دراسات جيوسياسيةنظرية العلاقات الدولية

الابعاد الجيوستراتيجية للمواجهة المصيرية بين امريكا والصين

جورج حداد

منذ ان اطلق جورج بوش الاب، بعد “عاصفة الصحراء” في تسعينات القرن الماضي، شعار “النظام العالمي الجديد” بزعامة اميركا، والادارات الاميركية المتعاقبة تعمل بشكل محموم لتحقيق هذا الشعار، بالرغم من جميع الاخفاقات. وجاء انفجار الازمة المالية ـ الاقتصادية سنة 2008 ليرسخ ايغال الادارة الاميركية في السير في هذا النهج المغامر لفرض وتأبيد السيطرة الاميركية على العالم، بأي شكل ممكن. وتتوّج هذا النهج المواجهة الكبرى بين اميركا والصين. وتنبغي الاشارة الى النقاط التالية التي هي على ارتباط وثيق بهذه المواجهة:

ـ1ـ شن الحرب على افغانستان، لاحتلال هذا الموقع الستراتيجي بين الصين وروسيا وايران والشرق الاوسط. وللامساك بالشبكة الدولية لتجارة المخدرات بالتعاون مع اجنحة طالبان الموالية او الميالة لاميركا.

ـ2ـ شن الحرب على العراق واحتلاله للوقوف بوجه ايران وتكريس السيطرة على النفط العربي، وما لذلك من اهمية للسيطرة على اسواق الطاقة العالمية التي تعتبر الصين بأمس الحاجة اليها.

ـ3ـ الدعم الكامل لاسرائيل في شن الحرب الوحشية التي لا سابق لها ضد لبنان في تموز 2006، بقصد تحطيم المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله، كمدخل لفرض السيطرة التامة على المنطقة العربية بأسرها. ولكن بفضل المقاومة البطولية التي واجهتها وجدت اسرائيل نفسها مضطرة لان تطلب وقف اطلاق النار لاول مرة في تاريخ حروبها العدوانية ضد العرب، وقد هزمت شر هزيمة لم تتعافَ من عواقبها الى الان.

ـ4ـ توليف وتنفيذ سيناريو “الربيع العربي” المشؤوم، الذي كان يهدف الى اعادة رسم خريطة “الشرق الاوسط الجديد” في ظروف ما سمته غونداليزا رايس في حينه “الفوضى البناءة” لاجل فرض الهيمنة الاميركية الكاملة، بدون اي شريك، على المنطقة الستراتيدية فائقة الاهمية دوليا ونعني بها منطقة الشرق العربي وشمال افريقيا وحوض البحر الابيض المتوسط.

وكانت ابرز حلقات هذا السيناريو الجهنمي تجنيد واستقطاب مئات آلاف التكفيريين المتحيونين من السعودية وغيرها من البلدان العربية وجميع دول العالم، واحتلال جزء واسع من الاراضي العراقية والسورية، واطلاق ما سمي “الخلافة الاسلامية” بقيادة صنيعة المخابرات الاميركية المجرم ابو بكر البغدادي، كخطوة اولى نحو تأسيس “خلافة اسلاموية تكفيرية” على الطريقة العثمانية تحت الوصاية التامة لاميركا ووكيلها الاقليمي اسرائيل، من اجل تأبيد الهيمنة الامبريالية ـ اليهودية على العالم العربي والاسلامي، وزجه في مواجهة مصيرية مع روسيا والصين. وقد تحطمت هذه المؤامرة الدولية الكبرى بفضل المقاومة الشعبية الوطنية والاسلامية في سوريا والعراق ولبنان، والتي حظيت بدعم تام من الجمهورية الاسلامية الايرانية وبدعم عسكري جوي حاسم من قبل روسيا وبدعم سياسي حازم من قبل الصين.

ـ5ـ اطلاق موجة من العمليات الارهابية، التكفيرية في الغالب، واحيانا “المسيحية” المعادية للاسلام والمسلمين، في اوروبا وفي غيرها حتى نيوزيلندا، وهي موجة من تخطيط وتنظيم المخابرات الاميركية والموساد الاسرائيلية، وهدفها نشر الذعر اينما كان، ودفع مختلف الدول ولا سيما الاوروبية للارتماء الوثيق في احضان اميركا من اجل تأمين الحماية.
ـ6ـ انسحاب اميركا من الاتفاق النووي مع ايران وتسعير الحملة السياسية الشرسة ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية وحشد الجيوش والاساطيل ضدها والتهديد بشن الحرب عليها من قبل اسرائيل والجيوش الاميركية واذنابها من انظمة دول الخليج النفطية، وفرض اقسى العقوبات الاقتصادية ضد ايران، بهدف اسقاطها او اجبارها على الاستسلام والتخلي عن مبادئها الثورية الاسلامية، الوطنية والانسانية، وعن دورها كقاعدة رئيسية لمقاومة شعوب المنطقة ضد الامبريالية والصهيونية.

ـ7ـ حشد انظمة الحكم العربية العميلة لاجل التطبيع المكشوف مع اسرائيل ولتطبيق ما يسمى “صفقة القرن” التي حضّرتها الامبريالية الاميركية واليهودية العالمية، والتي تهدف الى التصفية التامة للقضية الفلسطينية واجبار الشعب الفلسطيني على التخلي عن القدس وفلسطين، والرضوخ للتهويد الكامل للقدس وفلسطين والجولان، وفي الاخير تهدف الى فرض الوصاية الكاملة لاسرائيل واليهودية العالمية على جميع الدول والبلدان العربية والاسلامية بالاتفاق مع الامبريالية الاميركية و بالنيابة عنها.

ـ8ـ انفاق اميركا لمليارات الدولارات من اجل انجاح الانقلاب الفاشستي المعادي للروس وروسيا في اوكرانيا سنة 2014، وخلق بؤرة توتر حربي دائمة على الحدود الروسية مباشرة. وقد شكل ذلك عبئا ثقيلا على الاقتصاد الروسي، لجهة الالاستنفار العسكري الدائم، وتقديم المساعدات الانسانية الهائلة لاجل دعم صمود الجماهير الشعبية الباسلة في شرق اوكرانيا، وايواء ملايين اللاجئين الاوكرانيين في داخل روسيا ذاتها. ومع ذلك فإن البروباغندا الاميركية اليهودية والغربية تتهم روسيا بالتدخل والعدوان ضد اوكرانيا. وفي الوقت ذاته تم اخراج مسرحية تسميم العميل البريطاني سكريبال وابنته في بريطانيا، ونفخ اكذوبة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الاميركية سنة 2016.

وقد استخدمت كل هذه الاختلاقات والاكاذيب كذرائع لفرض اقسى العقوبات الاقتصادية الاميركية ضد روسيا، بهدف سحقها اقتصاديا، لمعاقبتها على الاضطلاع بدور طليعة الدول والقوى المعادية لنزعة الهيمنة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية على الساحة الدولية. ولا يمكن الانكار ان العقوبات الاميركية ادت الى اضعاف الروبل الروسي والاقتصاد الروسي عامة. ولكن الوقائع تشير ان روسيا ليست اقل تمسكا من ايران بمواقفها المبدئية ومتابعة الاضطلاع بدورها الطليعي العالمي المعادي للامبرالية الاميركية. وفي الحساب الاخير تبدو العقوبات الاميركية كوخزة ذبابة في ذنب الدب الروسي.

ـ9ـ افتعال الازمة مع كوريا الشمالية البطلة ووضع العالم على شفير الحرب النووية، واستغلال هذه الازمة كذريعة لاجل حشد الجيوش والاساطيل وحاملات الطائرات والغواصات النووية الاميركية بقرب الحدود مع الصين من اجل تخويف الصين وزعزعة اسواقها المالية والتجارية.

ـ10ـ كل من هذه الاحداث والتطورات له اهميته الجيوستراتيجية الكبيرة والخاصة في زمانه ومكانه. ولكن في الوقت نفسه، ومن وجهة نظر جيوستراتيجية دولية شاملة، فإن جميع هذه الاحداث والتطورات لها اهميتها كتمهيد و”تهيئة المسرح” للمواجهة التاريخية الكبرى بين اميركا والصين. ان “البعبع” الاكبر بالنسبة لاميركا يبقى روسيا، من الجانب العسكري ـ السياسي. فأميركا تمتلك ميزانية عسكرية تزيد اكثر من عشرة اضعاف الميزانية العسكرية الروسية. ومع ذلك فإن اميركا خسرت سباق التسلح نهائيا مع روسيا ليس كميا بل نوعيا. اي ان روسيا، وبميزانية حربية اقل بكثير من الاميركية اصبحت تمتلك اسلحة اكبر فتكا واكثر دقة ونوعيات لا تمتلك مثلها اميركا. واميركا اصبحت مستسلمة لهذا الواقع، ولا تقترب من نقطة المواجهة العسكرية الشاملة مع روسيا. ولكن العامل العسكري ليس هو العامل المقرر والحاسم في السياسة الدولية، بل هو عامل مكمل ومشروط بالعامل الاقتصادي. واميركا لا تفرض هيمنتها البلطجية في السياسة الدولية فقط بفضل قوتها العسكرية، بل اولا وفي الحساب الاخير بفضل قوتها الاقتصادية. فهي تمتلك الاقتصاد الاكبر في العالم. ومن خلال ذلك فهي تمتلك الدولار الورقي البدون تغطية ذهبية كعملة دولية معترف بها كذلك، وهي تضع يدها على صندوق النقد الدولي وعلى البنك الدولي، وتضع يدها على جهاز الامم المتحدة واليونسكو والاونروا، وتتحكم بالنظام البنكي الدولي، وبسوق النفط، وبالبورصات العالمية، وبالناتو وبالاتحاد الاوروبي الخ. الخ. وكل ذلك سيتغير حكما ويصبح ذكرى من الماضي اذا استمرت الصين تتقدم كي تصبح الدولة ذات الاقتصاد الاكبر في الـ20ـ30 سنة القادمة، وهو ما سينتج عنه ان تخسر اميركا اولويتها الاقتصادية بكل امتيازاتها. والطامة الكبرى لاميركا هي انه لا يمكن تهديد الصين بالاسلحة النووية والصاروخية لان الصين اصبحت حليفا ستراتيجيا لروسيا. وروسيا قادرة على سحق اميركا في ساعات. كما لا يمكن تهديد الصين بحرب كلاسيكية مباشرة او هجينة، لانه، وبمقاييس التجنيد (في روسيا والمانيا) في الحرب العالمية الثانية، فإن الصين قادرة على تجنيد مائة مليون مقاتل مدربين اشد التدريب ومسلحين بأفضل الاسلحة، ولانها ـ اي الصين ـ ذات نظام مركزي شديد وقيادتها قادرة بدون ان يرف لها جفن ان ترسل “جيشا صغيرا” من 20ـ25 مليون جندي الى البحر الكاريبي وخليج المكسيك، كي يدخلوا الى كاليفورنيا ويتغلغلوا كالجراد في المدن الاميركية. والى اين المفر؟!

ولا تستطيع اميركا ان تجر الصين الى سباق تسلح تقليدي يستنفد طاقتها الاقتصادية، لان الصين هي في حلف ستراتيجي مع روسيا، وروسيا اسقطت هذا العامل من خلال تفوقها النوعي في التكنولوجيا العسكرية.
وبالرغم من الحرب التجارية والاقتصادية الاميركية، فإن الصين تتفوق على اميركا في النمو السنوي للاقتصاد الشامل. وتفيد الاحصاءات ان النمو الاقتصادي لاميركا وصل في السنة الماضية الى 3% بفضل قانون تخفيض الضرائب الذي اصدره ترامب في 2017. ومع ذلك فإن النمو الاقتصادي الصيني بلغ 6% اي الضعف. وتقول التوقعات الاقتصادية الاميركية ذاتها ان النمو الاقتصادي الاميركي سينخفض الى اقل من 2% بعد انتهاء مفعول قانون خفض الضرائب الترامباوي سنة 2021، ولكن بالمقابل فإن النمو الاقتصادي الصيني سيرتفع تدريجيا حسب التوقعات الغربية ذاتها ليعود الى مستوى 10% كما كان قبل سنوات.

ان الكابوس الاكبر لاميركا اليوم هو تقدم الصين لازاحتها من مركز الاولوية الاقتصادية في العالم. وقد بدأت اميركا الحرب التجارية ضد الصين، من ضمن هذا السياق. وكل الدلائل والتوقعات تشير ان اميركا لن تصل الى ما تريد وهي “تستيقظ!” بعد فوات الاوان! وهي لن تنقذها بهلوانيات ترامب، ولا ألعبانية صهره اليهودي كوشنير!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى