الاقتصاد ومفهوم الأمن الوطني

لقد أصبح إعتبار السياسة الاقتصادية كجزء لا يتجزأ من إستراتيجية وسياسة الأمن الوطني لأي بلد من البلدان أمرا مفروغا منه، بل أصبحت السياسة الاقتصادية تشكل أحد أهم محاور الاستراتيجية الأمنية، إن لم يكن أهمها على الاطلاق. أحد أفضل الأمثلة دلالة على ذلك هو عولمة الاقتصادات المحلية وتحول أسواق السلع والخدمات ورأس المال المالي نحو العالمية. نتج عن هذا التحول بروز اقتصادات أكثر أهمية من غيرها على المستوى العالمي. فإقتصادات الدول الأسيوية أصبحت أكبر نفوذا وتأثيرا على مجرى الاقتصاد العالمي من الدول الأوربية، على سبيل المثال لا الحصر . بل أصبحت معظم الدول تبني إستراتيجيتها الأمنية وفقا لمصالحها الاقتصادية في المقام الأول. فاذا ما أخذنا الصين، على سبيل المثال لا الحصر، فإن مصالحها الاقتصادية في أفريقيا أصبحت تملي عليها مواقفها على الساحة الدولية، دون الاضرار بمصالحها الاقتصادية مع بقية دول العالم. فقد أصبح نفوذ أي دولة ومدى قوتها العسكرية يعتمد بدرجة واضحة على مدى قوة إقتصادها وكفاءته.

يشكل إعتبار السياسة الاقتصادية كجزء من إستراتيجية وسياسة الأمن الوطني، على المستويين النظري والعملي، تحديا كبيرا للمسؤولين ومتخذي القرار في جميع دول العالم، حيث درجت معظم تلك الدول على الفصل التام فيما بينهما، بل إعتمدت مؤشرات ومعايير أخرى لبناء إستراتيجية أمنها الوطني طيلة فترة الستة عقود الماضية، وغالبا ما تأتي السياسة الاقتصادية في ذيل تلك المؤشرات والمعايير.

إفتراضات صائبة وأخرى خاطئة

هنالك عدة إفتراضات، بعضها صائب والبعض الآخر خاطئ، تلعب دورا مؤثرا في تشكيل الرؤية التي تقوم عليها إستراتيجية وسياسة الأمن الوطني لأية دولة، والتي سنتطرق لأهمها في هذا الحيز.

الافتراضات الصائبة

أ‌- تزيد عولمة الاقتصاد من عناصر قوة وعناصر ضعف إقتصاد الدول في ذات الوقت

هنالك ملاحظة بأن عولمة إقتصاد أي دولة قد يقود بالضرورة الى أن يصبح إقتصادها هو الآخر عرضة الى المزيد من الاضطرابات من نواحي عديدة يتمثل أهمها في جانب العرض والأزمة المالية بالإضافة الى الكساد الذي يضرب أهم أسواق صادراتها الرئيسية، مما سيكون له أكبر الأثر على أداء إقتصادها الوطني، وبالتالي على مدى نفوذ تلك الدولة على المستويين الإقليمي والدولي، وما سينجم عنه من أثر سلبي على الأمن الوطني لتلك الدولة.

أأ- التأثير الايجابي لإزدهار الاقتصاد العالمي على الأمن الوطني للدول

أصبح معلوما أن التنمية الاقتصادية وتداخل الاقتصادات العالمية غالبا ما تنعكس إيجابا على الاستقرار الاقليمي والداخلي لمعظم الدول. وإن النمو الاقتصادي على المدى البعيد سوف يزيد من فرض التوظيف وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين وبالتالي زيادة مستوى ولاء مواطني تلك الدولة ويحسن أداء حكومتها ويزيد من فرص نجاح سياستها الإقتصادية، بما يقلل من فرص نجاح مهددات أمنها الوطني ويحد كذلك من نفوذ الجماعات المتطرفة التي ربما إستهدفت تلك الدول في مرحلة لاحقة.

أ‌أ‌أ‌- إمكانية تأثر الأمن الوطني سلبا من خلال السياسة الاقتصادية الخاطئة في اقتصاد معولم

إن تطبيق أي سياسة إقتصادية خاطئة في ظل عولمة إقتصاد الدول فى الوقت الراهن ربما تمخض عنه العديد من المخاطر على أمنها الوطني. فعلى سبيل المثال، فقد نجح تدفق رأس المال العالمي للإستثمار داخل الدول الى تمكينها من تمويل العديد من المشاريع الإستراتيجية والحيوية دون زيادة تذكر في معدل الإدخار الوطني. وبالتالي فقد إزداد معدل الإستهلاك جراء ذلك مما زاد في حجم الدين الداخلي والخارجي لتلك الدول.إن الإستمرار في هذا النهج، ودون تعديل الخلل الهيكلى الذي إستتبعه، قد زاد من حجم المخاطر على أداء الإقتصاد والأمن الوطنيين لتلك البلاد. إن تخفيض السمعة الائتمانية لبعض أكبر الشركات الوطنية الذى ينتج جراء هذه السياسة الخاطئة ربما ينتج عنه فقدان ثقة المستثمرين الأجانب في الإقتصاد الوطني لتلك الدول، وبالتالي تحويل رساميلهم الى إقتصادات إخرى منافسة لها، والتي يعتبرونها أكثر أمانا، أو تقليص حجم إستثماراتهم القائمة بالفعل على أرض تلك الدول. إن النتيجة الحتمية لهذا السيناريو هو التأثير السلبي على أسعار الفائدة، معدل الاستهلاك ومعدل الاستثمار وكذلك النمو الاقتصادي داخل تلك الدول. لكن الأخطر من ذلك هو الاستمرار في سياسة الاقتراض من الدول الأخرى والتوسع فيها مما سيرهن القرار الوطني لتلك الدول بمصالح الدول الدائنة لها في الوقت الذي يتوجب فيه ربط ذلك القرار بمصالحها الوطنية العليا.

الافتراضات الخاطئة

أ‌- إنخفاض مستوى المخاطر الأمنية على الدول جراء سياسات التنمية الاقتصادية في البلدان الاخرى

صحيح أن الازدهار الاقتصادي في البلدان التي ترتبط بعلاقات إقتصادية وثيقة مع أية دولة سوف يزيد من حجم الطلب على الصادرات الرئيسية لتلك الدولة، إلا أنه ربما تنتج بعض المخاطر على أمنها الوطني جراء تلك الزيادة. فإذا ما أخذنا قطاع الطاقة فى دولة الامارات على سبيل المثال، فكلما زاد معدل النمو الاقتصادي في البلدان ذات الشراكة الاستراتيجية مع الدولة، أو تلك التي تستورد كميات كبيرة من نفطها، فسيزيد حجم الطلب على منتجات الدولة البترولية من تلك الدول. إن هذه الزيادة ربما تدفع تلك الدول الى ممارسة المزيد من الضغط على الدولة لفتح قطاع طاقتها لاعتبارات وشروط منظمة التجارة العالمية، والتي تعتبر الدولة عضوا فاعلا فيها، مما سيضر ضررا بالغا بقطاع إنتاج البترول وبالاقتصاد الوطني، وما سيترتب عليه من إنخفاض في مستوى الدخل والمعيشة والذى ربما سيقود الى حدوث حالات من عدم الاستقرار الداخلي والتي سوف تؤثر بدورها على الأمن الوطني للدولة و وكذلك على سمعتها الخارجية.

أ‌أ‌- ضعف إقتصاد الدول جراء تيار العولمة الراهن

صحيح أن إقتصاد أي دولة قد يتأثر كثيرا جراء تيار العولمة الذي ضرب معظم إقتصادات الدول، وبالاخص أثناء الأزمة المالية الأخيرة، ولكن الصحيح أيضا أن تأثير العولمة على إقتصاد أي دولة لا يتم بمعزل عن السياسة المالية والنقدية التي تعتمدها وتنفذها السطات المعنية لتلك الدولة. فاذا كانت تلك السياسات صحيحة فإنها سوف تتأثر إيجابا من تيار العولمة والعكس صحيح.

التحديات الرئيسية التى تواجه دولة الامارات

أ‌- الدمج الاستراتيجي فيما بين السياسة الاقتصادية وسياسة الأمن الوطني

يخضع هذا التحدي لطبيعة دولة الإتحاد وتركيبتها حيث أن السياسة الخارجية تقع تحت المسؤولية المباشرة لمجلس الوزراء الموقر ويتم تنفيذها من خلال وزارة الخارجية، الا أن السياسة الاقتصادية غالبا ما تقع مسؤوليتها في نطاق الإمارات المختلفة. لذلك فربما ينتج تناقض ما فيما بين السياسة الخارجية للدولة وبعض السياسات الاقتصادية المحلية لبعض الامارات. إن المثال الساطع لهذا التناقض يكمن في موقف الدولة الواضح والمعلن في مختلف المحافل الدولية والمتعلق بإحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث وبين التجارة المزدهرة بين إيران وبعض إمارات الدولة حيث تعتبر إيران أحد أكبر شركاء الدولة التجاريين.

فاذا ما قيض للدولة أن تدافع عن مصالحها الوطنية العليا فلا بد من إزالة مثل هذا التناقض حيث أن إزدهار العلاقة الاقتصادية والتجارية مع إيران سوف لن يكون منسجما مع رفض الدولة لاحتلال ايران للجزر الاماراتية.

أ‌أ‌- إقتصاد عالمى متعدد الأقطاب: كانت القوى الغربية (أمريكا وأوربا) بالاضافة الى اليابان تهيمن على الاقتصاد العالمي بصورة تكاد تكون مطلقة. لكن مع إنتهاء الحرب الباردة فقد إهتز التحالف التقليدي بين تلك الدول، وبالأخص بعد بروز أقطاب إقتصادية أخرى أصبحت ذات نفوذ قوي على المستوى الدولي، وبالتالي فقد تغير مفهوم التحالفات التقليدية الذي كان سائدا من ذي قبل. يأتي في طليعة تلك الأقطاب الاقتصادية الناشئة الصين والهند والبرازيل. لقد كان علاقات الدولة الاقتصادية الخارجية قوية بالمعسكر الغربي، وبالتالي فقد وفر لها الغرب المساعدة اللازمة لحماية أمنها الوطني. لكن مع ظهور الأقطاب الاقتصادية الجديدة فإننا نعتقد بأهمية تعميق العلاقات الاقتصادية معها، ليس من منطلق حماية المصالح الاقتصادية والتجارية للدولة فقط، وإنما بهدف حماية الأمن الوطني للدولة على المدى البعيد، حيث أن ضعف الدول الغربية الاقتصادي سوف يحد الى حد بعيد من مدى قدرتها على توفير الحماية العسكرية لحلفائها في أرجاء الدنيا المختلفة.

الآليات المقترحة لتنفيذ دمج السياسة الاقتصادية وسياسة الأمن الوطني للدولة

لقد أصبح هنالك ضرورة ماسة لأخذ السياسة الاقتصادية للدولة بعين الاعتبار عند إعداد إستراتيجية الأمن الوطني بإعتبار أن السياسة الاقتصادية الدولية تعتبر أحد الركائز الدائمة لتأمين الأمن الوطني، ولكن دمج السياسة الاقتصادية داخل إستراتيجية الأمن الوطني يتطلب أخذ العناصر التالية بعين الاعتبار.1- المصالح الاقتصادية كمصلحة عليا للدولة

يمكن إعتبار المصالح الاقتصادية كأحد المصالح العليا للدولة من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد من التأكيد، لكن في واقع الأمر فاننا نجد أن السياسة الاقتصادية غالبا ما تأتي كتابع أو أمر ثانوي عند إعداد وصياغة السياسة الخارجية للدولة. إن الأمن الوطني للدولة لا يمكن حمايته بالأسلحة المتطورة وحدها لكن تحقيق التنمية المستدامة والارتقاء برفاهية المواطنين والمقيمين على أرض الدولة يعتبر أحد العوامل الرئيسية لحماية الأمن الوطني.

2- إشراك المنظمات غير الحكومية

إن تنفيذ إستراتيجية الأمن الوطني تتطلب إشراك المنظمات والمؤسسات غير الحكومية حتى يتم حماية أمننا الوطني بصورة شاملة وفاعلة. إن العاملين في المنظمات غير الحكومية هم أكثر الناس قدرة على الالتصاق بعامة الناس مما يشكل دعما لهم للنظر الى الهموم اليومية للمواطنين وبالتالي عكسها للمسؤولين في شكل توصيات يمكن الأخذ بها لحماية الأمن الوطني للدولة في جميع جوانبه. بمعنى آخر فإن مسؤولي المنظمات يجب إشراكهم بصورة فاعلة في تنفيذ إستراتيجية الأمن الوطني، إن لم يكن في بعض مراحل إعدادها وفقا لما يلي.

أ‌- التنسيق بين الجهات ذات العلاقة لاتخاذ القرارات المصيرية

لعله من نافلة القول أن تتم الاشارة هنا الى أهمية إشراك الجهات ذات العلاقة (أفراد/ مؤسسات) عند وضع سياسة محددة، حيث أن إشراك هذه الجهات، وبالأخص الاقتصادية منها، سوف يضمن سلامة تنفيذ السياسة المعنية، وبالأخص في شقها الاقتصادي. لذلك يقترح أن يتم الإستعانة بأحد الخبراء الإقتصاديين عند صياغة السياسة الخارجية للدولة وذلك بهدف خدمة المصالح الاقتصادية العليا لها بإعتبارها أحد أهم مرتكزات حماية أمننا الوطني.

ب-_أخذ التكلفة الاقتصادية بعين الاعتبار عند إقتراح السياسة الخارجية

نعتقد إنه من المهم على متخذ القرار أن يأخذ التكلفة الاقتصادية على البلاد الذي ستجره أي سياسة خارجية عند إعتمادها وتنفيذها. لذلك لا بد من إجراء حسابات دقيقة ودورية للتكلفة التي يتحملها الاقتصاد الوطني جراء مواقف الدولة الخارجية. مثال على ذلك ما هي نسبة العائد والخسارة التي يتحملها إقتصاد الدولة جراء تنفيذ المقاطعة الاقتصادية على إيران، على سبيل المثال لا الحصر.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button