة خلال السنوات السابقة أن مؤسسات السلطة السياسية لم تقتنع إلى اليوم بضرورة البدء بإصلاح جذري لمؤسسات هذا الإعلام، وإن كانت تبدي بين الفينة والأخرى رغبتها في ذلك، ولا سيما في ظل الأزمة الحالية، لكن ثمة فرق كبير بين إبداء الرغبة وتوافر الإرادة.

  الواقع أنه يمكننا تحديد أبرز تلك الوقائع بنقاط، مثل عدم اقتناع مؤسسات السلطة السياسية بضرورة إطلاق حرية العمل الصحافي، وما يتطلبه ذلك من منح الصحافيين ومؤسساتهم الاستقلالية الكاملة والحصانة من الملاحقة خارج إطار تشريعات المهنة وتدخلات السلطة التنفيذية. كذلك تعثر جميع المشاريع والأفكار الرامية إلى إحداث إصلاح جذري في عمل مؤسسات الإعلام الرسمي، وتحديدًا تلك التي طرحت خلال العام الأول من عمر الأزمة، وذلك نتيجة افتقادها في المقام الأول تغطية ودعم مؤسسات صناعة واتخاذ القرار السياسي في البلاد. مع إضعاف منصب وزير الإعلام مهنيًا، وتحويله من موقع مهني وإداري يفترض أن يكون صلة وصل بين الحكومة والإعلام، إلى موقع وظيفي يستخدم للسيطرة والضغط على وسائل الإعلام العامة والخاصة، وهذا الضعف المهني تحقق من خلال إسناد منصب وزير الإعلام إلى شخصيات غير إعلامية، لا تملك المعرفة الكافية بنقاط الضعف التي يعانيها الإعلام الرسمي وسبل تطويره، والأنكى من ذلك أن يترافق ذلك مع تعيين معاونين للوزير لم يمارسوا فعليًا العمل الصحافي بمتاعبه وهمومه.

  إضافة إلى استحواذ الحكومة على صلاحيات تعيين مديري المؤسسات الإعلامية ورؤساء تحرير الصحف الرسمية، وهو ما كان كفيلًا بالقضاء على أي محاولة لتطوير العمل الإعلامي خارج منظومة سيطرة الحكومة ومتنفذيها من جهة، وبإبعاد أي مدير عام أو رئيس تحرير يغرد خارج السرب من جهة ثانية. مع إفراغ قانون الإعلام الصادر عام 2011 من مضمونه المتقدم تشريعيًا على كثير من قوانين الإعلام والصحافة في العالم. فمؤسسات الإعلام الرسمي كانت ملزمة خلال عام واحد بتوفيق أوضاعها بما يتلاءم وبنود القانون الجديد وهذا لم يحدث إلى اليوم.

 نعم جاء تغليب معايير الولاء والمحسوبيات والعلاقات الشخصية على معايير الكفاءة المهنية والخبرة والنزاهة في اختيار الشخصيات المناط بها إدارة المؤسسات الإعلامية ومفاصل التحرير، وأن كانت هناك استثناءات سمحت لبعض الكفاءات بتولي مسؤوليات معينة إلا أنها تبقى محدودة جدًا. وإبقاء نقابة الصحافيين خارج دائرة التأثير الفعال في الحياة الإعلامية السورية، وتخليها عن مهماتها الرئيسية في حماية حقوق الصحافيين والدفاع عنهم، والإسهام فعليًا في تغيير واقع الإعلام الرسمي بما يتفق والتقاليد المهنية ويواكب المتغيرات التي يشهدها الإعلام في العالم.

 فيما يتعلق بالشق الثاني الخاص بالواقع المؤسساتي والمهني، فإن هناك نقاط ضعف عديدة لم تعد بحاجة إلى كبير عناء حتى يستدل عليها من قبل المهتمين، ومن هذه النقاط، ضعف كفاءة وخبرة الكادر الصحافي والفني العامل في مؤسسات الإعلام الرسمي، على الرغم من ضخامته عدديًا، ومؤشرات ذلك تتمثل في تسرب الكثير من الموظفين الإداريين والفنيين غير المؤهلين إلى منظومة التحرير والعمل كمحررين وصحافيين. وإخضاع المؤسسات الإعلامية لسلطة الأنظمة والقوانين الإدارية والمالية المطبقة على سائر مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية، دون مراعاة خصوصية العمل الإعلامي وما يتطلبه من أنظمة خاصة تشجع على الإبداع واجتذاب الكفاءات الصحافية الوطنية وتدعم استقلالية هذه المؤسسات.

وسط ذلك جاء تخلف البنية التقنية والتكنولوجية لهذه المؤسسات نتيجة إهمال الحكومات وتقاعسها عن توفير الاعتمادات المالية لتجاوز تلك الثغرة، فمثلًا تعاني صحيفتا تشرين والثورة قدم آلاتهما الطباعية التي يزيد عمرها على 20 عامًا.  وهو ما تسبب في تراجع جودة الطباعة، وعدم القدرة على زيادة عدد صفحات الصحيفتين والتأخر في الصدور. 

  السيناريو المتشائم الناجم عن استمرار الأزمة وتصاعد تداعياتها السلبية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ففي ظل هذا الواقع، يتوقع أن يحافظ الإعلام الرسمي على وضعه الحالي مع إمكانية تراجع دوره ومكانته نتيجة لاعتبارات تتعلق بنقص التمويل وضعف الإمكانات البشرية والتكنولوجية، عدم القدرة على اتخاذ وتنفيذ قرارات إصلاحية جريئة، واستمرار سيطرة الحكومة على مؤسساته الرسمية وغياب أي مبادرات استثمارية للقطاع الخاص في هذا الميدان، ويمكن أن تصبح الأمور أكثر تشاؤمًا فيما لو تطورت مجريات الأزمة على نحو سلبي، واستمرت الحرب الدائرة على حالها من التدمير والتخريب. ففي مثل هذه الحالة سيكون الإعلام الرسمي مجبرًا على التقوقع أكثر، وإعادة إنتاج الخطاب السابق الواحد. 

  السيناريو المتفائل والقائم على نجاح الجهود المحلية والدولية في التوصل إلى حل سياسي للأزمة، يلبي طموحات الشعب السوري، ويفتح الباب أمام بناء سوريا الديمقراطية الجديدة. ففي مثل هذا السيناريو سيكون الإعلام الرسمي على باب مرحلة جديدة، تقوم على حرية التعبير والرأي والعمل، كما هي الحال في عدد من الدول المجاورة والمتقدمة، ويمكن تحديد أبرز الانعكاسات المتوقعة لهذا السيناريو على القطاع الإعلامي المحلي في بنود منها، زيادة عدد وسائل الإعلام الخاصة وتنوع اختصاصاتها، وهذا من شأنه رفع قيمة الاستثمارات في قطاع  الإعلام، واجتذاب الكفاءات والخبرات الوطنية، والأهم إغناء الساحة الإعلامية المحلية وخلق منافسة شريفة ومشروعة تحفز الإعلام الرسمي على التغيير والتطور. مع تطوير أداء المؤسسات الإعلامية العامة في إطار مشروع مرتقب لإصلاح البنية المؤسساتية للدولة، وذلك عبر معالجة مشاكلها المتراكمة بجدية وموضوعية وتوفير بيئة العمل المناسبة لها من خلال تحويلها إلى مؤسسات تابعة للدولة، لا للحكومة استنادًا لتجارب كثيرة.

 هنا لابد من توسع هامش الحرية واضطرار وسائل الإعلام الرسمي إلى محاولة مجاراة ذلك الهامش سعيًا نحو تعزيز قدراتها التنافسية في مواجهة المنافسين الجدد في السوق. وتنوع العمل الإعلامي وملكيته، وهذا من شأنه خلق حراك مهني وسياسي كبير، فإلى جانب الإعلام الرسمي والخاص ثمة توقعات بنشاط كبير للإعلام الحزبي. فالإصلاحات السياسية التي سيجري الاتفاق عليها بين أطياف المجتمع السوري، من إصدار قانون جديد للأحزاب السياسية، والسماح لكل حزب بإصدار صحيفة خاصة، خطوات من شأنها توسيع مساحة التأثير لوسائل الإعلام في الحياة السورية خلال الفترة القادمة. 

الإعلام السوري والأزمة الداخلية

د.محمد عبدالرحمن عريف

كاتب وباحث في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى